رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي عشر
شيء من الماضي
(خرجت ليلى ذات ال16 عاماً مِنْ باب شقتهم وهي تحاولُ ترتيب الاشياء في حقيبتها الرياضية حيث ابيها ينتظرها أسفل البناية كي يقلها لمباراة كرة المضرب التي اقامتها مدرستها والتي بالتأكيد كانت هي اول المشتركين لولعها بهذه الرياضة!
- مرحباً بليلى الجميلة!
رفعت رأسها دفعة واحدة على نبرة يزن المرحة وهو يخرج من باب شقتهم المقابلة لهم. توردت وجنتيها فوراً وهي ترد بخجل: - اهلاً يزن، كيف حالك؟
كان يبعثر لها مشاعرها ويُربك لها انفاسُها كُلما التقت بهِ أو خاضت معهُ حديث. اخبرتها هُيام إنها سمعت من إحدى صديقاتها إن هذا ما يسموه حُب المراهقة؛ حيث سيحمّر وجهها ويرتجف قلبُها كُلما قابلت فتىٍ وسيم او اي شاب حاز على إعجابها. ولكن على ما يبدو إن مشاعر المراهقات هذه لا تنتابها سوى مع يزن الذي لم يكن يبدو مهتم بطفلة مثلها!
- بخير. ماذا عنكِ؟
عدلت خصلة شعرها النافرة وهي ترد: - بأفضل حال!
- هل مباراتك اليوم؟
- اجل.
ثم اردفت بحماس: - هل ستحضر؟!
رد معتذراً: - كنتُ أتمنى ولكن اتفقت مع بعض الاصدقاء ان نخرج سوية اليوم. لذلك أنا أسف!
انسحبت ابتسامتها تدريجياً عن وجهها وقالت بخيبة أمل: -حسناً لا بأس. بالتأكيد موعدُكَ أهم!
قبل ان يرد لاحظ شريط حِذائها الرياضي مفتوح فتبسم فوراً وهو يقول بينما يُثني إحدى ركبتيه وينحني مِنْ اجل ربطهما: - لقد بلغتِ الخامسة عشر ولا تعرفين كيف تربُطين حِذائكِ؟
فردت ساخطة: - بل السادسة عشر!
رفع رأسهُ إليها وقال: - هذا أسوأ انسة عصبية، أنتِ تُدنين نفسكِ أكثر.
نفخت زفيرها بحنق بينما تقف بثبات مُستسلمة ليديه التي تربط شرائطها. تماماً كتلك الطفلة الصغيرة التي كاد ان يصطدم بها ذات مرة!
وقفَ مرةٍ أُخرى وهو يقول: -هيا بنا. لننزل سوياً.
قالت بضجر وهي تتقدمهُ خُطوات: -إنزل بِمفردُك. سأستقلُ السُلّم لأُنشط عضلاتُ قدمي.
بقي ينظُر لها ببلاهة بينما تتركهُ وترحل بِغضب. بالفعل الفتيات غريبات الأطوار ولا يمكن لأحد فهمهم! هذا ما كان هو يفكر بهِ مُتناسياً كونه رجل، فمنذ متى الرجال يفهمون عقول النساء العميقة؟ لذلك ببساطة هو أوعز الأمر الى سخافةِ تفكيرها ولا بُدَ إن استيائها لا يستحق. وإلا كيف عساه ان يستنتج ان حضوره بهذه الاهمية بالنسبة لها الى الحدِ الذي سيسلبُ منها كل حماس وسعادة؟
استقل المصعد وهو يدندن بأغنية ما بينما يسرح بتفكيره.
هل وصلا الى المقهى الان؟ ما بها ليلى؟
مازن كثير التأخر بالتأكيد لن يحضر في الموعد! لما هي غاضبة بهذا الشكل؟
هل أستقل تاكسي أم الباص أفضل؟ لقد كانت تبدو سعيدة قبل لحظات!
سأجد روان بالتأكيد قبلنا هناك. هل سأتمكن من اللحاق بها لأراها قبل ان ترحل؟
زفر بضيق وهو يجد ان تلك الطفلة المزاجية تتلاعب بعقله وسط المئات من افكاره. عليه ان يخرجها من تفكيره!
نزل باستياء من المصعد وهو يتجاهل كونه يسرع خطواته كي يتمكن من رؤيتها قبل ان تصعد السيارة. يتجاهل انه شعر بالاستياء لأن السيارة تحركت اول ما خرج هو من البناية. تجاهل انه سب وشتم سرعتها الف مرة لأنها وصلت قبل وصول المصعد. أنه ليس متيماً بهذه الساذجة التي لا تزال تتشاجر مع امها ان احضرت لها الايس كريم بطعم الفانيلا وهي تريدها بطعم الشوكولا. ليس متيماً على الاطلاق!
وصل الى المقهى وكان تخمينه صحيح بالفعل. لقد وصلت روان بينما مازن متأخر كعادته. بالتأكيد هو يوصل اخته الصغرى نحو مكان ما بعد ان احضر الكبرى من اخر حين اوصل طلبية امه الى خالته. هذه مساوئ ان تكون الرجل الوحيد وسط ثلاث نساء واب يحملك مسؤوليتهن!
تبسم وهو يجلس على الكرسي المقابل لروان بينما كان تغوص داخل سطور دوستوفيسكي. قال بينما يقرأ اسم الكتاب: -الجريمة والعقاب؟ هل انتِ بكامل قواكِ العقلية لتطالعي هذا الكتاب؟ أنا بالكاد احفظ أسم البطل لأنسى بعدها أسم البطلة. لقد جعلني الكاتب من يومها أقسم ان لا اٌقرأ روايات روسية ابداً. أنهم يستخدمون كل حروف اللغة العربية داخل كل اسم واحد فيهم!
ضحكت وهي تطوي الصفحة لتجيبه: -أهذه تحيتكَ أم ماذا؟
-لقد رأيتكِ قبل ثلاث ساعات واتصلت بكِ قبل نصف ساعة. هل على ان القيها كلما تحدثت معكِ أم ماذا؟
-يا إلهي! تشبه عجوز ثرثارة كسروا لها إحدى أوانيها!
تبسم بتكلف وهو يشيح وجهه اتجاه النافذة فأدركت ان هناك شيء ما يعكر له مزاجه. حدقت به بابتسامة لثواني ثم قالت:
-هل ستخبرني بسرعة أم ستجعلني اسحب منك الكلام بشق الانفس كالعادة؟
وكأنها منحته البطاقة الحمراء ليطرد كل تلك الكلمات المحبوسة خلف اسنانه بإحكام فقال بضجر:
-اقسم لكِ إني اسكن بالقرب من مختلة عقلياً!
ضحكت روان وقالت:
-ما الذي فعلته ليلى هذه المرة؟!
-حسناً دعيني أسألكِ شيء، فحسب ما تقول هويتكِ إنكِ أنثى لذلك بالتأكيد لديكِ بعض المعلومات بخصوص تفكير النساء.
قالت بينما تضيق عينيها:.
-سأتغاضى عن إهانتك هذه واتماسك دون ان أسكب كوب القهوة هذا على رأسك فقط لأني امتلك الفضول لأعرف ماذا فعلت!
ضحك وقد نجح باستفزازها كالعادة ثم قال بتذمر:
-هذه الطفلة بالفعل ستفقدني عقلي يا روان. خرجت من الشقة والقيت عليها التحية لتردها على بكل لطافة وانوثة. جيد؟
جيد!
سألتها بكل رقة ولباقة عن مباراتها واجابتني بكل حماس. ثم اعتذرت لها كرجلٍ نبيل إني لا استطيع الحضور بسبب موعدي معكم وتفهمت هي الامر بكل رحابة صدر. ولكن حين رحلت كانت تبدو وكأن كل عفاريت الدنيا تتلبسها تلك المجنونة الساذجة.
همهمت روان بابتسامة بينما ترتشف قهوتها ثم قالت وهي ترفع إحدى حاجبيها بتهكم:
هل تظن يا عزيزي الساذج يزن ان المرأة ان سامحتك على خطأ ما فهي بالفعل قد سامحتك؟
نظر لها بعدم استيعاب لتكمل هي:
يا عزيزي ان اسهل شيء نقوله نحن معشر النساء لا عليك؛ لا تهتم؛ لم يحدث شيء. ولكن في الحقيقة عليك ان تهتم، وحصلت اشياء وليس شيء واحد. ولكننا ببساطة نريدكم انتم ان تفهموها لوحدكم. نحب احياناً ان يشعرنا الرجل انه ذكي وانه يبالي بأمرنا كما نبالي نحن بأمره ويفهمنا كما نفهمه!
لحظة. انا لا افهم عمّا تتحدثين!
فردت بتهكم:.
اجل بالضبط. هذا ما اقصده. لا يمكنكم ان تفهموا اي شيء بسهولة!
ثم اردفت:
- لقد كان واضحاً جداً إنها غضبت بسبب تفويتك لمباراتها!
فرد معترضاً:
- ماذا؟ هذا مستحيل. اخبرتكِ إنها تقبلت الامر ولم تعترض!
- بالطبع كانت ستمثل امامك انها لم تعترض. ولكن هذا هو السبب لا غير.
ثم قالت بابتسامة ماكرة بينما ترفع الكوب نحو شفتيها:
- لقد أخبرتك ان تلك الفتاة تحبك!
قال بضجر بينما يتلاعب بأكياس السكر امامه بطرف اصابعه:.
- انها مراهقة يا روان. والمراهقات يقعن بغرام جميع الشباب من غير استثناء.
ارتشفت جرعة قصيرة من القهوة وقالت:
- لا اظن ان ليلى من هذا النوع. حسب حديثك عنها دائماً لا تبدو لي انها مجرد مراهقة ساذجة. نعم طفولية، ولكن ليس ساذجة!
قال بعدم مبالاة بينما يشيح وجهه ناحية نافذة المقهى العريضة:
- لا يهمني أمر تفكيرها كثيراً. لذلك لنترك الموضوع جانباً!
وهذا كان ما يفعله في كل مرة حين تفتح معه روان موضوع ليلى. كان يتهرب ببساطة، ليس من روان بل من نفسه، لا يريد ان يصدق أنه بالفعل يهتم لأمرها. نعم هي تثير فضوله ولكنها لن تنال اهتمامه. كان لا يزال يراها تلك الطفلة الحمقاء التي كان يزجرها اكثر من مرة حين تلعب في المنزل وهو يدرس، او ترفع صوت التلفاز وهو نائم. تلك الطفلة التي يوصلها احياناً نحو مدرستها حين يصعب على ابيها ذلك وكأنه اخيها الاكبر. لا يمكنه ان يستوعب انها نضجت بما فيه الكفاية ليحبها. أنها صغيرة جداً على الحب بالنسبة له. هذا ما كان يقنع نفسه دائماً به كلما تخاطر الى عقله أنه يحبها. ولكن. أحقاً لم يكن يحبها؟ بل وهل فوّت المباراة حقاً في يومها؟! ).
لا تقوى القلوب العاشقة على الفراق إلا أن تم خذلها. نحن لا نبتعد من فراغ ولا نكره من فراغ. مقدار ما سيتشكل في قلوبنا من كره سيعادل ما منحناه لهم من حب لم يتم تقديره؛ ومن اخلاص تم دعسه في لحظة كرامة. من يعشقك سيكون اقسى عليك من عدو. هو لن يكتفي بقتلك فحسب؛ بل ولا يقوى على ذلك. سيلدغك بالنار دون ان يحرقك؛ سيذيقك السم دون ان يقتلك. ببساطة سيعذبك بتلك الطريقة التي ترى فيها الموت ارحم بكثير!
كان اشتياقه لها اكثر مما يستطيع قلبه ان يتحمله. يقاوم بصعوبة عدم الاتصال بها حين يؤرق الشوق مضجعه أو تسلب الذكريات حاضره، ولكن هل سيكون الحب كافياً لنسامح؟ هل ستكون تلك النبضات التي تدفعنا للتنازل تستحق كل هذا الالم من اجلها؟ علينا ان نسأل أيهما ألاهم؛ ما يؤمن به عقلنا؟ أم ما يحثنا عليه قلبنا؟
أستيقظ بعد ساعات قليلة من النوم ليذهب الى عمله. فتح هاتفه قبل حتى ان يفتح عينيه بشكل كامل ليطمئن على حالهما. أتصل بروان بادئ الامر فوجد ان هاتفها مغلق بالطبع لم تغلقه بإرادتها بل اغلق نفسه بنفسه بعد ان اتعبته بكثرة الاتصال بمازن دون ان يرد عليها عاود الاتصال مرة اخرى بها ليتأكد انه بالفعل مغلق ليغير الاسم ويتصل بمازن؛ رد عليه الاخير عند الرنة الاخيرة بصوته الناعس:
أهلاً يزن!
فقال بينما يبدأ بإخراج ملابسه من الخزانة:
صباح الخير. هل لا زلت نائم؟ ألن تحضر للعمل اليوم؟
تثائب قبل ان يرد عليه:
لالا سأفطر وآتي بعد قليل. كم الساعة الان؟
أنها التاسعة يا مدلل امك!
نهض فوراً عن الاريكة وهو يقول:
يا للأحراج. لا بد ان الجميع أستيقظ عداي!
هل روان بخير؟ وهل اتصل بها ذلك السافل او حاول القدوم؟
رد مازن باقتضاب:
-لا اعلم. ولا يهمني!
ليرد الاخر مستغرباً:.
ماذا تعني بأنك لا تعلم؟ ألم أتركك عندها البارحة؟
-اجل. ولكن خرجت من بعدك.
-ولماذا؟
-تشاجرنا!
زفر يزن بضيق وهو يقول بشيء من العصبية:
بالله عليك يا مازن؟ أهذا هو وقته المناسب؟
حين التقي بك سنتحدث. انا لست في منزلي ولا يمكنني الكلام كي لا تسمعني ليلى.
وهنا توقف يزن فوراً عن الحديث وانساب القميص من بين يديه. هل جربت في يوم ان تتلاشى منك الحروف على غفلة؟ هل حاولت من قبل ان تربط كلمتين مع بعضهما ولكنك تفشل؟ دعني اسألك. هل جربت الصدمة؟
أ. أنت في. منزلها؟
قالها يزن بتلكؤ؛ بل وباختناق يعجز عن مداواته في لحظتها؛ ليرد الاخر ببساطة دون ان يشعر بحجم ذلك الانهيار الذي احدثها في قلب صديقه:
اجل. لقد قضيت ليلتي هنا.
سكون. لا جواب. كل شيء بدا ضبابياً امامه. هل يكرهها؟ لا. في هذا اللحظة الكره شيء بسيط ليصف شعورها. غضبه منها لا يدفعه للتفكير بمنطقية انما بجريمة قتل وحسب!
يزن؟ هل انت معي؟
قال الاخر بتشتت:
أجل. أجل. اراك لاحقاً يا مازن.
واغلق الهاتف قبل ان يسمع اجابته. طرحته قدماه ارضاً دون ان تتمكن من تحمل ثقل جسده فتهاوى جالساً على الارض مستنداً على طرف سريره. شيء ما يتدفق على وجهه. أهي دموع؟ منذ متى وهي ساخنة بهذا الشكل؟ منذ متى تقع بهذه السهولة وبهذا الثقل؟ كيف لامرأة احبها بهذا الشكل ان تكون بين يدا غيره؟ الحب لا يقتل. انها الغيرة من تلعب دور المجرم دائماً لتقتل وتحرق وتنهش كل شيء فينا من غير رحمة!
سحب هاتفه مقاوماً تردده وخاضعاً لشيطانه وكتب لها بفؤاد احرقه عشقها:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
فهل بشيء غير ليلى ابتلانيا؟
لم يتوقع أن يتلقى إجابة سريعة ولكنه تفاجئ بعد ثواني قليلة حتى وصلته رسالة منها:
انا وانت نحتاج الى التحدث بجدية هذه المرة واترك كبريائك جانباً. تعال لتأخذني من جامعتي في ال12: 30 بعد ان انهي محاضراتي. لا تتعب نفسك في الرفض لأني سأبقى انتظرك يا يزن وانت تعرف عنادي جيداً.
اغمض عينيه بألم وزفر بضيق. لما عليه ان يحبها بهذا الشكل؟ لما لا ينساها فحسب وسيكون كل شيء بخير. فقط لو يتمكن من إزاحتها قليلاً عن قلبه!
خرج من غرفة المكتب فلاحظ وجودها في المطبخ تدير ظهرها اليه وتستند على حافة الطباخ بإحدى يديها بينما ترفع الاخرى نحو رأسها تفرك صدغها.
- صباح الخير!
قالها بابتسامة بينما يدخل للمطبخ فالتفتت اليه بعيون مرهقة وقالت بابتسامة شاحبة:
- صباح الخير!
اقترب منها وقال بينما يلمس جانب وجهها بأطراف اصابعه:
- هل انتِ بخير؟!
- أجل اجل لا تقلق.
- ولكنكِ لا تبدين كذلك!
- انه مجرد صداع صباحي معتاد!
فقال بنبرة تحمل بعض التأنيب:
- مجرد صداع. انا اسمع هذه الكلمة منذ ان ارتبطت بكِ. لما لا تراجعين المستشفى لنرى ما سبب هذا الصداع؟!
قالت وهي بالكاد تكبح ابتسامتها:.
- حسناً مع احترامي لمهنتك ولكن اكثر ما اكرههُ في حياتي هم الاطباء. انهم يخلقون علّة من العدم ليلصقوها بكل مريض يزورهم ويرفقونة بكيس ادوية يجعلونه يكره حياته بسببها والتي بالطبع لا تكون اكثر من مسكنات والتي انا اخذها بالفعل. ولكن اليوم نفذت مني لذلك ازداد على الالم. سأحضر من الصيدلية بعد عودتي من الجامعة وينتهي الامر!
قال بينما يضيق عينيه بشكل مضحك:.
- ذكّريني مرة اخرى ان لا اعاندكِ وان لا اسألكِ وأن لا اناقشكِ فأتورط.
ضحكت وهي تدفعه من يده تحثه على المسير وقالت:
- اذهب لتغسل وجهك ايها الكسول بينما اكمل اعداد الأفطار من اجلك لتوصلني بعدها الى الجامعة وتذهب الى عملك. فبسببك اليوم فوّت محاضرتي الاولى.
تبسم رغم غشاء الحزن الذي لا يزال يحوطه وذهب نحو الحمام ليجدد نشاطه قليلاً برشق بعض المياه الباردة على وجهه.
عاد بعد ذلك ليجدها تضع الصحون على المائدة. جلس على كرسيه وقال:
- اين امكِ وابيكِ؟!
قالت بينما تضع الصحن الاخير وتجلس:
- ابي ذهب للعمل قبل قليل ولأني كنت مستيقظة مبكراً فقد اعددت له الفطور لذلك لم يوقظ امي وبقيت نائمة.
- ولِما استيقظتِ مبكراً؟!
- كان لدي امتحان ولم ادرسه بشكل جيد ليلة البارحة لذلك استيقظت مبكراً لأراجعه.
عمّ الصمت على المكان للحظات قبل أن تقطعه ليلى قائلة:
إذاً؟!
نظر اليها بعد فهم لتكمل هي:
كيف حالك اليوم؟!
تبسم وقال:
أفضل بكثير.
دام إنك تبسمت فهذا يعني إنك كاذب وأنك لست بخير. أنت من الاشخاص كثيرين الضحك والمزاح!
وما الذي قد يعنيه هذا؟
هذا يعني إنك لن تنهار إلا أن كان الامر أكبر من ان تتمكن مِنْ تحمله. وموضوعٍ قد أثر بك بهذا الشكل من المستحيل ان تتعافى منه بين ليلة وضحاها!
فقال بشيء من الجدية:
لا اريد التحدث الامر يا ليلى. لننساه لو سمحتِ!
قالت بتهكم:.
بهذه البساطة؟!
ليطالعها بعيون باردة تكتشف للمرة الاولى انه يملكها:
أجل. بهذه البساطة. اريد نسيانها فحسب
وتظن إنك أن أجبرت نفسك ان تحبني فستنساها؟
ارتكزت بمرفقيها على الطاولة وقالت بابتسامة ساخرة:
انت تستخف بالحب كثيراً يا عزيزي!
اجل بالفعل. كي لا امكنه من السيطرة علي.
الحب عدو غير قابل للهزيمة يا يزن. انه ذاتاً يسيطر عليك ولكنك ترفض الاعتراف بالهزيمة!
لم يرد عليه ولكن غزت عينيه نظرة غريبة وابتسامة غامضة لم تفهم سببها بادئ الامر. وضع المنديل على الطاولة وقال:
دعيني اوصلكِ نحو جامعتكِ فلقد تأخرنا بما فيه الكفاية.
ثم نهض وانحنى من فوره على اذنها هامساً:
وبالمناسبة. انا مازن!
وهنا فوراً أحست بشحنة كهربائية تصعق لها اطرافها وتسحب الدماء من جسدها. تعجز عن تبرير زلة لسانها وتعجز حتى عن رفع رأسها اليه وكأنهُ أمسكها بالجرم المشهود ولا يوجد اي دليل ليثبت براءتها!
سأسبقكِ نحو السيارة.
قالها بينما يسحب سترته ويخرج بينما هي لا تزال جافلة في مكانها. عليها ان تفعل اي شيء لتتلافى الموقف ولكن عقلها واقف عن العمل. نبرته لم تكن عادية حين قال هذا بل بدا وكأنه يعرف شيء. ماذا لو عرف او حتى ساوره الشك؟
اغمضت عيناها واخذت نفس عميق بهدوء شديد كي تسيطر على انفعالاتها ثم سحبت حقيبتها وكتبها وخرجت من المنزل تتبعه.
كان يجلس خلف المقود بينما يداه تعبث بمشغل الموسيقى في السيارة ليختار إحدى اغانيه الصباحية المعتادة. جلست على المقعد المجاور وانطلقت السيارة بصمت لا يقطعه سوى صوت القيصر في الانحاء يتلاعب بصوته المخملي بكلمات نزار العذبة التي ستُشعرك أنه كان يفكر بك حين كتبها!
قولي.
ماذا تسمين هذا التشتتّ؟
هذا التمزقّ؟
هذا العذاب الطويل الطويلا؟
وكي تكون الخيانة حلاً؟
وكيف يكون النفاق جميلا؟
كيف؟
أحبكِ.
حين أكون حبيب سواكِ.
ويعثر دوماً لساني
فأهتف باسمك حين أنادي عليها!
وأشعر أني أخون الحقيقة
حين اقارن بين حنيني اليكِ
وبين حنيني اليها!
ومع هذا المقطع مدت يدها لتطفئ الجهاز وتوقف تشغيل الاغنية. كلاهما شعرا بشيء من الذنب حين صرّح القيصر بحقيقة ما يكتماه. فلا هي قد فكرت به حين سمعت الكلمات ولا هو قد فكر بها. كلاهما يمتلكان ذلك الحب السري بداخل قلوبهم والذي يفضح نفسه فوراً امام ذكرى عابرة او مقطع أغنية!
ألن تقول شيء؟
قالتها دون ان تلتفت اليه فرد دون ان يلتفت بدوره:
حول ماذا؟
نظرت وهي ترفع إحدى حاجبيها بحدة:
بالله عليك؟ رجل شرقي ذكرت خطيبته اسم رجل اخر امامه. ما الذي ستكون رد فعله؟ يكتفي بالصمت؟
(يا مازن اقسم بالله الامر ليس كما تظنه. انتما تتشابهان بالاسم فقط. ويزن ليس غريب انه صديقي واستخدم اسمه كثيراً كما استخدم أسمك فما المشكلة أن زل لساني وأخطأت بإسمه؟ هل تشك بنا مثلاً؟
بالطبع لا اشك بشيء يا روان ما هذه السخافة!
إذاً لِما انت عصبي منذ الصباح وغاضب مني وانت تدرك جيداُ إني لا اقصد بهذا الخطأ شيء؟
وهل كُنتِ تتوقعين حضرتكِ أن تتحدثي إلى وتلفظي اسم رجل اخر واجعل الامر يمرُ مرور الكرام؟ هل الامر بهذه البساطة بالنسبة لكِ؟ يبدو إنك لا تعرفين مازن بعد يا روان)
مازن أنا اتحدث اليك!
استعاد وعيه بعد ذكرى عابرة سلبت لهُ عقله من الواقع على نبرة ليلى الممتعضة او في الحقيقة المشوبة بالقلق فرد فوراً بابتسامة:
إن كنتِ تريدين مني أن اتشاجر معكِ فلست أمانع!
فقالت بإحراج منهُ:
ليس هذا ما اقصده. ولكن لا اريدك أن تفهم الموضوع بشكل خاطئ.
مد يده ورفع يدها نحو شفتاه ليطبع عليها قبلة رقيقة وهو يقول:
لا تقلقي. لم افهم الامر بشكل خاطئ ولم اغضب منكِ اقسم لكِ.
تبسمت فوراً ابتسامتين. إحداهما امتنان والاخرى حزينة حين تذكرت غيرة ذلك المجنون عليها وتخيلت ماذا سيحصل لو انها لفظت اسم مازن امامه؟ كم تشتاق ان تتلذذ بغيرته. ولكن عليها أن تحافظ على حياتها للوقت الحالي دون ان تقدم على مجازفة مماثلة!
اوصلها نحو جامعتها وذهب نحو المستشفى والامر لا يزال يتلاعب بعقله. نعم اخبرها انه لم يغضب - وهو بالفعل لم يفعل -. ولكن لم يشك؟ هذا صعب!
بدأ يربط الخيوط ببعضها الاخر رويداً. اول يوم عاد فيه يزن ولقائه بليلى، رد فعلهما، بروده في التعامل معها، حدّته في الحديث، اقتضابه بحضورها، واليوم خطئها بأسمه دون ان يجيء على ذكره او حتى ان تكون لها تلك الصلة القريبة به كروان لتخطأ بين اسميهما. نعم اسميهما متشابهة، ولكن على المقربين من كليهما بالوقت ذاته فقط. وحسب ما يعرفه أن ليلى مقربة منه فقط. أم لا؟ لو اسم اخر من لفظته لمرر الامر باعتيادية. ولكن تصرفها هذا قد اضاف حلقة اخرى الى مجموعة الحلقات برأسه لتتحول الى سلسلة من الشك ما ان يحل واحدة تتشابك الاخريات مع بعضها وسؤال واحد يطرح نفسه. هل يمكن أن يكون صحيحاً؟!