قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ترنيمة غرام للكاتبة زينب محمد الفصل الرابع

نوفيلا ترنيمة غرام للكاتبة زينب محمد الفصل الرابع

نوفيلا ترنيمة غرام للكاتبة زينب محمد الفصل الرابع

نظر للبحر و أمواجه بشرود تام، ذهنه يرفض نسيان أو تخطي تلك اللحظة التي رأى بها ابنه في هذه الحالة المريبة، اختطفت انفاسه، وهوى قلبه من شدة خوفه، تذكر وقتها فزعة مالك وسرعة تفكيره بعمل إسعافات أولوية حتى يستطيع أنس التنفس، وبعد محاولات اخرج الصغيرة قطعة من الشبيسي من فمه، واستطاع أخيرًا التقاط انفاسه بعد حرب طويلة يجهل التعامل بها، أما هو فاستغرب حاله، أين عقله!، شل عقله تقريبًا، وبقي شيئًا واحد يتردد بداخله هو أنس، تذكر عناقه الطويل لأنس وكأنه يستمد القوة منه هو، تذكر قبلاته التي أغدق بها الصغير متمتمًا بكلمات يجهلها من حوله ولكن هو يعرف مصدرها، حَقًّا كانت نابعة من داخل أعماق قلبه، زفر بخفة حينما عاد لأرض الواقع بسبب أصوات صياحهم من حوله، وقعت عيناه عليها وهي تتأخذ من مكان بعيد عنه موضوعًا لها، فمعذبته قررت خصامه بعدما قص عليها ما حدث لولدهم، وكالعادة لم تبخل في إيجاد كلمات لاذعة لكي تخبره بإهماله اتجاه صغيرهم!، استغرب موقفها وهجومها حينها، قرر الاحتفاظ بحزنه وضيقه دون أن يتفوه بأي كلمة، مُعطِيًا لها مساحتها الكاملة حتى تعود لرشدها وتقوم بمراضاته...

في الاتجاه المقابل له جلست ماجي بجانب يارا قائلة بغيظ واضح: أنتي يا متخلفه، سايبة جوزك قاعد لوحده ليه!
رفعت أنفها رافضة توبيخ والدتها لتقول: ما يقعد أنا زعلانة منه، ده مفكرش يراضيني.

زمت ماجي شفتيها بضيق قائلة: بصي يا يارا غباء مش عاوزه، أنتي لما حكتيلي أنا وقتها سكت، ليه بقى، علشان طبيعي أي أم بتسمع اللي حصل لابنها قلبها هايوجعها وتتخيل حاجات صعبة، بس خلاص ده مكتوب ومقدر لابنك يحصله كده، كلامك بقى اللي قولتيه لجوزك كله غلط..

حولت وجهها اتجاه والدتها وقررت شن هجومها: غلط!، بالعكس هو ده الصح، ماما فارس لازم يفوق ويتحمل مسؤولية أنس ويخاف عليه، فارس مهمل آوي من ناحية أنس وبيعامله بطريقة مش عجباني..
على فكرة أنتي لو متظبطيش معرفش هاعمل فيكي إيه!، أنا ساكتلك من بدري واللي شايلني عنك ماما..
التفت بجسدها صوب مالك قائلة بضيق: انتوا كلكوا عليا بقى!

هز رأسه مؤكدًا حديثه، يُكمل توبيخها: آه، علشان أنتي فعلا عصبتيني يومها، هجومك لما جيتي من بره وعرفتي، كلامك عن إهماله وصل إنك شككتي في حبه لأنس، أنا استغربتك وقتها يا يارا، انتوا المفروض بتحبوا بعض، بس الواضح انه بيحبك أكتر بدليل انه سكت ومش أحرجك قدامنا رغم أنا لو مكانه كنت رزعتك في الحيطة..
وقفت تتحدث بدهشة: أنا قولتله انه مبيحبش أنس..

أنتي قولتي وقتها كلام كتير غلط، واتعصبتي من غير أي حاجة، رغم ان هو اللي شاف منظر أنس، يارا، أنا أول مرة أشوف فارس كده، حرفيًّا كنت حساس انه هايجراله حاجه حتى بعد ما أنس عرف يتنفس كويس، تيجي أنتي بقى بكل بجاحة تسمعيه كلامك ده..

حولت بصرها نحو زوجها وجدته يتجاهل النظر إليها، أكملت والدتها حديثها: وبعدين يابنتي ممكن كان كله يحصل وأنتي قاعدة لوحدك مع ابنك ده شيء وارد فارس بقى هايقول آه أصل أنتي مهملة، مفتكرش..
ترقرقت الدموع بعيناها لتقول بصوت مبحوح: يعني أنا بقى اللي بقيت وحشه!

ربت مالك فوق يدها بحنو قائلًا: محدش قال كده، بس أنتي غلطتي وأنا بوجهك، هجومك كان غلط، كلامك كان أكبر غلط، سكوتك عن الاعتذار بردوا لغاية دلوقتي غلط، ياريت تصححي اللي عملتيه..

أنهى حديثه وأشار لوالدته حتى يتركها وتستطيع هي التفكير بحديثهم بهدوء، أما هي فلاحظت مغادرتهم، ولكن لم تبعد عيناها عنه، عادت بذهنها لذلك اليوم، حَقًّا لا تتذكر أي حديث لها سوى بعض الكلمات وهي تلقى اللوم فوق عاتقه، لا تعلم سبب نسيانها يمكن بسبب شعورها بالخوف على أنس وقتها أم يجبرها عقلها على النسيان حتى لا تتذكر فظاظة حديثها وبشاعته وقتها، زفرت بقوة وهي تتأمل ملامحه الحزينة والشاردة، ليس زوجها، ليس فارس من أحبته، لقد تبدل كُليًّا من موقف، ابتعد عنها وعن أنس حتى تلك الشقة الصغيرة في تلك البناية التي استأجرها مالك لهم جميعًا، يبتعد عنها وينام بعيدًا عنهما بعدما كان لا يستطيع النوم إلا وهي وانس بأحضانه، مسحت دموعهااا وقررت مشاكسته حتى يعود فارسها كما كان، ذهبت لأخواتها وأخذت منهم أنس بعدما كانوا يلاعبونه حتى يهدأ من بكائه، تقدمت صوبه وهي تقول: إن شاء الله يهدى وميكنش زعلان مني أوى..

وقفت بجانبه قائلة بصوت خجول: روح يا أنس لبابي اللي مبيسألش فينا...
انحنت بجذعها تضع الصغير بين يدي فارس، منعها فارس من إكمال حديثها أو ما تفعله قائلًا باقتضاب وهو ينهض من مكانه: أديه لأخواتك يمكن يكونوا بيحبوه ويخافوا عليه أكتر مني...

انهى حديثه بنظرة حزينة تحمل مشاعر كثيرة ولكن يغلبها العتاب واللوم، ترك المكان بأكمله وغادر إلى البناية مسرعًا حتى لا ينفجر بها أمامهم، التفت لهم حيث يجلسون وجدتهم يتابعون الموقف عن كثب، تفاقم شعور الضيق والغضب بداخلها بسبب إحراجها أمامهم، ولكن لثواني فكرت ما هو شعوره عندما اتهمته هكذا أمام مالك وندى، وأخيرًا اعترفت بداخلها أن له الحق الكامل في معاملته لها، تجاهلت نظراتهم، وقررت الذهاب خلفه حتى تقوم بمراضاته...

تنفست ماجي أخيرًا، وهتفت بفرحة: مالك طلعت بتفهم الحمد لله...
ضحك مالك لوالدته هاتفًا: ماهي بتفهم يا ماما، بس الجلاله كانت واخدها شوية..
انتابها حالة من الضحك قائلة: والله لما حكتلي كنت عاوزة أضربها على بقها المتخلفة دي..
نهرتهم جدة مالك قائلة: بس اسكتوا، مطولتش في الزعل ولا عاندت، وده ان دل على شئ، فيدل ان بنتك بتحب جوزها أوي..
تنهدت ماجي بفرحة ثم قالت: ربنا يهديها بس وتكمل على خير...

يعني إيه، هببتي الدنيا زي يارا كده!
تسألت ندى بقلق عندما أخبرتها خديجة ببعض الكلمات وهي تنظر ليارا وفارس...
التفتت خديجة لها عندما غادرت يارا المكان قائلة: بصي هو أنا معرفش في إيه، بس عمار بيكلمني على القد مش عادته، ويعاملني معاملة غريبة وده كله بعد ما ناقشته في موضوع المايو بتاع إيلين..
هزت ندى رأسها قائلة: طيب وأنا قولتلك وقتها وأحنا في المول انه مش غلط، وعادي خايف عليها...

هتفت خديجة بضيق: ماشي وأنا اقتنعت وعملت كده، معرفش بقى ماله كل ما أقرب منه وأكلمه يبعد ويعاملني بجفا..
قطبت ندى ما بين حاجبيها قائلة: طب وأنتي تسيبه كده ليه، ما تسأليه، إلا إذا كنت عكيتي في الكلام معاه...
وضعت وجهها بين يديها: باين كده عكيت فعلا، بس اعمل ايه انشغلت في موضوع ماما وكنت خايفة اسيبها لوحدها هي واخواتي عشان بابا..
بابكي؟!.

هزت خديجة رأسها لتقول بحزن: أوقات يبعد وينسانا وأوقات يخنقنا باتصالاته ورسايله، غيرنا خطوطنااا، وعمار كلم مالك بعتله حد يهدده انه انه لو مبعدش هايدخل السجن تاني.
متقلقيش خير والله!، ومامتك في أمان مش أنتي لسه مكلمها وطمنتك، قومي يالا سيبي إيلين وسيف معايااا وروحي لعمار صالحيه وتعالوا، ويارب يارا تصالح فارس ونتلم ونقعد.
ابتسمت خديجة بامتنان قائلة: آوك خلي بالك منهم وأنا هاروح بسرعة وأرجع...

تحركت خلفه في أرجاء الشقة، وهي تقول بمزاح: لأ بقى كده بابي زعلان مننا آوي يا أنس..
وقف فارس زافرًا بغضب، ثم التفت بجسده أمامها يصرخ غير عابئًا لولده أو أي شيء: بس بقي كفاية، مش طايق منك أي كلمة..

اندفع الصغير يصرخ ويبكي دافنًا نفسه في أحضان والدته يستمد منها الأمان بعدما رأى غضب والده لأول مرة، اندفعت هي الأخرى تبكي بانهيار وتبادل أنس العناق، ابتعدت بخطوات مبعثرة للخلف وعيناها ترفضان الابتعاد عن فارس ووجه، تلقي عليه كل اللوم والعتاب والحزن في معاملته لها، راقب خطواتها للخلف بقلق وخاصةً عندما رأى تلك الطاولة الزجاجية الصغيرة خلفها، تناسى غضبه منها واقترب منها بلهفة قائلًا: يارا حاسبي هاتقعي..

مد يده يحاوط خصرها مقتربًا منها، وما أن تلامس رأسها بصدره العريض اندفعت تبكي كالطفلة الصغيرة هاتفه بأشياء غير مفهومه، استطاع هو التقاط بعض الكلمات منها كال ( أسفة أنت السبب بتزعقلي بتكرهني)...
لم يستطع إكمال ما بدء به، تخطى مشاعره الغاضبة منها وبدء في محاولة تهدئتها بصوته الحنون: طب متعيطيش، اهدي بقى خلاص...

لاحظ ضربات خفيفة فوق صدره هبط ببصره نحو مصدرها وجد الصغير يقطب جبينه وينظر له بغضب مُسْتَمِرًّا في ضرباته الضعيفة، قهقهه فارس فرحًا لأول مرة يتخلى أنس عن بكائه ويحاول إيجاد طريقة أخرى لتعبير عن غضبه أو حزنه، رفعت رأسها تطالع فارس بتعجب من وسط دموعها، وجدت عيناه متعلقتين بأنس، حولت بصرها نحو الصغير وجدته يضرب والده بضيق بالغ، عضت فوق شفتيها قائلة بصوتها المبحوح: أنس عيب، ده بابي...

لم يفهمها الصغير ولكن مد يده يلمس دموعها المنهمرة فوق وجهها ثم أعاد أصابعه الرقيقة إلى فمه يتذوقها، أبعدت يده بسرعة قائلة: أنت بتعمل إيه بس؟!.
ابتسم فارس قائلًا: عيل غبي هو نفسه مش فاهم هو عاوز إيه!
نظرت له بحزن قائلة برجاء يحمل عتاب: لو سمحت متشتمهوش!
رفع أحد حاجبيه من تحولها السريع فقال: طيب بقيتي كويسة أسيبك أنا بقى!

التفت بجسده وغادر المكان متجهًا للشرفة، تنهدت من بين شهقاتها، اتجهت لغرفتهم مقررة التخلص من أنس أولًا حتى لا يفسد عليها اعتذارها، وبالفعل بعد ساعتين استغرقتهم في إرضاعه ونومه، استطاعت التسلل كاللص خارج الغرفة، اقتربت من الشرفة وجدته يجلس كما هو بملامحه الجامدة والشاردة، الفارق الوحيد هو سجائره التي انتشرت بكثرة فوق الطاولة، وقعت عيناها عليه وهو يلتقط إحدى السجائر التي لا تعرف عددها، مقربًا إياها من فمه، دلفت للشرفة بغيظ واضح ثم جذبتها منه بعنف وألقتها خارج الشرفة: كفاية بقى!

رفع بصره لها يرمقها بتحذير: متتكررش تاني..
ردت عليه بسخرية: مبخفش...
احتدت نظراته لها ولكن قابلته بِتَحَدٍّ: هاتكرر، أنا أصلا موضوع شربك للسجاير مش عاجبني، وبعدين الزفتة دي بتقصف العمر يا أستاذ..
الوقحة تقف بكل جرأه وتلقي بتعليماتها عليه، قرر النهوض والابتعاد عنها حتى لا ينفجر بها: ابعدي عني، دور أنك خايفة عليا ده ميتصدقش...

خرج من الشرفة تحت صدمتها، خرجت خلفه تسبقه بخطواتها حتى وقفت أمامه تمنعه من مغادرة الشقة: يعني إيه كلامك، أنا ممكن ازعل بجد.
ظهر الامتعاض على وجهه: ما تزعلي..
حاول إزاحتها بيده بعيدًا عنه ولكن استندت بظهرها على باب الشقة ومنعته من الوصول للمقبض، عاد وتحدث بضيق متجنبًا النظر إليها: أوعي..

عرفت السر، نعم هو يتجنب النظر إليها حتى لا يضعف أمامها، ستلعب على هذه النقطة، كلاعبة محترفة أدركت نقاط ضعف خصمها، اقتربت منه مدت يدها تجذبه نحوها من سترته واليد الأخرى تحرك وجهه تجبره النظر اليهااا، تشابكت نظراتهم في حديث طويل لم يقطعه سوى قبلتها المفاجئة فوق شفتيه متمتمة بحب: أنا أسفه يا حبيبي...

انهارت تلك الحصون الواهية داخله، تلك الجملة التي نطقت بها بتلك الطريقة التي أصدرت عنها ذبذبات غريبة اجتاحت كيانه بالكامل، وتلك اللمسة الرقيقة التي سبرت أغواره كالمحترفة جعلته يجذبها نحوه يقبلها بعنف لأول مرة غير مدركًا لتلك العاصفة الهوجاء بداخله، عاصفة من المشاعر المتناقضة لأول مرة تهب بصدره بلا رحمة، جعلته غير واعيًا لعنفه أو طريقته الغريبة في التعبير عن اشتياقه لها أو غضبه منها، انقطعت أنفاسها تحت سطوته، حاولت مجاراته ولكن فشلت، استقبلت هجومه بصدر رحب كاعتذار منها، تخطت قبلاته شفتيها ووجهها، وصولاً لعنقها الذي لثمه أحيانًا بحب وأحيانًا يضع صك ملكيته فوقه، تلوت كالغزال بين يده من حلاوة تلك المشاعر التي ضربت صدرها وخاصة خلايا قلبهااا المسكين، صدر صوتها ضعيف باسمه، جعله يتوقف عما يفعله مشددًا فوق خصلات شعره متمتمًا بأسف: أحم أسف بس..

عانقته باشتياق لجنونه وهتفت بصوت ضعيف: متتأسفش، أنا المفروض أتأسف، والله ما كنت أقصد يا فارس أضايقك...
قاطعها بنبرة حاسمة: متحلفيش علشان أنتي كنتي تقصدي فعلًا يا ياراا..

تركها ودلف للشرفة يبحث عن الهواء، حتى تعود رئتيه للعمل بعد تلك العاصفة الهوجاء التي هاجمته بقوة، شعر بها خلفة تقف على أعتاب الشرفة تفرك يدها بتوتر بالغ وتخرج صوتها بخفوت: ده كله كان بسبب خوفي على أنس، أنا توترت يا فارس والله وعقلي صورلي حاجات كتيرة وحشة، حط نفسك مكاني!

التفت بجسده يرمقها بغضب وكأن حديثها هو الفتيل الذي أشعل غضبه ليلتهم عيناها بشراسة: لا مش هاحط عارفة ليه يا يارا، علشان أنا اللي كنت في الموقف، أنا اللي شوفته مش قادر يتنفس وكنت عاجز معرفتش اعمله أي حاجة، بأي حق جاية وتتهميني بالإهمال قدام مالك وندى، وحتى لو قدامي بس أزاي تكلميني كده، وأنا إيه عرفني أنه غلط يأكل شبيسي وشكولاتة وأنه ده مش سنه، أنا معرفش ده كله، انا شفته عاوز حاجة ريحته، اللي أعرفه بقى يا هانم خايفة على ابنك تاخدية معاكي متسبهوش مع أب مهمل زي.

أنهى حديثه وأخرج نفسه بقوة، تلك الأنفاس الغاضبة التي كتمها بداخله أثناء انفجاره والأخرى كانت تتلقى فقط، تتلقى نتيجة أخطائها، لم يسعفها عقلها بأي تبرير، ولم يرحم قلبها من عذاب كلماته...

التفت بجسده مرة أخرى ينظر للبحر وأمواجه المتلاطمة كمشاعره تمامًا التي تتلاطم بداخله بلا رحمة، ما بين الانصياع لصوت بكائها وتخطيه لما فعلته بحقه أو إكمال ما بدء فيه حتى لا تعود وتكرر ما فعلته مجددًا، تسمر فجأة عندما وجدها تهتف بانكسار: يعني احنا كده هانطلق!
التفت بجسده مرة أخرى يرمقها بدهشة لما تقوله: نطلق؟!

هزت رأسها ثم حولت عيناها في اتجاهات عديدة وشعور بالضعف يسيطر عليها حتى في نبرتها: آه ما هو معنى أنك مش راضي أصالحك، وبتعاملني كده يبقى عاوز تطلقني، أنا هاقعد أصالحك وأنت رافض، طيب وبعدين يبقى تبعد عن الغبية المتخلفة اللي متجوزها صح!.

استمرت ملامح الدهشة تعتلي وجهه غير مصدقًا لما تقوله، وعندما لم تجد منه أي رد فعل لما قالته، شهقت شهقة مكتومة وهي تضع يدها على فمها تنظر له بصدمة، قطب ما بين حاجبيه لانفعالاتها المتقلبة، حاول فهم ما يدور بدواخلها ولكن عجز عن فهم أنثى قررت أن ترسم بمخيلتها أَشْيَاء غريبة وخاصه وإن كان السبب في حزنها هو زوجها!، لاحظ قربها منه فعاد بخطواته للخلف، وفي ثوان كان يتلقى ضربات ضعيفه منها بقبضتها وعينيها الغاضبة تتوهج كألسنه النيران، حاول أن يمسك يدها حتى يدرك ما يحدث لها، ولكن كانت تبكي وتضربه بقبضتها في صدره تردد كلمات أدرك وقتها أنها أكبر بلهاء في حياته: هاتطلقني، دي آخره الحب...

بس يا غبية أنتي!
عادت للخلف بصدمة أكبر قائلة: أنت بتشتمني يا فارس!، لدرجاتي كرهتني!؟
اقترب منها بخطوة واحده مختصرًا تلك المسافة الحمقاء بينهم حتى يلقين تلك البلهاء درسًا قَوِيًّا مستخدمًا نبرة جاهد كثيرًا أن تخرج من جوفه أقل حدة: وأقسم بالله يا يارا لو ما بطلتي جنانك ده لاشيلك وارميكي من هنا، أنتي هبلة ولا مجنونة، هو كل واحد زعلان من مراته شوية يبقى هايطلقها!، وبعدين..

قاطعته بنبرتها المرتجفة: لو سمحت متكملش، صالحني الأول علشان أقدر اسمع كلامك..
أصالحك!
ردد خلفها مُتَّهكما لما تقوله، فهزت رأسها تطالعه برجاء، واضعة يدها فوق قلبها: قلبي زعلان منك.

انفلتت ضحكات منه وهو ينظر لهيئتها وعيناها التي ترجوه بالفعل بأن يعود فارسها ليس هذا الذي لا تطيق التعود عليه، وما هي إلا بنت السلطان وما هو إلا فارسها حتى يحقق ما تتمناه أو ترجوه، وما قلوبهم إلا مقيدة بالعشق، تنهد بخفوت وهو يتفرس بملامحها التي اشتاق إليها ولأنفاسها التي تضرب وجهه أحيانًا وصدره أحيانًا فتثير زوبعة من المشاعر بداخله، وجد نفسه يقترب منها ببطء ثم لثم جانب شفتيها برقة متمتمًا بكلمات خافتة ولكنها كانت تخترق أذنها وقلبها بلا رحمة: قلبي مبيعرفش يزعل منك أو يشيل منك أبدًا، ويوم ما بيزعل بيبقى عقلي اللي معصيه!.

هتفت بمزاح لتعود البسمة تزين ثغرها: طيب اعمل إيه ادخل جواك واشيل عقلك ده!
غمز لها بطرف عينيه قائلًا: ويرضيكي أبقى من غير عقل!.
هزت رأسها بإيجاب قائلة بسعادة: آه حتى علشان تبقى مجنون يارا بجد...
أنهت حديثها وانتابها حالة من الضحك، لم تعلم سر سعادتها أهي المزحة التي ألقتها توا أو سعادتها تتضمن في اقترابه منها، لا يهم ما تفكر به حاليًا الأهم من كل ذلك هو فقط، لتستمع بقربه وبكل ثانية تمر بجوار قلبه...

أبعدت الحاسوب من أمامه لتقول بغيظ: إيه يا عمار بقالي ساعة بكلمك، وأنت ولا أنت هنا.
مط شفتيه ببرود قائلًا: معلش مشغول شوية مع اللاب توب!
رفعت إحدى حاجبيها مستنكرة ما يفعله، بدلها نظراتها بنظرات حادة وأكثر جرأة، توترت منه قائلة: أنا نفسي اعرف مالك في إيه متغير معايا ليه؟!

تجاهلها وتجاهل سؤالها وقرر العودة لما كان يفعله، رافضًا الانصياع لقلبه، اما هي فشعرت بالغيظ منه، نظرت حولها تحاول كبح مشاعر الغضب بداخلها ولكن لم تستطع السيطرة على نفسها فقامت وضربت الطاولة بيدها قائلة بصوت مرتفع نِسْبِيًّا: عمار..

رفع بصره بسرعة البرق عندما فعلت تلك الحركة الحمقاء، ارتعدت للخلف من نظراته المخيفة، ابتلعت ريقها بخوف من تشنج جسده وهو ينهض ليقابلها عن قرب مُتَحَدِّثٍ بنبرة لاذعة: وربي وما أعبد أن تكررت لتزعلي مني جامد يا خديجة..
اهتز صوتها وهي تسأله في توجس: إيه هاتضربني..

جسده، وصوته، ونظراته جعلها تعود بذكرياتها لأعوام جاهدت نسيانها، جعلها تعود لضرب والدها لها، جعلها تغرق في بحر من الذكريات المؤلمة، حاولت فيه هي كالطفل الصغير التمسك بطوق نجاة حتى تعود لبر الأمان، بحثت وبحثت ولم تجد إلا صوته الحنون الذي انتشلها بالفعل من ذلك البحر المظلم، انتشلها بعيونه الغارقة في الحنان والامان، وصوته الغارق في عشق تقيد بقلب مسكين يبحث عن بر أمانه وسلامه...
خديجة!
ها؟!

مالك سكتي وسرحتي في إيه، أنا بقولك أزاي ممكن تتخيليي ان ممكن اذيكي، أو أبعدك عني!
ألقت نفسها بأحضانه عنوه تبكي بانيهار: أسفه!، متزعلش مني، هو أنا خربطت الدنيا معاك، صارحني قولي!

قرر الأخذ بنصيحة مالك بعدما قرر أخيرًا التحدث معه وأخباره لما يفضل الابتعاد هذه الفترة، وسأل مالك بحماس هل وقع عليه خطأ في شَيْءٍ ما أخبره به!، وكما توقع أجابه مالك أن ما فعله ليس إلا الصواب، وفي نهاية الأمر قرر الأخذ بنصيحة مالك وهو ألا يطيل الخصام والبُعد...
تعالي يا خديجة نقعد واقولك أنا زعلان ليه بما أنك أول مرة تتكرمي وتتنازلي وتيجي تسأليني؟!

فتحت فمها وحاولت التبرير له، ولكن هو بتر حديثها بقوله الحاد: أنا أهم من أي حد يا خديجة، وأنا أولى من أي حد أنك تعرفي إيه سبب زعلي، وأكيد ده مش سبب رئيسي في زعلي!
نكست رأسها خجلًا منه: أنا فاهمة أنك زعلان مني في موضوع إيلين وان ناقشتك...

قاطعها ليكمل هو الحديث موضحًا وجهه نظرة: مش بس كده، وياريتها على قد كده، لكن أنتي وقتها كل كلمة قولتيها وكل نظرة وقتها منك كانت بتقولي وأنت مالك أنت مش أبوها بتتحكم ليه صح ولا لا...

فتحت فمها حتى تبرر وجهه نظرها بنظرات مرتبكة، ولكن أسكتها هو بحديثه الذي كان يحمل بين طياته عتاب ولوم كبير: متتكلميش وتبرري أنا بس عاوز أوضحلك حاجة أنا ليا في إيلين زي مانتي ليكي فيها، هي يتيمه الأب والأم، وأنتي اعتبرتيها بنتك وكبرتي في نظري، وأنا اعتبرتها بنتي، إيلين سكنت هنا...

استوقف للحظات يشير نحو قلبه، ثم استطرد حديثه: ويعلم ربنا أنا بحبها قد إيه، لما أجاي بقي اقولك أنا حُر في بنتي وتربيتها بعد كده متجيش وتناقشيني وتقوليلي أصلها مش بنتك..
هتفت باكية: عمار خلاص بقى كانت زلة لسان متقفليش على الواحدة الله، وبعدين أنا بعد كده المفروض اعملك بنفس معاملتك!..
رفع كلا حاجبيه مستفهماً بنبرة حاول إخفاء فيها السخرية: ده اللي هو أزاي يعني؟!.

حولت بصرها نحوه ثم مسحت بكلتا يدها وجهها بقوة كالأطفال، التزمت الصمت لبرهة تحاول تقليد شخصيته ونبرته الجادة: خديجة متكلمنيش مش فاضي، مش دلوقتي!
انفجر ضاحكًا لطريقتها قائلًا: أنا بعمل كده!، آمال أنتي لما بتزعلي بتعملي إيه؟..

أجابته برقة وهي تقترب منه حتى اختصرت أي مسافات بينهم ونظرت مباشرةً لعيناه قائلة بنبرة ناعمة ساحرة: أنا بحبك آوي، مبقدرش ازعل منك، حتى لو زعلت شوية صغننة بردوا أول ما تقولي يا ديجا، قلبي بيرقص من السعادة كده...
اتسعت ابتسامته ليقول بعبث: طيب وكده قلبك يبقى إيه حالته..
مال عليها يقبل ثغرها برقة بالغة هاتفًا من بين قبلاته: بحبك يا ديجا..

حاوطت عنقه بسعادة تجذبه نحوها أكثر ولكن لم تدم سعادتهم طويلاً بسبب طرق عنيف على الباب، نهض عمار بسرعة يفتحه، فوجد مالك أمامه وخلفه ندى تنظر برعب نحوهم...
ندى بنتي عندك يا عمار..
هز عمار رأسه نافيًا: لا مفيش حد هناااا...
التفت لكي يصعد الدرج نحو شقة فارس وجد فارس يهبط بسرعة وخلفه ياراا.
في إيه الصوت ده والدوشة دي!
تحركت ندى نحوهم تسألهم في ريبة: ندى عندكواا..
هتفت يارا بقلق وخوف: لا هي ضايعة ولا إيه!

أنهت جملتها بصرخة عندما وجدت ندى تفقد وعيها وتسقط أرضًا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة