قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل السابع والعشرون والأخير

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل السابع والعشرون والأخير

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل السابع والعشرون والأخير

- فقط قاومي، لن أسمح لكِ بالرحيل ليلى. هل تسمعيني؟
قالها يزن بطريقة اشبه بالهستيريا وهو يقود السيارة بجنون وسط الشوارع التي بالكاد فيها بضع سيارات.
هي لم تكن قد فارقت الحياة بعد ولكنها كانت على وشك ذلك ونبضات قلبها بدأت توشك ان تصل للصفر لولا حقنة الادرينالين تلك التي جعلتها صامدة لبعض الوقت.

وصل للمستشفى ونزل راكضاً ليحملها بين يديه ويتوجه نحو غرفة الطوارئ وهو يصرخ بعدم عقل: - روان. أين روان؟ أي أحد. ليساعدني أحدكم.
ركض اليه المتواجدين في لحظتها ليتناولوها من بين يديه ويضعوها على السرير بينما قال له زميله مؤنباً قبل ان يتجه أليها: - الأمر ربما سيتسبب بفصلك يا يزن. المستشفى مضطربة منذ ساعات منذ لحظة اكتشاف اختفائها. أن ماتت ربما ستحملك اسرتها مسؤولية ذلك.

فصرخ به من دون وعي: - ساتحمل اي شيء أقسم لك. فقط افعل شيئاً.
اتجه نحوها بينما يزن التفت على صوت روان وهي تقول بنبرة عالية: -هذا هو يزن!
التفت بعدم استيعاب لكل ما يحصل حوله فشاهد جيهان واحمد تترأس مسيرهما روان.
تقدمت جيهان راكضة وهي تقول بانفعال من وسط دموعها:
-أين ليلى يا يزن؟ اين اخذتها؟
لم يرد. ليس لأنه لم يكن يملك الجواب. بل كانت التفاتة من الجميع نحو ذلك الصوت.

أفسحوا المجال. أشحن لأقصى درجة. مرة اخرى.
بدت كلمات مشوشة لم يستطع أحد استيعابها. كان جسد ليلى يرتفع ويتساقط مرة اخرى فوق ذلك السرير الابيض وصوت طنين استقامة خط قلبها الصادرة من ذلك الجهاز الصغير أصبحت مزعجة أكثر من أي صوت آخر في الوجود.
فجأة ارتخت قدماه فجلس على ركبتيه وهو يركز داخل عيناها المغمضة.

في تلك اللحظات يدرك الانسان مدى ضعفه وعجزه وكم كونه مخلوق بلا حول ولا قوة حين يشاهد اشخاص يحبهم يموتون امامه دون أن يملك القدرة على التمسك بهم!
اخترق صوت نبضة ضعيفة صدر من قلبها لينقله الجهاز لهم مسامعهم مما جعل جيهان تتوقف عن الصراخ واحمد عن البكاء. ولكنه لم يكن كافيا ليخرج يزن مما هو فيه. نعم هي قد عاشت؟ ولكن الى متى؟ يوم؟ اثنان؟ أم مجرد ساعات قليلة؟

لم يبالي بكل تلك الضربات التي تلقاها على جسده من جيهان. كان يركز بها فقط بينما شريط حياتهما يمر كله امامه، شريط حياتهما الذي بدأ مع انفتاح شريط حذائها وقلة خبرتها بربطه. لتربط بدل ذلك قلب يزن بها!

بعد مرور ثلاث ساعات ونصف كان يجلس على الارض منفرداً بعيداً نسبياً عن غرفة العناية المركزة حيث تصطف اسرتها أمام النافذة العريضة يطالعونها ترقد تحت الاجهزة التي حالما تنفصل عنها ستموت.
كان يتكأ برأسه على الجدار ويطالع شيء ما أمامه لم يكن يركز به حقاً. أحس بحركة أحدهم تقترب منه ثم جلس القرفصاء بجانبه. أدرك أنه مازن من غير أن يلتفت فقال بتعب: - هل يمكن أن تنجو؟!
- لا أظن ذلك.
- ماذا لو حصلت معجزة؟

- لسنا انبياء ليحصل لنا ذلك.
- بعض البشر تحصل لهم أمور مماثلة.
- نعم. الصالحين منهم، نحن أوغاد!
عندها بكى وقال:
- ولكني أحبها. ألا يشفق الله على ذلك؟
ثم التفت نحو مازن الذي ينظر له بأسى وأكمل:
- أحبها جداً يا مازن، أنا أضعف من أن أهجرها. فكيف بفكرة موتها؟
تنهد الاخر بحسرة ووضع يده على كتفه مواسياً دون أن يعرف ما يقول حقاً. فهل عليه ان يواسيه على اقتراب موتها؟ أم هو الوقت المناسب ليعاتبه عمّا فعله به؟

وبالطبع الخيار الثاني لم يكن متاح بالنسبة لمازن. وكتم ما يشعر به كعادته!
دقائق اخرى وانضمت لهما روان وتجلس القرفصاء أمام يزن مباشرةٍ وحضنت يداه بين يداها وطالعته بعينيها المتورمة من البكاء دون أن تنطق بشيء بادئ الامر فقال الاخر وكأن اليأس قد التهم كل الامل الموجود بداخله ولم يتبقى له سوى الاكاذيب: - لا تقوليها يا روان. أرجوكِ!
- لا تقلق. ليس ما تتوقعه.

مسحت بشرتها المحمرة من ملوحة دموعها وقالت بصوت متهدج:
- أتذكر الطبيب الذي اخبرتك عنه؟ جاء للمدينة لمدة ثلاثة ايام من اجل مؤتمر طبي وبالكاد اقنعته أن يراها فقط لعله يجد شيء ما كنا غافلين عنه.
فرد مازن:
- روان. لست مختص بالطب العام او الاورام لأعرف. ولكن ما الشيء الخاطئ الذي ممكن أن يكون قد غفلتم عنه؟

- الورم يتزايد بشكل أسرع مما يجب يا مازن وحالتها تتدهور كثيراً. منذ ان بدأنا العلاج والى اليوم والامر لا يسير عما يجب عليه في حين يجب حصول العكس. وكأن جسدها يتغذى على العلاج. نحن لا نعرف ما يحصل. نحن حتى لم نتلاعب بالورم بعملية جراحية او نأخذ خزعة لنقول لربما حصل شيء خاطئ اثناء العملية جعل الورم ينتشر بهذا الشكل!
- روان؟!
اخترقهم صوت رجولي لم يبدو مألوفاً لمازن ويزن ولكنه كان كذلك بالنسبة لها!

وقفت تحت انظار مازن الفضولية وقالت:
- ايهاب! الحمدلله أنك هنا.
تذكره مازن على الفور. فهو لم ينسى تلك المكالمة الهاتفية التي تلقتها روان ورفضت أن تخبره من هو ايهاب.
نظر حيث يجلسان والقى تحية عملية فقالت روان تقدمه:
- هذا هو ايهاب. الطبيب الذي اكتشف مرض ليلى. انه يعمل في مستشفى اخرى اخذتُ ليلى اليه حين اصرت أنها لا تريد من أحد -وخصوصاً انتما - أن يعرف بشأن مرضها.

اكتفى يزن بالايماء برأسه كترحيب بينما مازن لم يكلف نفسه فعل ذلك واكتفى بالتحديق به ببرود فقط. ولم يبدو ان ايهاب قد انتبه على ذلك من الاساس فقد التفت نحو روان وقال:
- هل من جديد بخصوصها؟
- سيصل دكتور رشيد بعد ثلاث ساعات تقريباً ليرى حالتها.
- ألن يجري عملية؟

- لا اظن فبالكاد اقنعته بالقدوم. قال أن جدوله مزدحم ولا يملك الوقت الان وانه علينا الانتظار لبداية الاسبوع القادم. بعد ان شرحت له الحالة بالتفصيل واخبرته أننا لا نعلم في اي لحظة سيرفض جسدها حنى الاستجابة للاجهزة حتى اقتنع بتخصيص ساعة لرؤيتها.
- ما الذي يمكن انه فاتنا ولم ننتبه عليه سينتبه هو؟!
- لا أعلم. ولكن أتمنى أن يكون هناك!

تنهد بحسرة وطبطب على كتفها مواسياً ثم تمشيا معاً يكملان نقاشهما دون ان ينتبها على تلك العيون الساخطة التي تراقبهما. فجأة قطع عليه فورة غضبه صوت يزن المتعب وهو يقول:
- نظراتك الان لها. هذا الألم المخلوق بصدرك. وتلك النار التي تشعر بها. كنت أعاني من هذا كله طوال الوقت يا مازن!
التفت اليه بصمت وعيون تحمل بقايا عتب وغضب يكتمه فأكمل يزن:.

- أعرف أنك في هذه اللحظة بين قرارين. ما بين أن تقف بجانبي كصديقك. أو تعاقبني على كذبي كوني صديقك ايضاً. ولكن تذكر يا مازن إني كنت أتحمل هذه النار التي تلسعك الان دون أن أقول أي شيء فقط كي لا اخسرك.
فقال الاخر بشيء من السخط رغم محاولته في جعل نبرته اعتيادية:
-لا تحدثني عن النار التي تحملتها لشهور. فأنا اعاشر هذه النار أكثر مما عاشرتها انت وأيضاً لم أبوح بشيء. ولكن برغم ذلك كنت صريح بشأن كل شيء معكم!

كاد أن يرد يزن بشيء فقال مازن فورا بينما يشيح انظاره:
- ليس الوقت المناسب للتحدث بهذا الشأن على اية حال!
اكتفى بالصمت دون أن يجد ما يقوله حقاً في هذه الظروف.

للزمن سرعة غير ثابتة. سيطول جداً في ايام الفراق أو الوجع. وسيقصر جداً في لحظات السعادة. لذلك تلك الساعات الثلاث التي كانوا ينتظرون بها قدوم رشيد الى المستشفى هي أطول ساعات مرت عليهم لدرجة كادت توازي عمرهم الذي عاشوه بأكمله.
لربما في مراحلة ما نحن مضطرين أن نقول وداعاَ حتى لو لم نرغب بذلك. نحن سنخضع له على اية حال ونحاول بطريقة أو بأخرى أن نتقبله. السؤال هو. هل سنستطيع؟

هذا ما كان يفكر به حين كان يطالعها من نافذة غرفتها الزجاجية وهي حبيسة كل تلك الاجهزة التي تساعدها على مقاتلة الموت لساعات اضافية لا جدوى منها.
يراقب بحسرة كل ذلك الشباب الذي ابتلعه المرض
شعرها الذي اذابه العلاج
بشرتها الشاحبة
عظام وجنتيها البارزة
شفتيها الذابلة
وكأنه يحاول أن يتشبع بملامحها الساكنة قدر الامكان قبل أن تبتلعها الارض بجوفها...

كم خبر وفاة قد بث لبعض الاهالي دون أن يبالي فعلاَ إلا لدقائق معدودة ثم ما أن يبتعد عن الصراخ حتى ينشغل بمريض آخر وينسى الذي مات بين يديه قبل لحظات. لم يتذكر كل تلك الدموع التي ذرفت أمامه إلا في هذه اللحظة وهو يترقب خروج الطبيب من غرفتها ليخبره بتلك العبارة التي لطالما استخدمها. اسف لخسارتكم.
-لقد وصل.

شدته تلك العبارة التي انطلقت بصوت روان وهي تسير بخطى مسرعة لتنزل نحو مدخل المستشفى حيث ستستقبل الدكتور رشيد الذي حضر مع بعض معاونيه. بقي متسمراً في مكانه يطالع نهاية الممر بنقطة الانعطاف تلك بالتحديد التي اختفت بها روان يترقب ظهورها من جديد برفقة رشيد وقلبه كان ينبض بطريقة وكأنه يضرب نفسه بجدار صدره يكاد يحطمه ويخرج مرعوباً من سماعه صوت استقامة خط نبضات قلبها قبل وصول رشيد. وكأن رشيد سيمنع ملاك الموت من أخذها إن اراد ذلك!

ظهرت فجأة روان تسير بخطى سريعة بجانب رجل لامس عمره بداية الستينات وخلفه يسير بعض معاونيه يوازوهم في الخطى وعلى يمينهم ايهاب يشرح بالتزامن مع روان الحالة بينما رشيد كان يستمع بملامح مقتضبة كعادة اغلب الاطباء من نوعه.

لم يشعر إلا برياح مرورهم من جانبه ودخولهم غرفة ليلى ليبدأ رشيد بفحصها قبل الاطلاع على اوراقها الطبية. بقي واقفاً في مكانه دون أن يدخل. ليس لكونه غير مهتم. بل كان خائفاً من سماع تلك الكلمات التي ستخرج من فم رشيد وهو يخبرهم أن الاوان قد فات على انقاذها. فجأة كان بارد بشكل مخيف. لم يكن يملك القوة الكافية لينهار مرة اخرى. لقد نفذت طاقته وهلك قلبه قبل حتى أن يهلك قلبها!

خرج رشيد بعد خمسة عشر دقيقة وتوجه نحو مكتب روان ليجلس هناك بينما الجميع ملتف حوله ينتظرون قرار اعدامهم أو افراجهم. كان يحدق بالأوراق بتمعن ويقلبها بين يديه وهو يهز رأسه بين تارة واخرى. التفت نحو حقيبة الدواء التي تحتوي على كل ادوية ليلى التي تتناولها منذ بداية المرض والى الان وقلّبها علبة بعد اخرى وهو يقرا محتوياتها ثم يعود ليطالع الاوراق. فجأة رفع رأسه نحو ايهاب وروان بالتحديد وبعض الاطباء الاخرين المختصين برحلة علاج ليلى وقال:.

-اين اوراق العملية؟
حدق أحدهم بالآخر بصمت من دون تعليق حتى تجرأ ايهاب وقال:
-في الحقيقة لم نجري عملية.
رد رشيد مستغرباً:
-ماذا تعني بأنكم لم تجروا عملية؟ ألم تأخذوا عينة من الورم؟
فردت روان مبررة:.

-كان للمريضة ظروف خاصة منعتنا من اجراء العملية. ومن ثم حين بدأنا بالعلاج ورأينا انتشار الورم لم نكن نحتاج لأثبات أنه ورم خبيث. لقد اثبت هذا بنفسه. بالإضافة لم نستطع ازالته بعملية جراحية لمكانه الحساس والخطر. لذلك اكتفينا بالعلاج الكيمياوي.
بقي رشيد يحدق بهم للحظات ثم قال بامتعاض:
-لابد أنكم تمازحوني!
-نحن.
فرد بحدة:.

-كل تبريراتكم غير مقنعة. ماذا تعني ظروف المريضة حضرة الطبيبة؟ هل هي أهم من حياتها؟ حسب ما فهمت فأغلبكم هنا ذا صلة بها. فهل جرفتكم عاطفتكم لهذه الساذجة؟ أم اهمالكم؟
سكت الجميع ولم يرد بشيء كطلاب يتلقون التأنيب من معلمهم لعدم حل الواجب البيتي.
نهض رشيد قائلاً:
-حضّروا لي غرفة العمليات على الفور. سنأخذ عينة.
أسرع الجميع من دون أي جدال ليتحضروا بينما رافق البعض رشيد ليتهيأ من أجلها.

طوال الوقت الذي مر وحالة القلق التي كان الجميع يعيشها كان يزن يبدو هادئاً بشكل غريب. لقد أعلن استسلامه لوداع لم يكن لديه خيار في الخضوع له.
رفع بصره بضعف نحو جيهان. كانت تبدو الوحيدة التي تشابهه في الحال. جفت دموعها على وجنتيها واكتفت بالصمت بعد البكاء بصوت مسموع لساعات طويلة. يبدو ان الفراق أرهقها هي ايضاً. فهي اليوم ليست على وشك أن تفقد أبنتها فقط. هي على وشك فقدان أمومتها الى الابد!

حوّله نحو أبيها. جدها. أمه هو. أبيه. مازن. الجميع كان يرسم الفجيعة على وجهه قبل حتى أن يحين وقتها. لما الجميع يتحضر لموتها عداه هو فقط؟ لما لا يستطيع أن يبكي كما كان يفعل؟
تعرت الحياة أمامه ليحتقرها بالشكل الذي حتى لو كانت ستمنحه سعادة ابدية ما كان سيبالي بها إن كانت خالية من ليلى.
بعد وقت لم يكن بالطويل خرج رشيد من غرفة العمليات فاستقبله الجميع متلهفين لسماع ما سيقول فقال قبل أن يسأله أحدهم:.

-أخذنا الخزعة وستظهر النتيجة بعد أسبوع. سأعود لأرى النتائج بنفسي.
فسأله يزن وكأنه يخاف أن يرحل ويتركها فتتلاشى من بين أيديهم:
-هل ستكون بخير الى ذلك الحين؟
-أتمنى أن تكون كذلك. عدا ذلك ليس بيدينا أي شيء لفعله.
وذهب رشيد. ليس من أمامهم فقط بل من المستشفى والمدينة بأكملها ليترك ليلى ترقد بذات بسباتها دون أن ينتهي.

عاد الاطباء ليخضعوها لجرع الاشعاع الكيمياوي بيأس من أن الأمر سيأخذ أي نتيجة. ولكن الغريب أنه فعل. ولأول مرة شاهدوا تقلص ضئيل بحجم الورم!
كانت روان تجلس في مكتبها تطالع اوراق العلاج بحيرة الى أن شد انتباهها طرقات خفيفة على بابها. رفعت رأسها لترى مازن عند الباب فتبسمت بتعب وقالت:
-منذ متى هذا الادب لتطرق باباً مفتوح؟
بادلها ابتسامة بالكاد ترى وقال:.

-ليس عليكِ إشعاري من أنني كنت أفتح عليكِ حتى باب الحمام دون أن أطرقه
اتسعت ابتسامتها بعض الشيء وهي تشير له نحو الكرسي الخالي بالجانب الاخر من مكتبها وقالت:
-تفضل أرجوك.
جلس وقال وكأنه يبرر سبب مجيئه:
-إذاً؟ هل من جديد؟
زفرت بحيرة وقالت:
-هناك تقلص بحجم الورم. حتى وأن كان ضئيلاً. ولكنه حصل.
فقال بشيء من الفرحة:
-وهذا يبشر بالخير. أليس كذلك؟
-من المفترض.
-إذاً لِما لستِ كذلك؟

مسحت وجهها بتعب براحة يدها وقالت بينما تطرح انفاسها:
-كنت أتناقش مع يزن بهذا الخصوص قبل حضورك. ورمها يا مازن يشبه التعامل مع طفل مزاجي. لا تدري ما الذي سيرضيه وما الذي سيثير سخطه فجأة. لم نفعل أي شيء جديد ولكن مع ذلك تقلص. لماذا؟
-المهم أنه تقلص.

-وما الذي سيضمن لنا من أنه لن يعاود التضخم، وبقوة أكبر، هذه المرة؟ أريد أن أفهم طبيعة هذا الورم وكيف يمكننا التعامل معه بشكل قطعي. وليس أن نتصرف بشكل عشوائي دون أن نعرف الاسباب التي ستدفعه للتضخم أو العكس.
-متى ستظهر النتائج؟
-غداً.
-ومتى سيأتي رشيد؟
-غداً كذلك. حسب ما أخبرني.
-جيد.

قال كلمته الاخيرة دون أن يضيف شيء بعدها. ولم ينهض من مكانه بل بدل ذلك أخرج هاتفه وبقي يتصفح به بينما هي تطالعه بابتسامة تحمل بعض التعجب والسعادة في الوقت ذاته لأنه لم يغادر مكتبها رغم انتهاء المحادثة. نظر اليها بالصدفة فعاد لينظر بسرعة مرة اخرى نحوها وقال:
-أهناك شيء؟
هزت رأسها بالنفي وقالت:
-ابداً.
حاول أن يكتم ابتسامته وقد أدرك سبب نظراتها وقال بينما عاد ليطالع هاتفه:.

-إذاً أنزلي عينيكِ نحو اوراقكِ سيكون افضل.
اسندت ذقنها وجانب وجهها على راحة يدها وقالت:
-حسب لائحة حقوق الانسان والدستور فأن لي حرية النظر نحو أي شيء دون أن تملك الحق بمنعي من ذلك.
-أخرستني!
-و. ه. م
-وماذا يعني ذلك؟
-وهو المطلوب.

حدّق بعينيها مبتسماً لفترة أطول وكأنه أشتاق حقاً لمحادثات من هذا النوع. محادثات لطالما نام ليله مفكراً بها كي يرتاح عقله ويرضخ له جسده وينام بدل ذلك الارق الذي يصاب بها نتيجة جفائها!
بينما كان ربيع مازن يزهر من جديد كان يزن يعلن عن تساقط اوراق خريفه الواحدة تلو الاخرى دون أن تدب أي حياة داخل جسده المنهك بينما كان يجاور سريرها ويحتضن يدها بين كلتا يديه.

مهما تأسى المقربون مما يصيبك فلا أحد فيهم سينسى سعادته من أجلك وأنت الوحيد من ستشعر بمدى ألم ذلك الجرح الذي يستمر بالتوسع داخلك. أخرج ورقة مطوية من جيب سترته الطبية وقال بينما يجفف بقايا دموعه:.

-أتعلمين. منذ ذلك اليوم الذي أهديتني فيه هدية عيد ميلادي، مائة رسالة، أصبحت أجلس في كل ليلة أتحدث أليكِ دون حتى أن تعرفي ذلك. كنت أعاتبكِ، أبث لكِ حزني، أعلن عن مدى حبي وأحقن نفسي ببقايا أمل معدوم من إننا سنكون معاً في اخر المطاف. وكأنني لم أكن أخط لكِ رسائل بل أسرد قصة نهايتها بين يداي فأخلق من أجل نفسي سعادة وهمية لأهرب من واقع لستِ فيه.
ثم لوّح بالورقة بين يديه مبتسماً بإحباط:.

-كتبت هذه من أجلكِ البارحة. كنت أمزق ورقة من الدفتر في كل مرة أخط من أجلكِ رسالة ولا تسأليني لِما أفعل ذلك ولا أكتبها دون أن أمزقها. وكأنني سأبعثها لكِ في ظرف ذات يوم. ، على الرغم أنها لم تغادر درج مكتبي قط!
دسها تحت رأسها ومنحها قبلة أعلى جبينها اثناء ما يفعل ذلك وهمس قائلاً:
-فقط أستيقظي. لأحارب الدنيا من أجلكِ هذه المرة.
حدّق بوجهها ومسحه برفق وأكمل:.

-حتى وأن رفضتِ أيتها العنيدة فلن أسمح لكِ هذه المرة بالرحيل وسأتشبث بكِ!
-غريب هو الاحتضار!
التفت نحو صوت جيهان الذي اخترق سكون المكان بينما كانت تطالعها بعيون خاوية القوى وأكملت بضعف:
-وكأنها صفعة متأخرة. أو شريط فديو لحياتنا يجعلنا ننتبه فوراً على كل ما ارتكبناه من اخطاء فيجعل الندم يتآكلنا في لحظاتنا الاخيرة.
-ليتها واعية فقط لتعيش على الاقل بيننا لحظات احتضارها.

تبسمت بألم بينما تنظر نحو عينيه وقالت:
-لا أقصد ليلى بالاحتضار. بل نحن. فليلى قد ماتت حتى وأن أنكرنا حقيقة هذا الشيء. لم يعد يربطها بهذه الحياة سوى هذه الاسلاك. لا أظنها تعتبر حية بعد الان!

حدق بها وكأن أحدهم قد ألقى دلو ماء بارد فوق رأسه المشتعل. وكأنها فجأة حطمت له كل الاكاذيب والآمال الزائفة التي كان يرسمها بعقله. حتى والدتها قد فقدت الايمان بها. وكأن الجميع تركوها للموت تصارعه بمفردها فأما تنجو أو تخسر حياتها مقابل استسلامها.

مرت الايام الثلاث وحالة ليلى مستقرة بشكل يثير الحيرة دون السعادة. كانوا يخشون أن يكون هذا الهدوء الذي يسبق العاصفة المرعبة التي كانت من المفترض أن تقع
حضر الدكتور رشيد ليطلع على نتائج التحليل التي أدخلت الجميع بصدمة. لقد كان الورم حميد!
بقي يطالع روان وايهاب بالأخص دوناً عن البقية بنظرات ممتعضة وقال ببرود:
-هل لديكم أي شيء لتقولوه بما أنكما أكثر اثنين مسؤولين عن وصول حالة المريضة الى هذا الوضع؟

فقالت روان بتلكأ:
-ولكن حضرة الطبيب. هذا مستحيل. الحميد لا يتضخم.
-دكتورة روان. متى بدأ الورم بالتضخم بالضبط؟
قبل أن ترد أجاب هو:
-بعد جلسات العلاج إن لم أكن مخطئاً. أليس كذلك؟
فردت باستغراب:
-بالضبط.
-هل فكرتم يوماً بمراجعة سجل الادوية التي تأخذها؟
ثم نشر على المكتب كل أدوية ليلى وقال يحاول تحقير فريقها الطبي:
- ركزي جيداً حضرة الطبيبة. هل هنالك شيء يجذب نظركِ؟

وقبل أن ترد قاطعها مرة اخرى وهو يقدم علبتين من الادوية بينما يكمل:
-مثلاً هذه المسكنات وادوية المعدة التي تتناولها. ألم تجذب نظركِ وتذكركِ أنه لا يجوز اعطاء المريض اثناء فترة العلاج هذا النوع من الادوية لأنه بالكثير من الاحيان يؤدي الى تضخم الورم واضطرابه حتى وأن كان حميداً؟ ألم يدرس أي منكم هذا؟

وضعت يدها بشكل تلقائي على فمها المفتوح نسبياً من الصدمة بينما يتحول وجهها للأصفر. فهي تعرف جيداً ما هي مساوئ هذا الاهمال. ليس على مهنتهم فقط بل كاد ثمنه أن يكون حياة شابة في مقتبل ربيعها. قالت بعد لحظات من الصمت:
-ولكن. لم يوصف أي منا هذا الدواء لها. أعلم أن هذا ليس مبرر لنا كوننا غفلنا عن هذا الشيء ولم نبقي المريضة على اطلاع به. ولكن لم يوصف أي منا هذا العلاج لها أنا متأكدة.

فجأة تهاوى جسد يزن على الاريكة الموجودة في الغرفة واسقط رأسه بين يديه بينما يقول بصمت متعب وثقيل:
-إلا أن كانت تأخذه من تلقاء نفسها.
فقال رشيد باستهجان:
-وكيف يمكن لصيدلية أن تعطيها مسكنات بهذه القوة دون وصفة طبيب تتجدد شهرياً؟
نظر نحو رشيد بينما يقول بذات النبرة الهزيلة:
-كانت تستخدم دفتر وصفاتي الطبي قبل أن أكتشف أمر مرضها. وبعد أن اكتشفت ذلك نسيت أمر الدواء تماماً.
اومئ رشيد برأسه بسخط وقال:.

-جيد. جريمة اخرى تنضم للوسط.
لم يملك أبويها اي شيء ليقولاه أو ليعلقا به ولم يهمهما سوى شيء واحد وقد سألته جيهان فوراً ما أن كفّوا عن الحديث لثواني:
-هل يعني أنها ستنجو الان حضرتك؟
-من المفترض أن يحصل هذا بنسبة 80% أن لم يؤثر تضخم بشكل سلبي على اجزاء دماغها.
ثم نهض قائلاً:
-أما بالنسبة لكما انتما الاثنين.
وأشار نحو روان ويزن وأكمل:.

-فسيتم سحب رخصتكما الطبية لمدة سنة كاملة بسبب اهمالكما وجعل العواطف تؤثر على قرارتكما التي كادت أن تنهي حياة أنسان. ولتشكرا الله أنها كانت من دون قصد وألا لكنت سحبت الرخصة لمدى العمر. وسأحرص على سحب رخصتكما وتقديم الدعوة بنفسي كي لا يحصل تلاعب بالأمر واستمراركما بالعمل.
ثم نظر نحو ايهاب وأكمل:
-ولتحمد الله أنت أنك كنت طرف بعيد نوعاً ما ولن تتأثر بهذا. أنت أو فريقها الطبي.

ثم جمع أوراقه وقال بينما ينظر لأبيها:
-وأما بالنسبة للمريضة فلمصلحتها أنصحك أن تنقلها نحو المستشفى التي أعمل بها لأشرف على أكما علاجها بنفسي. وضع بحسبانك أن هذا يتضمن انتقالكم للمدينة حيث يوجد مشفاي: د
فرد أحم على الفور:
-سيحصل هذا ومن دون شك. سأبدأ بأجراء معاملات نقلها في الحال.

اومئ رشيد من غير تعليق وخرج من الغرفة بينما كانت روان تقف متسمرة في مكانها تبكي بصمت بينما تعصر يديها بقوة لتكتم رد فعلها وانفجارها بينما يزن لم يبالي كثيراً بأمر فصله لمدة سنة فأهم شيء أن ليلى ستنجو. ما أن خرج رشيد حتى خرجت روان مسرعة تحت أنظار مازن المشفقة.

نزعت معطفها الطبي بعصبية ودخلت لغرفة الخزانات لتجمع كل حاجياتها الشخصية. فلم تنتظر المدير ليخبرها بأمر فصلها بعد أن توجه رشيد أليه وقررت الخروج قبل ذلك. نزعت شارتها الطبية بسخط ورمت المعطف داخل الخزانة وأقفلتها ثم سلمت المفاتيح والشارة نحو الاستعلامات وخرجت بعيون محمرة ووجه مقتضب وصوت مازن ينادي خلفها دون أن تبالي. أوقفها قبل أن تصل لسيارتها وهو يمسكها من يدها فسحبتها على الفور وردت بعصبية:.

-أتركني وشأني مازن.
فقال فوراً باستعطاف:
-ما ذنبي أنا بما حصل؟
فردت بغضب أشد بينما لا تزال دموعها تتساقط لتعلن مدى وجعها:.

-وما ذنبي أنا بما حصل؟ أهذا عادل؟ ما ذنبي أنا بقرارات ليلى؟ أهذا ما أستحقه لأني جعلت قلبي هو من يتخذ القرار بدل عقلي الصلد؟ أهذا ما أستحقه لأني كنت أكثر طيبة من أن أجرحها وأغضبها بمخالفة رغباتها؟ نعم أنا أخطأت. ولكني الله كان يعرف أن خطئي فقط لأني كنت أشفق عليها وليس لأؤذيها. أهذا ما أستحقه في النهاية مازن؟ أن أطرد من وظيفتي لمدة سنة؟

-ألا تقولين لي دائماً أن كل شيء يحصل لسبب. فأين مواعظكِ هذه الان؟
-مازن. ما الفائدة التي ستنتج من بقائي في المنزل من دون عمل؟ أين الخير في هذا لي؟ أشعر وكأنه عقاب على ذنب لم أرتكبه.
-ربما الله عرف أنكِ سترفضين اقتراحي بأن نأخذ إجازة لمدة سنة بعد زواجنا لنسافر أينما شئنا. لذلك أجبرك على فعلها بهذه الطريقة.

حملقت بوجهه لحظات بعدم استيعاب وهي تطرف بعينيها بحيرة لتخرس حروفها بعدها دون أن تجرأ على النطق لا سيما وهي ترى تعابيره الباردة من دون أي ابتسامة أو أي شيء اخر. وكأنه يتحدث بموضوع ناقشاه سابقاً لعدة مرات وليس وكأنها المرة الاولى التي يطلب منها شيء كهذا. في الحقيقة هو لم يطلب. هو كان يخبرها وكأنه شيء منتهين منه وتمت الموافقة عليه مسبقاً. ازدردت ريقها بتوتر وقالت وقد انكسرت نبرتها الغاضبة فجأة:.

-أتتحدث بجدية؟!
هز رأسه بيأس ولا يزال مصراً على عدم الابتسام:
-أنتن النساء حتى وأن كنتن على منصة الاعدام وطلب احداً منكم الزواج ستنسين أمر المقصلة فوراً. أين ذهب صوتكِ العالي وبكائك فجأة؟
أعادت خصلة نافرة من شعرها خلف أذنها بخجل وقالت بأحراج بينما تتنحنح لتجلي صوتها:
-أنا لم أقل إني موافقة.
-وأنا لم أسألكِ إن كنتِ كذلك.
-أظن أنه من المفترض أنك تحتاج موافقتي ليحصل ذلك. عدا ذلك سيعتبرونك اختطفتني.

-هل لديكِ جواب غير نعم؟
-لا
-لديكِ لا؟
أعني لا ليس لدي
-اذاً لا داعي لأفلام جيمس بوند ولا تجمحي بمخيلتكِ
- ألا يفترض أن تركع على ركبتك وما شابه وتقول هل تقبلين الزواج بي؟
-جدياً. متى ستكفين عن مشاهدة هذا النوع من الافلام؟
-هل ستفعل ذلك أم لا؟

نظر حوله بإحراج وعاد لينظر نحوها وهي بالكاد تكتم ضحكتها ورفعت حاجبها بتحدي. كز على أسنانه بغيض وجلس على ركبة وأثنى الاخرى وبالكاد أخرج كلماته من داخل فكه المنقبض وهي يتلفت بارتباك خشية أن يراهم أحد:
-هل تقبلين الزواج بي يا روان؟
فردت بتباهي اكثر:
-بل قل هل تمنحيني شرف الارتباط بي الى الابد؟
نهض من مكانه وقال بعصبية:
-هل ستقبلين أم لا؟
فقالت بامتعاض:.

-ما داعي لكل هذه العصبية. هل تطلب يدي أم تتشاجر معي. حسناً أنا موافقة.
-حسناً. الخميس القادم سيتم عقد قراننا وبعد أن تشفى ليلى سنتزوج.
-أجعلها الجمعة. الخميس سيقومون بوضع خصومات على الفساتين لأشتري لي واحداً.
-أخرجي في الصباح لتشتريه وفي المساء سنعقد قراننا. ليست بمعضلة.
ثم استدار وتركها يريد الرحيل فهتفت خلفه:
-ماذا؟ أهذا كل شيء؟ ألن تعانقني أو شيء من هذا القبيل؟
فهتف من غير أن يتوقف:.

-نحن أمام مدخل الطوارئ أيتها المنحطة. سيطري قليلاً على أخلاقكِ المنحلة
ما أن ذهب حتى قفزت بفرحة ثم نظرت نحو السماء وقالت:
-أنسى كل التفاهات التي قلتها قبل قليل. شكراً لك كثيراً لأنك فصلتني من العمل وجعلته يتحدث.

كان الخدر يدب بسائر جسدها. رأسها ثقيل بشكل يبعث بالمزيد من النعاس وكأنه لم يكتفي من كل هذا السبات. اطرافها متبلدة وعظامها خاملة. كانت تشعر وكأنها مومياء بعث من جديد للحياة فجفت مفاصلها من أي مرونة تساعدها على التحرك.
فتحت جفنيها الملتصقين ببعضهما بصعوبة شديدة وعادت لتسدلهما مرة اخرى ثم تفتحهما من جديد بصعوبة أشد. وكأنهما عيون طفل حديث الولادة يرفض هذه الحياة التي خرج إليها.
السقف يبدو مختلفاً.

الرائحة ذاتها تقريباً ولكن مع ذلك ليست نفسها
أهي الجنة؟
هل هناك مستشفى في الجنة؟
-ليلاي؟!
ادارت رأسها بصعوبة نحو صوت يزن المتلهف وهو يحني جسده عليها وينظر نحو عينيها بفرحة عارمة بينما يحتضن يدها داخل كلتا يديه وكأنها ستهرب منه أن افلتها. قالت بفم جاف وصوت ضعيف:
-هل مت؟
ضحك على سذاجتها وقال:
-مع الاسف. ليس بعد!
-هل سأموت؟
-كنت أتمنى. ولكنكِ عاندتني كما تفعلين دائماً!
ابتسمت بصعوبة وقالت:
-أين أنا اذاً؟

-نقلناكِ نحو مستشفى اخرى.
-اخر مرة أتذكر إننا كنا نجلس على البحر!
قال من وسط ابتسامته الممتزجة بدموعه التي فقد السيطرة عليها بينما يده تتلمس سائر وجهها:
-مر على ذلك وقت طويل يا ليلاي. الوقت الكافي لتهلكيني به!
-كم؟
-حسب قاموسي ربما سنتين أو أكثر. حسب تقويمهم فعدة اسابيع!
تبسمت مرة اخرى وهي تحدق بعينيه القريبة منها فطبع قبلة أعلى رأسها وقال اثناء ذلك:.

-لا تفعلي هذا بي مرة أخرى. تأكدي من حبي وندمي بطريقة أخرى عدا بحياتكِ. لا تهلكيني معكِ!
-ماذا بخصوص المرض؟
-لا تقلقي. تبين أنه ورم حميد. وتقريباً شفيتِ منه!
قطبت حاجبيها باستغراب فقال فوراً:
-أنها قصة طويلة حبيبتي. دعيني أشبع صدري بهذه السعادة والراحة ثم سأسردها لكِ لاحقاً!
قالت بينما دمعة ضعيفة تنزل بهدوء من داخل حدقتيها النعاسة الى جانب وجهها:
-أين الجميع؟

-أنها الساعة الرابعة صباحاً. خلدت أمكِ للنوم قبل نصف ساعة وأبيكِ قبلها بساعة
-ولِما لم تفعل أنت؟
-قال لنا الطبيب أننا نتوقع استيقاظكِ خلال هذه الايام الثلاث فلم أستطع النوم
-متى قال هذا؟
-البارحة صباحاً
-ولا زلت مستيقظاً من حينها؟
فرفع زاوية فمه بابتسامة ساخرة وكأنه يستغرب تعجبها لأنه فعل ذلك. فما عساه أن يفعل غير ذلك؟
هزت رأسها مع ابتسامة وقالت:
-أنت مجنون!
-أعلم. بكِ!
اتسعت ابتسامتها أكثر ثم قالت:.

-أنا أشعر بالجوع.
اختفت ابتسامته هو ووقف منتصباً بظهره وقال باستهجان مزيف:
-ليلى. أنتِ منذ لا أعلم كم جعلتنا نعيش بحالة رعب ومنذ اسابيع في غيبوبة وأنا منذ يومين لم أذق طعم النوم. وهذه هي الجملة الوحيدة التي خطرت على بالكِ بعد دقائق من استيقاظكِ؟
فقالت بدورها مدعية التأثر:
-أنت محق. لا تبدو أشعر بالجوع مناسبة!
ثم أردفت فوراً:
-ما بي أكثر من كلمة جوع. أشعر بمعدتي صحراء قاحلة يا يزن!

تمتم مستغفراً وهو يتماشى مع دورها وقال:
-لقد أخبرتهم أن محاولة انقاذكِ غلطة فادحة. ولكن لم يستمعوا لي.
ثم تركها ورحل بينما هي تضحك ثم عاد بعد دقائق ومعه كعكة صغيرة مغلفة بالإضافة الى وسادة وغطاء بالإضافة للطبيب رشيد الذي بدأ بمعاينتها ليتأكد من أن كل شيء بخير.

ما أن خرج رشيد حتى رمى يزن بالكعكة عليها وافترش الغطاء على الارض ووضع الوسادة لينام بينما يرفع يده ليتمسك بطرف ثوبها وكأنه يخشى أن يستيقظ ويكتشف أن ما يعيشه حالياً من سعادة هو مجرد حلم اخر ينضم لقائمة الاحلام والكوابيس التي تراوده كل ليلة عنها، كانت تلك الليلة الوحيدة التي ينام فيها براحة ولكن مع الاسف ليس بعمق شديد فهي لم تسمح له بإكمال نومه لمدة نصف ساعة كاملة قبل أن توقظه لتخبره ما أن اكتفى من النوم أم لا؟ كي يجلس ليتحدث معها فهي تشعر بالضجر رغم أنه اعطاها هاتفه لتتصفحه ولكن لم ينفع معها. وايضاً بدل أن تتصفح المواقع كانت تفتش رسائله وتوقظه بين تارة واخرى لتسأله عن أحداهن وما صلتها به؟ ولما ترسل له رسالة؟ لو كان أحد غيرها لقام يزن لذبحه فوراً من شدة تعبه. ولكنه اشتاق بالفعل لجنونها هذا الذي دثروه لها منذ شهور كثيرة والان فقط بدأ يطفوا للسطح من جديد!

مرت يومين على استيقاظها. لم يصدق أي أحد - ولا حتى هي – ان ما حصل قد أنقضى. كان كعاصفة ترابية انقشعت بعد أن هدمت كل شيء بطريقها. سكنت فجأة وبدأ كل شخص يقف مرة اخرى أو يحاول أن يفعل ذلك.

كانت تجلس في حديقة المستشفى ترتدي ملابس مرضى المشافي التي اعتاد جسدها على السجن داخلها بينما يجاورها ذلك الانبوب المعدني المتحرك الذي يرتكز في اعلاه كيس المحلول الملحي الموصول بيدها. كانت تغمض عيناها بينما تبتسم بسعادة وهي تستنشق هذا الهواء النقي بعد مدة طويلة من تقييدها داخل قناع الاوكسجين القابع على وجهها. حتى وأن كان محملاً بمختلف الروائح لا يهمها. هي الان فقط قدرت قيمة الحياة التي وهبها الله لها وكادت أن تتخلى عنها ذات مرة في حمام جدها وهي تحاول الانتحار.

-لم أتخيل أبداً أن اراك تجلسين بيننا هكذا مرة اخرى!
التفتت نحو صوت روان وابتسمت بفرحة وهي تشاهدها لتفتح يدها الغير موصولة بالمحلول فتسعر روان لتجاورها بالجلوس وتعانقها بقوة وهي تقول:
-لا اعرف كيف أوصف ما أشعر به الان من سعادة!
فقالت ليلى بامتنان:
-ولا أعرف كيف أصف لكِ مدى شكري لكل ما فعلته وما تحملته من أجلي طوال هذه الفترة!
فصلت روان العناق وهي تنظر لها بلوم وقالت:
-ألم نتخطى مرحلة الشكر بعد؟

قبل أن ترد ليلى شاهدت خاتم الخطوبة في يدها فتناست الهدوء وفقرة الثناء والشكر وشهقت قائلة:
-ما هذا؟
ارتبكت روان وتوقعت إن ليلى قد لا تتقبل الفكرة بسعادة أو ما شابه فقالت بإحراج:
-في الحقيقة. لم نخطط. حصل الامر فجأة.
فردت ليلى فوراً بضحكة:
-مازن؟!
ضحكت الاخرى بخجل واومأت ب نعم فعانقتها ليلى مرة اخرى ثم نظرت لها وقالت:
-هذا الخبر الذي يستحق السعادة بالفعل!

-لم نقم حفلة او ما شابه. كان مجرد عقد قران بسيط حضره أسرته وصديق أبي وأجلنا الزواج لحين شفائكِ.
فقالت ليلى فوراً بنبرة بدت مختلفة وكأن بعض الانكسار يتخللها:
-وكيف حال مازن؟ لا يزل غاضباً من يزن؟
-مازن ذو قلب ابيض يا ليلى. لا تتوقعي أن يطول خصامه مع يزن.
-ولكنه سيطول معي.

-ربما. حتى وأن عادت العلاقات الرسمية فلا تتوقعي أن تكون أكثر من ذلك. أعني في النهاية كنتِ خطيبته. لا يستطيع التعامل مع الأمر بسهولة حتى وأن حاول!
اومأت بتفهم وقالت:
-وهذا من حقه. ما فعلته كان خطأ ولو بررته ألف مرة سيبقى خطأ!
احتضنت يدها داخل كفيها وقالت:
-مازن سامحكِ يا ليلى صدقيني. أنا أعرفه اكثر من الجميع. أنه مجروح فقط مما حصل. أعطوه فرصة!

وفجأة سمعتا صوت بوق سيارة فالتفتت روان ونظرت ليلى حيث تنظر فرأت مازن يقف بالقرب من سيارته ينتظر روان. بقيت ليلى تنظر له بحسرة. هي لا تحبه كما تحب يزن. ولكنه كان شيئاً مميزاً بحياتها وكانت حزينة لانتهاء العلاقة بهذه الطريقة السيئة بينهما. تمنت حقاً لو انها تعرفت عليه بظروف أفضل. لو انها تعرفت عليه وهي زوجة يزن أو حتى تعرفت عليه كصديق يزن. فمازن لم يكن شخص يستحق الخسران. كان انسان لا يعوض بحق!

نظر لها روان وقالت:
-مضطرة أن أذهب. الطريق الى مدينتنا يستغرق ساعة ومازن لديه مناوبة في المستشفى هذه اللية ولا يمكننا التأخر. وأنا تأخرت فوق بما فيه الكفاية فلقد ذهبتِ الى غرفتكِ ظناً مني إنكِ هناك. ودعيني لا أؤخره أكثر.
تبسمت ليلى وقالت:
-لا تقلقي عزيزتي. وشكراً لكِ على هذه الزيارة أسعدتني بها. و.
صمتت للحظات ثم استرسلت:
-أبلغي سلامي لمازن.
تبسمت روان ونهضت قائلة:
-سأفعل. الى لقاء قريب.

نهضت ليلى بدورها وقالت:
-اتمنى.
سارت الاخرى نحو السيارة بينما ليلى كانت تحدق بمازن الذي كان يبادلها التحديق. فجأة تبسمت واومأت برأسها كعلامة على السلام. لم يومئ فوراً بل استغرق عدة لحظات حتى اومئ لها يرد لها سلامها ولكن من غير ابتسامة ثم صعد الى سيارتها وتحرك راحلاً هو وروان حتى اختفيا عن مد بصرها.

تبسمت وتنفست براحة وعادت لتجلس على المسطبة الخشبية تحدق بالسماء التي بدأت تميل للون الاحمر تعلن عن اقتراب موعد سبات الشمس اليومي.

شعرت بحركتها قربها ثم عطره يتخلل انفاسها بينما كتفه يلتصق على كتفها ويده تلتف من حولها لتستقر برأسها على صدره وهي لا تزال تراقب لحظات غرق الشمس بداخل جوف الارض. اخر مرة كانت على صدره كانت شمس السماء تشرق وشمسها هي تغرب لتعلن نهايتها. الان شمس السماء رحلت وهي شمسها قد أشرقت من جديد.
قالت بصوت هادئ ممتلئ بالراحة:
-روان كانت هنا.

-أعلم. جاءت لغرفتكِ اولاً تسأل عنكِ فأرشدتها أليكِ ولم استطع اصطحابها. كنت مشغول مع رشيد بخصوص أمر خروجكِ.
-ومازن أيضاً جاء. أتعلم أنهما ارتبطا.
ضحك وقال:
-أجل. أخبرتني البلهاء بذلك قبل يومين.
-سعيدة من أجلهما حقاً.
وضع يده اسفل فكها ورفع وجهها نحوه وقال بينما يغز لها بعينه:
-ومتى ستفرحين من أجلنا؟
ضحكت بينما قالت بعناد:
-ليس قبل أن ينمو شعري!
-هناك شعر اصطناعي أقسم لكِ!
-لا. أريد كل شيء طبيعي.

-هل هذا يعني أنكِ لن تضعي مساحيق التجميل؟
-ما دخل هذا؟ أم لأنك تكرهه فقط؟
-ألم تقولي لتوكِ أنكِ تريدين شيء طبيعي؟
-أجل والمكياج طبيعي. من قال لكِ أنه مزيف؟ وجهي ابيض هو فقط سيجعله أكثر بياض. وجنتاي وردية هو فقط سيجعلها اكثر تورداً.
-اوه حقاً؟ حسب فلسفة من هذه التراهات؟
-حسب فلسفتي. هل لديك اعتراض؟
-اجل.
-جيد. احتفظ بها لنفسك!

ضحك بقوة وضمها أكثر أليه وقبلها من أعلى رأسها. لا بأس أن تضع مساحيق التجميل ولا بأس أن تشرط عليه موعد الزواج متى سيكون. المهم أنها ستكون له في النهاية. بأي شيء قد يطمع أكثر من هذا وهي بين يديه الان؟

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة