رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل السادس
كمحارب مخذول من جيشه وسط معركة لم يخضها غيره، هكذا كان يجهش بالبكاء فوق سطح مبنى المشفى. في المكان ذاته الذي كانت تحضره روان لتعتصم عن البشر. في ذات المكان الذي لم يكن يستذيق فيه يزن طعم الخذلان، اصبح الان يتجرعه على مضض!
جلس على ركبتيه كطفل صغير فقد امه وغطا وجهه بيديه واجهش ببكاء مسموع. هو لم ينهار هكذا بحياته قط. سمع خطوات لم تثير اهتمامه ليوقف نحيبه. تمنى لو انه يصرخ امام الجميع بتلك النار التي تحرقه لتتركه اشلاء انسان.
- يزن؟!
انطلق صوت روان المليء بالذعر والقلق عليه، ولكنه لم يوقف بكائه ولم يلتفت اليها حتى.
احاطت كتفيه فوراً وحاولت رفع ظهره المنحني ولكنها فشلت. كان متصلب ومتقلص حول ذاته كجنين يرفض رؤية هذه الحياة. يغمض عينيه بقوة ويضم اطرافه لبعضها بينما يصرخ بقوة دون ان يبالي من يحيطونه بصراخه او يعيدوه حيث يريد!
- انا داخل كابوس. انا لست بوعيّ. ارجوكِ اخبريني ان كل هذا كذب. اتوسل اليك اصفعيني او افعلي اي شيء فقط لتوقظيني من هذا الحلم!
ثم احاط صدره من جهة قلبي واردف بذات دموعه:.
- هذا مؤذي يا روان. هذا الكابوس مؤذي، اريد ان استيقظ اتوسل اليكِ افعلي اي شيء!
- يزن اخبرني فقط ماذا هناك بحق السماء انت تقتلني!
- انها ليلى. خطيبة مازن هي ليلى يا روان!
فرفعت يديها فوراً عنه كمن تعرض للسعة سامة وشهقت بصدمة بينما تكتم صوت انفاسها في الحال تخشى ان تشي بسرهم الرياح. فلطالما كانت ليلى سرهما الصغير الذي لم يبوح به يزن لأحد. وهذا السر صار اليوم اعظم!
قالت بتلعثم بعد ثواني من كتم صوتها: - هذا مستحيل. لا بد ان يكون هناك خطأ ما!
استند بأجهاد على السور الحجري وابرز واخيراً وجهه المشتعل وعيونه الملتهبة بالدموع، هز رأسه بيأس وهو يقول بصوت اثقله البكاء: - وانا ظننت هذا ايضاً. بل والى الان انا اظن هذا. ولكنه ليس كذلك!
ثم ضرب رأسه بقوة وهو يصرخ: - كيف لها ان تفعل شيء مماثل كيف؟ ومع صديقي المقرب يا روان؟!
امسكت يده التي يضرب بها رأسه وقالت تنهره: - اهدأ يا يزن ودعنا نفكر بتروي. اولاً مازن لم يكن يعلم بعلاقتك بليلى وكل ما كان يعرفه انك تحب فتاة ما وهذا ما يمنعك ان ترتبط بأخرى من الجامعة. ولا ليلى كانت تعرف مازن فأنت حسب ما كنت تخبرني لا تحدثها ابداً عن رجل غريب. لذلك بالتأكيد ارتباطهما كان صدفة سيئة دون ان يدرك احدهما انك رابط مشترك بينهما!
فنظر اليها بغضب جامح وهو يصرخ بجنون: - ووعدها بالاخلاص لي يا روان؟ وعشر سنوات من الحب اين ذهبت؟ كيف تمنح نفسها لرجل غيري؟ كيف تسمح له ان يلمس يدها او يقترب منها او حتى يهمس لها بحب؟.
ثم انتفض وكأنه يبحث عن اي شيء ليكسره بينما يكمل هتافه: - كيف لها ان تخونني!
فحاولت روان بفشل ان تجعله يهدأ: - يا يزن لربما اجبرها جدها!
فالتفت اليها يكاد ينقض عليها ليقتلها حتى وان لم يكن لها ذنب بينما يقول باستنكار: - يجبرها؟ كيف مثلاً؟ يقيدها كي لا تهرب من حفلة خطوبتها اللعينة؟ يهددها بالقتل؟ بالتأكيد مازن قد قابلها قبل الخطوبة ومن المستحيل ان يقبل الارتباط بها وهو يشعر انها مجبرة عليه. انا اعرف مازن جيداً. اذاً كيف اقتنع بالتقدم لها ما لم تكن قد نالت اعجابه بحديثها وابتسامتها؟ فأنتِ اكثر من تدركين يا روان ان مازن لا يهتم للجمال كثيراً بقدر ما يحب شخصية المرء. وتدركين اكثر انه لن يرتبط بأي واحدة فقط بتلك التي يثق انه بمقدورها جعله ينساكِ!
رغم تلك الوخزة المؤلمة التي لسعت لها قلبها مع اخر جملة ألا انها ابتلعتها على مضض. اذاً فهو يريد نسيانها. يريد ايجاد من تأخذ مكانها في قلبه. بقدر ما اسعدها تيقنها انها في قلبه بقدر ما آلمها محاولاته في انتزاعها!
قبل ان ترد روان بشيء لتخفف عن يزن قطع عليها مازن كلماتها بأتصاله!
اجابت بتوتر لا تعرف سببه: - اهلاً مازن!
ليصلها صوت مازن الرسمي الذي يخفي خلفه ارتباكه المماثل من محادثتها: - اهلاً روان. هل تعرفين اين يزن؟ لقد اختفى فجأة!
- اجل، انه هنا معي!
ليرد بأستغراب:
- معكِ؟ واين انتما؟!
- في المستشفى اين عسانا نكون؟!
ليرد الاخر بعصبية: - حسناً، شكراً لكما على كل هذه الاهتمام! خطيبتي هنا مغمى عليها ولم يكلف احدكما نفسه حتى الاطمئنان عليها!
- مازن الامر ليس كذ.
وقبل ان تنهي جملتها قاطعها قائلاً:.
- وداعاً الان، لقد استفاقت ليلى!
وختم المكالمة قبل ردها. نظرت نحو يزن بحيرة الذي كان بدوره يطالعها بتشتت مماثل فقالت بتنهد:
- مازن يعتب علينا لأننا غير متواجدين معه!
فأشاح وجهه بأقتضاب، لم يعد يطيق سماع اسم صديقه المقرب! فأكملت روان بنبرة متجوسة ومتوسلة:
- انه محق يا يزن! لو احد فينا بمكانه ما كان سيتركنا، دعنا ننزل!
اخذ نفساً عميقاً جداً وكأنه يصارع لأدخال الهواء لرئتيه واستند على السور وعصره بين قبضتيه بقوة مفكراً، هل ينزل؟ يقابلها؟ انه يعجز عن ذلك. مهما كان عذرها وتبريرها لما فعلته فهو لم يكن سيبالي. غيرته تمنعه من ذلك. انه يحترق من غير رماد. انه يستمر بالاحتراق فقط وعقله عاجز عن تقبل هذه الصدمة!
ان لم اكن لك فلن اكون لغيرك. هذا كان وعدها الذي جعله يسافر مطمئن البال. كان متفهماً لرفضها التنازل عن اسرتها من اجله. ولكن لا يوجد اي شيء بإمكانه اجبارها على الارتباط بغيره مهما كان تهديد جدها لها!
- يزن؟!
قالتها روان بنبرة اعلى من سابقتها بينما تضع يدها بهدوء على ظهره لتثير انتباهه بعد ان غاص بعالم اخر بعيداً عنها. ما ان التفت اليها قالت تحثه على التحرك:.
- دعنا لا نتأخر اكثر على مازن. انه لا يستحق هذا البرود منك اتجاهه، لذلك حاول ان تتحمل قليلاً وتبدو اعتيادياً امامه!
زفر بقهر بينما يقول:
- أتدركين كم هو صعب على ان اعامله بأعتيادية بينما ارغب بلكمه - بل قتله - ان لمس يدها؟
فشددت قبضتها على عضده وقالت:.
- بل ستتحمل يا يزن. ستتحمل الى ان تفهم من ليلى ما حصل بالضبط. وحتى بعد ان تفهم واردت فرض عقابك فليلى وحدها من ستتحمل عقابك ولن اسمح لك بأذية مازن الذي لا يستحق معاملة كهذه منك فهو لا يعرف اي شيء والامر كله كان بأختيار ليلى وهو لم يجبرها على شيء او يغويها!
بقي يحدق بعينيها بتفهم. كم هو غريب الحب. قبل قليل فقط كانت تحاول اقناعه بالعدول عن سوء ظنه بليلى وتحاول التماس الاعذار لها. وكانت ستسمر بدفاعها عن ليلى لو لم يقترب يزن من اذية مازن. هي ستتخلى عن الجميع فقط من اجل ان لا يتم اذيته. ستقدم الجميع قرابين من اجله. كما كان يزن يفعل مع ليلى. ولم تفعله ليلى الان!
استعادت وعيها بشكل كامل على لمسة خفيفة فوق خدها. فتحت عينيها بتثاقل فوقع بصرها فوق مجموعة من الاضواء الصغيرة المثبتة بالسقف وتلمست يديها فراش ابيض ناعم واستنشق فمها رائحة تعرفها جيداً. رائحة المعقمات والادوية. إذاً هي لاتزال في المستشفى!
التفتت ببطئ الى اليد التي تداعب خصلات شعرها السوداء كخشب الابنوس برفق فوجدته مازن. تبسم اول ماالتفتت اليه وقال بهمس عطوف:
لقد اقلقتني عليكِ.
اجابت بضعف بينما تزدرد ريقها الجاف:
ماذا حصل؟
لقد اصبتِ بهبوط مفاجئ أدى الى اختلال توازنك وفقدانك الوعي.
ثم حضن يدها بين يديه الدافئتين وقال بينما يقبل باطن كفها:
انا اسف لأني جعلتك تأتين. ربما كان الجو حاراً في الخارج لذلك لم تتحملي.
كان من المفترض ان تكون لبقة وتجيبه او تخبره انه لابأس بذلك. ولكنها صمتت وهي تحدق فيه بملامح جامدة. ليس لأنها لاترغب في اجابته بل لأن عقلها ليس مع سؤاله اطلاقاً. بل مع الشعلة التي تركتها ملتهبة ولاتعرف اين هو الان!
سحبت يدها من بين يديه متعذرة بأسناد جسدها لتنهض. حملت جسدها بتثاقل من فوق سريرها غير مبالية بأعتراضات مازن ومحاولاته الغير مجدية في جعلها تتمدد مرة اخرى لتحظى ببعض الراحة. اختل توازنها للحظة عندما وقفت على قدميها دفعة واحدة فأسرع اليها يحاول اسنادها ولكنها اومأت له في الحال ان لايفعل وعادت خطوتين للوراء متجنبة لمسته العطوفة وكأن جسدها سيحترق وروحها ستتمرد ضدها ان لمسها. هذه خيانة بحد ذاتها لاتريد ارتكابها بحق يزن الذي احتل كامل تفكيرها في الوقت الحالي غير مبالية ابداً بمازن القابع بجانبها الان.
قالت بعد ان استعادت شيئاً من ثباتها:
انا. يجب ان اذهب.
حسناً سأوصلكِ انتظري قليلاً.
قالت فوراً بنفور:
لالا. لاداعي.
ماهذه اللاداعي؟ سأوصلكِ. فقط انتظري قليلاً سأسجل خروجي واعود لكِ.
خرج فوراً يسابق خطواته ليعود اليها بأسرع وقت ممكن. ماان اختفى عن الغرفة حتى هوت فوق سريرها تستند بكفيها على فراشها وكأنها تسند جسدها كي لاينهار. واخيراً بقيت لوحدها قليلاً كي تحاول ان تفهم مايجري حولها وتربط الافكار والاحداث بعضها ببعض الذي نسجها لها حظها السيء. كيف لصدفة كهذه ان تحدث؟ كيف هي بنظره الان؟ أستكفيه العشر سنوات كي يفهمها جيداً ويدرك انها مستحيل ان تخون حبه وان هذه افعال جدها؟
قضمت شفتها السفلية بتفكير مستعدة للنهوض لتطبق الفكرة التي ولدت لتوها في عقلها المشوش. جمعت شتات شجاعتها التي لاتملكها من الاساس وشحنت جسدها ببعض الجرأة ووقفت تنوي السير. ولكنها توقفت فوراً وارتخت قدماها بخوف وهي تشاهد فكرتها تقف امامها عند الباب يحدق فيها بعينين لم يتطلع بهما مسبقاً نحوها.
انسحبت شجاعتها منها فوراً وتكسرت الرؤيا امامها من الدموع التي تراكمت بعينيها. رغم خوفها. ورغم حالة الاستسلام والرضوخ التي سيطرت على كيانها لحظتها ألا انها لم تتراجع واستغلت الوقت قبل عودة مازن، فهي لن تستطيع ان تحيا مع هذا العذاب اكثر من ذلك راسمة بعقلها الاف التخمينات عما سيظنه حولها. انطلق لسانها بالكلام من دون وعي وقالت بصوت مهزوز ومبعثر بغصة لم تفارقها منذ رؤيته:.
يزن. انا. انا لم افعل. اقسم لك ان.
قاطعها بنبرة جافة وحاجبين يكادان يلتصقان ببعضهما من شدة اقتضاب جبينه:
اين خطيبكِ؟
قال كلمته الاخيرة بتأكيد وهو يضغط حروفها وكأنه يحاول تذكيرها دون ان تتمادى بكذبها. ولكنها لم تصمت واكملت بدموع ضعيفة وجدت طريقها بسهولة فوق وجهها المحتقن وقالت بأنهيار:
يزن الامر ليس كما تظن. انا لم اوافق على الخطوبة منه. اقسم لك اني لم اوافق.
نظر نحو بنصرها الايمن بأحتقار وارتفعت زاوية فمه بأبتسامة ساخرة ومريرة. لم يرفع بصره عن خاتم خطوبتها ألابعد ان اخفته بكفها الاخر المرتجف واصبحت تحركه بأصبعها بندامة. رفع عينيه اليها واقترب خطوتين منها. شعرت بلسعة برودة تسري في اوصالها مع كل خطوة يخطوها. هذا ليس يزن الذي كانت تشعر بالامان كلما كان قريب منها. هذا وحش يود بين لحظة واخرى ان ينقض عليها ويقتلها. قال بهمس اشبه بفحيح الافعى وبكل حرف يقوله شعرت به كلدغة تسمم بدنها:.
لم توافقي؟ عفواً. ولكني اعرف صديقي. وصديقي لايكذب حينما قال تلك هي خطيبتي. ويدك لاتكذب حينما احطتِ اصبعكِ بخاتم يحمل اسمه...
ثم جحظ بعينيه اكثر وقال وهو يكز على اسنانه وكأنه يحاول كتم صوته ويفشل:.
ندمت على اشياء كثيرة في حياتي. ولكن حبي لكِ اكثر ماندمت عليه الان. جعلتني اشعر بمدى سخافتي عندما اخلصت لكِ بينما انتِ لم تفعلي. لست انا الوحيد البعيد عنكِ فأنتِ ايضاً بعيدة عني، ورغم ذلك لم اخنكِ. كيف طاوعكِ قلبكِ؟ لقد حرّمت على نفسي حتى النظرة لغيركِ وكنت اعتبرها خيانة لحبي لكِ، عشت في الغربة كراهب وانتِ كنتِ محرابي الوحيد. لأعود بعد سنة واحدة فقط واجدكِ ترتبطين بصديقي المقرب يا ليلى؟
ثم اردف فوراً وسط جفلتها:
- دعيني اسألك شيء. ياترى أحقاً جدك لم يوافق على ارتباطنا ام انتِ من قررتِ ان تستبدليني؟ فعشر سنوات كافية لتثير مللكِ مني، وهل هذه هي المرة الاولى التي تخونينني فيها ام انك مارستِ الامر مرات عديدة؟!
توقف عن الكلام وهو يلهث وكأنه كان يخوض معركة ضارية او سباق طويل. بقي يحدق بعينيها بندم وهو يشاهد نظرات الصدمة والخذلان ترتسم في نظراتها. لما هذه النظرات؟ أليس من المفروض ان ترتسم بعينيه هو؟ هو يراها مذنبة فلما اشفق عليها فوراً وهو يشاهد دموع صامتة تسقط مباشرة من جفنها الى الارض من شدة ثقلها؟
تراجعت خطوتين الى الوراء وهي تحدق فيه بألم ولاتزال اثار كلماته تطنّ في عقلها تأكل روحها وتحرقها ببطئ. ألا يكفيها العذاب الذي تعيشه. لما لايفهمها فقط كما كان يفعل؟ لما لا يقف بجانبها؟ لما تخلى عنها هو ايضاً واسقط عليها وابل من الاتهامات من غير ان يستمع؟ لما لايسمع صوتها احد؟ أهي خرساء؟ ام من يتحدث معها أصم؟
ارتجفت شفاهها ونكست رأسها بخيبة امل. عادت بضع خطوات نحو للوراء تسدل يديها بجانبها بضعف وهزيمة. هي وحيدة. لن يقف بجانبها احد، هذا واقع عليها تقبله.
ارتخت عضلات وجهه المتشنجة ومسح حبيبات العرق المغلية فوق جبينه وكاد ان يعتذر عن القسوة التي قالها لها. ولكن قبل ان تنطق شفاهه المترددة دخل مازن قاطعاً عليه أعتذاره الذي لن يجدي نفعاً مع كلماته. كلمات لم يندم على تفكيره بها، بل على نطقها فقط!
حدق فيهما بأستغراب وهو يراقب انفاس يزن المتلاحقة وزفيره الحارق ووقفة الخذلان والدموع التي احتلت تقاسيم ليلى.
فهم يزن فوراً نظرات مازن المتشككة من هيئتهما فتلافى الموضوع قائلاً بحروف مبعثرة حاول قدر الامكان ان يجعلها جملة مترابطة:
لقد اتيت من اجلك. الانسة كانت مصرة ان تخرج قبل مجيئك.
بدأ مازن يوهم نفسه ويزيح جزء من الشك عن رأسه وهو يضع لنفسه تخمينات كي لايظن السوء ولو للحظة. خمن لربما ليلى بعنادها ارادت الخروج ويزن بطبيعته العصبية قد فقد اعصابه وهو لايتحمل هذا العناد منها خوفاً على صحتها.
اومئ برأسه متفهماً ثم التفت بلهفة نحو همسة مخنوقة بالدموع جاءت من صوت يتلهف لسماعه يناديه:
مازن، أيمكنك ان تخرجني من هنا الان؟
اتت هذه الجملة كنسمة باردة فوق صدر مازن ولكنها اتت كطعنة حارقة في قلب يزن. أتستنجد بغيره لينقذها منه؟ ليبعدها من جانبه؟ هل اذاها لهذه الحد لدرجة ان لاتطيق البقاء قربه؟ أخائفة منه لهذا الحد؟ هي مذنبة. نعم هي مذنبة. لذلك لن يشفق عليها!
تراجع فوراً وخرج من الغرفة تتبعه جيوش غضبه وتطعنه سيوف ندمه. منذ متى وهو قاسي معها هكذا؟ منذ متى يتسبب لها بالدموع؟ نعم هو يغار عليها. يغار بجنون. ولكنه لم يكن يسمح لغيرته يوماً ان تؤذي مشاعرها بل لطالما تسعدها بطريقته الطفولية وغضبه الجامح الممتلئ بالعشق وهو يؤنبها على شيء اثار غيرته عليها. كلبس لايعجبه او محاورة بسيطة تجريها مع زميل لها في الجامعة لحالة اضطرارية تخص الدراسة. حتى هذا لم يكن يسمح لها به. بل وحتى لم يكن يسمح لها ان تطيل الحديث مع ابناء عمها. هكذا كانت غيرته التي تعشقها. وتعشق عصبيته عندما يغار. ولكن الان. لم يبثها غيرته. بثها جحيم كلماته القاسية، باردة تقتلها ببطئ. يشكو اليها ندمه على حبه لها، نعم هي مذنبة. ولكن هذا الذنب جدها اجبرها ان ترتكبه أفلم يكن افضل لو انه استمع اليها او على الاقل قام بتأجيل اتهاماته لاحقاً لحين فهمه ماحصل؟
ركبت السيارة بالمقعد الامامي بجانب مازن بجسد حاضر وعقل غائب. كورت قبضتيها في حجرها بهدوء وحدقت من النافذة الامامية من دون ان تتحرك او تنطق بكلمة. بل بالكاد سمحت لصدرها بالارتفاع والانخفاض من اجل التنفس. هي ارادت حالة سكون تام. كانت كمن تقف على حافة جبل متعلقة بحبل ضعيف، يجب ان تبقى ثابتة كي لاتقع تخاف حتى من زحزحة نسمة هواء خفيفة. هكذا كانت تسيطر على نفسها لتبقى ساكنة ولاتقم بأي حركة خاطئة او تنطق اي كلمة تجعل ابواب دموعها تفتح على مصراعيها وتهتز حبالها الصوتية بقوة مخرجة صرختها بقسوة لتحطم كل ماحولها.
كان مازن يرمقها بنظرة جانبية خاطفة كل ثلاث ثوانٍ تقريباً. هي هادئة اكثر من اللازم. لطالما كانت كذلك منذ ان تعرف بها والى الان. ولكن اليوم صمتها وارتباكها زاد من حيرته وهو يحاول ان يفهم هذا النموذج المعقد الذي لم يقابل مثله ابداً طوال حياته.
فاجئها بسؤال يدور بخلجه ويقلق مضجعه منذ وقوعها بين يديه فاقدة لوعيها:
أكنتِ على معرفة جيدة بيزن في الماضي؟
ارتجفت يداها فوراً وتشابكت بشكل غير مقصود وعبثت اصابعها بقماش فستانها وهي تتلمسه كعمياء تقرأ حروفاً منقوشة فوقه، استطاع ان يلاحظ خلال الايام القليلة الماضية التي تعرف بها اليها بأن خطيبته تمتلك نوعاً ما بعض الصفات الطفولية، فكل مايدور بخلجها يظهر على تقاسيم وجهها وحركات جسدها فيستطيع ان يكتشف ارتباكها او غضبها او خجلها بسهولة كبيرة. لم تكن من النوع المتحايل او البارع في تمويه الحقيقة واخفاء كذبة ما.
ازدردت ريقها وتنفست بعمق في محاولة فاشلة منها لتجلية صوتها واخراجه متماسكاً خالي من الارتجافة التي يسببها ذكر اسم يزن امامها. قالت بعد سكوت طال لثواني لايقطعه سوى صوت محرك السيارة:
انا. كنا جيران قبل ان ننتقل لحينا الحالي. وبالتأكيد ستكون معرفتي به جيدة. نوعاً ما!
احست به يومئ برأسه وكأنه يحاول اقناع نفسه، فهي شعرت بل وتيقنت من استغرابه من الارتباك الذي بينها وبين يزن وتحاشيهما لبعضهما الاخر لاسيما امامه.
ساد صمت موحش الاجواء ولم ينكسر ألا بعد ان توقف مازن امام منزلها. نادى اسمها بهدوء وعطف جعلها تنزل يدها بقلة حيلة من فوق مقبض باب السيارة متراجعة عن فتحه واستدارت اليه بهدوء وتردد. حك رأسه من الخلف قليلاً وادار نظره الجهة الاخرى بعيداً عنها يحدق في بعض البنايات التي بجانبهم وكأنه يحاول تضييع الوقت بعيداً عن عينيها فقط ليجمع بعض الكلمات المناسبة التي لاتجعلها تفهمه بشكل خاطئ. استدار اليها وهي لاتزال صامتة لاتحثه حتى على الحديث وتتطلع فيه بوجه بارد، ولكن مستغيث بشكل ما مما اثار شفقته عليها اكثر. ومنحته سبباً ليتعلق بها اكثر.
سحب عدة انفاس متلاحقة من الهواء ولكن كلما حاول اخراجها بحروف فشل ونطق صمته فقط...
سكون موحش طغى على الاجواء تلاحقت ضربات قلب ليلى واضطربت وهي تنتظر بخوف هذا الموضوع الذي يربكه ويوتره بهذا الشكل. واخيراً نطق قائلاً:
ليلى. اتمنى ان لاتفهميني خطأ. واتمنى ان تصلحي لي ظنوني ان كانت خاطئة، حقاً اتمنى لوكانت خاطئة!
ازدردت ريقها بتوتر للمرة المئة وكتمت انفاسها بخوف وهي تعصر قبضتها اكثر تدعو بكل جوارحها ان لايكون الظن بخصوص يزن. ولكنه كان اسوأ!
رفع بصره اليها بترقب مع نظرات رجاء وحزن ان لايكون مايفكر به صحيح. قال بحروف خائفة تأبى الخروج من فمه وتصل الى مسامعها فتخبره بما يخشى ان يسمعه:.
ليلى؟، هل أجبروكِ بشكل او بأخر على الارتباط بي؟ ان كان كذلك فأرجوكِ اخبريني فنحن لازلنا في البداية. وصدقيني سأساعدك وسأقف بجانبك.
طرحت انفاسها براحة عندما لم تسمع اسم يزن في السؤال ولكنها عادت لتكتمها مرة اخرى وهي تستذكر تهديد جدها لها بعد يوم حفلة الخطوبة.
(لاتظني اني ابله او احمق ياليلى وسأعفيكِ من عقابي ان تم انهاء الخطوبة حتى وان كان مازن من ينهيها. فلاتقومي بالتلاعب والتخطيط من اجل جعله يكرهكِ لينفصل هو عنك وتكوني انتِ البريئة التي لادخل لها بالامر، انا احذرك. عاملي خطيبك بشكل جيد واجعليه يحبك فهذا من مصلحتك. لأنكما ان انفصلتما - بغض النظر عمن انفصل اولاً عن الاخر - فأني سأحرمكِ من دراستك بكل الاحوال، لذلك انصحكِ بأن تفعلي المستحيل لتحافظي على خطيبك).
عادت ليلى من شرودها على لمسة خفيفة من يد مازن فوق يدها المكورة جعلها ترتكب فوراً بفزع وتسحب يدها بسرعة بعيداً عنه مماجعل عينيه تلتمعان بشك اقوى ان مايظنه صحيح. عند هذه النقطة شعرت انها على وشك خسارة كل شيء. وهي تكفيها خسارة عشقها الوحيد الذي ُسلب منها فسلب كل معاني الحياة واخذ معه كل معالم السعادة التي لن تشعر بها مجدداً ألا معه لذلك لم تكن مستعدة لتخسر دراستها ايضاً. السبب الاخير الذي يجعلها تشعر انه لايزال هناك سبب لكونها لاتزال انسانة وامكانية استقلالها عن اسرتها بعد ذلك بوظيفتها. لذلك عليها ان تقتل نفسها هي ايضاً كما قتلتها عائلتها. عليها ان تصبح شخص لاتحب ان تكون عليه، كاذبة بارعة تستغل الاخرين من اجل الحفاظ على مصلحتها. فالجميع حولها يفعل هذا بها، فلما لاتفعل هي بمن حولها هذا ايضاً؟
جبرت نفسها ان ترسم ابتسامة لامعنى لها فوق ثغرها محاولة ان تضيف الثقة الى كلامها ليكون اكثر مصداقية لعله يصدقها. قالت بهدوء لتخفي صوتها المهزوز بينما يدها تعود لتمسك يده مي تنحر شكوكه بشكل نهائي:
لا اظن انه مع هذا التحضر في الوقت الحالي يامازن لا يزال هناك اجبار من هذا النوع. وماالذي قد يفعلونه ليجبروني ان اقبل بك؟ يسحبوني من يدي غصباً لتلبسني الخاتم؟
لا. ليس هكذا. لااعلم ربما اتخذو طريقة اخرى.
لايوجد شيء من هذا القبيل اطمئن، فلوكان هناك لأستغللت فرصة انك صارحتني بالامر وتفهمته وعرضت على مساعدتك.
احتلت ابتسامة عريضة ثغره وقال:
أحقاً حبيبتي؟
لهفته هذه كانت كالخنجر الذي انغرس ببطئ وقسوة في قلبها. ماذنبه هو لتستغله وتؤذيه لاحقاً عندما يكتشف الحقيقة؟ ولكن ماذنبها هي ايضاً لتحرمها اسرتها من كل ماتحب؟ ماالذنب الذي اقترفته بحقهم؟ لم تقترف. اذاً لاداعي ان يقترف مازن ذنباً لتستغله...
اجابته بذات الهدوء والابتسامة:
حقاً يامازن، وان كنت ظننت هذا بسبب صمتي الكثير ومشاعري الباردة فأتمنى ان تعطيني فرصة لأعتاد عليك. فكما تعلم لم يمضي على خطوبتنا الكثير.
فأجابها بأحراج:.
بالطبع. انتِ محقة تماماً. ولكني كنت قلقاً فحسب. اعني. انا ارى كثير من الفتيات في فترة خطوبتهن يكدن يمتن من السعادة واللهفة، ولكنك صامتة بشكل غريب، ان كانت هذه اطباعك فلابأس لست اعارض. ولكني اخشى ان وراء هذا الصمت حزن تخفيه علي.
تبسمت وقبل ان تمنحه اجابة قطع عليهما مناقشتمها رنين هاتفه. سحبه من جيبه فوجده رقم غريب فأجاب فوراً:
- الو؟!
- اهلاً مازن
قال بأستغراب:
- يزن؟
- اجل
- أهذا هو رقمك؟!
- اجل احفظه عندك. على اية حال. خطيبتك نست حقيبتها اليدوية
نظر نحو ليلى وقال:
- ألم تحضري حقيبتك حبيبتي؟
حبيبتي. نطقها مازن بأعتيادية واستقبلتها ليلى بعدم اهتمام، ولكنها احرقت الذي يسمعهم على الطرف الاخر!
نظرت في مقعدها تتأكد من صحة ما سمعت ثم قالت:
- يبدو اني كذلك!
فشغل مازن السيارة مجدداً وقال ليزن:
- حسناً، ابقيها معك من فضلك وسأتي لأخذها منك!
ليرد الاخر بأقتضاب حاد لم يستطع ان يسيطر عليه:.
- انا متعب يا مازن واريد العودة نحو المنزل. سأبقيها مع روان وتعال لأخذها!
- حسناً حسناً اهدأ!
فزفر يزن بضيق وهو يخفض نبرته فوراً بينما يقول:
- اعتذر، لم اقصد. على اية حال، الى اللقاء الان. سأذهب لأرى اين هي روان!
- حسنا، الى اللقاء!
انهى الاتصال ونظر نحو ليلى قائلاً:
- انزلي لترتاحي وسأذهب لأحضر الحقيبة!
بقيت تنظر له بتفكير. نعم هي ترغب ان تتركه وتذهب، ولكن خطتها اهم!
قالت بهدوء:
- ألن نخرج؟!
تبسم مازن بسعادة طفولية فشل بأخفائها وقال:
- أحقاً؟ ألا زلتِ ترغبين بالخروج؟!
- اجل. دعنا نتناول غدائنا معاً كما اتفقنا. لذلك دعنا نذهب للمستشفى لنأخذ حقيبتي وبعدها نذهب لمطعم ما!
حرك مازن السيارة وهو يقول بأبتسامة عريضة:
- حسناً عزيزتي!
قضى مازن الطريق كله يثرثر معها بمختلف الامور بينما هي ادّعت الانصات اليه!
وصلا الى المستشفى وحان الوقت لتطبق فكرتها. نزل وحده ليحضر حقيبتها فنادته فوراً. انزل رأسه ينظر لها من النافذة فقالت:
- هلا اعطيتني هاتفك لأتصل بأمي واخبرها بتأخرنا؟
-ألم تخبريها صباحاً اننا سنتناول الغداء معاً؟
- اجل فعلت. ولكن كما تعلم من المفترض اننا انهينا غدائنا الان ولكن بسب ما حدث نحن لم نذهب بعد لذلك بالتأكيد سنتأخر اكثر!
- اها فهمت!
وكأي شاب لبق هو اخرج هاتفه وناولها اياه وذهب ولم يستفسر منها لِما لم تنتظر ان يحضر حقيبتها لتتصل من هاتفها!
فتحت الهاتف واخرجت اخر رقم اتصل على مازن والذي لم يكن سوى رقم يزن وتمعنت به كثيراً الى ان حفظته جيداً. استغلت كل وقت ذهابه في حفظ الرقم وحين عاد اخبرته انها اتصلت. وبالتأكيد لثقته بها هو لم ينتبه بعدها لسجل المكالمات وحتى وان فعل كان سيظن انها مسحت المكالمة. هو ببساطة كان سيختلق لها الف عذر ومبرر. هكذا كان طبعه مع الجميع. كان ببساطة ذلك الانسان الذي يسامح من دون اعتذار ويساعد من دون مقابل ويضحك في الوقت الذي يجب ان ينهار ولا يسيء الظن من دون دليل. ربما هذا ما دفعها لاحقاً ان تكون اضعف بكثير من ان تجرحه فقط لتساعد نفسها!