قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي والعشرون

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي والعشرون

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي والعشرون

نحن لا نموت مرة واحدة بل جزء بعد اخر. يموت شيء بنا كلما فقدنا شخص نحبه أو شخص أحبنا واهتم لأمرنا. الموت لا يباغتنا بحضوره بل يبدأ بتضييق الدائرة علينا وهو يقترب. يذكرنا بوجوده دائماً كي لا نتفاجئ بزيارته. يجعلك دائماً على توقع إنك ستكون التالي. ستصحو ذات ليلة في سريرك لتجده يجلس على الكرسي المجاور يبتسم بوجهك ويطبطب على يدك ليقول هيا. حان الوقت. لا تملك حق الاعتراض في إنهاء خدماتك الوظيفة وسترضخ لهذه الاستقالة.

لا تخف. سيكون لطيف معك. سيسألك عن أسمك وعمرك. سيسألك عمّا إذا كانت لديك أمنيات اخيرة؟ ثم سيترك زهرة حمراء داخل يدك لتستنشقها وأنت تغمض عيناك لتفتحهما بمكان اخر. بعيداً عن غرفتك ومنزلك. بعيداً عن كل شيء كنت تعرفه لتبدأ حياة اخرى. نعم ستصرخ مثل الطفل الرضيع الذي يغمض عيناه بقوة لا يريد استقبال هذه الحياة الجديدة ويريد العودة الى حيث كان. يخاف من كل شيء جديد ويريد أن يعود الى ما تعود عليه، ولكن دعني أسألك. هل تركه حيث كان هو القرار الصحيح؟ ما كانت حياته قبل ان يأتي الينا؟ ماذا كان يملك؟ كل شيء زائل وعديم القيمة حيث كان والأفضل هو أن يخرج، لِما لا نرى الموت هكذا ايضاً؟!

كان يقود السيارة بجنون بينما هي ممدة على الكرسي بجواره، يرفض كل فكرة تطرأ على باله أنه سيصيبها أي سوء. كان يبعد عن عقله فكرة التخلي عنها للأذى. أما أن يموت قبلها أو معها. عدا ذلك هو شيء غير مقبول بالنسبة له!
هل مررت بهذا مسبقاً؟ حين تشعر أنك على وشك فقدان أحدهم. سينقبض كل شيء بك وتتمنى لو تحصل معجزة تمنع ذلك. كأن يعود الزمن للوراء دقائق ويختارك الموت بدلاً منه!

أو أن تبدأ تتذكر - بلمحات سريعة - كل شيء جمعكما معاً. ضحكاتكما والدموع. شجاركما والتراضي. ستتذكر كل شيء سيء وتراه بشكل جيد وستجد كل لحظة كانت ثمينة معه. فنحن لا نعرف قيمة ما بين يدينا إلا حين نفقده حقاً!
سنجد كم كانت شجاراتنا سخيفة ولا تستحق
وكم كانت لحظات سعادتنا رائعة
وكم خسرنا من وقت في مشاغل الحياة بعيداً عن بعضنا
في تلك اللحظة بالأخص أنت مستعد أن تتنازل عن كل شيء لتعيد تصحيح الأمور بينكما!

وصل الى المستشفى ونزل بخطوات متعثرة نحو بابها ليفتحه ويحملها بين ذراعيه ليفزع من منظر وجهها المزرق تحت ضوء الشمس الابيض. استغرق ثواني من الزمن ساكن من غير حركة ويجحظ بعينيه يفترس ملامح وجهها يحاول معرفة ماذا يصيبها بالضبط!
كادت أن تفلت من بين يديه المتراخية من الصدمة لو لا أن أسرع الممرضين بالسرير المتحرك ليضعوها عليه ويركضوا معه نحو غرفة الطوارئ، ولحسن الحظ كانت مناوبة روان هناك!

لم ترى ليلى فوق السرير ولكنها رأت يزن يركض كالمجنون خلف السرير وهو يصرخ بهم أن يفعلوا شيئاً ما لأنقاذها!
أسرعت اليه وشهقت بفزع وهي ترى ليلى. ولم ينتبه في لحظتها لِما لم تسأله روان عمّا اصابها؟ بل دفعت السرير معهم لتضعه في المكان المناسب وتفحصت نبضاتها من مكان رقبتها بأصبعها ثم وضعت السماعة فوق صدرها لتهتف بهم: - حضّروا لي حقنة من الكورتزون بسرعة!

ركضت الممرضة نحو العربة المتحركة بجانبها لتملأ حقنة بالدواء وتحضره راكضة نحو روان لتغرسه في وريد ليلى ويداها ترتجف بينما تصدح بعقلها جملة ايهاب وكأن العقل سينسى فجأة كيف يقوم بتشغيلهم، شتت لها تركيزها صوت يزن المرتجف بينما يحدق بالاجهزة الموصولة بجسدها: - انها لا تتنفس يا روان. معدل الاوكسجين في دمها منخفض!

لم ترد عليه وبقيت تحدق بصرامة في الاجهزة وهي تشاهد تصاعد نسبي في ضربات القلب ولكنه لم يكن كافياً لأسعافها. أي انه لا يزال مضطرباً. ليس قلبها بل دماغها!

تناولت على الفور من جانبها قنينة بلاستيكية متوسطة الحجم موصولة بأنبوب رفيع ادخلته من خلال فم ليلى وبدأت تضغط على جانبي القنينة لتدخل الكمية الكافية من الهواء نحو صدرها. في تلك اللحظة أدركت أنها أن أرادت أنقاذها فسوف يعرف يزن ما خطبها. لذلك لم تكن تملك الوقت أو أي خيار اخر لتفادي معرفته بهذا لذلك وجّهت نظراتها نحو إحدى الممرضات من جديد وقالت: - جهزي لي حقنة من الديكساميتازون!

وهنا ارتخى كل شيء بداخل يزن وكاد أن يسقط ارضاً وهو يحدق بها بصدمة. فهذه الحقنة مخصصة لمرضى السرطان تساعدهم على تخفيف التضخم الناشئ حول معظم اورام الدماغ وتخفيف بعض الاعراض!
- روان؟!
قالها بنبرة متفككة فتجاهلت الرد عليه او النظر اليه. كانت نظراته ستقتلها لو أنها فعلت. لو أنها رأت ما فعلته به هذه الحقيقة المشوشة!
قال مرة اخرى بذات الصوت المرتجف والخائف بينما هي تدفع الدواء في وريد ليلى:.

- روان؟ قولي لي أن ما أفكر به خاطئ. قولي لي إنكِ لاتعرفين أي شيء أتوسل أليكِ. قولي إنكِ تفعلين كل هذا من باب الاحتياط فقط!
نظرت له بنظرة منكسرة وبائسة وكأنها تعتذر منه فصرخ فوراً بجنون بينما يضرب علب الادوية التي بجانبه:
- روان تحدثي بحق الجحيم! ما هذا الهراء الذي تقومين به؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ هل نسيتِ دراساتكِ الطبية الان أم تحاولين أن تجربي بها أي شيء؟!
- يزن. عليك أن تهدأ. ليس.

فصرخ بها بصوت أعلى بينما يلتف من حول السرير ناحيتها وكأنه على وشك افتراسها من غضبه:
- ما الذي تفعله ليلى بحقنة الديكساميتازون؟ ما هذا الغباء الذي تقومين به؟!
- يزن.
قاطعها بصرخة:
- أخرسي! لا تفسري لي شيء. لقد أخطأت بوضع الدواء فقط.
قلصت جسدها بخوف بشكل لا إرادي بينما هو يحوم حول نفسه وكأن هناك نار تلسعه من الخلف يحاول إيجادها وأخمادها ليرتاح.

دخلت سوزان من بين جمع الاطباء والممرضين المجتمعين على مسافة يراقبون يزن يفقد أعصابه من أجل هذه المريضة لسبب يجهلونه.
أغلقت فوراً الستارة لتحجب عنهم رؤيتهم وقالت بينما تنقل بصرها بقلق ما بين روان الباكية بصمت ويزن اللاهث وما بين ليلى التي تغط بعالم اخر:
- ما الذي يحصل هنا؟!

لم يرد أي احد منهما بشيء بل وقام يزن بالالتفاف مجدداً نحو روان ليقبض على عضديها بقوة يكاد يفقد عقله وقال بينما شرايين جسده النافرة تكاد تنفجر:
- ما الذي يحصل لليلى؟ ردي فوراً يا روان!
قوست شفتيها ببؤس وتساقطت دموعها بغزارة ليهتف بها فوراً:
- تحدثي يا روان ولا تصيبيني بالجنون. فأنا على شفا حفرة من الموت!
ردت بنبرة هامسة ومخنوقة:
- أنها. مصابة بالسرطان. أنه في رأسها.

خبر كهذا لن يستطيع أي أحد أن يفهم كيف سنتلقاه. هي في لحظتها لم تخبره أن ليلى تحتضر، بل قالت له أن موعدك قد حان. أن نهايتك قد حلّت. إنك ستموت خلال فترة غير معلومة. أخبرته أنهم سيقتلوه ببطئ في كل يوم وفي كل ليلة.

أسوأ ما في الأمر أنه طبيب. أسوأ ما فيه أنه يعرف حول ذلك الأمل الزائف الذي يمنحه لشخص يحتضر ويخبره أن العلاج سينفع. من سيكذب عليه الان؟ من سيقنعه أنها ستنجو من هذا المرض؟ أنه بالفعل يحتاج هذه الكذبة الان كي يتمكن من مواصلة التنفس والعيش. يحتاج هذه الكذبة كي يمتنع الان من الصعود اعلى البناية لألقاء نفسه أو أطلاق النار على رأسه!
فقد القدرة في لحظتها على أن يبدي أي رد فعل. جسده لا يطاوعه ليفعل ذلك!

هنالك لحظة سيقف كل شيء بنا ويتهيأ الجسد كله فقط لترجمة الصدمة. ولكن جسده لم ينجح في ذلك. لم يستطع حقاً أن يستوعب أنها قد تكون مصابة به. ولكن كلما حاول تكذيب هذه المعلومة كلما خطرت إحدى عبارات ليلى له مؤخراً.
ولكن أنتظر فقط لبضع أشهر. لرحيلي
لمكان بعيد عن هذا كله
أكنت مستعجل بهذا الشكل على موتي؟ أما كنت تطيق صبراً لبضعة شهور؟
ماذا ستفعل لو تبقى لك أسبوع واحد من حياتك.

أريد أن يكون هنالك في حياتك من ينسيك ليلى
وهنا بدأت أنفاسه تخرج بسرعة كمن يعاني الاختناق. كانت تدفعه بقوة عن عالمها الذي بدأ النور يتلاشى منه وهو مثل الأحمق أسرع ليداوي كرامته بالارتباط بغيرها فقط ليحرقها ويستمتع بذلك حين يرضي غرور رجولته بغيرتها.

شعر فجأة بالارض ترتخي من تحته وأصوات الجميع تتلاشى عنه. لذلك استغلت سوزان لحظات ضعف جسده هذه وسحبته فوراً من الجهة الاخرى للستار وهي تلمح مازن قادم نحوهم. والذي سيعرف كل شيء فوراً ما أن يرى حالة يزن هذه. كانت ستكفيه صدمة مرض ليلى ولم يكن بحاجة لشكوك اخرى تصدمه. لذلك كان الخيار الأمثل ان تبعده!

انقاد معها وهو يشبه ميت. الشيء الوحيد الذي يتحرك به هو اقدامه. أما عدا ذلك فقد كان متصلب أو جاحظ وكأنه أصيب بشلل مفاجئ لا يملك القدرة على استعادة الشعور لجسده الخالي من أي كيان أو روح!
فجأة لفحه ضوء الشمس جعله يضيق عيناه بشكل لا إرادي. انهما في السطح!

لم يدرك كيف وصلا الى هنا؟ هل استقلا السلم أم المصعد؟ كيف قطعا كل هذه المسافة دون أن يشعر بقصرها أو طولها؟ هذا المقطع من حياته من سرير ليلى الى السطح لن يتذكره يزن ابداً فهو لم يعيشه فعلاً ولم تلتقط حواسه أي شيء لتسجلها في عقله. كان مغيب عن الوعي دون أن يفقد وعيه فعلاً!
أجلسته سوزان على المسطبة وهو لا يزال مشتت النظرات ومتفكك الكلمات لا يستطيع أن يجد ما يعبر به عمّا يختلجه!

وقفت أمامه وانفاسها مضطربة من هذا المشي السريع الذي قطعاه في الوصول الى هنا. حدقت به بإشفاق وألم بآن واحد وهي لا تستطيع ابداً أن تعرف كم يحمل الان من وجع بداخله!
جلست بجواره بصمت مماثل وهو لا يزال يحدق أمامه من غير تركيز. لحظات حتى قالت بنبرة منكسرة:
- عليك أن تتماسك يا يزن. لو رآك مازن بهذه الحالة سيدرك فوراً إنك تحبها!
نظر اليها بذات العيون الضائعة فقالت بابتسامة مريرة:.

- منذ يوم عيد ميلادك في المطعم أدركت أنك تحبها. لا أعلم لِما نحن النساء نمتلك هذه الميزة، ولكن سنعرف على الفور إن كانت هناك شرارة حب أو إعجاب بين اثنين. أدركت أن ما يجمعكما لم يكن معرفة عائلية فقط. ربما من طريقة نظرك اليها. أو من منظرها حين قدمت لك الهدية!
ثم وضعت يدها بلطف على خده وأكملت مع دمعة:.

- وحين تقدمت لخطوبتي أدركت أنك تفعل هذا لسبب يرتبط بها. أما لتغيضها أو لتنساها. ولكني رغم ذلك لم أستطع رفضك. حتى لو لم تعجب بي كما أعجبت بك كنت - وبكل سذاجة - أقبل بهذا!
أشاح وجهه من جديد عنها ونظراته لم تتغير تأثراً بكلامتها. لا تعلم هل سمعها حين قالت ما قالت؟ أم أنه لا يبالي في لحظتها لما تشعر هي من موقفه!

مرّت دقائق اخرى ويزن ساكن من غير حركة أو حتى بكاء. كان يحدق فقط بنقطة بعيدة بعيون تائهة لا يمكنها استيعاب هذا الواقع
- يزن؟ أنا أدرك ما يختلجك بالضبط في هذه اللحظة. لذلك تعاملك مع خبر كهذا خاطئ. عليك أن تتحدث بشيء. عليك أن تبكي أن استوجب الأمر. ولكن صمتك هذا يقلقني عليك أكثر. لذلك أرجوك قل أي شيء!
نظر اليها وتحركت تفاحة ادم في عنقه. لا تعلم هل ازدرد ريقه أم ابتلع غصته؟ قبل أن يقول بصوت ضعيف وهش:.

- لو سمحتِ. أريد أن ابقى وحدي!
قالت محاولة الاعتراض:
- ولكن.
فرد بخشونة:
- لو سمحتِ!
تنهدت بقلة حيلة وتركته وحيداً وغادرت السطح...
أحياناً نحن نحتاج الوحدة حقاً أكثر من حاجتنا لمواساة وكلمات منمقة، نحتاج أن نختلي بانفسنا ونتشاجر معها ونوبخها وننصحها لعلها تعود كما كانت أو تتخطى تلك العثرة التي اظنتها...

وجود البشر في احيان كثيرة يكون متعب حين تضطر أن تبرر وتفسر لهم وتناقشهم في الوقت الذي تكون فيه متعباً حتى من التنفس.
سيلوموك أن انفجرت بوجههم في لحظة انهيار.
سيزيدون حملك بسخطهم من عصبيتك.
سيطالبوك بتعرية كل جروحك الواحد تلو الاخر دون أن يفعلوا شيء يذكر لتضميدها سوى بكلمات باهتة لا تغني ولا تشبع.

ولكن ليس كل البشر سواسية. فبعضهم مجرد قربهم حتى وان كان بصمت سيكون كافياً لتنفجر كالاطفال باكياً أمامهم لتشفي كل جروحك، كروان مثلاً!
شعر بجلوسها بعد عشر دقائق من رحيل سوزان. التفت اليها بنظرات منكسرة لتقول له بعيون دامعة:
- أن كنت ستطردني مثل مازن. فأرجوك لا تفعل، لم يكن لدي خيار اخر أقسم لك. لم أستطع أخباركم. كانت ترفض بشدة!
وهنا انكسر كل السكون الذي كان يحيطه وبكى بمرارة وهو يقول باستهجان:.

- هل هذا كل ما يهمه؟ إنكِ أخفيتِ الامر عنه؟
ثم ضرب على صدره بحرقة مشيراً الى نفسه:
- لا يهمني الان شيء سواها. أنا سأفقدها الى الابد يا روان!
بكت فوراً بإشفاق على منظره وضمته اليه ليضمها بدوره بقوة وهو يبكي بصوت مرتفع. أنه يموت للمرة الثانية بين يدا روان وفي ذات المكان لا يمكنه أن يتحمل مقدار ما به من وجع. كتلك المرة التي أكتشف بها أن خطيبة صديقه المقرب هي حبيبته!

- أنا سأموت يا روان. سأموت قبل حتى أن تستعيد وعيها، كيف لي أن اتنفس هواء لن تتنفسه هي؟ لماذا سأعيش حياة أن لم تكن من أجلها؟، يا ليتني تقبلت وجع وجودها مع غيري بدل أن ابتلي بوجع فراقها الابدي، ماذا سأفعل لو بقيت على قيد الحياة بعد رحيلها؟ هذا يصيبني بالجنون مجرد التفكير به. أريد أن أموت قبلها أتوسل أليكِ!

عضت شفتها السفلية بقوة محاولة أن تسيطر على صوت بكائها من أن يرتفع وقالت بنبرة مرتجفة فشلت في إخراجها ثابتة:
- ششششش، كل شيء سيكون بخير. ثق بي سيكون كذلك!
هز رأسها رافضاً وهو يقول بصوت خفيض يخشى من الارتفاع فيستجاب:
- ليس هذه المرة يا روان. ليس هذه المرة!

(قبل يومين)
وقف يزن عند نافذة قسم الجراحة الكبيرة المطلة على الشارع العام يراقب السيارات البعيدة ويعيد مراراً وتكراراً ذلك المشهد الاخير الذي جمعه بها. حديثهما. كلماتها. برودها. هي لم تعد كما هي. هل هي من تغيرت؟ أم هو الذي لم يعد يفهم تفكيرها؟
لم تعد تلك الرقيقة الشفافة التي يفهم كل ما يختلجها من مجرد نظرة أو كلمة. لم يعد يفهم ما يدور في عقلها حين تصمت وتسهو بعينيها على نقطة وهمية بعيدة عنها!

- تبدو شارد الذهن كثيراً هذه الايام!
نظر نحو سوزان التي تمد كوب قهوة إضافي ناحيته بابتسامة لطيفة. تبسم بمجاملة واخذ كوبه وقال بخفوت:
- لا شيء. مجرد ضغط عمل!
قالت بينما تنظر من النافذة بعيداً عنه:
- أشك بهذا!

نظر اليها بنظرات مبهمة واكتفى بالصمت من غير تعليق وعاد لينظر امامه مثلها ليعود مجدداً نحو عالم ليلى التي وجدت قيس اخر ايضاً. وكأن ليلى العامرية قد القت لعنة على كل من تحمل هذا الاسم أن لا ترتبط بحبيبها ابداً!
- هل تظن أن حياتك الوحيدة هذه تستحق أن تقضيها بانتظار شخص واحد. أو من أجل شخص واحد؟!
نظر اليها بصمت اخر لعدة ثواني ثم قال بذات صوته الهش:
- بالنسبة لي؟ نعم. أجدها احياناً تستحق!

- وهل الشخص الاخر يعيش حياته من أجلك؟!
تبسم ساخراً وقد أدرك مقصدها وقال:
- الحياة يا سوزان ليس أن يعيش اثنان من أجل بعضهما. بل على احدهما أن يعيش كي يعيش الاخر. عليه أن يعيش من أجله. هكذا خلقنا الله.

- لا. بل خلقنا لنجد الشخص الذي سنعيش بقية حياتنا من اجله. وبالتالي لن يجتمع اثنان أن لم يدرك كلاهما انه سيعيش من اجل الاخر، أن كانت كما وصفت أنت فهذا يعني أن على احدهما أن يموت. ليس الموت الجسدي بل ان يقتل كل شيء جميل به وكل احساس وعليه أن يتعايش من الاخر ليلائمه ويلائم مزاجه فقط!
ثم تبسمت وقالت:.

- كنت أقنع نفسي دائماً أنه من الأفضل أن أرتبط بشخص يحبني على أن أرتبط بشخص أنا أحبه. لأنه سيستغل حبي الى الابد. شخص يعيش كل حياته من اجل وجودي معه وليس العكس!
- والان؟!
حدقت بعينيه بعيون تتبسم بمرارة وقالت:
- المشكلة في الحب أنه عديم اللباقة. لا يطرق الباب أبداً ولا يستأذن. يدخل ويستقر حتى وأن كان غير مرحب به. هو سيبقى حتى لو حاولنا طرده!

ولأول مرة يطيل النظر في عينيها دون أن يشيحها عنها. ربما هي محقة. ربما من الأفضل أن يرتبط احدهم بشخص يكون هو الذي يحبه. هكذا سينشغل باهتمامه به ومحاولاته الدائمة في جذب نظره. ربما سينسيه كل جروحه. أو ربما سيعيد له ما فقده. لا يعلم حقاً ما هي غايته الفعلية في لحظتها حين نطقها. ولكنه نطقها على اية حال!

تحركت شفتاها تلقي تحية الوداع بينما عيناه لا تزال تستقر حيث كانت تقف ولم يركز فيما قالت حقاً ولم يسمع خطوات رحيلها. كل ما سمعه هو تلك الجملة التي انطلقت من بين شفاهه على غفلة:
- هل تقبلين الزواج بي؟!

(الوقت الحاضر)
- لِما طردكِ؟
قالها يزن بتعب بينما يستند بظهره على خشب المسطبة ويرفع رأسه نحو الأعلى. مسحت دموعها وقالت بينما تحدق بيديها المتعانقة فوق حجرها:
- لم يعطني اي فرصة حتى أكمل حديثي. دخل وسألني عنها وما الذي حصل لها. بمجرد أن اخبرته انفجر بوجهي بعد أن استوعب صدمة الخبر. كانت اول كلمة ينطقها بعد دقائق من الصمت والصدمة هي اخرجي من هنا لا أريد رؤيتكِ.

وفور أن انتهت عبارتها أسقطت رأسها بين يديها واجهشت ببكاء كانت تخنقه على مضض وقالت بألم:
- لم أكن أملك أي خيار اخر. كانت تتوسلني احياناً وتتشاجر معي احياناً اخرى من أجل أن لا أخبر أي أحد لا سيما أنتما. فما كان على أن أفعل؟!

تنهد بتعب ونهض بضعف من مكانه ليسير بخطوات متثاقلة نحو الباب. ربّت على شعرها بهدوء بينما كان ماشياً وكأنها مواساة صامتة. فلا يمتلك القوة ليواسيها بشكل أفضل من هذا. ومن ثم تركها ونزل نحو المستشفى ليرى ما حل بنصفه الاخر الذي يصارع الموت ليعيش كلاهما أن أنتصر. أو يموت كلاهما أن خسر!

تم نقل ليلى نحو غرفة خاصة بمفردها ومازن يجاورها بهدوء ينتظر موعد استيقاظها من هذا النوم الساكن الذي كان مخيفاً بالنسبة له، كيف عساها أن تعاني كل هذه الفترة بهذا الصمت دون أن تنطق بشيء؟ كيف كانت تتحمل مزاجياته واتهاماته الكثيرة دون أن تطالبه بالانفصال؟ كان يظن أنها لن تفعل ذلك خوفاً على مستقبلها الدراسي. ولكن مع هذا المرض فأي مستقبل بقي لديها لتخشى عليه من الانهيار؟!

مسح دمعة على الفور كادت أن تسقط من بين رموشه الكثيفة ورفع يدها بهدوء ليطبع قبلة على اصابعها بلطف ثم أعاد يدها حيث كانت ومسح على شعرها برقة ونهض نحو النافذة العريضة ليحدق من خلالها نحو اللاشيء. لم يكن عقله معه في تلك اللحظة ولم يستطع حتى أن يفكر بمنطقية. ولكن أحياناً كثيرة هذا هو المطلوب. أن لا نفكر بمنطقية كي نصل للحقيقة!

نظر نحو الباب وهو يُفتح لتدخل الممرضة نحو ليلى تعطيها اخر حقنة. قال فور انتهائها:
- من فضلكِ؟!
نظرت اليه وقالت بعملية:
-أجل حضرة الطبيب؟!
- هل أسرة الانسة ليلى هنا؟
- لا، لم نبلغهم بعد، كنا نظن أنك من ستفعل. هل تريدنا أن نفعل ذلك؟!
- إذاً من أحضرها؟!
- الطبيب يزن فعل؟!

انفرجت ملامحه المجعدة ببؤس وتقوس حاجبيه قليلاً باستغراب بينما تطلي عيناه نظرات غامضة يحاول قدر الامكان السيطرة عليها وعلى حركات جسده من رد الفعل الاتي!
تنفس بعمق من خلال تجويفه الانفي وهو يحكم اغلاق شفاهه وقال بنبرة رصينة:
- حسناً شكراً لكِ. عودي لعملكِ!

اومأت بصمت وخرجت من الغرفة بينما هو يكز على أسنانه بغيض مكتوم. أن كان ما يفكر به صحيح فلن تكون روان الوحيدة التي ستعاقب ولن يكون الموضوع فقط إخفاء مرض ليلى. بل سيكون أسوأ من ذلك بكثير لهم هم الاربعة!
في اثناء ما كان في أشد دهاليز تفكيره ظلمة دخل يزن الى الغرفة. نظر اليه بملامح مبهمة وجامدة خالية من أي تعبير يذكر بينما كان جلياً على الاخر ذبوله وبكائه الحديث.
سأله بنبرة ضعيفة:
- كيف هي الان؟!

فرد مازن ببرود:
- كما هي. ولكن مستقرة الى حد ما!
اومئ صامتاً وعيناه تحدق بها بانكسار.
- يزن؟!
نظر اليه ليقول مازن بذات هدوئه وبروده:.

- لم يثر استغرابي كثيراً للوقت الحالي إنك أحضرتها الى هنا. ما يجعلني اتساءل هو إني اتصلت بها لأخبرها عن خبر ارتباطك لتحضرها أنت بعد ساعة من ذلك وقد تدهورت حالتها الصحية. لنغض البصر عن سبب تدهور حالتها ولنركز بسؤال واحد فقط، ما الذي كانت تفعله ليلى بالضبط في منزلك بعد تلقيها خبر خطوبتك؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة