قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي) للكاتبة آية محمد رفعت مقدمة أربعة

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي) للكاتبة آية محمد رفعت مقدمة أربعة

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي) للكاتبة آية محمد رفعت مقدمة أربعة

انتقلت عينيه بين سطورها المدونة فتألم قلبه وهو يقرأ تلك السطور التي احتضنت بقع لدمعاتها الراحلة عن سطورها.

«أكثر ما ألم قلبي بتلك اللحظة نظرات عينيه التي أحاطها الندم وأعاق من خلفها كل الاحاسيس والمشاعر التي قضيناها سويًا بليلة الأمس، شعرت بألمه الذي تمرد وكأنه خانها ووقع بجرمٍ كبيرٍ، ربما كانت تلك الصفعة هي من ايقظت غفلتي وجعلتني أدرك أن تلك الليلة ستظل نقطة سوداء داخله، نعم لقد تأكد حدسي وبت على ثقة تامة بأنه مستحيل أن يراني، أنا مجرد شبيهة لزوجته، تلك هي الحقيقة حتى وإن انجرفت خلف عاطفتي وحبي الأعمى، ».

انتهى من قرأت تلك الصفحة المنفردة، ثم قلب لما تليها، ليقرأ ما كتبته بلهفةٍ ليكشف مشاعرها وما انتابها بذاك الوقت، فوجدها تدون بالعامية على عكس باقي محتويات الدفتر.

«ربما انتهت قصتنا عند ذلك الشطر القصير، وماذا سيكون ذلك بعدما علم الإجابة عما كان يود معرفته، سأعود مثلما أتيت ولكن ليس كما كنت، سأعود وقلبي قد تخلى عن جسدي الأخرق بعدما انتزعه هو مني بكل قوته، تالله لم أعد أشعر بالالم في ذلك الوقت، ربما لأنه سحب كل عواطفي مع أخر أمل كان يتعلق به!».

أغلق ياسين الدفتر ثم وضعه بحقيبته الخاصة، وأسرع بالصعود للأعلى، فوجدها تعد الطعام بتركيزٍ شديدٍ جعلها لم تشعر بوجوده الساكن لجوارها، حملت طبق الشوربة التي أعددته ببراعةٍ ثم اتجهت لتضعه بالخارج على الطاولةٍ، فتوقفت عن الخطى حينما وجدته يسد بجسده باب الخروج، ويديه مربعة أمام صدره بسكينةٍ بدت لها بأنه هنا منذ وقتٍ لا بأس به، تطلعت إليه بكل اهتمام علها تستكشف ما يريد، فقد يحتاج لكوب قهوة وربما يحتاج للمياه، نظرة واحدة تكفيها لتعلم ماذا يحتاج، ولكنها كانت حائرة بعد تلك السنوات في تحديد ماذا يريد!

انتهى من هالة ثباته، حينما دنا منها ومن ثم جذب الطبق الذي تحمله بين يدها، ووضعها على الطاولة الجانبية باهمالٍ، ثم قبض على رسغها باحكامٍ وتملك وخرج بها لسطح اليخت، حيث تغمده ضوء الشمس الخافت، خطت من خلفه وعقلها يسبقها بطرح الاسئلة المتخبطة وحينما انقبض من مضمونها صاح على لسانها الناطق:
في أيه يا ياسين؟

ارضخها إلى قوة قبضته، فاجبرها على الجلوس على المقعد المقابل للأخر، فقربه ياسين منها ثم جلس قبالتها يحاصرها بعسلية عينيه التي اذهبت عقلها لمكان لا عودة منه إليها، نظرات دافئة بعيدة كل البعد عن ذاك الدفء الذي سبق وأحاطها من قبل، وكأنه يدفن شخصه المهيب ويخرج ما حمله لها من مشاعرٍ لا تخص سواها، وفجأة تحركت أصابعه تجاه وجهها، وبلمساته الخبيرة التي اعتادها احتضن جانب وجهها بحنانٍ جعلها كقطعة السكر التي تذوب بين يده، وعينيها تراقب شفتيه علها تنطق وتخبرها ماذا يجري هنا؟

دقيقتين متتاليتين اتخذهما عناق النظرات قبل أن يتحرر صوته الرخيم ليخبرها بأعذب الكلمات:
مسكنش قلبي غيرك ومفيش واحدة قدرت تلمس روحي ومشاعري وعواطفي إلا إنتِ!
خفق قلبها سريعًا حتى بات مسموعًا بينهما، فعلمت الآن أي صفح قرآها بمكنون مفكرتها الخاص، ولتكن صادقة مع ذاتها في تلك اللحظة هي من أرادت ذلك، أرادت أن تصارحه بمشاعرها التي فشلت بنقلها إليه من قبل، عل قلمها يخبره بما عجزت هي عن قوله!

وأتت كلمته المبسطة لتداوي جرحًا لا تمتلك صلاحياته، فأي انثى عاقلة ستحيطها تلك الغيرة القاتلة لزوجة سابقة لزوجها والأمر برمته يعود لسنواتٍ عديدة، بالطبع تلك المجنونة ستنال مرتبة ليلي لمجنونها قيس، وناهيك عن قيس احترف بالاستيلاء على ممتلكاتها الخاصة وبصحبته قلبها الذي ختمه بملكية خاصة به هو، بياسين الجارحي!
صمتها الذي طال على غير عادته، جعله يضغط بأصابعه على وجنتها وهو يناديها لتفق من غفلتها:
آية!

نطقه لاسمها محدود، وخاصة ارتباطه بوقت تعصبه حينما يناديها بكل غضب، انتفضت حواسها وتركزت إليه فوجدته يتطلع إليها باهتمام وهو يخبرها بصوتٍ بثت به رغبة عاشقة بالقرب منها:
أي رجل أعمال ناجح بيفكر في الصورة المثالية اللي هيخرج بيها للمجتمع، أنا مكنتش الشخص ده، ولا حبيت اتجوز بالطريقة اللي عتمان الجارحي كان عايزها ويمكن ده اللي دفعني اتجوزها بالطريقة الغريبة دي.
والتقط نفسًا مطولًا ليستكمل من بعد جملته:.

محدش قدر يخدعني زي ما ال، عملت، وشها كان مخادع لدرجة أن أنا نفسي اتخدعت فيها.
حاربت كل ما اعتراها بتلك اللحظة لتسأله باهتمامٍ:
اتعرفت على روڤان إزاي؟

احتدت نظراته وكأن سم قاتل تفشى ليجعلها كالليل المظلم وسط اشراقة الشمس، ارتجفت يدها بين يده التي مازالت تقبض عليها بين راحته، فشعر بها لذا مرر يده الاخرى على وجهها ليمنحها برقةٍ لمساته الاطمئنان والأمان، وبعدما تأكد من اسكانتها بين يديه، سحب دفئه وحنانه ونهض عنها كالطيف الذي يغادر دون سابق إنذار، تركها تراقبه واتجه للبار الصغير الموضوع لجوارهما، فجذب أحد الاكواب ثم سكب عصير المانجو وتناول كمية لا بأس به، ثم تحرك ليجلس على المقعد المجاور له.

مرت أكثر من ثلاثون دقيقة ومازال الصمت هو من يسطر تلك الاسطر الخاوية، حتى نهضت آية عن مقعدها واتجهت لتجلس على المقعد المجاور له، فوجدته يلهو بالكوب بين يديه بثباتٍ ورزانة قاتلة، علمت بأن كل ما يفعله اشارة صريحة لها بأن الموضوع قد أغلقه قبل أن يبدأ حتى بالخوض به، ولأول مرة تكسر حاجز خوفها وتصر برجاء خافت معرفة ما يرضي فضولها، فاقتربت بيدها المرتعشة لتوقف حركة الكوب بين يديه وهي تناديه بخوفٍ:
ياسين!

رفع عينيه تجاهها ليمنحها نظرة متفحصة، ختمها بقوله المستنكر:
عايزة تعرفي ليه يا آية؟
ثم تابع بغضبٍ تلبسه حتى مع هدوء نبرته:
إذا كنتي معرفتيش حاجة وعشتي كل الوجع ده متصورة اني هحكيلك وأخليكي تعيشي ألم أكبر منه؟
هاجمت خوفها الذي يحاصرها رغمًا عنها في حضرته، وقالت بصوتٍ مرتعش:
حابة أعرف.

مدد ساقيه ومررها بين منحيات المقعد وجذبه إليه بحركةٍ سريعة أبطئت استيعابها، فارتبكت حينما تطلعت امامها لتجده قبالتها وجهًا لوجه، فلم يدعها تتأمله كثيرًا، تعانقت الأفواه لوقتٍ رأه مقتطف من عشقهما، فابتعد وهو يميل بجبينه على جبينها ليهمس لها بصوتٍ تصاحبه اختناق تنفسه:
مش شايف ست في حياتي غيرك ده مش كافي!

فتحت عينيها على مهلٍ، وتعمقت بالتطلع لعسلية عينيه بنظرةٍ ترجمها بامتيازٍ، فدفعها برفقٍ للخلف، ثم عاد ليستقيم بجلسته بكل كبرياءٍ، فجذب الكوب يتناوله ببرودٍ تعمد التحلي به، سيطر الحزن والخذلان على معالمها، فكادت بالانسحاب من ذلك النقاش المنتهي، وقبل أن تهبط عن المقعد وجدته يردد:
كنت في مؤتمر بباريس وحضرته لوحدي من غير ما يحيى يكون معايا فيه.

ابتسمت بصدمةٍ جعلتها تنصاع لمقعدها مجددًا وتنصت اليه بكل تركيزٍ وفرحة لخضوعه لها أخيرًا بعد كل تلك السنوات، استرسل ياسين حديثه بثباتٍ جعله يخوض باعماق الماضي الذي رسم من أمامه من جديد، ونجح بنقلها معه عبر تلك الفتحة التي القت بهما في زقاق الماضي.

انتهى من قضاء تلك الساعات المملة باعجوبةٍ، والآن يستعد للرحيل من الفندق حتى يصل لطائرته الخاصة..

وقف بكل ثباته وهيبته الطاغية يترقب لحظة فتح باب المصعد، وفور أن استجاب له ولج للداخل وقبل أن يضغط على الزر الجانبي وجد من تركض للداخل والفزع يبدو جليًا على وجهها، فما أن هرعت للمصعد حتى عبثت بأزراره بطريقة فوضوية لم تمكنها حتى من رؤية ما اختارته، وما أن تحرك حتى تنفست الصعداء، فارتخى ذراعيها وسقطت عنها الحقيبة وعدد من الأوراق، لم تهتم بهما وأخذت تمسح حبات العرق النابض عن جبينها، ربما لم تشعر بمن يراقبها بنظراته التي كادت باختراقها لاستكشاف ما يحدث ما تلك الفتاة الغريبة، شعرها كان معقود بشكل (كيرلي) وعينيها بنية اللون، تمتلك ملامح بريئة للغاية جذبته فور أن تطلع لها، اخفض عينيه على ملابسها الغير مرتبة فتعلقت نظراته بيدها التي ترتعش بضعفٍ، وفجأة انتفضت بمحلها حينما دق الهاتف الذي تحمله حقيبتها أسفل قدميها، جذبته وهي تراقب من يقف خلفها بارتباكٍ، وخاصة وهي ترى انعكاس وجهها بنظاراته السوداء القاتمة، فحاولت ترتيب شعرها قليلًا ثم أجابت على هاتفها وهي تردد:.

الى أين ذهبتي كارولين؟ كيف تتركيني مع هذا الرجل بمفردنا وترحلي بكل تلك البساطة!
انتظرت لسماع المتصل وعلى ما بدى له كانت رفيقتها، وفجأة انفجرت بوجهها بعصبيةٍ بالغة:
الأمر بدأ كمقابلة عمل وبعدها وجدته يتقرب مني بطريقة مقززة، اللعنة على اختيارك اللعين، لقد مللت من محاربة عادتكم الغربية اللعينة سأعود على أول طائرة لمصر.

وأغلقت الهاتف لتنسكب بنوبة من البكاء، وفجأة اتسعت حدقتيها فزعا حينما انفتح الباب، فخرجت برأسها تتفحص الطابق الذي توقف به، فرددت بصدمة وهي تتفحص اللوحة:
ال٢٤، يا نهار أبيض!
وعادت لتضغط على زر الهبوط وهي تردد ببرودٍ لمن خلفها:
اعتذر سيدي، كنت متوترة قليلًا سأجعله يهبط الآن.

لم يجيبها ذلك الغامض، وكأنها هفوة من غبار تقف لجواره ويتابعها هو بفضول لمعرفة سبب ما يجعلها بتلك الحالة، دراستها كانت اعتيادية لشخصٍ مثله لا يمرر أي صغيرة ولا كبيرة دون دراسة عقلانية تمكنه من وزن الأمور المحاطة به، وجدها تجمع الأوراق الملقاة أرضًا وعلى ما بدا له كانت ملفها الذي يحمل معلوماتها الشخصية وشهادتها، وجدها تعيد الاوراق باهمالٍ داخل حقيبة يدها وكأنها لا تود المخاطرة للبحث عن عمل مجددًا بعدما لاقته في تلك البلد الغريبة، انتهت رحتلهما القصيرة حينما توقف المصعد فأسرعت للخارج حتى تلوز بالفرار فربما صاحب هذا الفندق يضمر لها بالسوء لما فعلته بالأعلى، وقد لاقى حدسها استحسان حينما وجدت الأمن بانتظارها، احدهم يأمرها بانفعالٍ شرس:.

تحركي معنا بهدوءٍ سيدتي، لا نود افتعال المشاكل هنا!
ارتعبت معالمها واخذت تدفع يديه بعيدًا عن معصمها وهي تردد:
ابتعد عني، لم أفعل شيئًا لأذهب معك، ذلك الحقير هو من حاول الاعتداء علي وما فعلته به كان للدفاع عن نفسي.
عنفتها دفعاته القوية:
بامكانك قول ذلك للشرطة، أنا أقوم بعملي فحسب.
دعها.
كلمة مقتصرة خرجت من فم من يوليه ظهره، واتبعتها نظرتها المندهشة، وخاصة حينما ردد الرجل بسخطٍ:
وما دخلك أنت!

خلع ياسين نظارته القاتمة، فتمكن من رؤية لهيب عينيه الحارق، ارتعب الرجل وهو يتأمل من يقف أمامه بوضوحٍ، فلم يكن ياسين بحاجة للحديث أكثر من ذلك فتركها وهو يحني رأسه قليلًا:
أعتذر سيدي أنا لا أعلم بأنك هنا، ولكني إن لم أصطحبها لرئيس عملي سأطرد اليوم.
تابعه بنظرةٍ قاتمة وثبات كسره بقاعدته هو:
اترك لي مهامه واذهب لعملك.

هز رأسه بامتنانٍ ثم غادر على الفور بصحبة زميله، والاخيرة تتابعهما بصدمةٍ، فدنت منه وهي تردد بارتباكٍ:
لا أعلم كيف أشكرك فقليل من يقدم المعروف هنا.
منحها نظرة متصلبة، لا تشيء بالكثير، ثم تحرك تجاه مكتب المدير القابع بالطابق الأول وهو يردد بثباتٍ:
اتبعيني.
لم يكن أمامها خيارًا أخر سوى تتبعه، فصعدت خلفه لمكتب المدير، الذي ما أن رآه يقف أمامه حتى نهض عن مقعده وهو يردد بقلقٍ:.

هل حدث ما أزعجك تلك الزيارة مستر ياسين!
أجابه ببرودٍ:
بلى ولكن سيحدث الآن.
ابتلع الرجل ريقه بصعوبةٍ وخاصة حينما استرسل بحدة:
تلك السيدة تعرضت للاعتداء هنا على يد أحد موظفينك المعاتيه، وبدلًا من معاقبته وفصله من العمل تقوم باستدعائها بكل تلك القسوة!

ارتعبت ملامح وجهه خشية من انفضاح تأيده للموظف وليس لأنه يحتل منزلة هامة بالفندق بل كونه من نفس جنسه وبلده على عكسها، ولكن فلتذهب تلك المعزة للجحيم في وقتٍ يكون به مع مواجهة شرسة مع ياسين الجارحي، لذا قال دون أي تأخير:
أنا أعتذر نيابة عما فعله وأعدك بأنني سأعاقبه.
جمود نظراته المحاطة به جعلت الاخير ينسحب للخلف قليلًا ويبتلع لسانه حينما قال ياسين:
لا عليك، اترك لي أمر تربيته.

وترك المكتب بأكمله وخرج، فهرعت روڤان من خلفه وهي تناديه:
يا سيد انتظر.
توقف عن استكمال خطاه حينما وجدها تدنو منه، وتسأله بتوترٍ:
أنا حقًا ممتنة لك ولا أعلم ما الذي دفعك لمساعدتي!
منحها نظرة تعمقت بها، فارتجف جسدها وعقدت الجاكت عليها بخوفٍ، وكأنها فقدت الثقة بأي أحدًا هنا، فهم مغزى ما يدور بعقلها فقال بلهجته المصرية:
يمكن لأننا عرب زي بعض.

تهللت أساريرها فور سماعها له، وخاصة حينما وجدته يخرج من جيب جاكيته كرت أبيض يحوي عدة أرقام هواتف وقدمها لها وهو يسترسل بثباتٍ:
مفيش داعي انك تسيبي بلدك وتيجي لحد هنا عشان تدوري على شغل..
بالرغم من عدم عرضه العمل عليها بطريقة مباشرة الا أنها تابعته كالمجنونة حتى اختفى من أمامها تمامًا، فتعلقت عينيها على الورقة وهي تردد بصوتٍ مسموع:
ياسين الجارحي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة