قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل العاشر

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل العاشر

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل العاشر

شيء من الماضي.

(خرجت روان من كافتيريا المستشفى تحمل بيديها اكواب القهوة فارتسمت فوراً ابتسامة مشرقة على وجهها وهي تقرأ رسالة مازن ان توافيه على السطح. مكانهما المعتاد ليتحدثا. استقلت المصعد وهي تحاول ضبط انفاسها وتفشل. هي تلتقي به كل يوم، بل ذاتاً كانت تنوي اخذ كوب القهوة الثاني له، ولكن مع ذلك لا يمكنها ان تظل اعتيادية حين يرسل هو رسالة يخبرها ان يلتقيا. كان يزن يسميهما الحب الصامت. فكلاهما يحب الاخر بعمق ولكن من غير ان يعترفا احدهما بذلك. فكلاً منهما يجد ان الاخر يعرف طبيعة مشاعره فما الحاجة لخط سطور العشق له؟ رغم ان روان كانت تتمنى وتتوقع في كل لقاء ان مازن سيخبرها بحبه بصراحة، ولكن توقعها كان يخيب في كل مرة. اما هو فكان يدرك جيداً انها تحبه وان طبيعة العلاقة بينهما رائعة بالاضافة الى كونه شاب جاد. ان قال لها أُحبكِ عليه ان ينهي اعترافه بخاتم يحوط اصبعها وليس ان يقولها وينتهي الامر فحسب. نعم هما ليس ذلك النوع من العشاق الذين يتمشون ويداهما تعانق يدا بعض، او يسهران لوقت طويل يرميا قصائد الغزل على مسامع بعضهما، لقد كانت علاقتهما جدية اكثر من هذا.

وصلت الى السطح فوجدته يقف هناك يدير ظهره اليها يراقب الافق البعيد وعقله شارد في مكان اخر.
- صباح الخير.
قالتها بنبرتها الخافتة الخجولة التي اعتاد سماعها منها في كل صباح فرسم ابتسامة عريضة على وجهه قبل ان يلتفت اليها ليواجه تلك العيون الخلابة التي تأسره وقال: - صباح الخير.
قدمت له كوبه واردفت: - اتمنى انه لم يبرُد.
سحبه من يدها لتتلامس اصابعهما ببعضها كالعادة لتبدأ القلوب بعزف سيمفوينة من نوع اخر.

جلست على المسطبة الحجرية بينما هو اتكأ على السور يحتسي قهوته بذهن شارد.
- هل انت بخير؟!
نظر لها بعيون جدية:
- ما رأيكِ؟!
وهنا فوراً انقشعت الابتسامة عن وجهها لتردف بجدية مماثلة:
- يا اللهي. هل حصل شيء؟!
- وهذا ما اريد سماعه منكِ. هل حصل شيء مؤخراً يا روان لم تخبريني به؟!
حملقت بعينيه مفكرة وهي تعصر ذاكرتها بقوة تحاول ان تستوعب. ثم فجأة ابتسمت!

نهضت من مكانها وجاورته على السور تراقب البنايات البعيدة وهي ترتشف قهوتها بكل هدوء واعتيادية بينما هو يغلي. لم تتحدث إلا بعد ان قال بشيء من العصبية: - روان؟ انا اتحدث اليكِ!
التفتت نحو وجهه القريب منها وقالت مباشرةٍ في محاولة لاستفزازه: - لم اعطي موافقتي بعد يا مازن!
ازدرد ريقه بصعوبة وقال: - وهل. وهل انتِ تفكرين بالامر؟!

استدارت لتستند على السور مثله مولية ظهرها للأفق وقالت: - لا اعلم. اعني انه شاب وسيم وايضاً مثل حالتي لا اسرة له ووظيفته جيدة.
فرد فوراً وكأنه وجد نقطة ضعف: - وظيفته لا تُناسب ذاتاً وظيفتكِ. اعني هو طيار ولن يكون متواجداً معظم ايام الاسبوع وفي الايام التي يتواجد فيها انتِ ربما ستكونين في المستشفى تعملين و...
قاطعته فوراً وهي بالكاد تكتم ابتسامتها: -اوه حقاً؟ وماذا عن الذي قبله؟!

- كان مهندساً معمارياً. اي سيكون متواجداً اغلب اليوم في المنزل بينما انتِ في العمل
- وقبله؟!
- كان مجرد موظف عادي في شركة وكان اطول منكِ.
ضحكت واردفت:
- مازن انا الجميع اطول مني بالمناسبة. اعتقد انك نسيت إني فتاة ويجب ان اكون اقصر منه. هذا ليس عيباً.
- حسناً. لم يكن ملائماً فحسب!

احتست قهوتها في محاولة منها لتشتيت ابتسامتها لتبدو جدية امامه. مع كل شخص جديد يتقدم لها كان هو يرفض ويبدأ باقناعها انه غير ملائم لها وانه ينصحها فقط لأنه زميلها المقرب ليس اكثر من ذلك. وكم كانت تستمتع بمحاولاته المستميتة فقط لجعلها ترفض مع كل شخص يتقدم للأرتباط بها ويفشل في كتم غيرته عليها. سبع سنوات وهم على هذه الحالة دون ان يجرؤ ولو لمرة واحدة ان يخبرها بكل صراحة انه سيرفض ان تكون لغيره. بينما هي تدّعي انها لم تفهم السبب! ).

كانت تحوم في المنزل كمن تعاني الماً يمنعها من الاستكانة قليلاً. بينما هو يراقبها بقلة حيلة لا يملك من الحروف ما يعالجها به. ما يعتريه الان من غضب قادر على احراق المكان بما يحويه حتى وان عنى ذلك احراقها هي بحد ذاتها. فهي اساس ما هم به الان. لذلك ببساطة كان يكتفي بالصمت ويحرك عينيه مع خطواتها حيث تقطع الصالة ذهاباً واياباً وتبكي بصوت مرتفع دون ان تسيطر على حركات جسدها المتوتر. تارة تحيط رأسها وتارة تعيد خصلات شعرها بعصبية نحو الخلف وتارة اخرى تعصر قبضتيها ببعضهما دون ان تجد الحركة المناسبة التي ستفرغ بها عصبيتها.

انطلق جرس الباب لينهض مازن من الاريكة ويتجه لفتحه. اطل وجه يزن المندهش وهو يسأله بقلق اول ما خطى خطوته الاولى داخل الشقة:
- ما الذي حصل؟!
عصر مازن قبضته بغيض وقال بينما شرايين عنقه تنتفخ اكثر:
- ذلك الوغد السافل. لقد رأته برفقة إحداهن في شقته!
فتح عينيه بصدمة وهتف هامساً:
- ماذا؟ هل هي متأكدة؟!
تنهد بضيق قائلاً:.

- لقد ذهبت اليه فور ايصالك لها لشقتها، لقد اتصلت بها بعد ساعة من رحيلكم كي اطمئن ما ان وصلت للشقة او لا فصدمت بها تبكي بتلك الطريقة فاتيت فوراً اليها لأجدها منهارة لوحدها.
اخذ نفساً عميقاً يعبر عن مدة اختناقه ثم اردف بينما يضرب الباب بقبضته:
- اقسم بذات الله سأشوه له وجهه غداً.
اغلق يزن الباب وقال بعصبية مماثلة:
- لن تجد بوجهه اثر لتضربه به صدقني. سأجعله يندم ذلك الحقير!

ثم سبق مازن الى الصالة والاخر يتبعه بكل شياطينه التي بدأ يفقد سيطرته عليهم، اول ما شاهدته روان قوست شفتيها ببؤس واجهشت ببكاء اقوى فضمها فوراً اليه وشيء ما يحترق بصدره من منظرها هذا. ولكن الاخر كان يموت ولا يحترق فقط. هو لم يشاهدها بهذا الانهيار قط سوى في موت والديها. وكان صدره من التجأت اليه وليس صدر يزن!
- اهدأي روان. اهدأي عزيزتي، اقسم لكِ سأجعله يندم عما فعله ذلك السافل المنحط!

قالت بصوتها المبحوح:
- انا اموت يا يزن. لقد فقدت كل شيء. لقد خسرت كل شيء لأغدو وحيدة!
- لستِ وحيدة. كلنا معكِ!
اجلسها على الاريكة لتكمل بكائها بينما تحني جذعها العلوي بانكسار وهي تكمل:
- لطالما شككت بأمرهما. ولكني ظننتها مجرد علاقة عبارة، مجرد نظرات وهدايا. لم اظن انه تمادى لهذا الحد. لم اكن اظنه بهذه القذارة!
بقي يزن يربت على شعرها برفق مشفقاً على حالها بينما اطلق مازن غضبه المكتوم وهو يزجرها قائلاً:.

- لم تعرفي؟ ألم نحذركِ كلانا منه؟ ألم نطلب منكِ ان تبتعدي عنه؟ ولكن بالطبع كبريائكِ كان اسمى من ان تتخلين عنه بسهولة!
فرمقه يزن بحدة وهو يقول مؤنباً:
- الوقت ليس ملائماً يا مازن!
ليصرخ الاخر بعصبية اشد:
- بل هو الانسب. دعونا نترك تمثيلنا الساذج اليوم ونتكلم بصراحة. ألم ترتبط باياد فقط لأنها كانت غاضبة مني؟
نهضت من اريكتها وصرخت به من وسط دموعها:.

- هذا يكفي! كف عن القاء الملامة على فقط. أنسيت ما فعلته انت بي؟!
تقدم الخطوات الفاصلة بينهما وقبض على زندها بعنف وهو يفتح عينيه بخزرة حادة ويقول:
- كنت تدركين جيداً إني أُحبكِ. لذلك اياكِ ولعب دور المظلومة الان. رغم انكِ تعرفين مشاعري نحوكِ ذهبتِ لترتبطي به فقط لأني لم اقدم لكِ ذلك الاعتراف الذي انتظرتهِ مني!

نهض يزن من مكانه فوراً محاولاً تخليصها من بين يديه دون ان يتمكن من ذلك الى ان انهى مازن جملته تامة حينها فقط دفعها من يدها لينهار جسدها فوق الاريكة من جديد تكمل هناك بكائها بصمت وهي تغلق فمها بقوة بيدها وكأنها تكتم صراخها!
دفعه يزن بعنف من صدره وهو يصرخ به:
- هل جننت؟!
ليصرخ الاخر بدوره:.

- اجل جننت. رؤيتها بهذا الشكل تصيبني بالجنون اكثر يا يزن ويزداد غيضي اكثر وانا اتذكر انها باعت كل ما بيننا بلحظة من اجل ذلك الخائن الذي لم يقدرها!
اغلقت اذنيها فوراً وهي تنهار باكية:
- هذا يكفي. اتوسل اليك اصمت!

ضاق صدره اكثر تكاد الدموع ان تندفع من مقلتيه وهو يشعر بمدى المها وندمها في آن واحد، لذلك لم يتحمل اكثر وترك الصالة وخرج نحو الشرفة ليستنشق بعض الهواء لعله يثلج صدره ويخلصه من جمع المحارق تلك التي تلدغه من غير ان يمتلك القوة الكافية ليخمدها!

انزل رأسه بينما يعصر السور تحت قبضتيه بقوة وهو يتنفس بصعوبة. يحاول ايجاد اي حل ليهدأ ولكنه يفشل. اصعب ما يكون إننا نحترق من اجل من نحبهم دون ان نملك القدرة الكافية على مساعدتهم مما هم فيه!

ربما الشعور ذاته يكتنف يزن في لحظتها وهو يشاهد روان بهذه الحالة لا سيما وانها توقفت بعد فترة عن البكاء بصوت عالٍ واكتفت بدموع صامتة بينما تحدق بنقطة معينة امامها دون ان تتحدث بشيء. انها بحالة لا تحسد عليها بالفعل!
نظرت لهُ بعد مضي نصف ساعة تقريباً وهي تكفف دموعها الساخنة وقالت بصوتها المثقل من ذلك البكاء:
- إذهب لمنزلك يا يزن، اعلم ان لديك عملية مهمة غداً وتبدو متعباً.
فرد معترضاً:.

- كفاكِ سخافة! لن اترككِ وانتِ بهذه الحالة!
- وما الذي سيفعله وجودك هنا غير ان تراقبني وانا ابكي كالبلهاء؟ وايضاً انا سأخلد للنوم بعد قليل لذلك اخبر مازن ان يذهب معك ايضاً فهو يبدو متعباً كذلك!
مط شفتيه وهو يقول:
- تعلمين انه سيرفض ترككِ، وذاتاً بقائه افضل كي لا يجرؤ ذلك الاحمق على ازعاجكِ اليوم او غداً صباحاً.
- حسناً لا بأس. ولكن اذهب انت ارجوك. بك ما يكفيك ولا تحتاج ان تشغل بالك بي ايضاً.

احاط احد جوانب وجهها بيده وقال:
- انه لا يستحق دموعكِ هذه!
تبسمت بمرارة وهي ترد:
- ليس من اجله يا يزن. انا ابكي على حماقتي!
- كل شيء سيكون افضل صدقيني. من الجيد إنكِ تخلصتِ منه بدل ان ترتبطي به الى الابد.
اومأت بتفهم وهي تقول:
- بهذه النقطة انت محق!
نهض من مكانه وقال:
- حسناً إذاً عزيزتي. سأذهب لأنام قليلاً وسآتي لزيارتكِ غداً.

اومأت له بأبتسامة هزيلة فودعها وخرج نحو الشرفة ليطمئن على حال مازن الذي على ما يبدو لا يفرق كثيراً عن حال روان غير انه لا يذرف الدموع!
تنهد بحسرة وتقدم منه مربتاً على كتفه وهو يقول:
- إنكسارك لن يساعدها بشيء. من بين الجميع روان تحتاجك الان يا مازن!
تنهد الاخر بحسرة ليردف يزن:.

- اعلم جيداً انها اخطأت، ولكنه ليس الوقت المناسب لتلومها. هي تدرك جيداً ان ما تفعله الان من قراراها هي. لذلك كُفَّ عن زيادة ألمها!
اومئ برأسه متفهماً ليقول يزن:
- انا سأذهب الان.
نظر اليه مازن بأستغراب وقال:
- هل ستتركنا وحدنا؟ صدقني احدنا سيقتل الاخر.
تبسم يزن وقال:
- اقمع المجرم الذي بداخلك اليوم وحاول ان تتحملها مهما قالت!
- سأحاول. ولكن لن اعدك!

- وان تجرأ ذلك الوغد وحضر اليوم او غداً صباحاً فلن اطلب منك ان تمسك اعصابك هذه المرة.
- هو يدرك جيداً اننا هنا. وان لم يدرك فسيشاهد سيارتي خارجاً، وجبان مثله لن يقدم على خطوة كهذه!
ثم قال متوعداً:
- اقسم إني سأغير لهُ تفاصيل وجهه ما ان التقي به!
- ليس في المستشفى يا مازن. قد يتسبب هذا بطردك...
- لن يتقدم بشكوى صدقني. يخاف ان افضح علاقته بتلك المنحطة نرجس!
تنهد يزن وقال:.

- حسناً اتركنا منه الان. لكل حادثةٍ حديث. على الذهاب، الى اللقاء.
- الى اللقاء. احذر في القيادة!
- لا تقلق.
ثم ودعه ورحل بعد ان القى نظرة سريعة على روان ووجدها على الوضع ذاته دون ان تتحرك، اطلق حسرة أخيرة وخرج من الشقة تاركاً جروح على وشك ان تُفتح من جديد!

بقي مازن عشر دقائق اضافية في الشرفة قبل ان يدخل للصالة مجدداً فوجدها خالية من روان. دخل باحثاً عنها فسمع حركة في المطبخ. اتجه اليه فوراً فوجدها تملأ كوب ماء لتدفع به ذلك الدواء الذي بيدها.
- ما الذي تفعلينه؟!
نظرت اليه بعيونها المتورمة وقالت بصوتها الواهن:
- اخذ بعض المسكنات. يكاد رأسي ان ينفجر.
اتجه اليها وامسك يدها بهدوء وقال بابتسامة حانية:
- دعيني اعد بعض القهوة من اجلكِ افضل من هذا الدواء.

اومأت برأسها موافقة وجلست على الكرسي في المطبخ فنزع هو سترته ليلقيها على ظهر الكرسي واتجه نحو الغلاية ليصنع من اجلهما القهوة، فقالت بابتسامة مريرة:
- كالايام الخوالي!
تبسم بدوره وهو يقول:
- عدا إنكِ أنتِ من كُنتِ تجلبيها من أجلي!
بقيت تحدق به بندم ولا تسيطر على ايقاف دموعها. هي اليوم فقط ادركت تماماً تلك السعادة التي خسرتها بعد ان كانت بين يديها!

جلس على الكرسي المجاور لها وهو يضع الكوبين بينما هي لا تزال تحدق به بعيون مشتتة. فقال مشفقاً على انكسارها بهذا الشكل:
- هل انتِ بخير؟!
ارتجف فكها السفلي اكثر واهتزت دموعها لتتساقط بقوة الواحدة تلو الاخرى وهي تقول له بنبرة مرتجفة:
- لو إننا فقط اعترفنا ووضحنا الحقائق. هل كُنّا سَنكون بِهذا الوضع في هذهِ اللحظة؟!
رفع حاجبه بحدة وهو يقول معاتباً:.

- وهل ارتكبتُ بحقكِ ذنب ما ويحتاج الى كشف حقائق؟ هل اخطأتُ بشيء جعلكِ تتخلين عني وترتبطي بذلك الوغد؟!
- لقد سمعتك، هذا ما جعلني اوافق على اياد يا مازن وليس لأني لم اكن اهتم لأمرك!
قطب حاجبيه بعدم فهم لتكمل هي:
- حين اعترف لي اياد انه يحبني رفضت حبه بشدة وكان يدرك جيداً إني أُحبك. فأخبرني إني افوت فرص زواجي من اجلك ولكنك لا تحبني ولن تفكر يوماً بطلب يدي!
فرد مازن فوراً باستنكار:
- ماذا؟ وانتِ صدقتهِ؟!

- بالطبع لا! وهذا ما جعله يطلب مني ان اختلس السمع حين يتحدث اليك وسيثبت لي ما لا اصدقه!
- سمعتِ ماذا بالضبط؟!
قالت بابتسامة حزينة:
- سألك ما ان كنت تحبني أم لا فأخبرته انك لا تحبني وإني لست اكثر من زميلة عزيزة تشفق على حالها وتكون معها دائماً لأنها فقدت اسرتها. وحين اخبرك انه سيتقدم لخطبتي قلت له انك ستكون اول المهنئين!
نهض من الكرسي بعنف لينقلب ارضاً وهو يضرب الطاولة بقوة ويسألها بعصبية:.

- وببساطة ذهبتِ لترتبطي به دون حتى ان تسأليني او تستفسري مني؟
ثم علا صوته اكثر وهو يصرخ بها:
- هل تدركين ان ذلك السافل اكثر من مرة اخبرني انه ان كنتُ أُحبك فعليَّ إخبارهُ كي ينشر الامر بين زملائنا من اجل ان لا يتقدم لخطبتكِ احد بحجة انه يريد مساعدتي وحتى انه كان يسأل يزن ذات السؤال ويزن ينكر احتمالية وجود حب بيني وبينكِ.
ثم اردف قبل ان تجيب:.

- لو كان اي احد اخر بمكاني لوافق فوراً ولكني كنت اخاف على سمعتكِ منه لأني كنتُ ادركُ جيداً إنهُ شخص قذر وسيبدأ باطلاق الاشاعات علينا وستتحول علاقتنا العادية الى علاقة مشبوهٍ بها ولن اتمكن حتى من الجلوس معكِ بمفردنا دون ان يتهامسوا علينا او يخمنوا اشياء لا صحة لها بسبب اقاويل اياد الفاسد!
نهضت بدورها وقالت:.

- لماذا لما تبرر لي اي شيء حين اخبرتك إني سأرتبط به؟ لقد تغيبت عن العمل مدة اسبوع كامل بعد ان اخبرتك بقراري فلماذا لم تحاول ان تتصل بي؟ كل هذه الاشياء عرفتها بعد شهر كامل من ارتباطي باياد. لقد اخبرني بها يزن والذي حتى هو لم تخبره، لماذا لم تبرر يا مازن؟
عاد ليمسكها من جديد من زندها بقوة وهو يقول:.

- لقد جئتِ ببساطة لتخبريني ان اياد تقدم لخطبتكِ وانكِ وافقتِ فما ادراني انكِ سمعتنا وقررتِ على هذا الاساس ارتباطكِ به؟ ألم اخبركِ في يومها ان لا تفعلي وانه مجرد شخص قذر لا يستحقكِ؟!
سحبت يدها بعنف من يدها وردت بقسوة:.

- انت كنت تقول هذا مع كل شخص يتقدم لخطبتي وظننت إنها إحدى تلك المرات ايضاً. ولكن - والى اخر لحظة - كنت اظنك ستعترف بحبك وان كلام اياد والكلام الذي سمعته كله خاطئ واني أعني لك اكثر من مجرد زميلة.

- في يومها انتِ لم تسأليني، اخبرتني انكِ اتخذتِ قراركِ وانكِ موافقة. انا الذي كنت اشعر بالخذلان يا روان وظننت اني الاحمق الوحيد الذي أَحبَكِ طوال السبع سنوات دون ان يدخل فتاة اخرى لعالمه بينما انتِ لم تبالي به من الاساس.
سكت لثواني وكأنه استوعب الامر الان فقط فسألها بعدم تصديق:
- لحظة، كنتِ تعرفين؟ هل أخبركِ يزن؟!

اومأت ب نعم وعيونها تذرف دموع ندمها وهي تدرك جيداً انه بدأ يستوعب ذنبها الحقيقي، احاط كتفيها بقسوة وهزها بعنف وهو يقول:
- كنتِ تدركين إني فعلتُ ذلك من اجلكِ وتدركين ما فعله اياد القذر ورغم ذلك لم تفكري يوماً بإن تعتذري عمّا فعلتهِ؟.
ثم ارتفع صوته اكثر وقبضتيه تزداد قسوه على كتفيها وهو يقول:.

- عرفتِ ورغم ذلك كنتِ تتمايلين بين يديه امامي وتتهامسي معه لتحرقيني اكثر؟ هل كنتِ تتلذذين بغيرتي بهذا الشكل دون ان تبالي بالاذية التي تسببيها لي؟
- مازن انا اعرف إني.
اخرسها فوراً وهو يدفعها بعنف لتجلس على كرسيها من جديد وقال بصوت مهزوز وعيون ملتمعة ببعض الدموع:
- أهكذا تجازيني على حُبي لكِ يا روان؟
لكز صدره بأصبعه بقوة مشيراً الى نفسه وهو يقول:
- أهذا ما استحقه منكِ رغم كل ما قدمتهِ لأجلكِ؟

تعالى صوت شهقات بكائها حتى تكاد تصبح صراخاً بينما هو كان يتهشم قطعة تلو الاخرى بهذه الصدمة، هز رأسه باستنكار وهو لا يكاد يصدق ما سمعه!
سحب سترته بعنف من على الكرسي غير آبهاً بهتافها من خلفه او توسلها بإن ينتظر. اليوم هي بالفعل قد طعنت اخر جزء حي في قلبه!
ألم اقل لكم؟ ما اسوأ الحب! فأكثر شيء يؤلمه في هذه اللحظة إنه لا يزال مُتيماً بها رغم بشاعة ما فعلت.

نزل من شقته وقاد سيارته بسرعة جنونية. ولأول مرة بعد سنين ذرف مازن الدموع!
كانت ليلة من اسوأ الليالي بالفعل عليهم جميعاً. وكأنها ليلة ملعونة ترفض ان تنتهي وتنهي صدماتها المتتالية على كل واحد فيهم!
لقد احبها بكل ما يملك من قوة واخلص لها. ومن ثم في النهاية يدرك انها فعلت كل هذا به رغم كل ما فعله من اجلها؟ فقط لأنها كانت تستمتع برؤية غيرته وحبه المكتوم؟ هل كان التلاعب بمشاعره بهذه السهولة بالنسبة لها؟

كان الامر حقاً اقل ما يُقال عنهُ صدمة بالنسبة لهُ!
بالكاد تمكنت من النوم قبل ساعتين بعد ان ذرفت مخزونها من الدموع عقب رحيل يزن عنها حتى ايقظها الان صوت رنين هاتفها من جديد...
اخرجته من تحت وسادتها بانزعاج وهي بالكاد تفتح عينيها امام شاشته المتوهجة بأسم مازن.

لم تستوعب الامر إلا بعد ان قرأت الاسم بوضوح اكثر من مرة فنظرت نحو الساعة فوجدتها الرابعة صباحاً فنهضت بقلق فوراً من استلقائها وردت بصوتها الناعس:
- مازن؟!
ليصلها صوته الضعيف:
- انا امام باب منزلكم. أيمكنكِ ان تأتي؟!
- مازن أنها الرابعة صباحاً!
تنهد بألم ثم قال ساخراً من نفسه:
- بالفعل انا اكثر الشباب حماقة! لا بد إني ايقظتكِ من نومكِ وغداً لديكِ جامعة، اعتذر حبيبتي. عودي لتنامي!

سحبت مئزرها فوراً من على الكرسي وقالت:
- لالا، ابقى حيث انت. انا قادمة!
ربطت مئزرها القطني عليها بإحكام كي لا تلفحها برودة الطقس في هذا الوقت وخرجت لتلاقيه!
كان يقف بجوار السيارة يجلس على طرف غطائها الامامي بينما يتلاعب بالمفاتيح بتعب بين يديه، كان يبدو بحالة يرثى لها حيث نزع سترته ورفع اكمامه لتبرز سواعده وشعرهُ غير مرتب بينما عيناه متورمة من البكاء ومطلية بالاحمر القاتم وكأنه بكا دهراً وليس يوماً.

تقدمت منه وقلبها يزداد انقباضاً عليه ومن دون وعي منها احاطت وجهه بين يديها ورفعته نحوها وقالت بفزع:
- ما الذي حصل لك؟!
ولم يتمكن من السيطرة على نفسه اكثر فاستند بجبينه على صدرها واجهش ببكاء مسموع مما افقدها عقلها فوراً وهي لا تتحمل رؤية شخص مثله بهذه الحالة. احاطت رأسه بقوة وهي تضمه اليها اكثر وقالت بينما تمسح على شعره برفق:
- ما الذي حصل بحق السماء يا مازن؟ فقط اخبرني!
قال بصوته الضعيف والمبحوح:.

- لقد طعنتني يا ليلى. لقد قتلتني من غير ان تبالي!
اغمضت عينيها ليعيد لها دموعها من جديد من جملته الاخيرة هذه ويلمس ذلك الشعور الخفي بداخلها وكأنه يتحدث عنها، كانت ارواح كليهما معذبة بالجرح ذاته لذلك كانا ببساطة يفهمان بعضهما دون ان يعرفا ماضي الاخر!
رفعت رأسه لتواجه عيناه القريبة وقالت بينما اصابعها تتحرك بشكل دائري على وجنتيه تمسح له دموعه:
- دعنا ندخل.

ثم سحبته من يده دون ان يقاومها ودون حتى ان يعرف لِما اختارها من بين الجميع ليفصح عن قلبه المعذب!
اجلسته على الاريكة في مكتب والدها ثم خرجت وعادت بعد لحظات تحمل بيدها وسادة وغطاء واغلقت الباب من بعدها. وضعت الوسادة جانباً بينما اسدلت الغطاء بحنان على كتفيه لتمنحه بعض الدفئ وامسكت يده داخل يدها بينما الاخرى تمسح على شعره برفق دون ان تنطق بشيء في محاولة منها لمنحه بعض الوقت دون ان تضغط عليه!

لحظات حتى اعاد جذعه العلوي نحو الخلف يستند برأسه على ظهر الاريكة وعيناه الباكية تحدقان بالسقف بصمت بينما لا تزال اصابعها تتلاعب بخصلات شعره القصيرة ويدها الاخرى تعانق بها كف يده.
- أتعلمين اكثر ما يؤلمني؟
قالها بصوت متهدج لتجيبه بهدوء:
- ماذا؟!
- انه لا يمكنني ان انتقم منها عمّا فعلته. إني وحتى هذه اللحظة لا زلت اخشى عليها من الألم!

وقعت دمعة من عينيها وهذه المرة كانت من اجله هو وليس من اجل ماضيها. فهذا الشاب بالفعل يمتلك اكثر قلب ابيض في العالم، ولو لم يتواجد يزن في حياتها فهي متأكدة انها ستقع بغرام مازن لا محال. ولكن يزن يحجب عنها رؤية كل شيء حتى وان رغبت بالرؤيا!
ضمته برفق اليها كطفل وحيد وبدأت تمسح على شعره لتجعلهُ يهدأ، وقد نجحت بالفعل بذلك!
قال بعد لحظات من الصمت:.

- لا يمكنني مسامحتها عما فعلت. لقد تركتني وذهبت لتكون بين يدا غيري يا ليلى. لقد كانت تستمتع بجعلي اموت وانا اراقبها تضحك معه وتقترب منه. لقد خلقت حاجز بيني وبينها من المستحيل ان اتمكن يوماً من هدمه. كلما سأكون بقربها سأتذكر ما فعلته بي وهذا سيؤلمني!
- هل، هل تريد ان تعود لها يا مازن؟!
رفع رأسه عن صدرها واحاط وجهها فوراً بين يديه ليقابل عيونها المتوجسة بعيونه الباكية وقال:.

- انا لا اريد ترككِ يا ليلى. انتِ الوحيدة من ستشفيني. أمّا هي فستعذبني. حبها مؤلم اكثر مما استطيع ان اصفه لكِ، لذلك مهما حصل لا تتخلي عني يا ليلى ارجوكِ، اياكِ ان تجعليني اعود لها مهما حصل!
وضعت اصابعها برفق على جبينه وسحبتها للاسفل مروراً بأنفه وشفتيه ووصولاً نحو ذقنه حتى قالت:
- لن افعل، فكلانا يحتاج الاخر يا مازن!

رسم ابتسامة هزيلة على وجهه وعاد ليحوط خصرها من جديد ويستكين برأسه على صدرها بينما هي تستمر بضمه اليه كطفلها المدلل، نعم هي لم تقع بغرامه بعد، ولكن هذا ليس سبباً ان لا تكون له تلك المرأة التي يحتاجها!

هي اليوم ادركت تماماً ان ما بينها وما بين يزن قد انتهى وحتى وان عادا لبعضهما ستكون نظرة يزن لها كنظرة مازن لحبيبته. سيجدها مجرد حب مؤلم ولن يسامحها في يوم لأنها وهبت نفسها لرجل اخر واصبحت ملكه. يزن من المستحيل ان يتقبلها في حياته كما كان يفعل في الماضي. لذلك، وفي لحظة لم تحسب لها ليلى اي حساب، هي قد وجدت نفسها فجأة تتخيل مستقبلها مع مازن، فهو يشابهها في الجرح ولن يكون ذلك الرجل المهووس الذي سيشك بها دوماً ويحاسبها على ماضيها. مازن يدرك ان لها ماضي كماضيه ولكن رغم ذلك قرر بدأ صفحة جديدة، لن يطالبها بالحب فيسلب يزن من قلبها فهو ذاتاً قد ترك قلبه مع حبيبته، لذلك ببساطة سيكونا مجرد مُعذبَين يقطبان جروح بعضهما بينما قلوبهما مع اخر، انها الحياة المثالية التي لن تجد افضل منها، ستُحيّ يزن في قلبها دوماً دون ان يقشعه مازن!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة