قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي) للكاتبة آية محمد رفعت مقدمة ثلاثة

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي) للكاتبة آية محمد رفعت مقدمة ثلاثة

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي) للكاتبة آية محمد رفعت مقدمة ثلاثة

زحفت للخلف حينما رأته يدنو منها بنظراتٍ حذرتها بالهلاك القادم على يديه، انتهت منطقتها الآمنة حينما وصلت لطرف الفراش، فلم يعد هناك منفذ للفرار من مواجهته، ازدردت ريقها بصعوبةٍ بالغة وهي تهمس:
أنا بقول كده عشان استفزك!

لم تهدأ نظراته أبدًا، بل ازدادت في حدتها، وخاصة حينما جذبها لتقابل عينيه، شظايا ذاك الغضب القابع خلف عسليته القاتمة تناثرت لتعمي حدقتيها المترقبة لما ستناله، وفجأة تحرك لسانها لينطق بكلمات بلهاء وخاصة بوقت تحرر به الوحش عن زنزانته:
أنا عايزة أمشي من هنا حالًا، لو سمحت اتصلي بابني يجيني ويروحني.
ومدت يدها اليه وهي تصر بحماسٍ وكأنها تجده الشخص المثالي والمناسب لمواجهة غضب يفوقها اضعافًا:.

هات الموبيل اتصل بعدي!
تحرر صوته القابع خلف هيبة سكونه حسنما صاح بعصبيةٍ بالغة:
بتتحمي في ابنك اللي لو كان بيملك شيء واحد مني كان قطع رقبة الكلب ده!
اصطكاك أسنانها كان تابعًا لرجفة اعتلت جسدها حينما عاد لغضبه الفتاك، فقالت برعشةٍ تتبعت صوتها الخافت:
آآآنا، بكدب عليك محصلش حاجه، آآنت اللي استفزتني بكلامك!
جذب معصمها لتقف مقابله بعيدًا عن الفراش، ورفع اصبعه يشير لها بتحذيرٍ مقبض:.

لو كدبتي واخترعتي الكلام ده تبقى كارثة أكبر، لانك عارفة أيه اللي بيضايقني وبمنتهى البساطة عملتيه!
ابتلعت ريقها الهارب من رئتيها، وهي تردد بتلعثمٍ:
لا حصل بس الموقف كان تافهة وميستعديش كل ده.

اغدفت عينيه وأعلنت الدفوف لحربٍ واشكة هنا، فدنا منها وكعادتها تتراجع للخلف فور رؤيته يندفع تجاهها، فلم تنجح بالفرار مثلما يحيطها فشلها أمام هالته وهيمنته، رفعت يدها تحيط بها وجهها، فوجدته ينحني برأسه تجاهها ويهمس بصوتٍ على الرغم من هدوئه الا أنه مخيف:
الكلب ده اسمه أيه؟
أتاه ردها يرتجف مثلما ترتجف هي:
أنت مكبر الموضوع ليه يا ياسين آآ...
بترت كلماتها حينما عاد ليردد ما قاله بحدةٍ:
اسمه أيه!

تلألأت الدموع بعينيها وبخفوتٍ قالت:
معرفش والله، أنا كنت تعبانه ومش حاسة بحاجة حواليا وهو دكتور محترم جدًا على فكرة ومشوفتش منه حاجة وحشة وقولتلك إن الموضوع كله هزار!
استقام بوقفته حينما رأها تبكي بانهيارٍ لمشاعره المبالغ بها، لذا قال بجمودٍ وهو يبتعد ليخرج من الغرفة:
ماشي يا آية بس أنا مش هعدهالك لا أنتي ولا البيه ابنك.

وتركها وصعد للأعلى عل الهواء المنعش يتسلل لرئتيه التي تخنق أنفاسه، يعلم بأن ما يشعر به تجاهها مبالغ به للغاية، ولكن ما ذنبه إن كانت تحاوطه النيران لمجرد أن يتطلع اليها أي شيئًا مذكر، وإن كان الضيق يهاجمه لعلاقتها بابنها فكيف سيكون مع أخرٍ!

هدأت انفعالاته قليلًا كلما مر عليه الوقت، فشعر بالبرودة تنخر عظامه، خاصة مع اقتراب الفجر، فنهض عن الأريكة ثم جذب جاكيته الأسود ليرتديه على التيشرت الأبيض باهمالٍ، وعاد ليتمدد مجددًا محله، ثم جذب حاسوبه ليكتشف أن هناك عدة اتصالات ورسائل من يحيى، فتحها وقرأ محتوياتها بابتسامةٍ ماكرة، فعبت بازرار هاتفه ليجيبه برسالة مختصرة
«متضيعش الصفقتين دول من ايدك، ».

أتاه رد يحيى الذي يترقب رسالته منذ ساعات مطولة.
«ازاي بس يا ياسين لازم صفقة واحدة بس منهم، مينفعش ناخد الاتنين لاننا كده هنكون بنافس نفسنا!، »
رسالة من ياسين أجابته.
«اسمع اللي بقولك عليه يا يحيى، اقبل العرضين وبلغهم إن مفيش اي اجراء هيتم غير بعد رجوعي، »
«تمام حاضر، بس فهمني أنت في دماغك أيه!»
ابتسامة عابسة لاحت على وجهه، فجذب الحاسوب وهو يجيبه.

«مش أنا اللي هعمل، البيه ابني هو اللي مجبور يتصرف ويختار مين اللي هيستلم الصفقتين ويوريني نفسه بقى، ».
«بس يا ياسين الموضوع مش سهل، أي اختيار لعدي هيحط اتنين من الشباب في مواجهة بعض!»
بنفس الثبات دون على حاسوبه.
«كام مرة واجهنا نفس المشكلة وحلناها بالعقل أنا وأنت يا يحيى، لو عدي فشل يعمل كده ميستحقش يمسك المقر، »
وقبل أن يكتب يحيى رسالته أنهى ياسين الجارحي النقاش.

«اللي عندي قولته وهيتتفذ بالحرف، متحاولش!»
وأغلق حاسوبه ثم همس بابتسامةٍ ماكرة لاحت على طرفي شفتيه:
يوريني بقى هيتصرف ازاي!

بالأسفل..

انصرافه من الغرفةٍ بتلك الطريقة ألم قلبها بطريقة أحزنتها، فجلست على الفراش تحاول السيطرة على انفعالاتها، انتظرته يعود ولكنه طال بالغياب، لذا حسمت أمرها وجذبت شالها الرمادي ترتديه فوق ذراعيها، ثم صعدت تبحث عنه في الطابق الثاني وحينما لم تجده اتجهت للأعلى فوجدته مازال يعمل على حاسوبه، ترددت بالاقتراب ولكنها انصاعت لقلبها الذي يصرخ بالبعد القصير عنه، فجلست على المقعد المجاور له وانتظرت أن يرفع عينيه تجاهها الا أنه تجاهلها مع أنه شعر بوجودها لجواره، فنادته بتوترٍ:.

ياسين.
اشغل ذاته بمراجعة الملفات المطروحة من أمامه، ثم جذب العصير المعلب يرتشفه دون أن يرمش له جفن، فعادت لتناديه بحزنٍ:
ياسين بكلمك!
لم يصدر منه أي ردة فعل تبالي لها، وكأن حواسه منطبقة لما يفعله، أعادت آية خصلات شعرها المتمردة خلف أذنيها وقالت بابتسامةٍ هادئة تخفي حزنها من خلفها:
أعملك قهوة؟

عودته لنظامه الصارم ألمها، فبالرغم من رفضها للبقاء بعيدا عن منزلها وابنائها بذات الوقت العصيب بالتحديد الا أنها كانت سعيدة لأنها شعرت بتغيره المفاجئ، وازدادت سعادتها حينما فتح لها قلبه بالحديث عن ماضيه الذي يحتجزه داخل صدره منذ بداية لقائهما، ومع مرور كل تلك السنوات لم يبوح لها بشيءٍ، ولم يسمح لها بمشاركته تفاصيل تخص ماضيه، ترقرقت الدموع بعينيها التي تراقبه يعمل بصمتٍ مزق صبرها الذي تحمله للكثير من الوقت، فانحنت عن مقعدها أسفل قدميه، ثم مسكت يده التي تعبث بازرار الحاسوب بحرفيةٍ، لتناديه باكيةٍ:.

ياسين!
تحرك وجهه الآلي تجاهها، فرآها تستند بساقيها أرضًا، تحركت عينيه عليها ببطءٍ حتى قابلت نظراتها التي أهلكته، فكأنما أزاحت طبقة البرود عنه وانصهر الجليد تباعًا مع تلك الدمعة التي تسللت على خديها، فرفع يده تلقائيًا ليزيحها سريعًا عنها، ثم جذبها تجاهه بقوةٍ، وهو يردد باستنكارٍ:
أنا عايز أعرف انتي بتحسي بأية وأنتي بتستخدمي دموعك عشان تهزميني كل مرة!
وضيق عينيه وهو يضيف بضيقٍ:.

انتي مخادعة كبيرة وبتعرفي تسيطري عليا، أكيد عارفة ده كويس!
ابتسامة خبيثة شقت طريقها على شفتيها، ففركت عينيها بأصابعها كالطفلة الصغيرة:
أعملك أيه أنت اللي بتقسى عليا حتى لو الموقف تافه.
رفع أحد حاجبيه بسخطٍ:
تافه! أنتي شايفة كده!
تعلقت برقبته خشية أن يلقيها بعيدًا عن أحضانه، ولسانها يردد بخوفٍ:
أيًا كان المهم انك متبعدش عني.

بددت الابتسامة هلاك تعابيره الجامدة، فقربها إليه وهو يهمس بصوتٍ حرك رغباتها باجتيازٍ:
عمري ما أبعد عنك، بعدي المؤقت عشان مأذكيش بغضبي، وحقيقتي ملهاش كتاب غير وأنتي معايا ومشاركاني فيه صفحة بصفحة.
دفنت رأسها بين طول رقبته وهي تخبره بعاطفةٍ:
بأحبك..
أغلق عينيه وهو يميل برأسه على رأسها تأثرًا لأنفاسها التي تلامس رقبته وصدره، وصوته الرجولي يهمس جوار رقبتها:
وأنا بعشقك!

وأغلق حاسوبه المجاور له، ثم جذب الغطاء الموضوع على الطاولة المعدنية، ففردها فوق جسدها الذي يحمله، ثم تمدد وهي بأحضانه لم يفارقها، فتركها تغتاب من شعلة عشقها له، تركها تخبره عن مكنونات قلبها، تركها وترك لروحه أن تقيد بأغلال أسرها، فطالت بهما الليلة والقمر غافل عما تشهده الأمواج من قصة اسطورية تاجها العشق وزينتها فصوص من ألماس صنعها امبراطور مملكة الجارحي!

تخفى الليل بجلبابه العتيق، وفتحت الشمس ذراعيها لتستقل نهارًا مشرق بزيها الباهي، فتسلل طرفه ليزعج عينيها، فتحت آية أجفانها بانزعاجٍ من الحرارة الملتهبة التي تسلط على وجهها، فرفعت أصابعها على عينيها في محاولة للرؤية، اتكأت بمعصمها على الأريكة ثم نهضت تبحث عنه بنومٍ، فنادته بصوتها الناعس:
ياسين!

أعدلت من ملابسها الغير مرتبة، ثم جذبت شالها ولفته حول جسدها وهبطت تبحث عنه في الطابق الثاني ومن ثم للطابق الثالث، ومعه ازداد خوفها وأخفق قلبها اضطرابًا وصوتها يعلو ليناديه بفزعٍ:
ياسين!

فتشت كل شبرٍ بالسفينه، وحينما لم تجده اتجهت للمياه المحيطة بها عله يسبح لجوارها، خُيبت آمالها حينما وجدت المياه ساكنة ولا تنم عن أي غوص باحضانها، فسقط جسدها على حافته وانهمرت بموجةٌ صاخبة من البكاء والعويل، وكل ما يحيط بأفكارها بأنه قد سبح بالمياه وربما لم يستطيع العودة للسفينة، أو ربما غرق بآآ، لم تستطيع تحمل اقتراح عقلها لهذا الخيار القاتل لمشاعرها لمجرد الافتراضات، فالخيارات محدودوة كونهما بمنتصف المياه التي تشعر بأنها لا تضم سواهما، صرخت ببكاء وهي تناديه وعينيها مسلطة على المياه من حولها، وفجأة وجدت زجاجة من المياه تغوص بخفةٍ على سطح المياه حتى لامست يدها الممدودة خارج اليخت، جذبتها آية وهي تتفحصها بنظرةٍ صادمة، النوع المفضل لياسين، فيصطحب منها للجيم وغيرها لتمارينه الهامة وبالطبع وجودها يؤكد ظنونها المطروحة، توقف قلبها عن الخفق فنهضت لتسرع للجانب الآخر من السفينة تبحث عنه برتابةٍ وتمهل، فخاب آملها الثاني لإيجاده، عادت لتجلي محلها ورأسها مطروح للأسفل، تحاول العثور عليه، فعقلها يخيل لها بأنها ان مدت ذراعيها ستجذبه إن كان بالأسفل، فاهتدى عقلها لفكرةٍ لذا بحثت بالسفينة عن أي وسيلة للاضاءة تساعدها، فوجدت كشاف صغير معلق على الحائط، جذبته وعادت للمنطقة السفلية للسفينة، ووضعت يدها أسفل المياه ورأسها منحني لعلها تتمكن من لمحه، لم تستطيع رؤية أي شيء فانحنت بقامتها للاسفل أكثر فغلبها رأسها وسقطت أسفل المياه، وعلى الرغم من إيجادها للسباحة الا أن عمق المياه لم يساعدها بتاتًا، حاولت جاهدت أن تستخدم كل التعليمات التي تلقتها من زوجها لتنجو بحياتها ولكن جسدها كان يسقط لأسفل المياه رغمًا عنها، فابتلعت رئتيها المياه الغزيرة وهي تعافر للوصول لحافة السفينة القريبة منها ومع ذلك مازالت أصابعها تطبق على الكشاف الصغير، وكأنه سيساعدها على أن يطوف جسدها فوق المياه!

ارتفع جسدها بالهواءٍ فجأة فأفرغت المياه من فمها ثم فركت عينيها التي تحيطها المياه بألمٍ، ومن ثم تأملت من يحملها بذعرٍ، جذبها إليه بعدما تمكن من مجابهة المياه، ليعنفها بعصبيةٍ:
أنتي مجنونة!
لم تستطيع اجابته على حقيقتها المؤكدة فاحتضنتها وهي تعاتبه ببكاءٍ:
انت كنت فين أنا فكرتك آآ..
قاطعها وهو يرفعها لحافة اليخت:
فكرتيني توهت تحت المية ونازلة بكشاف تساعديني أعرف طريقي!

وقفز بجسده للأعلى حتى جلس لجوارها، فتركها محلها وهرع ليجذب المنشفة الكبيرة، فوضعها حول جسدها ثم القى الكشاف بعيدًا عن يدها وهو يردف بسخريةٍ:
نازلة بسين بيتنا تدوري على دبوس!
وجلس لجوارها ثم مدد قدميه بالمياه القريبة من قاع اليخت، فتأملها وهي تتطلع له بفرحةٍ، كأنه كان تائهًا وعاد لموطنه بعد أعوامٍ، ابتسم رغمًا عنه، وقال وهو يقرص مقدمة أنفه باستهزاءٍ:
آية حبيبتي ممكن تبطلي تشغلي دماغك وأنا مش معاكي!

ارتسم الغيظ على معالمها، فالقت المنشفة تجاهه ثم استقامت بوقفتها وهي تصيح بانفعالٍ:.

بتتريق عليا، انا اتفزعت لما قومت وملقتكش جنبي ولا على اليخت كله، المفروض اني اقعد عاقلة واستنى رجوعك واحنا في عرض البحر! أحنا مش قاعدين في فندق ولا في مكان يخليني افكرك بتشتري حاجة وراجع، المكان ده يرعب وانت عارف اني بخاف من البحر ومبحبش أفضل جواه فترات طويلة، بس انت مش بتفكر غير باللي يسعدك ومكانك المفضل اللي بتجبرني أكون فيه حتى لو غصب عني، ودلوقتي قاعد بتتمسخر عليا وعلى اللي كنت بحاول أعمله عشانك!

وكادت بالرحيل من أمامه ولكنها توقفت مقابله من جديدٍ ثم قالت ببكاءٍ:.

أنا معاك بقالي ٣٥سنة يا ياسين عمرك ما سألتني أنا عايزة أيه ولا أيه اللي حباه، انت اللي بتفكر وتحط الخطط للاجازة اللي برضه بتختار معادها، كل حاجة من اختيارك لبسي، طريقتي، أكلي، حتى الهدايا اللي بتجبهالي بتفرض عليا أحبها، وبقول عادي دي تفاهات وبتغاضى عنها لكن حتى في حياتنا انا ماليش رأي ولا بشاركك في أي قرار بتأخده، ممكن تسمعني بس في الآخر بتنفذ اللي انت عايزاه!

والقت المزهرية التي تعلو الطاولة من جوارها بعصبية بالغة وهي تسترسل:
حتى وجودي هنا بمزاجك ورجوعي هيبقى بمزاجك أنا ماليش شخصية ولا أي حد له شخصية جنب شخصية ياسين الجارحي العظيم...
وتركته وانسحبت لغرفتها، وبقى يتأمل قطع الزجاج الملقاة أرضًا ببسمةٍ لم تغادر وجهه، ثم عاد ليتطلع من أمامه وهو يردد بسخريةٍ:
هرمونات النكد عند الستات مبتقفش عند عمر محدد!

أغلقت الباب من خلفها ثم ابدلت ثيابها المبللة لمنامة حريرية من اللون الأحمر الجذاب، وتمددت على الفراش، تجذب الغطاء على جسدها المرتجف، استندت آية على الوسادة من خلفها وهي تفكر بما قالته بالأعلى بتردد، وكأنها بالغت قليلًا لما فعلته، فلم يكن ياسين يومًا بجلاد لها بل كانت أرق ما يمتلكه بحياته الجادة، وهي تعلم ذلك جيدًا، كانت تراقب ردود أفعاله مع الجميع وتتعجب كونه يملك حنان يخصها هي فقط، زمت شفتيها بندمٍ ما أخبرته به، فجذبت المفكرة من جوارها ثم فتحت أحد صفحاتها ودونت.

«لا أحد ما الذي حدث لي بالتحديد، ربما فقدت عقلي باللحظة التي لم اجده بها لجواري، تعشمت عيني بلقاء يجمعها بعسلية عينيه في ذلك الصباح، وحينما لم أجده تعشمت مرة أخرى بأن تجده بالطابق السفلي، ومع كل آمل يحطم كان قلبي ينكسر تدريجيًا حتى انتهى بوجعٍ مقبض لمجرد سماع وسواس عقلي الباطن، لا أعلم ماذا حدث لي حينما احتضنت المياه وابتلعتني بداخلها، ولد بداخلي شعور بأنه إن كان حيًا سينقذني مثلما يفعل دائمًا، فما أن حملني بين ذراعيه حتى عاد لقلبي مجد عشقه السابق، وبات يرقب شمسه الدافئة التي يحتضنني بها بنظرة هائمة من عينيه...

ربما بالغت قليلًا بردة فعلي ولكني أعلم بأنني كنن مغيبة عن واقعي، فيكفيني ما خضته بتلك الدقائق القصيرة، مازالت امنيتي تؤكد لي بأنني لا أتمنى من ربي ألا يجعل يومه قبل يومي، تالله لا أعلم ماذا سيصيبني حينها، لا، لا أريد الحديث عن هذا الأمر، فمازال قلبي ينبض بالحياة ويؤكد لي بأنه لجواري، ».

ووضعت القلم بين الصفحة العالقة حينما كاد ياسين بالاقتراب منها، فما أن وجدها تدون شيئًا بمفكرتها عاد ليطرق على الباب المفتوح لتلاحظ وجوده، أغلقت آية المفكرة ثم مسحت دموعها وهي تتطلع أمامها بجمودٍ لجئت له حتى لا يشعر بندمها لما قالت، جلس ياسين جوارها ثم قال بابتسامةٍ هادئة:
مش مضطرة تبرري اللي حصل من شوية برة، أنا عارف انك لما بتتعصبي بتجمعي كل قاموسك الاسود وتخرجيه ليا.
رمشت بعينيها بارتباكٍ:.

قصدك أيه؟
تمدد لجوارها، ثم اقترب ليلتصق بها، وأشار بيده على الدفتر الموضوع من أمامها:
قصدي ان مش ده الكلام اللي كنتي حابة تقوليه، وارتباكك كالعادة خلاكي ترددي اي كلام، والحقيقة كتبتيها هنا على الورق.
جحظت عينيها في صدمة، وحدجته بنظرةٍ معاتبة:
أنت قريت الدفتر يا ياسين؟
تعمق بالتطلع لعينيها، وكأنه يتسلى بنظراتها المهتمة إليه، ثم قال برزانةٍ:
شايفاني كدا؟
أسبلت بارتباكٍ:.

مقصدش، وحتى لو قريته أنا مش بخبي حاجه عنك عشان أخاف منها.
ثم قالت وهي تلعق شفتيها بتوترٍ:
أنا لسه عاملة الدفتر ده من شهر بس، حسيت اني حابة أسجل كل لحظة جمعتني بيك في يوم من الأيام.
وبنبرة حزينة قالت:
العمر بيجري بينا وخوفت مع الوقت أنسى أي ذكري شاركتني فيها في يوم من الأيام.
ثم تطلعت للدفتر الذي تحتضنه وبتوترٍ قربته منه وهي تخبره بتشتتٍ:
أنا عايزاك تقراه، يمكن يوصلك اللي بفشل دايمًا اني اقولهولك.

ابتسم وهو يعيد لها الدفتر قائلًا بصوته الرجولي العميق:
دي خصوصياتك ومستحيل اخوض فيها، انتي من البداية فضلتي انها تكون على ورق وهتفضل كدا مدام دي رغبتك.
وحاوط وجهها بيديه معًا وببسمةٍ حنونة أخبرها:.

أنا عمري ما أجبرتك على حاجة يا آية ولا هجبرك، أنا جبتك هنا بالطريقة دي عشان عارف انك مستحيل هتقبلي اننا نبعد شوية عن كل الضغوطات دي، لاوم يكونلنا وقت خاص بينا احنا وبس بعيد عن مشاكل القصر وهموم الاولاد اللي عمرها ما هتنتهي..
وقربها لصدره وهو يستطرد بصوته الرخيم:
العمر هيجري ومش هتلاقي لحظات خاصة تدونيها في دفترك الجميل ده!

ابتسمت وتعلقت باحضانه لقليل من الوقت، ثم ابتعدت عنه ووضعت دفترها بين يديه وبتصميمٍ قالت:
مفيش خصوصية ليا ولا لحظات كتبتها أنت مش معايا فيها، انت شريك معايا بكل حاجة، وأنا مصرة تقرأ كل كلمة واحساس وصفته ليك هنا، جايز تعرف أن بحبك أد أيه..
وتركت الدفتر بين يده ثم تسللت من جواره وهي تخبره:
هجهز الغدا.
وتركته يفتح دفترها الخاص، ففتح أحد الصفحات ليجدها تكتب.

«ها أنا الآن احتسى ذلك القدح الذي يحمل مرارة تذوقتها أولًا ومن ثم بدأ طعمها يحلو لي، أو ربما لانني أحببتك، لأكن صادقة كنت أخاف على نفسي التي كانت حريصة الا ترفع عينيها تجاه رجلًا، خشيت على نفسي التي ذابت حصونها أمامك أنت، وعلى الرغم أنتي أعلم بأنك رأيتني في تلك الليلة شبيهة لزوجتك التي كرهتها رغم انني لم اجمل بقلبي الضغينة تجاه أحدًا، الا اني كرهتها طوال تلك السنوات، ليس لانها كانت مخادعة واوقعت بينك وبين صديق عمرك، بلى لانني كلما تذوقت حنانك وعشقك اشعر بالغيرة تنهش لحمي حينما أتخيلك وانت معها وتخبرها بحبك!

لوقتٍ طويلٍ كنت اعاتب نفسي التي تشعر بالغيرة من فتاة ميتة ولكن رغمًا عني كرهتها، وان كنت الآن انجرفت بالتعبير عن تلك الليلة لمجرد تذكرها كيف يخيل لك احساسي الذي اتعايش معه حتى ذلك الوقت، دعني لا ابتعد عن ذكريات تلك الليلة، وقتها شعرت بك تقترب من زوجتك الراحلة وانا مازلت بوعيي وكدت أن ابتعد عنك، ليست ساقي من قيدتني بل حبك واعجابي بك جعلني انخضع لتلك الرغبة الغريبة التي دفعتني تجاههك، خشيت الفتنة وخشيت تلك الحواجز التي رهنت خلفها قلبي البائس، ورائتني انتظر لمساتك وهمساتك التي اشعلت حبي واوقدته بجمراتٍ لم تنطفئ حتى اليوم، أنا أحبك وبائسة حتى بالتعبير عن مدى عشقي لك، حتى شخصك الغامض وثباتك هذا أعشقه، وأنا على ثقة بأن كل عيوبك سأحبها وسأتقبلها بصدرٍ رحب، مثلما تقبلت قاموس قوانينك الشاقة، وأنا على ثقة وكبرياء بأن تلك الفتاة الساذجة افتكت بقلبك، قلب ياسين الجارحي!».

ابتسامة اتسعت على وجهه كلما انتقلت عينيه للسطر الذي يليه، فقلب للصفحة الآخرى بلهفةٍ وتعلقت عينيه على جملة جعلت قلبه يلتاع ويئن داخل صدره!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة