رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل العشرون
- كل شيء سيكون بخير!
قالتها روان مشجعة بينما تستلقي ليلى على ذلك الكرسي الأسود الطويل بانتظار وضع المصل في يدها الذي يحمل المحلول الكيمياوي. كانت تسري في أطرافها ارتعاشة خفيفة لم تكن لها القدرة على الحد منها. تجربتنا الاولى لكل شيء دائماَ ما تكون مخيفة لأننا لا نعرف ما نحن مقبلين عليه. هذه هي طبيعة البشر على اية حال. دائماً يخشون ما يجهلونه!
دخلت الطبيبة المختصة بابتسامة حيوية وكأنها تعمل بقسم الأطفال وليس بالكيمياوي الذي يشعر كل من يدخل غرفته باليأس وانعدام الحياة!
- إذاً كيف هي بطلتنا؟!
قالتها الطبيبة لارا بذات الابتسامة التي لا تشعر بها ليلى فنهضت روان لتصافحها وهي تقول: - لا تزال صامدة!
سحبت لارا كرسي حديدي وجلست مقابل ليلى وهي تشرح لها طريقة العمل: - حسناً عزيزتي. بادئ الأمر ستكون الجلسات كل أسبوع!
فردت فوراً بخوف: - ماذا؟!
- هذه ستكون البداية فقط. فالورم في مكان حساس جداً وخطر لا يمكننا معه اجراء عملية جراحية لأزالة جزء منه، لذلك أن تضخم أكثر ليس من صالحكِ على الاطلاق. هذا الجزء الذي فيه الورم مسؤول عن اعضائكِ اللاأرادية. أي القلب والرئة وكل اعضائكِ التي لا تسيطرين عليها. لذلك لن تكون مشكلتنا أنكِ ستفقدين البصر أن تضخم. بل ستكون مشكلتنا أن قلبكِ سيتوقف أن تضخم وتلفت المنطقة التي هو فيها. ولهذا السبب علينا المحاولة بأسرع وقت لجعله يكون أصغر وأصغر والقضاء عليه بشكل نهائي!
خذلها صوتها في الخروج مع غصة الخوف تلك في وسط عنقها فأومأت بصمت موافقة فأكملت لارا الشرح:
- هذا الاسبوع ستخضعين للعلاج الكيمياوي وبقدومكِ الأسبوع القادم أو الذي يليه سنجري لكِ فحص الرنين المغناطيسي لنشاهد مدى إستجابة الورم وعلى أثره سنحدد ما أن كنا سنضيف العلاج الأشعاعي لدورة العلاج أم لا. أتفقنا؟
- حسناً!
- حسناً إذاً. لنبدأ!
نظرت بجزع نحو أبرة المصل التي تحضّرها لارا فطبطبت روان على يدها لتجبرها على النظر أليها وما أن فعلت حتى تبسمت قائلة:
- لن يكون مؤلماً. ستشعرين ببعض الحرقة فقط. ثقي بي!
أغمضت عيناها لتتساقط دموع لا تعرف من أين جاؤوا بالضبط، في يوم مثل هذا تمنت حقاً لو لم تكن بمفردها من دون أسرتها أو من دون يزن ليشعرها ببعض الطمأنينة. كيف لها أن تواجه شيء بهذا الهلع لوحدها؟!
شعرت بوخزة الأبرة تخترق ورديها ففتحت عيناها وضمت شفتيها بقوة متجرعة ألم بداية دخول الدواء أليها.
- ستراقبكِ الطبيبة روان. سأذهب الان ولكن سأكون معكم في القسم هنا. أن أحتجتم أي شيء فقط أخبروني!
ما أن خرجت لارا مغلقة الباب خلفها حتى مسحت روان بيدها الاخرى فوق يد ليلى التي تمسكها منذ البداية وقالت لها:
- إذاً. كيف الحال؟
نظرت لها بفك منقبض وعيون مكتسية بطبقة دموع كثيفة وهي تسألها:
- متى سيتساقط شعري؟!
ارتسمت ملامح الأشفاق فوق تقاسيم روان وقالت وهي تزيد من ضغطها على يدها:
- لا تفكري بهذا الأمر الان حبيبتي. كل شيء سيتم تعويضه. الأهم هي صحتكِ فقط!
- سيعرفون ما أن يتساقط شعري يا روان!
- هم سيعرفون عاجلاً أم آجلاً لذلك أتركي التفكير بالأمر!
- ولكني لا أريد من أحد أن يعرف الان. بالأخص مازن! ليس قبل أن أنهي امتحاناتي!
- أن كنتِ تسألين عن رأيّ فالأفضل أن يعرفوا. أنتِ تحتاجين الجميع معكِ في هذه الأزمة وليس عليكِ أن تواجهيها بمفردكِ!
- أنتِ معي!
- ولكني لست كافية بالنسبة لكِ. لن أعوض أمكِ أو أبيكِ، أو يزن! أنا واحدة يا ليلى.
رفعت يدها لتعيد خصلات شعرها بضجر نحو الخلف. ولا تعلم لِما فعلت هذا؟ هل لأنها تشعر بالسخط حقاً؟ أم أنها تريد التأكد فقط من أن شعرها لا يزال في مكانه!
- ربما من الأفضل أن تأتي اليوم معي.
- لماذا؟
- هنالك أثار جانبية لجلسة الكيمياوي. كالتقيء والخمول والغثيان وبعض الأعراض الاخرى. لا أظن أنه من الأفضل أن تراها أسرتكِ الان قبل أن تصارحيهم بمرضكِ. ذاتاً لقد طلبت اجازة لبقية اليوم مسبقاً. لذلك سنخرج ما أن ينتهي علاجكِ!
تبسمت بامتنان وهي تمد يدها اليها لتقبض عليها برفق وهي تقول:
- شكراً لكِ روان. حقاً! أشعر بالفعل أن الله جعلني أرتبط بمازن لأتعرف بكِ. لا أعلم ما الذي كنت سأفعله من دونكِ!
حركت يدها بشكل سريع أمامها لتبعث بعض الهواء أمام وجهها المحمر بينما تقول بإحراج:
- أشتميني ولا تقومي بمدحي. فسأكون بلهاء تماماً ولا أعرف كيف أرد!
تبمست بضعف وهي ترد:
- صفة اخرى تشتركان بها أنتما الاثنان!
تنهدت بحسرة:.
- أحياناً يا ليلى لا يكون جيداً أن تحبي شخصاً يشبهكِ لهذا الحد. ربما من الأفضل أن يناقضكِ لتستمر الحكاية. كأن تكوني عنيدة فيقدم هو التنازل. أو أن تكوني ذات كبرياء فيكون هو دائماً من يبادر. لا ينفع أبداً أن تمتلكا ذات الصفات. فكلا الطرفين سيتوقع من الاخر تصرف معين لن يبدر أبداً!
تطلعت بالسقف بنظرات متوجعة وهي تتمتم:
-أجل. ربما تكوني محقة في هذا!
أغمضت عيناها وهي تكمل همسها لنفسها:.
- كل شيء سيمر. لن يبقى أي شيء على حاله!
استلقت فوق الاريكة فور دخولها لشقة روان وجسدها مفكك عن بعضه كما لو أنها جرت لساعات في سباق الماراثون من غير توقف. جسدها النحيل لم يتحمل الجلسة الاولى من العلاج، كان هذا الأمر واضحاً بالنسبة لروان والطبيبة وحتى بالنسبة لليلى!
- هل أحضر لكِ شيء لتشربيه؟
هزت ليلى رأسها رافضة وقالت بصوت ضعيف:
- فقط غطاء. أشعر بالبرد.
- ما رأيكِ أن تنامي على سريري؟ سيكون أكثر راحة لكِ من الأريكة!
هزت رأسها مرة اخرى رافضة فخضعت روان لطلبها من غير إلحاح. فعلى ما يبدو وضعها لم يمكن يسمح لها بمناقشة طويلة على الاطلاق!
دخلت الى الغرفة وأحضرت من أجلها غطاء ووسادة فوجدتها قد غطت بالنوم مسبقاً. دثرتها بهدوء وحدقت بوجهها بتأسف. بدت ملامحها شبه ميتة مع هذه البشرة الشاحبة والشفاه البيضاء. بدأت تلاحظ عليها نقصان الوزن منذ أن بدأت بأخذ العلاجات ما قبل الجلسة. وكل هذا كان البداية فقط!
مضت ساعة على نومها فقررت روان أن تذهب لغرفتها كي تنال قسطاً من الراحة بدورها. استلقت فوق سريرها وتمورت على جانبها الايمن كما تحب أن تفعل دائماً وتركت الباب مفتوحاً خشية أن تختاج ليلى الى شيء ولا تسمعها.
كانت الشقة تغط بسكون مخيف أعتادت عليه روان على مدار كل هذه السنين وحيدة. أنصتت الى تكتكة عقارب الساعة فوق الجدار وقطرات مياه الصنبور في المطبخ وكأنهن يجرين لها تنويم مغناطيسي. أنسدل جفنيها شيئاً فشيئاً وذبلا ليسحباها نحو واقع آخر بعيد عن هذا السكون، وسط ضجيج المستشفى وحركة الاطباء السريعة من هنا وهناك. وسط تأوهات المرضى في غرفة الطوارئ وصوت سيارات الاسعاف البعيدة. كانت تسير بالقرب منه تشعر ببعض الارتباك كونها المرة الاولى التي يدخلون طلاب مرحلتها لغرفة الطوارئ. شابك أصابعه مع أصابعها وشجعها بابتسامة وهما يتبعان طبيبهم المختص الذي يشرح لهم الحالات ويطلب منهم المشاركة من خلال بعض الاسئلة التي يوجهها لهم، صرخات المسعفين اخترقت باب الطوارئ وهم يسحبون خلفهم الاسرّة المتحركة مطالبين الجميع بالابتعاد، أرتخت يدها وانسحبت أصابعها ببطئ من بين أصابعه. تساقطت أوراقها وتساقطت قوتها رغم أن جسدها ثابت. كانت الشراشف البيضاء التي تغطيهما ملوثة بالدماء وعيونهما مسدلة وصدرهم لا يرتفع أو ينخفض. كانا ساكنين وكأنهما يغطان بنوم عميق، لقد كانت ملامحهما خالية من أي ألم أو جزع.
بدأت أنفاسها تضيق. تصرخ وصوتها لا يخرج فتركض ولكن لا تتحرك. فجأة أنسحب الجميع أحدهما بعد الاخر من قربها لتبقى وحدها وسط الردهة المظلمة. لم يعد للمرضى أي وجود ولا للاطباء ولا حتى زملائها. كانت تقف وحدها وسط الظلام وهي تشاهدهم يتلاشون الواحد بعد الاخرى. عصرت عيناها بقوة واستجمعت كل قواها لتصرخ بقوة. وما أن فعلت ذلك حتى ارتفع جسدها من السرير لاهثة بقوة وجبينها يتصبب عرقاً.
نظرت من حولها بعيون مرتعبة وهي تمسح بيديها المرتجفة وجهها وعنقها بهستريا. أنه ذات الحلم مرة اخرى يعيد تكرار نفسه عليها منذ سنوات ولا يشعر بالخجل من نفسه ليتركها وشأنها!
أنقبض فكها وارتجف لتشرع ببكاء صامت بينما جسدها يتحرك ذهاباً واياباً بحركات ثابتة لا يستطيع البقاء ثابتاً مع كل ما يحمله من لوعة!
مسحت دموعها وأخذت نفساً عميقاً لتعيد رباطة جأشها وتذكر نفسها أنه مجرد ماضي عليها نسيانه فحسب والمضي قدماً!
أنزلت قدميها من السرير وسحبت ساعتها اليدوية من المنضدة المجاورة لها لتجد أنه مضى ساعة ونصف على نومها. رمت الساعة فوراً ونهضت بسرعة وهي تشاهد ليلى تقوم عن اريكتها راكضة باتجاه عشوائي. أسرعت اليها فوجدتها تتقيء في سلة المهملات كونها لا تعرف اتجاه الحمام بالضبط ولم تكن تمتلك التركيز الكافي لتلمحه.
جلست بهدوء خلفها حتى انتهت فمسحت على ظهرها برفق وقالت:
- لا بأس حبيبتي. هذا شيء طبيعي!
استعدلت ليلى بجلستها واتكأت على الجدار وهي تقول بضعف:
- جسدي يؤلمني كثيراً.
- أعلم عزيزتي. عليكِ أن تتحملي قليلاً. هنالك ايضاً المزيد من الاعراض التي ستلاحظيها من الان فصاعداً.
ثم تبسمت بعطف وهي تمسح برفق جانب وجهها:
- ولكن كل شيء سيكون بخير صدقيني. ستنسين كل هذا الألم بعد أن تُشفي منه!
أغمضت عيناها بأنزعاج وهي ترد:
- كلانا يعلم إني لن أشفى يا روان. دعينا نترك الأحاديث التحفيزية هذه!
استندت على الارض لتعين جسدها على النهوض وقالت بينما بالكاد تقف على قدميها المرتعشتين:
- إن كنتِ تريدين مساعدتي حقاً فساعديني أن أحقق ما أريد فعله قبل أن أموت. دعينا نشغل تفكيرنا بهذا الأمر بدل أن نشغله بطريقة شفائي المستحيلة!
ثم اتجهت نحو الاريكة لتعاود الاستلقاء هناك بعد أن أخذت من حقيبتها دواء للمعدة كي تتخلص من هذا الغثيان بعض المسكنات من أجل ألم رأسها، بينما روان لا تزال حيث هي تحاول تنظيم أنفاسها والسيطرة على أنفعالاتها. تود حقاً النهوض الان والتشاجر معها بسبب هذا اليأس الذي يتلبسها ولكنها تحاول أن تسيطر على نفسها وتفهّم ما تمر به ليلى!
شغلت نفسها بتفريغ سلة المهملات وغسلها من بقايا القيء بينما انشغلت ليلى بالتحقق من جهازها وهي ترى عدد المكالمات الكثيرة الذي تملأه من والديها أو مازن ورسائلهم لها.
أتصلت بادئ الأمر بوالدتها لترد الاخرى فوراً بلهفة بعد الرنة الثانية:
- ليلى؟ أين كنتِ بحق السماء؟ لقد خرجتِ منذ الصباح ولم تعودي الى الان ولا تردين على اتصالاتنا. هل حصل شيء؟!
أدارت رأسها نحو الساعة على الجدار الذي خلفها لتجد الساعة تشير الى الثانية بعد الظهر. تنهدت بضيق وقالت:
- أنا بخير أمي، أخبرتكِ إني سأذهب لملاقاة بعض الاصدقاء فلما كل هذه الاتصالات؟ هل أنا صغيرة؟
- نعم أخبرتني إنكِ ستلاقين بعض الاصدقاء ولكني ظننته مشوار سيدوم لساعتين. وليس لست ساعات!
- أسفة. يبدو إني لم أنتبه للوقت!
زفرت جيهان بقلة حيلة وأعتدلت نبرتها المنفعلة لتسألها بشيء من الهدوء:.
- حسناً إذاً. متى ستعودين؟
- أجل بخصوص هذا. سأقضي الليلة اليوم مع صديقتي. هل يمكنني ذلك؟!
- وما السبب؟!
- أسرتها خارج المدينة وهي بمفردها لذلك طلبت مني البقاء معها.
عمّ الصمت للحظات بينهما ثم أطلقت جيهان تنهيدة تعبر عن ضيقها وعدم تقبلها لهذا الأمر ولكنها مع ذلك تسأل أبيها الذي يجلس بقربها:
- أحمد؟ ليلى تريد قضاء الليلة مع صديقتها لأنها بمفردها. ما رأيك؟!
لم تسمع ليلى أي رد بادئ الأمر فأدركت أن أبيها يفكر بالقرار المناسب. عصرت عيناها بقوة تتلو صلاتها بسرية أن يوافقا على الأمر. أطلقت انفاسها براحة وهي تسمع والدتها تجيبها وأخيراً:
- حسناً لا بأس بذلك!
تمتمت بعبارات شكر مختصرة وأنهت المكالمة معها كي لا تتعرض لسيل من الاسئلة حول نبرتها الضعيفة أو صوتها الذي يشوبه بعض الأهتزاز!
جلست روان بجوارها وهي تسألها:
- إذاً؟ هل سار كل شيء على ما يرام؟
فركت صدغها بأطراف أصابعها وهي تقول متنهدة:
- للوقت الحالي!
مسحت على ظهرها برفق وشجعتها قائلة:
- كل شيء سيكون بخير. سنتخطى هذه المحنة!
ربما كانت روان محقة حين قالت أنهما سيتخطيان هذه المحنة. ولكنها لم تخبرها كيف سيتخطوها وما الذي سيخسروه ليفعلوا ذلك؟ كيف ستكون طبيعة الألم وهي تتجرعه بصمت مدعية القوة بين من يحيطوها لتبين أن كل شيء بخير؟!
عادت لأنطفائها الذي كانت عليه ولم تتمكن من مواصلة تفائلها وحماسها لفعل ما فاتها ولتجربة ما كانت ترنوا اليه وتأجله لوقت لاحق. أذابها المرض بين ليلة وضحاها وزاد العلاج الكيمياوي الأمر سوءاً أكثر مما كان أي أحد يتخيل. بدأت تتساقط منها خصلات وليس مجرد شعيرات قليلة وهي تمشط شعرها، ولكن لحسن حظها - أو ربما لسوئه - كان شعرها كثيف فلم يلاحظ أحد بسرعة أنه يتساقط بفعل المرض وأعتقدوا أنها مجرد حالة عادية له ربط بحالتها النفسية بسبب اقتراب الامتحانات. نفس السبب الذي أخبرتهم به ليقتنعوا من غير شك حول وزنها الذي بدأ يتناقص بشكل مخيف بعض الشيء لدرجة أنه أبرز لها عظام وجنتيها وأدخل عينيها داخل حفرة تحيطها الهالات السوداء. أنها مجرد أسبوعين ولكن كان يبدو أنه مرت سنة على المرض. كان يزداد وحشية وكأن العلاج الكيمياوي يحفزه ويثيره ليستفحل وينهشها!
- هذا غريب! من المفترض أن يتناقص حجمه، أو على الأقل يبقى ثابتاً من غير أن يتضخم بهذه السرعة وكأنه لا دور للعلاج!
قالها ايهاب، زميل روان من مستشفى اخرى الذي عاين ليلى لأول مرة، فردت روان وقد انقبضت لها معدتها من نظراته المحملقة بالاشعة بين يديه بثبات وكأن هناك شيء أن لم يفهمه ستكون الخسارة التي يدفعوها هي حياة ليلى:.
- ماذا تعني بالضبط؟ لقد تم تحديد جلساتها مرة كل أسبوع فقط من أجل تقليص حجمه قدر المستطاع!
- أجل من المفترض ذلك، ولكن نسبة الى تضخم الورم الان يبدو وكأنه يتغذى على العلاج وليس العلاج من يقضي عليه. أنا متأكد أنه لو لم تخضع للعلاج ما كان سيتزايد حجمه بهذا الشكل. لا أعني أنه ضخم بشكل سيقتلها خلال شهور. ولكن أن استمر على هذا المعدل من النمو فسيفعل!
فقالت ليلى بنبرة ساخطة تدل على نفاذ صبرها:.
- لحظة. هل تعني أنه كان من الخاطئ إنني أخذت العلاج؟ أن كان كذلك فلِما أخضعتوني له؟!
- أنه ليس خاطئ انسة ليلى. ولكن هنالك شيء خاطئ يحصل نحن لا نفهمه. ليس من المفترض أن يتزايد حجمه بهذه السرعة لا سيما مع خضوعكِ للعلاج.
فقاطعته بنبرة عصبية أعلى من نبرته:
- ولكنه فعل. فما تفسيرك للأمر؟!
مدت روان يدها لتقبض على يد ليلى وقالت في محاولة منها لجعلها تتمالك أعصابها:.
- اهدأي عزيزتي. لا بد أن نفهم كل شيء مع العلاج والفحوصات!
فنهضت ليلى غاضبة لينقلب كرسيها الى الخلف وهي تهتف بروان بغضب تجده روان من حقها وبلحظة اخرى تجد أنها تبالغ بهذا المقدار من العصبية والصوت المرتفع:
- المزيد من العلاج؟ أي المزيد من الحقن وتلك الحبوب اللعينة التي تجعلني شبه ميتة طوال الوقت. والمزيد من جلسات الكيمياوي والمزيد من تساقط الشعر. وفي النهاية؟
أشارت بأصبعها نحو ايهاب من غير أن تبعد نظراتها الجاحظة عن روان:
- سيأتي أحمق مثل هذا يخبرني أنه لا يفهم ما يحصل ولا يعرف لِما أموت رغم إني ألتقى كل هذه السموم التي تسموها علاج! لقد كنت بخير وسلام وأنا أعالج صداعي بالمسكنات وما كان سيتضخم الورم لو لم أتلقى الكيمياوي. لربما كنت سأعيش سنة وليس مجرد شهور أو أسابيع!
ثم سحبت حقيبتها بعنف وهي تقول بينما تخرج من المكتب:
- لقد اكتفيت من هذا الهراء!
وصفعت الباب بقوة من بعدها فتنهد ايهاب من غير ضجر وقال بينما روان تفرج شفتيها بشيء من الذهول:
- من علامات ورم الدماغ هو التغير المزاجي. لذلك سترينها كثيراً بهذا الشكل من الان فصاعداً!
نظرت له بعيون منكسرة فأكمل الشرح:.
- ساعة ستجديها تصرخ بكل هذه العصبية ومن ثم بذات اللحظة ستشرع بالبكاء أو تتذكر شيء ما لتضحك، ما يصيب صديقتكِ ليس في يدها أو عنقها. ما يصيها هو بداخل المتحكم الأساسي في جسدها، كلما تضخم الورم كلما ازدادت أعراضها سوءاً. وهذه الأعراض ستصيب القلب لأنها في الجزء الذي يسيطر عليه. فجأة سيفقد دماغها القدرة على تشغيل قلبها. وكأنه سينسى فجأة كيف يفعل ذلك. لذلك لن تفيده الصعقات الكهربائية ليعاود العمل فالخلل ليس به بل بالمتحكم به!
أخذت نفساً عميقاً لم تشعر أنه أدخل الهواء الكافي لرئتيها وأسقطت رأسها بين يديها وهي تقول بتعب وفقدان أمل:
- والحل؟
- سنجري لها العلاج الأشعاعي!
نظرت له بجزع وهي تدرك جيداً أن عقارب ساعة العد التنازلي لليلى بدأت بالعمل. تكاد تسمع تكتكتها في اذنها وترى الأرقام الحمراء تتناقص أمامها لتعلن قريباً وصولها للصفر فيستقيم خط حياتها. وتنتهي!
مرت ثلاثة أيام اخرى تجاهلت فيهم ليلى مكالمات روان وترجياتها من أن ترد عليها من أجل التفاهم على العلاج. كل ما كانت تفعله هو تحذيرها والتشاجر معها كلما هددتها روان أنها ستخبر اسرتها ليجبروها على التعالج. قررت منحها أسبوع لتهدأ وتكّف عن هذا العناد لذلك كان اليوم الرابع هادئاً بالنسبة لها من أزعاج روان لها!
أغلقت على نفسها الباب وهي تكور نفسها فوق السرير وتحيط رأسها بقوة تأن من ألمها رغم أنها أخذت قرصين من المهدئ ولكنه لم يجدي. صاحت بأمها بأنفعال مرتين وهي تطرق عليها الباب لتفتحه من أجل أن تطمئن عليها فوضعها يصبح أكثر غرابة يوم بعد آخر!
كانت تبدو كالمجنونة وهي تتقلب كل لحظة على جانب وتحيط رأسها بكلتا يديها لعل وضع معين من الاستلقاء يمنحها بعض الراحة ولكن لم ينفع شيء!
رن هاتفها فأغمضت عيناها بسخط وانقبض فكها بعصبية وهي تظن المتصلة روان. رفعته بضجر لتنفرج ملامحها قليلاً وهي تقرأ اسم مازن. نعم لم تكن متحمسة كثيراً للتحدث اليه، ولكن لم يكن يزعجها هذا كونه يجهل بأمر مرضها لذلك لن يتطرق اليه.
- اهلاً مازن!
- اهلاً حبيبتي. أين أنتِ؟!
قالت بتأفأف:
- في منزلي يا مازن أين عساي سأكون؟!
- ولما تتحدثين هكذا؟!
- أعاني من صداع فقط وبعض الضيق بسبب الامتحانات!
- ذاتاً اعتدت على هذه الإجابة مؤخراً كلما تجاهلتِ مكالماتي أو رسائلي!
اعتدلت بجلستها وقالت بحدة من غير أن تبالي برد فعله على ذلك:
- وما المطلوب الان يا مازن؟ هل تريد أن نتشاجر؟ لأنه في الحقيقة ستسدي لي خدمة كبيرة أن اتشاجر مع احدهم!
فرد بسخط مماثل وهو بالكاد يبقي صوته هادئ:
- لا اتشاجر ولا غيره. أردت أخبارك إننا مدعوين على حفلة الخطوبة يوم الخميس!
سكتت للحظات وهي تقطب حاجبيها بحدة ثم قالت:.
- حفلة خطوبة من؟!
- يزن وسوزان.
الأمر لحظتها كان يشبه أن تكون تتحدث مع صديقك المقرب على الهاتف وفور انتهاء المكالمة تردك اخرى بعد لحظات تخبرك أنه مات في حادث سير.
يشبه أن تكون مشلول بأكملك وتحلم أنك عدت لتسير وتركض وتعيش مغامراتك وفجأة تستيقظ لتجد أن اقدامك لا تزال ميتة وخالية من كل شعور.
بادئ الأمر سيتحرك شيء في بطنك وينقبض بقوة ليتصاعد تدريجياً نحو قفصك الصدري ويتجمع في النهاية في حنجرتك وجانبي رأسك ليشابه تلك اللحظة التي تخنقك العبرة ولكنك تخجل من البوح بدموعك!
- ليلى؟ هل أنتِ معي؟!
لم يسمع منها أي رد ولم تتمكن هي من منحه صوتها المخذول أو تحريك عينيها الجاحظة. كرهت البشر بأجمعهم لحظتها بسبب خيانة واحد فقط لها. فحين يكون هذا الواحد الأقرب اليكِ سيتساوى الجميع بنظرك ليتساقطون بالتوالي!
أغمضت عينيها بقوة وهي تبتلع تلك الغصة بصعوبة لتتمكن من أخراج كلماتها وهي تقول بصوت ضعيف:
- هل هو معك لأبلغه مباركتي؟!
- لا. أنا في المستشفى وهو لا يزال في المنزل. سيأتي بعد ساعة تقريباً وسأبلغه مباركتكِ.
- حسناً. سأغلق الان!
وانهت المكالمة قبل أن تسمع صوته ونهضت نحو خزانتها لترتدي سترتها الرياضية الفضفاضة فوق قميصها القطني ذو الاكمام القصيرة وخرجت باستعجال من غرفتها متجاهلة صياح امها من بعدها.
نزلت مسرعة من فوق السلم لا تمتلك الصبر لتنتظر المصعد.
كانت تهرول لتصل للشارع الرئيسي ولكنها وقفت في منتصف الطريق فجأة تبكي بهستريا وتحاول التقاط انفاسها التي تضيق أكثر فأكثر
شاهدها سائق اجرة من بعيد فاقترب منها وهو ينزل النافذة ويقول:
- هل تحتاجين الى سيارة انستي؟!
نظرت اليه بانفاسها اللاهثة ونظراتها الباكية المشوشة وصعدت من غير رد في المقعد الخلفي وهي تمليه العنوان بينما تضع رأسها على وسادة رأس الكرسي الامامي تكمل بكائها!
بالكاد وجدت بعض الفكة في جيب سترتها لتعطيها للسائق ونزلت نحو شقته بذات الهرولة من غير إبطاء سرعتها.
ضغطت جرس الباب من غير توقف الى أن سمعت صوته الساخط من خلف الباب يصيح بعصبية بهذا الطارق عديم الصبر. فتح الباب لترتخي ملامحه المنقبضة فوراً وهو يراها أمامه.
كادت شفتيه أن تتمتم بأسمها ولكنها لم تعطيه الفرصة لذلك وهي تدفعه بقوة من صدره ليرتد جسده المتراخي نحو الخلف بسهولة وهي تصرخ به:.
- هل تنتقم مني يا يزن؟ تنتقم مني؟ بما ستبرر أرتباطك بها؟ هل أجبرك جدك مثلي؟ هل وضعوا أحلامك على شفا حفرة من الموت وخيروك ما بين أنقاذها أو رمي نفسك معها لتعيشها كما فعلت أنا؟ اخبرني ما عذرك أنت؟!
كانت تستمر بدفعه بقوة وهو يستمر بالتراجع بدهشة من حالتها السيئة التي توقع للحظة أنها ستسقط ميتة بينما تصرخ به بكل هذا الغضب والنار تاكل حطب تحملها الواحد بعد الاخر.
امسك يدها يحاول جعلها تهدأ فسحبتهم بعنف وصرخت به:
- أياك أن تلمسني. أنا اكرهك. هل تسمعني؟ اكرهك يا يزن أكثر مما كرهت أي أحد اخر في حياتي أو سأكره. أكرهك لدرجة أشعر أن جدي انقذني من شخص حقير وعديم الرحمة مثلك حين لم يجعلني أرتبط بك!
قال بشيء اقرب للتوسل:
- ليلى لا تهذي!
فقالت بينما كل شيء بها يجحظ بحدة. صوتها وعينيها وشرايين رقبتها وجبينها:
- أهذي؟ تظنني أهذي؟!
ثم ضربت الزهرية التي قربها لتكسرها وهي تكمل صياحها:
- قلت لك أن تذهب وترتبط بتلك اللعينة فلست امانع. ولكن طلبت منك أن تنتظر بضع شهور فقط لأرحل ولا أرى ذلك!
عادت لتدفعه بضرباتها على صدره وهي تكمل:
- أم أن ما تسعى اليه هو أن ارى فقط دون أن تهتم بما ستحرقه بداخلي وستذبحه؟ يكفيك أن تُرضي غرورك وأنت تشاهدني أموت بينما أنت مع غيري لترد لي ما فعلته بك أنا رغم أنه لم يكن بإرادتي؟!
ثم قالت بملامح منكسرة وعيون باكية:
- هل أنت مستعجل على موتي بهذا الشكل يا يزن؟ اما كنت تطيق بضع شهور لترى ذلك يحصل؟!
وعادت تصرخ مجدداً:
- بضع شهور فقط يا يزن لأموت وتتزوج أنت. أما كنت تطيق صبراً؟!
بقي يحدق بها بصدمة وهو يقول برجفة:
- ما هذا الذي تقوليه يا ليلى؟ أي موت هذا لا سامح الله!
- بل سمح. سمح يا يزن!
ثم انهارت فوق الكرسي وهي تقول بانكسار:.
- لِما تفعل بي هذا؟ كيف طاوعك قلبك أن تفعل ذلك بملأ إرادتك؟ أنت. كي.
وحاولت إكمال جملتها ولكنها لم تمتلك الهواء الكافي لتدفع به حروفها. سحبت نفساً عميقاً من دون جدوى وحاولت بأي طريقة أن تجعل نفسها تهدأ ولكنها فشلت، أسرع هو ليجلس أمامها بينما يحوط وجهها بين يديه ويقول بفزع:
- ما الذي يحصل لكِ؟ هل أنتِ بخير؟!
دفعت يداه بضعف واستندت على كتفه لتنهض تحاول رؤية الباب من خلال نظراتها المشوشة وتفشل.
ارتخت الارض من تحتها واستدارت الغرفة وما فيها بها لتسقط على ركبتيها ولم تعد تسمع صوته. فقط صوت انفاسها الثقيلة التي تدخل جوفها ولا تصل الى رئتيها، ثم لا شيء. مجرد ظلام دامس!