رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل السادس والعشرون
جلس خلف مكتبه يحدق بتلك اللوحة التي حصل عليها هدية من والدته المحبة للفن بعد توظيفه في هذه المستشفى.
كانت لوحة مليئة بالالوان ومبهجة. ورغم ذلك بدت باهتة ومسلوبة الحياة. كبقية الاشياء التي تقع عليها عينيه. كل شيء بلا معنى وكأن الوجود فقد واقعيته على غفلة منه!
- لن يتغير نوع الشجرة ولا لون السماء.
التفت نحو صوت روان القادم من الباب والتي أكملت بينما تتقدم نحوه ويديها تستقران في جيب ردائها الطبي:.
- كلما دخلت مكتبك أجدك تحدق بها وكأنها ستتغير أن فعلت ذلك مطولاً.
رفع كتفية بعدم مبالاة:
- أنا فقط أركز نظراتي بشيء ما بدل أن أبدو كالأحمق وأنا أحدق بالفراغ!
نظرت نحو سطح مكتبه وسحبت تلك الاوراق المرتبطة ببعضها بشكل مميز والتي حفظت شكلها منذ ليلة عيد ميلاده وقالت:
- لا زلت تكتب لها هذه الرسائل.
ثم نظرت له مستأنفة:
- ألا تنوي أبداً جعلها تغادر درج مكتبك وأرسالها لها؟!
تحرك بخطوات متباطئة وتهالك جالساً فوق كرسيه وقال بذات بؤسه:
- وما الفائدة أن فعلت؟ هل سيغير شيئاً؟!
تتهدت بأسى وقالت:
-، لا تزال ترفض عرضك للزواج؟!
- أجل. ولكني لا آخذ رفضها بعين الأعتبار. سأجبرها أن اضطررت لذلك!
- ربما عليك رؤية الامور بعينيها.
نظر لها مستفهماً فاستأنفت:.
- لم يتبقى لها شيء يا يزن. لقد خسرت المعركة على اية حال لذلك تريد تقليل خسائرها فقط. لا حلم ستعيش من أجله ولا أمل في الغد. لذلك لا تريد أن تحطم أحلام غيرها في طريقها للسقوط والانهيار.
- إلى ما ترمين يا روان؟
- ببساطة اجعلها لمرة واحدة تقرر ما يجب فعله. دعها تتخذ القرار بنفسها ولا تستغل عاطفتها لتجبرها على شيء ربما ستعيش ما تبفى من حياتها نادمة لأنها اتخذته.
-نادمة لأنها ارتبطت بي؟!
- نعم. ولكن ليس بالطريقة التي تفكر بها. بل لانها ستجعلك شديد التعلق بها.
- أكثر من تعلق عشر سنوات؟ تظنين هذين الشهرين سيزيدان أو ينقصان من حبي شيء اتجاهها؟!
- ربما. من يعلم؟!
0
قام منتفضاً من مكانه قائلاً بحدة: - كفاكِ هراء!
فردت ساخطة: -لِما حين لا يتوافق الكلام مع رأيك تعتبره هراء؟!
-لأنه كذلك!
زفرت بضيق واكتفت بالصمت دون الدخول بنقاش عقيم معه وهو في حال كهذه!
سكت هو بدوره للحظات أخرى ثم التفت إليها مغيراً مجرى الموضوع:
- هل اتصلتِ بمازن؟!
قالت متهكمة:
- وهل يجب على أن أفعل؟ وأن فعلت تظنه سيرد؟!
- والحل؟!
-سأذهب الى شقته. اتصلت بوالدته وقالت أنه عاد قبل ايام اخذ ملابسه وذهب نحو شقته.
كانت نظرة يزن اعتيادية ومتفهمة ولكنها رغم ذلك شعرت ببعض اصابع الظنون المتجهة اليها فقالت مبررة:
- أعني على أحدنا أن يذهب إليه. ولا اظنك المناسب لهذه المهمة.
تأفأف بتعب:.
-هذه المرة سيرديني قتيلاً!
-وهذا من حقه!
نظر إليها مستنكراً: - أأنتِ من تقولين هذا رغم إنكِ عايشتي الوضع لحظة بلحظة وعرفت ما حصل فعلاً.
-أسمع أنا لا ألقي اللوم عليك. أنا مذنبة كما أنت. ولكن مهما كانت أعذارنا فهي لا تبرر ابداً ما فعلناه!
فقال بضجر:
-روان بحق السماء فقط أغربي عن وجهي واذهبي إليه. لست أطيق المواعظ الان.
تنهدت بملل وخرجت بصمت من المكتب قاصدة شقة مازن. الشخص الوحيد الذي ستقصده الاف مئات ولو اوصد الباب بوجهها الاف المرات.
الحب احياناً كثيرة - أن لم يكن غالباً -يكون خالي من أي منطقية. لا أبالغ حين اقول أنك حين تحب فأنك تحب فحسب. الأمر بهذه البساطة والتعقيد
انه مليء بالعيوب
أنه مزعج
حاد المزاج
متشائم
يناقضك
ولكن؟!
ولكنك تحبه، بهذه السذاجة والسخافة...
لماذا لا تكف عن الذهاب في كل مرة يطردها؟ لماذا لا تتخذ موقف جاد في كل مرة يجرحها؟ أنهالا تعلم. ما تعلمه أنها بحاجة لوجوده في حياتها ليمتلئ ذلك الفراغ الشاسع بداخلها ولتزهر صحراء روحها الجافة
وصلت شقته ولا تنكر ذلك الارتباك الطفيف الذي لامس اطرافها وهي تضغط على زر الجرس مرتين متتاليين.
كانت تعلم أنه سيترك منزل اسرته وسيتواجد في شقته وأكد ظنونها رؤية سيارته أسفل البناية.
كان مازن على الطرف الاخر من الباب يجلس وحيداً قابعاً وسط افكاره المشوشة التي تتضارب مع بعضها لتخلق داخله شعور لم يعرف ماهيته. ربما هو حزين عمّا صُدم به من واقع كان ينكره. أو ربما هو غاضب من كمية الاكاذيب التي لفقها الثلاثة ضده. أو على الأغلب هو يشعر بالأنكسار من تعرضه للخذلان للمرة الثانية.
وسط كل هذا سمع نغمة جرسه القصيرة التي لم تبعث فيه الفضول الكافي لينهض من مكانه وفضّل تجاهله، ولكن الرنين المتواصل دفعه للانزعاج والنهوض من مكانه وهو يضع عدة تخمينات في عقله عمن يكون الطارق. وكان التخمين الثالث هو الصائب!
لم يتجاهل وقوفها هناك بل أنه احتاج ان يفرغ كل هذه الشحنات السلبية القابعة بداخله بأحدهم. وربما كانت هي الأنسب لذلك في هذا الوقت.
فتح الباب بملامح خالية من اي تعابير سوى التعب فضاعت الحروف وتبعثرت على شفتيها ونسيت تلك الجملة التي تدربت على قولها طوال طريق الصعود الى هنا. ولم ينتظر هو بدوره ليسمعهت بل ترك الباب مفتوح ودخل ليجلس حيث كان على اريكته البيضاء في الصالة أمام التلفاز المطفئ.
احتاجت هي لحظات لترفع قدمها المتصلبة وتخطو خطوتها الاولى داخل شقته لأول مرة. تلك الشقة التي اعدها لزوجة لم تكن هي. ولأمرأة جديدة في حياته.
اغلقت الباب من بعدها ووضعت أكياس المشتريات على الحجر الرخامي الفاصل ما بين الصالة والمطبخ وقالت بخفوت يشوبه الاستحياء النابع عن شعورها بالذنب:
- أحضرت لك بعض البقالة. اعلم انك حين تكتئب تكتفي بأكل ما يتواجد عندك بالثلاجة ولو كان مجرد بيض ولا تذهب للتسوق.
استدار برأسه فقط عليها ونظر باستخفاف نحو اكياس مشترياتها وعاد ليطالع تلفازه المطفئ ويتجاهلها. تصرف توقعت حدوثه لذلك لم تتخذ موقفاً معاكساً بل اكتفت بالصمت واتجهت نحو المطبخ وقالت وكأنها تخاطب نفسها حين لم تتوقع منه الرد:
- سأعد كوبين من القهوة. لابد أنك مصاب بالصداع
فرد في محاولة منه لأهانتها:
- أجل. فرصتكِ لتثبتي وجودكِ من جديد. لعل الأمر ينجح هذه المرة بما إني انفصلت عن ليلى.
توقفت قدميها لللحظات عن أكمال مسيرها وشعرت بمدى الرخص الذي يراها فيه، أغمضت عينيها لثواني وطرحت انفاسها بقوة لتتخلص من ذلك الشي الذي انفجر بداخلها ثم التفتت نحوه بسخط وقالت:
- سأتجاهل الحماقات التي تتفوه فيها فقط لأني أقدر الوضع الذي أنت فيه.
وأكملت ما كانت تنوي فعله وأكمل هو تحديقه اللامبالي بنقطته العشوائية نحو اللاشيء...
دقائق لا غير حتى كانت قد أكملت أعداد كوبين من القهوة كما يفضلها هو واتجهت حيث يقبع ووضعت كوبه على المنضدة أمامه وحملت كوبها لتجلس على الكرسي جهة يمينه.
لم تستطع رفع الكوب نحو فمها لترتشفه وهي تراه كالصنم امامها لا يرمق قهوته حتى بنظرة فضول خاطفة وبقيت نظراته حيث هي وكأنها غير موجودة الى جانبه.
غريب هو ذلك البرود الذي يحتوينا بعد خيبات متتالية فيجعلنا لا نتأثر حتى بوجود من نحبهم. أو كنا في يوم نحبهم!
قالت في محاولة منها لكسر حاجز الصمت الموحش:
- أشرب قهوتك قبل ان تبرد.
نظر نحوها بطرف عينه وقال بتعب:
- سيكون جيداً لو ان قهوتي هي فقط من بردت.
وضعت كوبها على المنضدة وشابكت يديها ببعضهما وقالت:
-أسمع مازن. أعلم أن ما حصل لم يكم سهلاً لتتقبله ولكن.
قاطعها بضجر:.
- أكتمي ما تبقى من بعد ال لكن واحتفظي به لنفسكِ.
ثم نظر لها بتوجع وأكمل:
- خُذلت في حياتي بقدر عدد المرات التي قيل لي إني أنسان جيد صعب ان يتواجد مثله في هذا الزمن. ومن الاشخاص الذين نطقوا هذه العبارة يا روان. منكِ. من يزن. ومن ليلى!
- هل تظن أن احدنا اراد حصول هذا؟!
- لا. ولكنكم كنتكم امام خيارين. أما اذيتي او اذية نفسكم. لذلك خمني أي خيار اخترتموه؟!
تنهدت بضيق وقالت:.
- ليلى تموت يا مازن. الا يمكنك تاجيل هذا العقاب لوقت آخر؟ أنها تتعذب بما فيه الكفاية من مرضها. وتتعذب اكثر مما فعلته بك. ويزن كذلك.
قال وكأنه يعاتبها:
- وأنتِ؟!
تلاشت حروفها المتحفزة خلف جدار شفتيها وخرجت اصوات متقطة تعكس جملةٍ مغتالة. ازردت ريقها بشيء من التوتر والارتباك ثم استجمعت شتات نفسها وقالت:.
- أنا ماذا يا مازن؟ من أنا لأخبرك ماذا يحصل لي او بماذا اشعر؟ أنا اذيتك بما فيه الكفاية ليجلعني ابقى بعيدة عنك.
- ولماذا لم تفعلي؟!
- أنا. افشل. أسفة أعرف أن هذا ما تريده ولكني.
قاطعها فوراً:
-أنتِ لم تدركِ يوماً ما أريده يا روان. فلا تظني إنكِ تفعلين الان!
تلك النظرات. وطريقة القائه للحروف. أنها تدرك جيداً ما يعني. ولكنها خائفة حتى من تصديق نفسها. لقد اخطائو جميعاً بحقه بما فيه الكفاية ولم يعد احد يملك الحق حتى لنقاشه.
تنهد بتعب والقى رأسه على ظهر اريكته ووضع يده فوق عينيه ولا تعلم هل فعل هذا ليحجب نور الصالة الذي فوقه عنهما. أم أنه يحاول ان يواري دموعه
قال بصوت ضعيف:
- إن كنتِ قد انتهيتِ. فارحلي يا روان. من فضلكِ!
وقعت دمعتها الى حجرها مباشرةٍ من شدة ثقلها ولم تنساب بروية على خديها ولم تجد ما تقوله.
هل تلبي رغبته وترحل بصمت كما كانت تفعل دائماً؟ أم ترفض طلبه وتذهب الان لضمه اليهت وترفض تركه ولو طلب ذلك الف مرة؟!
قالت بتردد:
-مازن. لم أقصد أن اكذب عليك. أنا فقط كنت أنتظر الوقت المناسب.
قال بسخرية مريرة:
- أنتِ كنتِ دائماً تنتظرين يا روان. دائماً تنتظرين الى أن يفوت الاوان ويتهدم كل شيء. لذلك ما الجديد الان؟.
ثم قال وكانه يتوجع من بقائها أكثر:
- فقط أرحلي أرجوكِ. فقط اذهبي ولا تعودي.
سكن المكان للحظات قبل أن يسمع صوت حركتها تنهض من الكرسي. خطواتها تبتعد. الباب يُفتح. لحظات ثم يُغلق. دموعه تتساقط. قلبه ينعصر.
هل جربت شيئاً مماثلاً من قبل؟! أن تطلب من احدهم ان يرحل ولكن شيء ما بداخل قلبك سيتمنى لو يبقى؟ لو يخبرك أنه لن يتركك؟ هل جربت ان يخيب ظنك ولا يتحقق ما تتمناه؟
خرج صوت بكائه وانضمت يده الاخرى فوق مرفقه الذي يسد به عينيه وحاول ان يمحيها ولكنها كانت تستمر بالانهمار...
فجأة انقطع صوته وهو يستشعر لمساتها على يديه تبعدهما بينما تجاوره الجلوس على الاريكة. نظر بتفاجئ نحو عينيها الباكية فقالت بصوت ضعيف وابتسامة متوجعة:
-أتذكر تلك المرة التي مات فيها والداي؟ جعلتني انام داخل احضانك لأهدئ، لذلك هل يمكنني ان أطلب منك ان تأتي أنت هذه المرة داخل أحضاني لتهدئ؟!
وفتحت يديها وهي تنظر له بترجي، رغم كل ذلك الغضب الذي كان يجتمع بداخله منهم إلا أنه لم يستطع رفض طلبها. لماذا؟ لأنه سيكون أضعف من أن يبتعد عنها مهما كانت مليئة بالسلبيات، ببساطة لانه يحبها!
وضع رأسه على صدرها ولف يديه حول خصرها فلفت يديها حول رأسه لتضمه بقوة ولو كان عائد إليها لخبأته داخل ضلوعها.
اكتفت بالصمت ولم تقل أي شيء خوفاً من أن تبوح بشيء يجعله يبتعد من بين يديها. لذلك كان يكفيها قربه فحسب بعد سنين من الهجران!
قال هو بصوت ضعيف وكأنه يهمس:
- أيمكنكِ أن تبقي معي؟
فهمست بدورها:
- أنا كذلك. للأبد!
شد يديه حولها أكثر ولم ينطق بعبارة اخرى. وكأنه يريد ان يعيش هذه اللحظة بتفاصيلها من دون أي شيء يقاطعها ولا حتى كلمات...
في مكان آخر في تلك المدينة. داخل قلب عاشق آخر مُعذب ومحترق. ينظر لها بحسرة من خلف زجاج العناية المشددة بينما يراها تخوض الحديث مع أمها وتجبر نفسها أن تبتسم في محاولة فاشلة لبث بعض السكون في أمها.
أنه لا يراها تلك المريضة التي تحتضر. بالنسبة له هي مجرد تلك الطفلة ذات الاثني عشر عاماً التي تفشل في ربط شريط حذائها فتهب عند باب بيتهم متعمدة بحذاء مفكك كي يربطه لها بنفسه دون غيره.
خرجت جيهان من الغرفة فوجدته يحدق بها بتلك النظرة الباسمة والمتوجعة في الوقت ذاته.
نظر لها بصمت فتجعد وجهها ببؤس واقتربت منه لتضمه اليها وتبكي بحرقة. وكأنها طوال الوقت هناك كانت تكتم هذه الدموع.
والغريب في الامر أنه لم يشاركها البكاء بل ولم ينطق بشيء. وكأنه تعب من كثرة تلك الدموع التي أسقطها مراراً وتكراراً ليلة بعد أخرى. تعب من تلك الحروف التي يرتبها بجملة لا يصدق هو بها!
ابتعدت قليلاً عنه وأحاطت وجهه بين يديها وقالت بأسى:
-كان على أن أحارب الدنيا لتكونا معاً ولا أكتفي بالتنحي جانباً والرضوخ لرأيهم حول أن حياتنا ستتحطم لو خالف ليلى جدها. يا ليت حياتنا تحطمت بالوضع المادي بدل أن تتحطم بهذا الشكل الان! لم يذق كلاكما طعم السعادة التي كان ينتظرها من عشر سنوات.
تبسم قائلاً بتهكم:
- سأقول أنه القدر والنصيب. فلا فائدة من لوم أحد.
ثم نظر مركزاً عينيه في تلك النقطة المتحركة القادمة من بعيد وقال بهمهمة:
- ولا حتى هو!
بعد خروج والدتها من الغرفة شعرت بالاعياء المعتاد الذي ينتابها بين فترة واخرى من العلاجات التي تتناولها فغطت بنوم خفيف بعد ان غلبها النعاس.
لا تعلم كم استغرقت قيلولتها تلك قبل أن تنتبه على حركة بالقرب منها.
فتحت عيناها وركزت قليلاً بتلك البشرة المجعدة والشعر الثلجي والعينان ذات الجفون الناعسة بعض الشيء.
يبدو مألوفاً جداً ولكنها لا تتذكر بالضبط أين رأته؟ ومتى؟
-أنا قاسم. جد يزن.
توسعت عيناها بشيء من التعجب واكتفت بالنظر أليه دون أن تجد ما تقوله رغم انفراج شفتيها التي استعدت لبوح اي شيء. ولكن شيئاً لم يخرج!
هز رأسه متفهماً وزفر متحسراً بينما يداه توازيان مستوى وجهه وهو يرتكز بهما فوق عكازه ذو خشب الصندل. كان كرسيه على يسارها لذلك كان يواجه شباك غرفتها الواقع على مد بصره. تطلع لثواني نحو تلك الطيور التي تخترق افقياً قرص الشمس التي توشك على الغرق داخل جوف الارض وقال وعيناه تلمع ببعض الاسى:
-كم يكون مؤلماً حين تقترفين خطأ واحد في حياتكِ، ولكنكِ مضطرة أن تعيشين ما تبقى منها تدفعين ثمنها!
قالت بصوت هادئ ولكن بجرأة من دون تردد:
- أي خطأ هذا الذي تقصده؟ هروبك في لحظتها؟ أم شهادتك الكاذبة؟!
نظر نحو عينيها مباشرةٍ للحظات ثم قال:
-ليس هذا ما جعل يحيى يكرهني فعلاَ. بل لأني أخبرته لو أن الزمن أعاد نفسه ألف مرة في تلك الليلة. كنت سأرتكب ذلك الذنب ألف مرة!
شعر ببعض الاستحقار في ملامحها فرد فوراً بذات جرأتها:.
- حين يتعلق الأمر بالعائلة والمصلحة الشخصية سيفعل الانسان كل ما بوسعه للحفاظ عليهما. وأنتِ أكثر شخص تفهمين ما أعني يا ليلى!
عصرت يدها بألم فقال فوراً مستدركاً:
- لا انوي انتقادكِ او شيء من هذا القبيل. ولكن أنتِ أيضاً تخليتِ عن يزن -حب العمر- لتحافظي على عائلتك ولم تتخلي عنهم من أجله. كما فعلت أنا مع يحيى. لذلك أكره فكرة انتقادي من شخص ارتكب الذنب ذاته!
قالت وبعض السخط يكتسح نبرتها:.
- ما الذي جئت من أجله؟!
- عرفت أن يزن طرح عليكِ فكرة الزواج. بالطبع هو لم يأتي لطلب أذني. بل جاء مهدداً إني أن حاولت منعه من الارتباط بكِ فسيجلعني أعيش الشعور بالذنب مضاعف عمّا أشعر به الان. وأنا مدرك تماماً أنه يقصد اذية نفسه أن رفضت. أنه حفيدي المجنون وأظنكِ تعرفينه أكثر مني!
- ولِما يظن يزن أنك سترفض؟!
-حسناً. لنقل أنه حين أخبرني ابني بعرض يزن أخبرتهم أنه يؤذي نفسه بالارتباط بفتاة ميتة.
ثم أدار عينه فقط حول كل تلك الاجهزة التي ترتبط بجسدها وقال:
- مع وضعكِ هذا. لا يمكن حتى أن نُطلق عليكِ كلمة تحتضرين!
لمعت عيناها توشك على البكاء رغم ان ملامحها لا تزال تحتفظ بصلابتها ونظرتها الثاقبة فقال هو موضحاً:
-لا أحاول جرحكِ أيتها الشابة. بل جئت لأخباركِ إني لا أمانع زواجكما.
فقالت فوراً بعصبية رغم صوتها المتعب:.
- لا. بل هذا ما أقنعت يزن أنك قادم من اجله. وهذا ما تحاول حشره آخراً في عقلي لاخبر يزن أنه موافق. ولكن ما جئت فعلاً من أجله هو لتمنعني من ذلك بطريقة غير مباشرة.
سقطت دمعتها بحرارة على وجنتيها وقالت:
- لا تقلق أيها السيد. لم أكن أنوي ربط يزن بي. فأنا أدرك أن موتي سيؤلمه بشكل اكثر أن كنت زوجته من كوني مجرد حبيبة. فكما قلت. ما أنا به. لا يمكن حتى اطلاق تسمية تحتضر عليه!
نهض من مكانه وقال بهدوء:.
- أنا ضحيت بكل شيء من أجل العائلة ولم أتصرف يوماً بعاطفة. فلا شيء ينجح أن كان نابع من عاطفة.
اختصرت عليه فلسفته وهي تقول:
-أتمنى ان تحكم أغلاق الباب جيداً بعد خروجك سيدي!
هز رأسه متفهماً وقال قبل ان يخرج:
- اتمنى حقاً أن تشفي وسأحرص على ان أكون اول المهنئين لزواجكما.
- وأنا ساحرص ان يكون شرطي الاول في الزواج أن لا يحضره لا انت ولا جدي!
زفر وخرج من غير إضافة شيء أخر.
استدارت هي على نصفها الأيمن لتواجه النافذة التي ابتلعت الشمس اسفلها داخل جوف الأرض ولم يتبقى سوى إشعاع برتقالي اللون يبدو بعضه وكأنه ينبعث من داخل الغيوم. وكأن السماء احترقت ولم يتبقى سوء هذه الجمرات التي ستنطفىء بعد فترة.
فُتح باب الغرفة لتعرفه بأحساسها وبعطره المميز دون الحاجة لأن تلتفت.
استلقي بجوارها بصمت وألصق صدره على ظهرها ولف يده على خصرها بينما وجهه يغرق داخل عنقها. أستمرت بالتحديق حيث كانت وعيناها لا تزال غارقة بدموع موجعة.
لحظات حتى قالت بصوت هادئ بينما يدها تستقر فوق يده:
- هل شاهدت من قبل الساهر في سياتل؟!
شعرت بابتسامته بينما يرد:
- حفظت القصة وحتى الحوارات دون حتى أن اشاهده لمرة واحدة. بسببكِ!
تبسمت بدورها وقالت:
-اوه حقاً؟ وما جملتي المفضلة؟
- جملة الوالدة لميغ راين حيث تخبرها عن والدها.
- حبها السحري.
- تشابكت ايدينا في ليلتها لدرجة لم استطع تمييز أيهم أصابعي وأيهم أصابعه
سكتت للحظات قبل أن تقول:
- أنا أموت يا يزن.
أحست بتقلص جسده وتكوره كجنين ليضم نفسه أليها أكثر وتشوش صوت انفاسه دلالة على بكائه فبكت بدورها واستدارت نحوه فرفض أن يرفع رأسه اليها. أحاطت وجهه بين يديها والصقت جبينها بجبينه وقالت هامسة بينما هو يغمض عيناه الباكية:.
- كلانا يعلم إني كذلك. أكلق سراحي يا يزن. دعني أرتاح. هذا المرض يتآكلني. هل لأنك فقط لا تريد ان تفارقني فترضى لي هذه الاذية؟!
قال بتوسل:
-ليلى لا.
فقاطعته بينما تمزج انفاسها مع انفاسه اكثر:
-اشششش. يزن، أتوسل لك!
رفع يده ليمررها على خده وصولاً لرأسها حتى وصل لعنقها من الخلف وقال:
- ما الذي سأفعله من دونكِ ليلاي؟!
- ساعدني يزن.
- ما الذي تطلبيه مني بالضبط؟!
- وضعت يدها على جانب وجهه وتبسمت من بين دموعهت وقالت:
- أنها ليلتي الاخيرة. أنا أعلم بذلك. أنه جسدي وأنا أدرى به منكم متى سينهار. أنها آخر ليلة لي يا يزن ولن ينفع بعدها شيء. سأعيش على الاجهزة أو غائبة عن الوعي لحين تنتهي آخر نبضة في قلبي. لا اريد أن اموتها بين جدران المستشفى وايادي الاطباء. أريد أن أموتها وأنا بين يديك.
ثم عانقتها بكل ما بها من ضعف وقالت:
-أخرجني من هنا. أرجوك!
عانقها بقوة وأجهش كلاهما ببكاء أشد من الآخر. كان الظلام قد حلّ ليس على السماء فقط بل على روحيهما كلاهما.
هي كروح ادركت أنه لم يتبقى لها الكثير.
وهو كطبيب قد أدرك ان أجلها قد حان.
الامر سيكون بسيط لي. لك. لأي شخص عابر. من ليلى؟ مجرد حروف فوق سطور. ولكن ليلى ليست كذلك بالنسبة له. أنها شخص يتخاطر على عقله لحظة استيقاظه ويرافقه الى حين اسدال جفونه مرةٍ اخرى. واحيانا كثيرة كانت تزوره في عالم سباته بالاضافة الى واقعه...
الان لن يشعر بلمستها. لن يشم مرة اخرى عطرها الذي سيتلاشى من ثيابها بعد مرور بضعة اشهر. لن يسمع صوتها سوى من تسجيلات فديو قديمة. لن يرى شكلها بتعابير جديدة بل كل ما سيتبقى له هو مجرد صور ذات تعابير واحدة من دون تغيير ستصيبك بالجنون وأنت تطالبها أن تتحدث.
أنتظر أن ينقضي منتصف الليل وتهدأ كل الاصوات وتسدل الجفون ليحملها بين يديه ويخرج بها سراً من المستشفى. لم تكن قادرة سوى على رفع يديها لتعانق عنقه وتستقر برأسها على صدره تستمع لصوت أنفاسه وضربات قلبه.
وضعها برفق على مقعد سيارته الأمامي وانطلق بها حيث طلبت أن تذهب بينما هي كانت تنظر بشغف نحو كل شيء تمر عليه.
اقتراب الموت يجعلنا نرى كل شيء لم نكن ننتبه له او لم نبالي له في الماضي. سنشعر بجمال كل شيء حولنا.
سنعرف كم هي الحياة ثمينة حتى لو نعش فيها ايام جميلة. هي كانت ستمون جميلة برغم كل شيء فقط لو اعترفنا انها زائلة ولا شيء يستحق ان يمر علينا يوم يأس او عبوس...
ستظن أن امامك الكثير من الوقت. ولكن فجأة ستكتشف أنه لم يعد هناك اي وقت كافي لتعيش حياتك بالفعل وتحقق ما تقاعست عن فعله!
وصلا الى حيث طلبت. البحر!
حملها بين يديه برفق وتوجه قريباً من الجرف فأجلسها وجلس خلفها لتستند بظهرها على صدره ويرتكز هو بذقنه على قمة رأسها.
قالت بتعب وشبح ابتسامة على وجهها:
- لم أكن أراه بهذا الجمال من قبل. أليس رائعاً يا يزن؟
- أنه كذلك يا ليلاي.
رفعت يداها بوهن لتضم يديه أكثر أليها وقالت:
- اشعر ببعض البرد. هلا ضممتني؟
شد ذراعيه أكثر حولها وقال بينما صوته مخنوق بالبكاء:
- أود لو أضمهما حولكِ طوال حياتي!
- يزن؟
- يا سبب سعادته!
- أقطع على وعد.
- أي شيء تريديه.
- لا تطلق أسمي على ابنتك. لا تبقيني عالقة بذاكرتك كما فعل أبي مع من احبها. أجعل حياتك تمضي ولا تجبر نفسك أن تموت روحياً من بعدي لتعيش جسدياً فقط. لا تدع فرصة العيش تفوتك فتتحسر عمّا خسرته وما لم تحققه في لحظاتك الاخيرة. عش حياتك بالنيابة عنك وعني. خذني الى كل مكان تذهب اليه وكأني زرته معك من دون ان تفوت فرصة الاستمتاع به لأني لست هناك. أضحك وتخيلني أشاركك اياها. أبكي وتخيلني أطبطب على كتفك.
ثم أغمضت عيناها وتقوست شفتيها ببؤس بينما تبكي بوجع نابع من قلبها هذه المرة وقالت:
- يزن؟
فرد ببكاء أصبح أشد:
- يا وجوده!
- هل سأمسي حقيرة أن قلت لك الان إني لا أتمنى ابداً أن تحبني احداهن أكثر مما أحبتني؟ هل سأكون أنانية؟
ضحك من وسط دموعه وقال:
- نعم. ستكونين كذلك. وهذا ما يرضي غروري. هذا ما يجعلني لن أحب أحد بقدر ما أحببتك. أقسم لكِ!
لم تحتاج ان ترد بشيء بعدها واكتفت بعيش كامل أحساس اللحظة وهي بين احضانه لانها ربما ستكون الاخيرة بالفعل. ارادت التلذذ بدفئ بشرته ورائحه جسده واحساس انفاسه على رأسها.
بعد ساعات من الصمت شعر باضطراب جسدها وتحركه بألم ولكنها كتمت أنينها. شعر بحصول شيء لها وهو يشاهد التفاف قدميها ببعضهما بينما تشد على يديه بقوة وكأنها تصارع شيء ما. أدرك أن الموعد اقترب ولكن رغم ذلك لم ينهض ويحملها راكضاً نحو المستشفى بل ضم يديه اليها أكثر بينما يعض شفتيه بقوة ليكتم صوت بكائه. اراد أن يحقق لها امنيتها بموتها بين يديها حتى وأن كان هذا الأمر سيقتله.
قالت فجأة بصوت مرتجف ومتالم:
- يزن؟
- معكِ يا ليلاي.
- لا تتركني. أنا خائفة...
فقد السيطرة على صوت بكائه للحظات وعاد ليكتمه مرة اخرى وهو يقول:
- لن افعل. اقسم لكِ إني لن افعل.
- هل تذكر تلك الاغنية التي غنيتها لي ذات مرة حين كنت صغيرة وامي كانت مريضة؟ حين كنت خائفة وحزينة فضممتني اليك وبدأت بغنائها؟
قبّلها من رأسها وقال:
- أجل. اذكر كم أحببتها واجبرتني أن اغنيها لكِ كلما كنتِ خائفة.
- حين ترعد.
- وحين يكون لديكِ امتحان صعب.
- وحين تكون غرفتي مظلمة.
- وحين نتخاصم.
- أيمكنكِ ان تغنيها من اجلي الان. ارجوك؟!
نظر نحو بداية الشمس التي اوشكت على الشروق وبدأ بغنائها بهدوء من وسط دموعه:
He says save me. save me.
هو يقول انقذيني
She says maybe. maybe.
هي تقول ربما
She stars to turn away when he says
هي بدأت بالابتعاد عندما قال
Hate me. break me.
اكرهيني. حطميني.
Let me feel as hurt as you.
أجعليني اشعر بذات القدر الذي تشعرين به من الالم.
Push me. crush me
ادفعيني. حطميني
But promise me. you ll never let us go.
ولكن عديني. بأننا لن نترك بعضنا أبداً.
فجاة أرتجف قلبه وجسده في آن واحد وهو يسمع زفيرها الاخير دون ان يسمع من بعده الشهيق الذي كانت تصارع قبل لحظات لتاخذه بكميات وافرة. شاهد قدميها التي كانت تتلوى مع بعضهما قد سكنتا فجأة وتمددتا وكأنهما تعبتا من الصراع بينما يداها لا تزال تتشبثان به بقوة.
كانت عيناه جاحظة باتجاه الافق بينما جسده بالكامل يرتعش لحظة ادراكه لما قد حصل فعلاً.
هز جسدها برفق وقال وكأنه خائف من ذلك المخلوق المرعب المتلبس فوقهم الذي لا يعرف هل رافقته أم لا:
- ليلاي؟ انظري. أنه الشروق الذي تحبيه.
هزها بشكل أقوى لعلها تستيقظ وقال بنبرة أعلى قليلاً:
- كفي عن ذلك وقولي شيئاً. فقط انطقي أي شي بحقي يا ليلى. ارجوكِ لا تفعلي ذلك!
ثم حشر رأسها في عنقها من الخلف وبكى كطفل وحيد:.
- أتوسل أليكِ عودي. عودي فلست مستعد ولا أريد أن استعد. أعلم إنكِ لا تزالين تسمعيني. عودي أو خذيني معكِ يا ليلى!
لم يكن هنا رد فعل من جسدها الهزيل أو من تعابير على وجهها الشاحب.
هكذا ببساطة وهدوء سكن جسدها فقط
توقفت انفاسها. أو ربما ضعفت.
توقف قلبها. أو ربما اراد ان يستريح قليلاً.
أغمضت عينيها. أو هي نائمة فحسب.
لا شيء يبدر منها يدل على الحياة ولكن لا يزال عقله يرفض تقبل ما يحصل.
فهل الموت حقاً بهذه البساطة؟!
أم لا تزال بعض الحياة تتشبث داخل جسدها؟!