رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل السابع
هل جربت في يوم ان تلتمس تغيير شخص كنت تدمنه بشدة؟ اتمنى انك لم تفعل. فالامر يكون مؤلماً جداً. مؤلم حد الموت!
ستشعر بوجع يقبض لك صدرك ويمنعك من التنفس. الامر يا صديقي سيكون اشبه الارتطام بالارض من مرتفع شاهق. الامر يا صديقي سيكون كأفلات يدك من طوق نجاتك الاخير. ولكي تلتئم تحتاج ان تنام كثيراً، تضحك كثيراً، تتجاهل كثيراً، وتبتعد كثيراً. كل هذا سيخنقك، لكن لا تقلق. بضعة ايام او اسابيع وستشعر ان ما يؤذيك قد ضمر بداخلك قاتلاً معه كل احاسيسك. ستدغو بارداً، قاسياً بردودك، ستغدو ما كنت تكره رؤيته بغيرك. ولكنه شعور جيد على اية حال!
- عزيزتي؟ هل انتِ معي؟!
سحبت جملة مازن ليلى من شرودها وهي تعبث بصحنها. نظرت اليه بجمود وكأنه شخص لا تعرفه، لطالما كانت تنظر اليه بهذه الطريقة قبل ان تتغير ملامحها فجأة وكأنه استوعبت وجوده.
سحبت المنديل لتلمس به فمها برفق ثم انزلته بينما تجيب بهدوء وابتسامة لتشتت استغرابه بمزاحها:
- انت تستمر بمناداتي عزيزتي او حبيبتي. أتعلم ما يعني هذا؟!
تبسم بينما يسألها:
- ماذا عساه يعني؟
- يعني انك لا تريد ان تخطأ بين اسمي واسم حبيبتك الفعلية. لذلك تستخدم هذه المصطلحات!
حك ذقنه مدعياً الارتباك وهو يقول: - هذه مساوئ ان ترتبط بواحدة ذكية!
فقالت متجاهلة تعليقه: - اذاً لم تنكر وجودها!
تنهد وهو يقول بجدية بينما يحافظ على ابتسامته: - ومن عساه لم يمتلك حبيباً في ماضيه؟!
وهنا حدقت بوجهه بابتسامة دافئة دون ان يكون عقلها معه فعلاً، بل بحبيب ماضيها هي!
- اذاً لم تعترضي. هل يعني ان لديكِ ماضي؟!
قالها بينما يرفع احد حاجبيه. اراحت ظهرها على كرسيها وسحبت عصير التوت خاصتها لتقول بينما ترتشفه: - وان كان كذلك؟!
حدق بعينيها قليلاً بينما اصبعه ينقر بضربات متساوية على الطاولة الى ان بسط راحته فجأة وقال: - لست مهتم لأعرف. انا وانتِ بداية كتاب جديدة. لا ابالي بما مزقناه من اوراق!
- وما ادراك؟ ربما لم امزق!
- لو انكِ لم تفعلي لم وافقتِ على الارتباط بي!
جاءت جملته هذه كالصاعقة عليها، انها المرة الاولى التي ترى نفسه بصورة الحبيبة الخائنة!
مد يده بهدوء وقبض على اصابعها وهي ترى شبح حزن يسيطر على عينيه الباسمة دوماً: - ليلى! انا اكثر شخص تعرض في حياته للخذلان. اكثر شخص يعشعش الحزن بصدره ورغم ذلك لا يبين الامر. لا تغرينك ضحكتي وسعادتي المصطنعة لتجرحيني دون ان تبالي، جرح اضافي سيقتلني يا ليلى. فلا تجربيه بي!
توسعت حدقتيها بينما قلبها ينقبض اكثر. هي لا تنوي جرحه فقط. هي تنوي كسر كل شيء جميل بداخله بعد بضعة اشهر فقط حين تنفصل بشكل نهائي عنه. ولن تنفصل بالتأكيد من غير اسباب. كأفتعال مشاكل، كأذيته لينفرها، كتجاهله بينما يحترق بنار شوقه. فكيف ستفعل ذلك وتجرح شخص مليء بالندوب مسبقاً؟ وهنا كانت عثرتها الاولى!
انتهوا من الغداء لترفض بعدها عرضه بإطالة مشوارهما بحجة انها متعبة!
استغرفت طريق العودة كله بالصمت مدّعية مراقبة الطريق كي لا يفتح معها حديث لن تستمع بأي حال اليه. واما هو فأدعى انه يستمع لتلك الاغنية، بينما هو في الحقيقة كان يفكر بصاحبة العيون العميقة التي يدمنها وكأنها قهوته الصباحية التي تبث كل النشاط والحماس به. انه يعشق ابسط تفاصيلها واصغرها. لطالما كان يتعذر ايام الدراسة بأنه لم يفهم موضوع معين - هو قد فهمه مسبقاً - فقط من اجل ان تشرحه له. كي يكون قريباً منها كفاية ليثمل انفاسه بعطر شانيل الذي تفضله. انه يشم هذه العطر كثيراً، ولكن لا يعلم لما يصبح مميزاً بهذا الشكل حين تضعه هي!
تذكر ذلك اليوم المشؤوم حين مات والديها في حادث لتغدو وحيدة. تذكر كيف تشبثت بقميصه طوال يوم كامل بينما تجهش ببكاء متواصل وكأنها تخشى فقدانه هو الاخر، كيف كانت ترتعب حين يسافر لمكان ما تخشى من انه لن يعود كما حصل مع والديها، فتنهال عليه بالاتصالات كل عشر دقائق كي تطمئن. كم كان يتلذذ بغيرتها الصامتة ونظراتها الحارقة حين يخوض حديث اعتيادي مع اي زميلة. ولكن نظراته لم تكن صامتة حين تتحدث هي مع احدهم. كان يختلق الف سبب ليتشاجر معها، دون ان يخبرها حقاً انه يغار. ولكنها ببساطة كانت تفهم ذلك، وكيف عساها لا ان لاتفهم شخص عاشرته كل هذه السنين؟ شخص تراقبه على مدار اليوم لتحفظ ابسط تفاصيله. كانت تدّعي انها ساخطة من عصبيته المفاجئة من دون سبب. ولكنها كانت تبتسم خلسة حتى تكاد تصرخ كالمجنونة لتعبر عن سعادتها، لتختلق هي الف سبب بالمقابل لترضيه. لتثبت له بطريقة غير مباشرة ان لا احد سينافسه!
- مازن؟!
انتبه من شروده على نبرة ليلى فقالت من فورها:
- لقد ادخلتنا بالشارع الخاطئ بالمناسبة!
انتبه على نفسه وضحك على بلاهته كيف انها لا تزال تمتلك القدرة على قطع صلته بالواقع ما ان تخطر بمخيلته!
- اوه اسف. يبدو اني شارد الذهن!
رفعت حاجبيها بتعجب بينما تقول:
- شارد الذهن؟ وانت تقود؟ جيد انك نبهتني كي لا اصعد معك مجدداً!
ضحك وهو يقول:
- يا ابنتي انا استطيع القيادة مغمض العينين!
تبسمت لطريقته في الحديث دون ان تقاوم فعل ذلك. شخصيته اللطيفة تجبرها دائماً ان تكون لينة التعامل معه، ليس فقط كي لا ينفصل عنها قبل التخرج انما لأنها تريد ان تكون باردة معه فحسب. رغم ما بداخلها من جحيم ألا انها تخمده فوراُ حين تتعامل معه. فهو لا يستحق ابداً ما تخطط له. وكم كان هذا يقتلها!
ودعته وهي تكتم عبرتها بصعوبة ونزلت من السيارة تتمسك بحقيبتها بقوة وكأنها ستسقط ان سقطت منها. دخلت الى المنزل بملامح جامدة دون حتى ان تلقي التحية على والديها في الصالة او تستجيب لندائات والدتها. دخلت الغرفة وسمعا صوت دوران المفتاح في الباب. حدقا ببعضهما وهم يعرفان ماسيحصل لاحقاً. فهي على هذه الحالة منذ خطوبتها.
وبالفعل. لحظات قليلة مضت حتى سمعا صوت تكسر الزجاج يتبعه صوت صراخها وبكائها وروحها المحترقة بالالم.
تخرج مع مازن مبتسمة والجميع يحسد سعيدة الحظ هذه، وما ان تختلي بنفسها حتى تنزع قناعها وتجهش بكل ذلك الالم والكذب الذي هي بخضمه ومجبرة على خوضه!
رمت جيهان المجلة من بين يديها وانتفضت من مجلسها ناظرة نحو وجه زوجها المقتضب والمحتقن بالدماء وهو يرى نفسه عاجز وقليل الحيلة لايستطيع مساعدة ابنته الوحيدة.
قالت وقد فقدت اعصابها تماماً:
والان ماذا يااحمد؟ نشاهدها ببساطة تضيع من بين ايدينا ونحن واقفين نتفرج؟
قام بنفور من مجلسه ومرر اصابعه بأستياء من بين خصلات شعره المختلط بياضها مع سوادها وقال:
وماذا بيدنا لنفعل يا جيهان؟ تعلمين اوامر ابي ومدى صارمتها وتعلمين عقاب من سيخالفه!
وماذا بأستطاعته ان يفعل؟ يقوم بقتلنا مثلاً؟
ليس قتلنا. ولكن هذا المنزل الذي نسكن فيه مسجل بأسمه وعملي معه. ان خالفنا اوامره فعلينا ان نتخلى عن هذا كله
وان يكن؟ فلنتخلى. ام اننا سنشاهد ابنتنا تتعذب من اجل ان نحظى بالاموال والرفاهية؟ فلنعش بمنزل اصغر ولتجد انت لنفسك عمل اخر ودعنا نبتعد عن حكمه الجائر ارجوك.
لما تفكرين بالامر من هذه الناحية؟ لما نتخلى عن كل شيء تعودنا عليه من اجل امر انا متأكد ستنساه بعد شهر او حتى سنة؟ أتستطيعان ان تعيشا حياة ابسط واموال اقل؟ أيمكنني انا ان اعمل عمل أخر قد يكون متعباً لي وبأجر زهيد؟ ومن اجل ماذا؟ هي ستنساه يا جيهان. ستتألم. ستصرخ. دعيها تفعل هذا فهذا سيريحها. ولكن الايام كفيلة بأن تجعلها تنساه صدقيني. دعينا لاندمر حياتنا كلها من اجل بضعة ايام او اسابيع. دعينا نصبر وكل شيء سيحل بإذن الله، مازن شاب جيد انا متأكد انه سينسيها يزن. ألم افعل انا الشيء ذاته يا جيهان؟ انظري الى حياتي الان. انها أسعد حياة عشتها. ياترى أكانت لتكون سعيدة هكذا لو اني ارتبطت بغيرك؟
عادت جيهان لتجلس بقلة حيلة. نعم هي ستنسى. فأحمد قد نسى قبل سنين عديدة ايضاً، تذكرت الجحيم الذي عاشته بداية زواجهما من معاملة احمد لها لأنه كان واقع بغرام غيرها واجبره والده على الزواج منها. في البداية اعتبرها الزوجة التي حرمته من الانسانة التي احبها. ولكن مدة قصيرة فقط حتى بدأ يقع احمد في غرامها بشدة ونسي امر تلك الاخرى تماماً ولطالما كان يردد هذه العبارة على مسامعها من انه لن يكون سعيداً ابداً مع اي واحدة سواها. طوال هذه السنين الطويلة من الزواج وهو لا يمل من بث العبارة على مسامعها وكأنه يبثها ندمه لأنه وقع بغرام غيرها في يوماً ما حتى وان لم يكن يعرفها...
نعم ليلى ستنسى. وستعيش مع مازن ايام اجمل مما لوكانت ستعيشها مع يزن. اذاً فلتصرخ. فلتبكي. فهذا سيساعدها على النسيان، هذا ماجلست جيهان تقنع نفسها بها دون ان تقتنع فعلاً. هي تعلم مايعنيه يزن لليلى، تعلقت به منذ طفولتها. ولم تعرف حبيب غيره في مراهقتها ولم ترى غيره في شبابها، انه الرجل الوحيد الذي عرفته واحبته طوال العشر سنوات. كيف ستنسى اجمل عشرة سنوات من عمرها ببساطة؟
حل الظلام واكتنف ارجاء الغرفة مغلفاً روح ليلى معه. لاشيء حولها سوى الظلام، تنام فوق الارض لاتشعر حتى ببرودتها وتحتضن ركبتيها الى صدرها. هذه هي عادتها ان شعرت بالوحدة. تلتجأ الى ركبتيها فوراً لتحتضنهما الى صدرها فهي لن تجد من يحضنها ويواسيها، شعرت بجفاف دموعها الساخنة فوق وجنتيها المحتقنتين واحست بجفاف بلعومها من كثرة الصراخ والبكاء. لاترى شيئاً ولاتسمع شيئاً. كانت تبدو وكأنها بعالم اخر يفصلها عن كل الوجود الحالي ولم ترد حتى على طرقات امها المتواصلة منذ الظهيرة الى الان. فجأة رفعت جسدها من فوق الارضية وحدقت بنظرات فارغة وعميقة بأتجاه هاتفها. ومن دون التفكير مرتين سحبته وضغطت رقم حفظته.
انصتت لرنينه كما تنصت لموزارت في الصباح وقلبها يرفرف بجانبها الايسر بقوة.
لاتعلم لما اتصلت بالضبط. ألانها مشتاقة وتتلهف لسماع صوته مجدداً؟ ام لتصحيح سوء الفهم فحسب؟
توقف الرنين. توسعت عينيها بتوتر. نعم هذه صوت انفاسه على الخط الاخر.
- الو؟!
قالها يزن بصوت ناعس وهو يرد على هذا الرقم الغريب فأرتجف جسدها فوراً وكأنها ستحادثه لأول مرة في حياتها. نعم هي مشتاقة. وتعلم انه كذلك ايضاً!
- مرحباً يزن!
قالتها بتلعثم ليسترق هو بضع ثواني من الزمن قبل ان يستعدل بجلسته حين ادرك انها هي!
وبدل ان يكون صوته مشتاق وملتاع، كانت نبرته بدل ذلك جافة ومقتضبة وهو يجيبها:
ماذا تريدين؟.
اغمضت عينيها بقوة لتسقط لها اشلاء دموع لا تزال متبقية بين حدقتيها. اخذت نفساً عميقاً لتظهر صوتها متماسكاً قليلاً ثم مسحت دموعها بيديها المرتجفتين وقالت:
يزن. انا احتاج التحدث اليك!
- وماذا بقي بيننا من مواضيع لنتحدث بشأنها يا ليلاي؟
قم اردف فوراً بسخرية:
- اقصد ليلى، نسيت انكِ لم تعودي شيء يخصني لأتملككِ وحدي!
وهنا اجهشت ببكاء اقوى وهي تقول بأنفاس متقطعة:
- يزن اقسم لك ان جدي هو من اجبرني على ذلك. لقد هددني اما ان ارتبط بمازن او اترك دراستي. فما الذي كنت تريد مني فعله؟!
فصرخ بوجهها:.
- هل تظنين ان هذا مبرر لشناعتكِ وخيانتكِ لي؟ لقد فضلتِ اسرتكِ على حبنا وتفهمت وضعكِ. والان حتى الدراسة فضلتها علي؟!
- ليس فضلتها عليك. لكنني احتاج الوظيفة. احتاجها لأستقل بحياتي بعيداً عن جدي واوامره!
فقال بمرارة:
- نعم. مع مازن!
لتجيبه بحزم:
- لقد اشترطت عليهم اننا لن نتزوج انا ومازن ألا بعد ان انهي دراستي!
- وماالذي قد يعنيه هذا؟!
- هذا يعني اني سأنفصل عنه بعد دراستي مباشرةً ولن اتزوج به!
سكت لثواني مصدوم بما سمعه ثم قال باستنكار:
- من انتِ بالضبط؟ متى اصبحتِ لديكِ هذه الانانية وحب الذات؟ ألا تبالين بما سيحصل لمازن؟!
فصرخت به:
- لماذا ابالي؟ هل اهتم احد بي لأهتم انا بمن حولي؟ جدي لا يهمه سوى ان يشفي غليله من جدك وابي لا يهمه سوى ان يحافظ على مستواه الاجتماعي وانت تركتني ورحلت من غير ان تواصل بيننا. تركتني وحيدة بخضم كل هذه المشاكل والقرارات. فماذا كنت تتوقع مني؟!
فصرخ بها:.
- كنت اتوقع ان تنتظري عودتي. لقد رحلت من اجلك وقمعت شوقي اليكِ فقط كي لا يؤذيكِ جدكِ ان تواصلنا. اغتربت لسنة كاملة وانا اتوقع اني سأعود واجدكِ لا تزالين مخلصة لي
- انا كنت ولا زلت وسأبقى مخلصة يا يزن! انها مجرد فترة خطوبة!
وهنا صرخ بها بأعلى ما يمكنه من صوت لدرجة انها ابعدت السماعة قليلاً عن اذنها:
- مجرد فترة خطوبة، مجرد لمسة يد، مجرد قبلة، مجرد عناق، مجرد مشاوير معاً.
ثم ارتفعت نبرته اكثر وهو يكمل:.
- في كل لحظة تمر عليكِ وانتِ معه انا هنا اموت واحترق!
فصرخت بدورها ولكن بدموع معاكسة لغضبه:
- وانا مت مسبقاً يا يزن، اكره نفسي لأني اصبحت لغيرك واكره نفسي لأني استغل مازن واكذب عليه. واكره كل شيء بي. ولكن ما ذنبي انا بخضم هذا كله؟ لِما يفكر الجميع بما يؤذيهم دون ان يبالوا بما يؤذيني انا؟!
اغمض عينيه الدامعة وشعر ان هناك نيران تحرقه وتتركه رماداً وسط رياح عاصفة، شعر بالترجي والاستغاثة بنبرة صوتها. ولكن ليس من طبعه الخيانة. لايمكنه طعن صديقه في ظهره. لايمكنه ان يتعلق بها اكثر او يدعها تتعلق به. عليه ان يبتعد. عليه جعلها تكرهه كي تبتعد عنه ولاتضعفه اكثر.
ادّعى البرود والتماسك فجأة وهو يقول:
انسة ليلى. ارجوك ان لاتتصلي مجدداً. ليس بيننا شيء لنتحدث بخصوصه بعد الان.
ضعف صوتها بالبكاء على الطرف الاخر وهي تقول:
يزن. ارجوك لاتفعل بي هذا. هم من اجبروني على هذا اقسم لك.
هتف بها بأنفعال مجدداً:
ليلى!
لايمكنه تحمل بكائها. لايمكنه سمع استغاثتها. لايريد ان يضعف. عليه ان ينسى وألا سيتأذى ثلاثتهم من دون نتيجة يصلون اليها. ستكون اذية من دون فائدة...
كان هتافه كفيلاً بأخراسها فأستغل الفرصة واكمل بأنفعال:.
ماتفعلينه خاطئ. انت خطيبة صديقي الان ياليلى ولم تعودي تخصيني بشيء، لقد خنتني من قبل لذلك لن تجدي مشكلة الان في خيانة صديقي ايضاً، ولكني لست خائناً مثلك. لايمكنني ان اغدر صديقي واطعنه في ظهره. لذلك رجاءاً لاتتصلي بي مجدداً ولاتتجاوزي حدودك معي وفكري بمازن قبل ان تفعلي شيئاً كهذا مرة اخرى، رغم ان من مثلكِ لاتستحق شخصاً مثل مازن...
ثم اغلق الهاتف اول ماانهى كلامه.
رغم انقطاع الاتصال ألا انها كانت لاتزال تضع الهاتف على اذنها، كانت عينيها مفتوحة على اوسعها بذهول وصدمة، هذا ليس يزن على الاطلاق. ماذا حل للناس من حولها؟ لما الجميع تخلى عنها هكذا؟ تلك الكلمات القاسية، تلك النبرة الباردة، هذا الجفاء. أيعقل انه الشاب ذاته؟ أهو من تغير ام هي الحمقاء؟ لم يعطيها فرصة للتتحدث. لتخبره بالجحيم الذي اجبروها ان تعيش فيه. أيظن انه وحده من يعش بهذا الجحيم؟ أيظنها سعيدة؟ أيظنها نسيت امر الدموع من بعده؟
وفجأة تلاشت علامات الصدمة شيئاً فشيئاً عن وجهها بعد ان بدأ عقلها يستوعب كلامه، هل اصبحت رخيصة بنظره لهذه الدرجة؟ اقترب حاجبيها من بعضهما البعض وتعانقا وتجهم وجهها بملامح القسوة والبرود واصبح هاتفها ضحية لغضبها بضربة بالجدار. قامت كالمجنونة تتجول ذهاباً واياباً في انحاء الغرفة تمرر يديها بأرتجاف من بين خصلات شعرها وتقبض عليهن بقوة لعل الالم يوقظها من هذا الكابوس الذي تعيشه. كابوس قلب حياتها رئساً على عقب، كانت تسير وتتنفس بصعوبة وتكسر كل مايعترض طريقها وتصرخ بهستيريا. لايمكنها التحمل اكثر. لم تعد تطيق هذا الجحيم. عادت لصراخها كالمجنونة مجدداً ونثرت اغراضها بغضب كل غرض بجهة حتى اصبحت الفوضى تعم الغرفة مثلما تعم حياتها...
كانت ليلة سيئة اخرى تقضيها ليلى وسط الصراخ والنحيب وتغفو واثار دمع تتراكم عند جفنيها تنتظر رفيقاتها ليهطلن بقسوة لعلهن يخففن عنها نيرانها المستعرة...
ستعيش الحياة التي يجبرها الجميع ان تعيشها. فليس لديها ماتخسره بعد الان، ولكن. هل ستسطيع؟ أستكون خائنة حقاً كما اخبرها يزن؟!
طرقات متواصلة ممتزجة مع نور الشمس المزعج فوق عينيها قد ايقظها من عالم احلامها الذي تعيشه مبتعدة عن واقعها المظلم، فتحت عينيها بتثاقل ثم اعادت اغلاقهما مرة اخرى وهي تنوي تجاهل ندائات والدتها، ولكن جملة امها الاخيرة قد اجبرتها ان تفتح عينيها مرة اخرى بينما كانت تقول لها:
عزيزتي مازن يريدك على الهاتف.
عاد في مخيلتها شريط ليلة البارحة وضربها للهاتف بقوة في الجدار مما ادى الى انطفائه وهذا ماجعل مازن يتصل على هاتف والدتها عندما وجد هاتفها مغلق. قامت بتثاقل من سريرها وفتحت الباب فأطلت والدتها تكتم سماعة الهاتف كي لاينساب صوتيهما الى مازن وقالت بصوت شبه هامس:
لما هاتفك مغلق؟ خطيبك يتصل بكِ منذ ساعة؟
وقعت عينا جيهان على الدمار الذي حل بالغرفة ووقعت عينيها على الهاتف المرمي فوق الارض بين هذه الانقاض. زفرت بضيق ثم قالت:
فهمت.
ثم مدت الهاتف بأتجاهها فسحبته ليلى ببرود وعادت مرة اخرى نحو سريرها وتحدثت الى مازن:
اهلاً مازن.
اجابها بلهفة:
صباح الخير حبيبتي
اهلاً صباح النور.
كيف حالك اليوم؟
بخير الحمدلله. شكراً لك.
هذا جيد، اسمعي هل لديكِ شيء هذه الليلة؟
كادت ان تتخذ اي عذر لتقوله له كي لايطلب منها ان يخرجوا بمشوار. ولكن الى متى سيستمر هذا الوضع؟ والى متى ستتمكن من الهرب منه؟ لذلك اختصرت الامر وقالت:
انا متفرغة.
احست بالحماس يكتنف نبرته وهو يقول:
هذا رائع. اذاً سأمر عليكِ في الساعة السابعة لنخرج.
الى اين؟ اعني. من اجل ان ارتدي ملابس مناسبة.
السيدة منى والسيد خليل يقيمان حفلة بمناسبة عيد زواجهما. انها حفلة عائلية في العادة ولكنهما اقاماها هذه المرة في قاعة خاصة ودعو بعض اقربائهم بالاضافة لي ولروان وخطيبها!
سكون. ولاجواب. مجرد نقطة ركزت عينيها بداخلها من دون ان تتحرك او تستمع لبقية حديث مازن او حتى لن تهتم بسؤاله من روان. عادت بها الذكريات الى سنين مضت. الى اول حفلة ذكرى زواج منى وخليل تحضرها ليلى برفقة يزن. تذكرت كم بدت فائقة الجمال في يومها. ابهرت جميع الحضور بفستانها الاسود الذي منعها يزن منه الى الابد لأنه جذب نظر الشباب اليها. بل انه منعها ان ترتدي الاسود مجدداً في المناسبات التي تحوي الشباب لأنه متأكد انها ستجذب انظار الكل اليها، غزت عقلها جملته التي تخلدت في ذاكرتها من يومها، (سنفعل كما يفعل امي وابي، حتى وان بلغنا الخمسين سنحتفل بعيد زواجنا، لأنه سيكون اسعد ذكرى في حياتي ستستحق ان احتفل بها كل عام، ولو لم يكونوا سيسموني مجنوناً لأحتفلت بها كل يوم. فكل يوم معكِ هو عيد بالنسبة لي يستحق ان احتفل به).
وقعت دموعها من دون وعي منها وبقيت ذكرياتها عالقة في ذلك الماضي الذي اصبح يؤلمها كلما قارنته بجحيمها الحالي، سحبها قصراً ندائات مازن المتتالية:
ليلى؟ ليلى؟ أأنتِ معي عزيزتي؟
مسحت دموعها فوراً واخرجت انفاسها المهزوزة لتستبدلها بأخرى متماسكة وقالت:
اجل معك. انا فقط شردت قليلاً.
بماذا؟
انت تعلم هوس الفتيات. لابد ان نفكر منذ الان بالملابس وكيف سنتجهز.
قهقه ضاحكاً لمزاحها. غير مدرك انه مجرد عذر واهي لتبعد عنه التساؤلات التي سيقحمها بها.
ختمت المكالمة ببضع عبارات طيبة لم تكن عطوفة بقدر ماكانت نادمة لتحولها لشخص مستغل ومخادع لاتحب ان تكون عليه. ولكن مع الاسف هذه هي الطريقة الوحيدة لتستمر في هذا العالم البارد من دون ان يحرق لها اخر بضع اوراق تملكها لعلها تربح بها.
خرجت نحو المطبخ حيث والدتها هناك تقضي بعض الاعمال والقت بالهاتف بأهمال فوق المائدة وجلست على الكرسي تحضن رأسها بين كفيها وتنزل وجهها للأسفل لعلها تتخلص من هذا الصداع القاتل.
دقائق قليلة ووضعت والدتها كوب القهوة الساخنة امامها ثم عانقتها من الخلف واستندت بذقنها على قمة رأسها وقالت بتألم:
تعلمين كم تؤذيني رؤيتك بهذا الشكل.
مسحت ليلى برفق فوق يدي والدتها وقالت:.
اسفة امي. ولكن لايمكنني ان ادعي التماسك وانا مهشمة.
اعلم ياحبيبتي اعلم، انها مجرد فترة سيئة، لابد ان تنتهي. لابد ذلك...
اغمضت ليلى عينيها وتركت نفسها لتحظى بهذا الدفئ والامان بين يديها...
وفجأة قطعت جيهان كلماتها التي اوشكت على طرحهم وهي تشاهد ابنتها تنسل من بين يديها وتقوم راكضة بأتجاه الحمام وهي تضع يدها على فمها. تبعتها فوراً مسرعة فوجدتها تفرغ كل ماتحويه معدتها داخل المغسلة. مسحت جيهان برفق على ظهرها وقالت بصوت حاني:
هل انتِ بخير عزيزتي؟ أتشعرين بالغثيان؟
انهت ليلى غسل وجهها ثم اومأت برأسها بالنفي وقالت:
لا اشعر بالغثيان لا تقلقي.
ربما قد اخذتِ نزلة برد ليلة البارحة، هل تشعرين بألم في بطنك؟
فأومأت مرة اخرى ب لا ثم اكملت لتنهي استجواب والدتها القلق والذي لن ينتهي ألا بعد ان تعرف ماخطبها:
لربما اكلت شيء تحسست منه معدتي.
ولكنك لم تفطري بعد؟
لقد بكيت كثيراً البارحة لربما بسبب ذلك تدهورت معدتي.
ولكنها المرة الثالثة التي تتقيأين فيها هذا الاسبوع فجأة من دون غثيان ودون حتى ان تأكلي شيئاً. لربما تعانين اضطراباً في المعدة دعيني اخذك الى الطبيب.
خرجت من الحمام تردد بتذمر:
وهل انا صغيرة ياامي لتأخذيني الى الطبيب؟ انه مجرد تقيء فحسب. تعلمين اني اكره الاطباء والمستشفيات.
مطت جيهان شفتيها بقلة حيلة، نعم هذه هي ابنتها العنيدة التي لم تكن تطيع احد بأمور كهذه سوى يزن.
جلست بجانبها على الاريكة ومسحت على شعرها برفق وقالت:
حسناً حبيبتي. ولكن ان تكررت هذه الحالة مجدداً فلن اسمح لكِ بالمعارضة ويجب ان نراجع طبيباً.
لاتبالغي امي انه مجرد تقيء حتى وان تكرر عشر مرات فماالشيء المقلق فيه؟
احاطت جيهان وجه ابنتها بين كفيها وقبلتها من جبهتها بحنان وعطف وقالت:.
عندما تصبحين ام ستفهمين كيف تقلق الام على صغيرها. لاسيما ان كانت لاتملك غيره. حتى وان خُدشت يده فحسب ستتمنين لوانك تحضرين طبيباً ليعالجه وتضعيه في الفراش مدة اسبوع كامل لحين يختفي الخدش، عندها فقط سيطمئن قلبك عليه، فكيف الامر لوكان تقيء مستمر من دون اسباب؟
تبسمت ليلى ووضعت رأسها بين احضان والدتها وعانقتها بقوة وقالت:.
هذا ليس قلق جميع الامهات. هذا قلقك انتِ فقط. فلااظن ان هناك واحدة تمتلك قدر الحنان ذاته الذي تملكينه.
مسحت والدتها برفق فوق شعرها وقالت:
انا احبك كثيراً صغيرتي. اريدك ان تتذكري هذا دوماً، اياكِ ان تنسي ذلك، ابداً...
لاتقلقي، لن افعل. فأنتِ ترددين هذه الكلمة عشرون مرة في اليوم امي حتى اني حفظت تعابير وجهك عندما تكونين على وشك قولها.
ضحكت والدتها وقرصتها من كتفها برفق وقالت:.
لو انكِ فقط ترحمينا من تعليقاتك الساخرة!
دقائق مرت على ليلى وهي بين احضان والدتها وكأنها تلتجئ بها لتشعر ببعض الامان ولتحميها والدتها من آلسنة النار الملتهبة التي تحرق كيانها في هذا العالم. فجأة اختفت الابتسامة عن وجهها وانسحبت الطمأنينة من بين ثنايا قلبها وعادت ملامح البرود تكتسي ملامحها مع سؤال والدتها العابر:
حول ماذا اتصل مازن؟ قال لي انه امر ضروري.
سحبت ليلى نفسها ببطئ من بين احضانها وحدقت امامها ثواني بصمت ثم قالت بوجه متجهم:
نحن مدعوين لحفلة.
ارادت جيهان ان تبثها بعض الحماس وهي تقول لها بفرحة وتشجيع:
يبدو هذا رائعاً! بالتأكيد ستستمتعان بوقتكما كثيراً.
التفتت اليها ليلى ببرود وهدوء وحدقت فيها بملامح جامدة، نعم، فوالدتها لاتعلم بعد لأي جحيم ابنتها ستذهب فلما لاتكون سعيدة؟.
قالت ليلى وكأنها كانت تخاطب نفسها:
اجل. سأستمتع كثيراً.
تركت والدتها وسط استغرابها من تحول ابنتها فجأة الى ملكة الثلج من البرود والقسوة التي ظهرت على ملامحها ودخلت نحو غرفتها مغلقة الباب خلفها وتوجهت مباشرة نحو خزانتها وفتحت ابوابها على مصراعيها...
تركت الابيض والاحمر والفيروزي وتجاهلت الاخضر ولم يجذب انظارها ويسيطر على عقلها سوى الاسود. سحبته من بين مجموعة الملابس المصطفة بجانب بعضها. اخذته ووضعتها امام صدرها وحدقت بصورتها في المرآة. اكمام طويلة، مغلق الصدر والظهر. نعم انيق. ولكن ليس هذا غايتها. فهذا سيستفز يزن بلونه فقط. وهي تريده مستفز من كل الجوانب.
رمته جانباً واتجهت مجدداً نحو الخزانة واختارت غيره وبالطبع كان اسود ايضاً. عادت مجدداً نحو المرآة. لا، هذا محتشم جداً ايضاً، رمته بجوار الاول ووقفت امام خزانتها بحيرة. كل ملابسها كانت طويلة الاكمام ومغلقة من كل الجوانب بالكاد تكشف رقبتها فهذه كانت قوانين يزن الصارمة في الملابس وحتى بعد انفصالها عنه لم تكن تشتري شيئاً تعلم انه سيرفضه ان كان موجوداً. فلمدة 10 سنوات كانت معتادة على هذا النوع من الملابس فكيف ستجد في خزانتها ماتسعى اليه؟ اذاً غايتها لن تجدها في المنزل. غيرت ملابسها بسرعة وخرجت من اجل التسوق.
دخلت الى المركز التجاري وكل ماطلبت ان تراه هي فساتين سوداء. تم عرض اكثر من عشر فساتين عليها لم تنل رضاها واخيراً وجدت بغيتها في الفستان الحادي عشر. وبالطبع اسود اللون مع اكمام من الشيفون تغطي كل يدها وتبرز من تحتها بشرتها البيضاء ويكون ضيقاً في منطقة الصدر ثم يتسع كفساتين الاميرات من منطقة الخصر. عدا انه ليس طويلاً كفستان الاميرات. كان بالكاد يغطي ركبتيها، كان مغلقاً من الامام ولكنه يغطي ظهرها الى المنتصف تقريباً اما القسم العلوي من ظهرها فكان مكشوفاً، بالطبع اختارت معه حذاء ذو كعب رفيع اسود اللون وحقيبة يدوية باللون ذاته، كانت تبدو باهرة الجمال في هذا الزي لاسيما ان لون بشرتها الابيض قد برز اكثر بسبب لون الفستان الغامق.
عادت نحو المنزل بأبتسامة زهو ونصر. ستحرقه ببطئ وتعذبه لسببين. الاول انها ستثير غيرته وتجبره ان يتخلى عن تماسكه الذي تعلم جيداً انه لن يتحمله طويلاً ويتحدث اليها. والثاني انها ستنتقم من حديثه اليها ليلة البارحة. ستشعره انها قوية ولن تسمح لأحد ان يتحكم بحياتها مجدداً ويهينها ويشعرها بمدى رخصها. فهي ليست كذلك على الاطلاق، لاتستغربو. ألم احذركم ان الحب يقتل. ان الحب دموي، هو عبارة عن معركة محتدمة بين روح واحدة داخل جسدين مختلفين. كل جسد يسعى لحرق الاخر بحبه. ليثير جنونه به اكثر. اياكم ان تظنو ان الحب هو عالم من السعادة، انه الجحيم قد فتح بوابته على مصراعيها!