رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل السابع عشر
- أنها هي. أليس كذلك؟!
أول جملة نطقتها ليلى بعد صمت طويل. ضاعت منها كل العبارات لتكّون جملة مفيدة مع نطق السيدة لأسمها. شيء من الألم احست به اتجاه والدها وشيء من الندم اتجاه والدتها. فما كان ذنبها بكل هذا؟!
سكنت الاجواء في السيارة بعد سؤالها وتردد أحمد في الإجابة لبعض الوقت. ثواني حتى قال لينفض عنها كل شك في رأسها:
- حبيبتي. أنها شيء من الماضي. هذا لا يعني إني.
قاطعته فوراً من غير أن تنظر أليه:.
- لو عاد بك الزمن. لو إنك أمتلكت الخيار. فمن ستختار؟
- لو أني أعلم مستقبلي هذا؟ كنت سأختار أمكِ ايضاً لتشاركني حياتي!
نظرت له بعدم تصديق فأوقف السيارة على جانب الطريق والتفت اليها وهو يقول: - أمكِ منحتني ليلى أجمل من التي كانت لدي. لذلك لا تظني ولو للحظة إني نادم على قراري. ابداً!
- لكنك لا تزال تحبها يا أبي. أمي مجرد زوجة لطيفة وأم رائعة. مجرد امرأة حياتك معها هادئة وسعيدة. ولكنها لن تكون أبداً حب حياتك. أليس كذلك؟!
- لقد.
فقاطعته مرة اخرى وهي ترفع زاوية فمها بابتسامة متهكمة: - بالطبع لن تكون! لا زلت الى الان تستمع لذات الاغنية في مكتبك كل ليلة لتذكر نفسك بحبها. اسميت ابنتك على اسمها كي لا تنساها ابداً، واليوم رأيت نظراتك اليها. أنت كنت كمن توقف به الزمن يا ابي. عيناك المصدومة كانت على وشك البكاء ويداك كانت تصارع لتبقى ثابتتين دون ضمها أليك. أنت لا تزال مغرماً بها!
ثم تجعد وجهها ببؤس وهي تقول بنبرة مهتزة: - الأمر مؤلم. أليس كذلك؟ أن تبقى طوال حياتك متمسك بحبك الأول وأن لا تنساه ابداً؟
وضع يده على جانب وجهها وهو يقول بأسى: - حبيبتي، أنا حقاً أسف! لقد جربت الأمر وما كان يجب أن أسمح لهذا أن يحصل معكِ أيضاً!
هزت رأسها بالنفي بينما تضع يدها فوق يده وتقول: - الأمر لا يدور عني أنا فقط. المشكلة أن الكثير من حولي سيرتكبون الغلطة ذاتها بسبب عنادهم وكبريائهم!
نظر لها أحمد بعدم فهم فهزت رأسها بمعنى لا تبالي وأعادت انظارها نحو نافذتها تحدق نحو أبعد نقطة مختتمة بهذا حديثهم بينما استسلم احمد لهذا الصمت وعاد ليقود السيارة من غير تعليق اخر!
قريب وصولهم للمنزل قطع عليها شرودها رنين هاتفها. أخرجته من جيب معطفها لتجد أن المتصل روان. لم ترد من فورها بل انتظرت توقف السيارة لتنزل فوراً وتجيبها بعيداً عن مسامع ابيها:
- اهلاً روان.
- اهلاً ليلى. أين أنتِ؟
- لماذا؟
- أردت التحدث معكِ.
- ألا تفعلين ذلك الان؟ ما شأنكِ بمكاني؟!
- يا إلهي! هل أنتِ دائماً وقحة هكذا أم ان الورم يؤثر على السلوك؟!
ضحكت ليلى ضحكة قصيرة لم تتمكن من كتمها ثم قالت: - اختصري الأمر. ماذا تريدين؟
- بخصوص العملية...
- اي عملية؟!
فردت روان بنفاذ صبر: - هل فقدتِ الذاكرة بهذه السرعة؟ عملية أخذ عينة نسيجية من الورم لنثبت أنه خبيث!
تبعثرت كلمات ليلى ما بين زفيرها بضيق وما بين ترددها في البوح ثم اخيراً قالت: - روان. الوقت سيثبت أنه خبيث. أعني مع اعراضه أو اذا تضخم. أليس كذلك؟!
- اجل صحيح. ولكن الى ما تحاولين الوصول؟
- أعني إنه لا داعي لأن نجري العملية. الطبيب عرف فوراً أنه سرطان. وبعد شهر سأجري فحوصات اخرى وأن وجدناه أنه تضخم عن اخر مرة فهذا يعني أنه خبيث.
- ولما سننتظر شهر يا ليلى؟ كل هذه الايام هي ايام من عمركِ. مع كل يوم يمضي من غير أن تعالجي نفسكِ فستتضاءل فرصة علاجكِ أكثر.
- روان أنا لا يمكنني ذلك. أفهميني اتوسل اليكِ، أن أجريت العملية فهذا يتطلب بقائي على الاقل ثلاثة ايام في المستشفى. كيف سأبرر غيابي لأسرتي ولمازن؟ وبعد العملية كيف سأبرر لهم أمر الضمادة على رأسي؟!
فقالت روان باستهجان: - لحظة. أتعنين إنكِ الى الان لا تنوين اخبارهم؟!
- بالطبع لا!
- هل فقدتِ عقلكِ؟ هم سيعرفون بالأمر عاجلاً أم اجلاً!
- من الافضل أن يعرفوا اجلاً إذاً. أنتِ لا تعلمين ما الذي سيحصل لأمي وأبي إن عرفا، هما سيموتان في كل يوم بانتظار موتي. وكذلك.
وقطعت عبارتها وهي تتنهد بألم ثم اكملت:
- مازن سيرفض التخلي عني أن عرف. ويزن سيجبر نفسه ان يسامح لأنه سيشفق علي، الأمر معقد يا روان...
ثم قالت بنبرة متوسلة:.
- هناك الكثير من الاشياء التي اريد فعلها يا روان. والكثير أريد أن أغيره. بي أو بهم. أنتِ من منحتني الأمل صباح هذا اليوم فلا تتخلي عني الان!
- لست اتخلى عنكِ يا ليلى ولكن لا أريد المجازفة!
- لن اجازف. صدقيني لن افعل. سأبدأ بأخذ العلاج وبالتأكيد تساقط شعري لن يحصل على الفور بل سيستغرف فترة.
وهذا سيمنحني الوقت، أريد أن اعيش يا روان بشكل طبيعي وليس أن اتعايش مع شفقتهم واهتمامهم الذي لن أعرفه أهو نابع من حب أم ندم؟ لا أريد ان ابدأ التفكير بهذا الشكل. لذلك سيظل أمر المرض بيننا للوقت الحالي. أرجوكِ!
تنهدت روان بحيرة وهي تقول:
- ليلى المشكلة ليس ان نثبت لأنفسنا أنه خبيث، المشكلة أنه علينا تقديم اوراق رسمية الى اخصائيوا العلاج الكيمياوي بتحاليل مكتوبة وقد تم اثباتها إنكِ تعانين من ورم خبيث!
- أنا لدي ورم، وهذا سبب كافي لأجراء الكيماوي لي. أليس كذلك؟!
تنهدت مرة اخرى وقالت:
- نعم ولكن.
- روان. اخبرتني أن مكان الورم في منطقة خطرة. ولا يمكن استئصاله
- اجل. في جذع الدماغ.
- وسواء كان خبيث أم لا فأنا سأخضع للعلاج.
- نعم.
- إذاً ما حاجتي لهذه العملية؟!
سكتت روان بحيرة ثم قالت حاسمة قرارها:
- حسناً. اظنكِ محقة نوعاً ما.
حينها اطلقت ليلى أنفاسها براحة وهي تنجح بتملصها من العملية ومن ألحاح روان.
اغلقت روان الهاتف وهي تزفر بضيق وتنقر بأصبعها بتوتر على منضدة الاستقبال في قسم الجراحة. قاطعها فجأة صوت يزن وهو يقول:
- الى من كنتِ تتحدثين منذ ساعة؟!
نظرت له بابتسامة وهي تقول:
- هل ستتقمص دور مازن الان؟
ضربها بأصبعه برفق على جبينها وهو يقول:
- جميل جداً يا انسة روان! أن كان مازن غائباً تصبحين منحطة أم ماذا؟
ضحكت بينما تضربه على كتفه وهي تقول:
- أيها الاحمق. اشعرتني إني عديمة التربية!
- يا إلهي. شعرت بهذا لتوكِ؟!
وفجأة قطع عليهما ضحكتهما صوت اياد المزعج وهو يقول:
- مرحبا روان!
اختفت الابتسامة فوراً من وجهيهما ونظرا اليه ما بين سخط وضجر. نقل اياد بصره ما بينهما قبل أن يثبته على روان ليقول بنبرة اقرب الى الاستعطاف:
- أيمكنني التحدث أليكِ لو سمحتِ؟
تقدم يزن اليه ليقول بنبرة جافة:
- لا. لا يمكنك!
نظر اليه اياد بضجر وهو يقول:
- لا اظنني سألتك يزن.
- اعلم. لقد سألتها. لذلك أنا اجيب بدلاً منها!
- هل أنت المسؤول عنها أم ماذا؟!
فرد فوراً صوت مازن وهو يقول:
- أن كان لديك اعتراض حول هذا فاحتفظ به لنفسك.
زفر بضيق وهو يبتسم ساخراً ويقول:
- اوه رائع! تجمعت العصابة معاً، هل هي طفلة أم ماذا؟ لما لا تعطوها فرصة للأجابة حتى!
فقالت روان بانزعاج:
- لو أردت الأجابة لفعلت. ولكني لا اريد التحدث معك.
فعادت نبرة التوسل الى اياد وهو يقول:.
- روان أرجوكِ. لا يمكننا أنهاء كل شيء بهذه البساطة!
- بل يمكننا. وقد فعلت!
فقال مازن بابتسامة مماثلة لتلك التي كان يمنحه اياه اياد كلما كان برفقة روان ليغيضه:
- والان وقد سمعت إجابتها. ارحل!
فقال اياد ليستفزه:
- أنت بالتأكيد اكثرهم سعادة بهذا الانفصال. هل تفكر بأعادة الأمور بينكما الى سابق عهدها يا ترى؟!
كادت روان ان ترد ولكنها ابتلعت حروفها فوراً بصدمة من جواب مازن الذي قاله مبتسماً:.
- ولما لا؟ ربما سأفعل!
فغرت فمها بتفاجئ هي والاثنين الاخرين ينظرون له بعدم تصديق بينما هو مستمر بابتسامته الهادئة يحدق بوجه اياد. ولم يكن يبدو عليه أنه يمزح أو أنه يحاول أغاضة اياد فقط. بل بدا جاداً جداً!
نظر اياد ساخطاً نحو روان ولكن لم تبدو انها تنوي ازاحة نظراتها المصدومة عن وجه مازن. لذلك ببساطة زفر بضيق وترك المكان وهو يشتم سراً بكل الالفاظ البذيئة التي يعرفها!
نظر مازن نحوهما وهم ينظران له بتلك النظرات فقال مدعياً عدم الفهم:
- ماذا هناك؟!
تنحنح كلاهما بارتباك وادعيا النظر في السجلات التي بأيدهم بينما قالت روان:
- لا شيء. مجرد. لا شيء!
فقال بابتسامة عريضة مغيراً مسار الموضوع:
- إذاً. من سيبلغ التاسعة والعشرين غداً!
نظر له يزن بابتسامة مماثلة:
- إياك ان تفكر!
فقالت روان مقاطعة رد مازن:
- بل أنت إياك أن تفكر! سنحتفل ليلة الغد معاً ككل سنة.
- ولكن بشرط من دون كعكة. ليس كما حصل قبل سنتين!
ضحك مازن وهو يقول:
- هيا بالله عليك. لقد كان امراً لطيفاً!
رفع حاجبه بتهكم وهو يقول:
- امراً لطيفاً؟ أن تحضرا من أجلي كعكة تويتي وكأني طفل في الخامسة!
انفجرت روان ضاحكة وهي ترد:
- كان اروع عيد ميلاد حقاً!
قال مازن فوراً وهو يركز ابصاره بنقطة فوق كتف يزن:
- بالحديث عن كعكة تويتي. ألا تلاحظون أن سوزان تنظر نحو يزن كثيراً؟
نظر يزن خلفه بينما نظرت روان نحو مازن وهي تقول:
- لحظة. ما الربط بين تويتي وسوزان؟!
رد ببراءة:
- كلاهما قصيران!
كتمت ابتسامتها وهي تهز رأسها بيأس قائلة:
- لن تنضج ابداً!
حدق بها بنظرة غريبة اربكتها على الفور. عيون تحمل بعض الشوق المكتوم وابتسامة تصر على الظهور كلما تطلع بها.
اشاحت وجهها عنه وهي تدّعي استماعها ليزن بينما يقول:
- اجل لاحظت ذلك. وتجاهلته!
فقال مازن بشيء من اللوم:.
- والى متى يا يزن؟ كلما تحمله من ذكراها هي تلك القلادة الغبية حول عنقك. ما العيب في سوزان لترفضها؟!
زفر بضيق وقال:
- هذا ليس موضوعنا. وليس من شأنك أن تتدخل بحياتي الشخصية!
قوس مازن حاجبيه بتفاجئ من هذا الرد الجاف بينما لمست روان مرفق يزن تحاول تنبيهه الى أسلوبه في الحديث.
تنهد بندم وقال فوراً بتلكأ:
- مازن، أنت تعلم إني لا أعني.
فقال الاخر فوراً:
- لا بأس. أنا أدرك إنك تصبح احمق حين تغضب.
ثم اردف فوراً:.
- غيّر الموضوع. سوزان قادمة!
وفور انتهائه من الجملة جاورتهم سوزان وهي تحمل بيدها الملفات من اجل يزن وقالت:
- لقد انتهينا من فحص العجوز صاحب عجز القلب وهذه نتائج الاشعة والمختبر.
تناول منها الاوراق وقال باختصار:
- حسناً.
فقاطع مازن رحيلها وهو يقول:
- هل أنتِ متفرغة ليلة الغد يا سوزان؟!
نظر اليه يزن محذراً وهو يدرك ما الذي يريد فعله بينما سكتت هي للحظات مفكرة بجدولها ثم قالت:
- اجل. ليس لدي شيء. لماذا؟!
تبسم في الحال وهو يقول:
- رائع! أنتِ مدعوة على حفل عيد ميلاد يزن غداً!
فردت الاخرى بحماس بينما تنظر ليزن:
- هذا رائع! كل عام وأنت بخير.
بالكاد تبسم الاخر بمجاملة وهو يرد:
- شكراً لكِ سوزان.
ثم أردف فوراً:
- عودي الان لعملكِ. لا نريد أن نهمل المرضى بسبب عيد ميلادي.
تبسمت واستأذنت راحلة لينظر يزن بغيض جدي هذه المرة نحو مازن وهو يقول:
- ما هذه السخافة يا مازن؟
فقال الاخر ببرود:.
- يوماً ما ستشكرني. ولو كنت انت مكاني وتراني متقوقع حول ذاتي بسبب هجر إحداهن لي فستفعل المستحيل ايضاً لجعلي أعيش حياة جديدة.
- أنت لا تفهم شيئاً.
فقاطعته روان فوراً وهي تنظر له بنظرة معينة:
- بالضبط!
ففهم فوراً ما تعنيه فاكتفى بالصمت وابتلع باقي تذمره ليتحمل الامر على مضض فقال مازن:
- سوزان فتاة جيدة وتبدو مهتمة بك. لا تكن أحمق.
نظر له بسخط من غير رد فترك مازن المكان ورحل دون أضافة شيء اخر. زفر يزن بضيق وهو يضع الاوراق بسخط على المنضدة بجواره فربتت روان برفق على عضده وهي تقول بعطف:
- مازن لا يعرف اي شيء على الاطلاق يا يزن. ما يعرفه أن صديقه يعاني وهو سيفعل أي شيء ليجعله ينسى. أنه يحبك اكثر من أي شيء اخر. لذلك لا تغضب منه بسبب شيء لا يعرف حقيقته سواك أنت وليلى.
نظر لها بحزن وهو يقول بحيرة:.
- ماذا افعل يا روان؟ هل حقاً سيبقى الوضع على ما هو عليه؟ أنا أموت في كل يوم هي بجواره وبعيدة عني!
- قرر ما الذي تريده بالضبط يا يزن. عليك أتخاذ قرار لن تندم عليه في المستقبل.
- وهذه هي المشكلة. أياً من القرارين سأتخذه فسوف أندم. سواء كانت خسارة ليلى أو خسارة مازن. كلما حاولت الابتعاد عنها فشلت. كلما شعرت إنها لم تعد تعني لي كما السابق وجدت نفسي اتشبث بها أكثر ما ان أسمع صوتها. أحياناً أشعر إني أكرهها حقاً عمّا فعلته. ولكن ما أن ألتقي بها حتى أشعر كم أنا ساذج، أنا أحبها يا روان. أكثر من أي شيء اخر!
شعرت بقلبها ينقبض مع كل كلمة ينطقها يزن واصفاً مدى عشقه لهذه المخلوقة التي تحتضر. والمشكلة أنه لا يعلم أحد ذلك سواها!
اكتفت بالصمت دون أن تجد النصيحة المناسبة التي تصبره بها. تخشى أن تشجعه على التمسك بها فيزداد تعلقه أكثر فيكون موتها أكثر من كافي ليقتله. وبالوقت ذاته قلبها لا يطاوعها على نصيحته بتركها ونسيانها. هي ستقتلهما كلاهما بهذه النصيحة. فالنسيان اشبه بالموت أحياناً. لا ننسى إلا حين نقتل كل شيء جميل بنا ونغدو من دون إحساس!
(شيء من الماضي)
وقفت ليلى ذات ال17 ربيعاً امام مرآتها تطالع بحماس فستانها الاسود الجديد الذي اشترته خصيصاً من أجل حفلة اسرة يزن التي يقيماها منى وخليل بمناسبة ذكرى زواجهما!
تحضّرت لهذه الحفلة منذ اسبوع كامل. اليوم ستثبت له أنها أصبحت فتاة ناضجة ولم تعد تلك الطفلة التي يعتبرها أخته الصغيرة كما يصّر دائماً على توضيح ذلك لها كلما ألتمس منها أهتمام او غيرة. لم تكن تدرك أنه لا يقول ذلك ليزجرها. بل ليزجر نفسه التي بدت تهفو اليها!
- ليلى؟ هل انتهيتِ؟ أنتِ منذ ساعة تحدقين بالمرآة!
قالتها امها بنفاذ صبر فقالت ليلى بحيرة:
- كيف أبدو أمي؟!
- للمرة المليون تبدين رائعة أقسم لكِ. فقط خلصيني وتحركي سنتأخر!
حينها تبسمت بشيء من الرضا وتحركت.
قضت الطريق كله صامتة تعبث بالميدالية الصغيرة في حقيبتها لتخفي ارتجاف يديها المرتبكة. وكأن تحديد مصيرها يعتمد على رد فعله هو. على نظرته لها. هل سيتجاهل الحديث أو النظر اليها كما يفعل مؤخراً؟ أم أنها ستفوز باهتمامه واخيراً؟ هذا ما دفع قلبها للأنقباض من غير أن يرتخي أو ينبض بتعقل!
وصلو الى قاعة الاحتفال حيث ستقام الحفلة فكانت هي اول من نزل من السيارة. بفستانها الاسود ذو الأكمام الطويلة ولكن يكشف عن أغلب ظهرها وينزل بأريحية فوق تفاصيل جسدها الممشوق. كان يكشف بشكل بسيط عن ساقيها ما فوق منطقة الكاحل ولكنها المسافة الكافية لتجذب النظر اليها والى بياض بشرتها الناعمة لا سيما مع حذائها الاحمر ذو الكعب العالي!
تقدمها والديها في المسير لتتبعهما هي تبحث بنظراتها عن مكانه هو بالأخص لتراه قبل أن يراها. لتسرق نظرته الفعلية قبل أن يخفيها ببروده. ولمحته!
يقف بين مجموعة من أصدقائه يستغرق بحديث مسلي وضحكات عالية قبل أن تختفي هذه الضحكات فجأة وهو ينظر اليها بذهول من أخمص قدمها الى قمة رأسها، حينها فقط تبسمت بعمق وراحة وهي تنظر امامها بأريحية مدعية أنها لم تلاحظه جيداً!
ألقت التحية مع اسرتها على منى وخليل الذي اغدقا عليها بسيل من المديح والثناء على جمالها الذي سيسلب عقول شباب الحفلة. وها هم عائلة الفريسة - أعني العريس - قد كسبت أعجابهم مسبقاً. تبقى الهدف فقط وتكون قد أنهت مهمتها كما يجب وستنام ليلتها براحة.
- مرحباً.
قالها يزن بهدوء وابتسامة صغيرة تكتم استيائه وهو يلقي التحية على احمد بادئ الامر. صافحه احمد ومن ثم جيهان ليشيح وجهه نحو أبيه مدعياً الأستماع لحديثه وعدم رؤيته لليلى التي تقف في الخلف، تنحنحت بنبرة مقصودة وهي تقول:
- ماذا يا يزن مع كل هذا الكعب ولا أزال قصيرة ولم تراني؟
نظر الجميع اليها بابتسامة فعلية عداه هو الذي حدق بابتسامة باهتة وهو يلقي تحيته بحاجبيه مدعياً انشغاله بشرب العصير، كانت رد فعله غريبة للجميع وليس لليلى فقط. بالنسبة لهم اعتقدوا إنه منزعج من شيء ما ولا يملك المزاج لمزاحات ليلى الطفولية. أما هي فقد أستنتجت إنها لم تجذب أهتمامه بذلك الشكل الذي توقعته وأن تخطيط الأسبوع قد ذهب كله سدى. لم تدرك أن احدهم يتحمل شعلة نار على مضض في صدره دون أن يتمكن من البوح بها ليخمدها!
سكتت بخيبة ظن دون أن تضيف كلمات أخرى لا سيما بعد استئذانه منهم وعودته نحو أصدقائه.
جلست على مائدتهم المخصصة لهم مع منى وجيهان بينما وقف أحمد وخليل مع مجموعة من الاصدقاء يخوضون احاديثهم المعتادة. وها هي الليلة التي توقعتها مثالية قد تحولت الى جحيم اخر تقضيه ليلى بملل وبمفردها من دون رفقة كما في اغلب الاجتماعات العائلية لهاتين الأسرتين. في الماضي كانت لا تفارقه للحظة وهو يسمح لها بالوقوف بجواره مع اصدقائه كونها صغيرة. ولكنه منعها من ذلك في اخر سنتين كونها لم تعد طفلة. ولكنها في الوقت ذاته بالنسبة له ليست كبيرة كفاية لتكون مناسبة له هو. تتاقضه كان يدفعها للأشتعال غضباً بسببه دون أن تتحدث!
أستأذنت من أمها ومنى لتنهض نحو منضدة المشروبات تختار لها شيء بدل أحاديث الطبخ وديكورات المنزل التي ستصيبها بالاغماء وليس الصداع فقط!
طلبت من النادل عصير العنب المفضل لديها. وما أن أخذت منه الكأس حتى قال أحدهم:
- وأخيراً أحدهم قد طلب عصير العنب. ظننتني الوحيد هنا!
نظرت باستفهام نحو الشاب الذي يجاورها وقالت بهدوء:
- أستسمحك عذراً؟
أشار نحو الكأس الذي في يدها بالكأس الذي بيده وقال:.
- منذ ساعة اراقب الضيوف وجميعهم يأتون الى هنا ليطلبوا أي عصير اخر عدا العنب. ما مشكلتهم مع العنب؟ هل قتل منهم أحد؟
ضحكت بقوة وهي تقول:
- وهل حضرت الحفلة فقط لتحصي عدد الذين يشربون العنب؟
قال بتنهيدة:
- هذا بدل أن أستمع لنقاش أبي واصدقائه عن ارتفاع البورصة أو انخفاضها، بدأت أشعر إني عملة نقدية من كثرة أرقام الاموال التي سمعتها.
ضحكت مرة اخرى حتى أحمّر وجهها فقال الشاب بابتسامة وهو يمد يده:.
- أنا عادل بالمناسبة.
صافحته بدورها وهي ترد:
- وأنا ليلى.
- اعلم. ليلى احمد.
قالت باستغراب:
- وكيف تعرف ذلك؟
قوّس حاجبيه ساخراً وهو يرد:
- أحقاً؟ أنا اجلس بالمقعد الذي خلفكِ مباشرةٍ منذ سنتين. نحن في المدرسة ذاتها.
فغرت فمها بدهشة وهي ترد:
- أأنت جاد؟!
ضرب جبينه بخفة وهو يهز رأسه بيأس:
- لا فائدة ترجى منكِ أقسم بالله!
ضحكت وقالت:
- وهل تريدني أن احفظ كل وجوه زملائي في الصف؟
- لا. ولكن على الاقل احفظي الشخص الذي يجلس خلفكِ منذ سنتين والذي كل يوم يستعير منكِ قلم لأنه ينسى أن يجلب واحد.
- اوه هذا أنت! كنت أعرف أن صوتك مألوف ولكني لم اتذكر أين سمعته.
عدل سترته مدعياً الغرور فأكملت هي:
- أنت اكثر شخص شتمته بسري!
نظر لها ببلاهة لتنفجر ضاحكة وهي تقول:
- بسببك أصبحت أشتري قلمين بدل الواحد لأني أدرك إنك ستطلب مني واحد، لقد كلفتني ثروة يا هذا!
فقال مدعياً الانزعاج:.
- أنه مجرد قلم يا بخيلة!
- فقط لدي سؤال يحيرني. أين تذهب الأقلام التي اعيرها لك؟ هل تأكلهم أم ماذا؟
- أنه ذات السؤال الذي يحيرني. ولكن يبدو أن الاقلام ترفض العيش معي. دائماً تخونني وتذهب هاربة مع حبيبها أو ما شابه ذلك لتتزوج وتنجب اطفالاً بعيداً علي.
- يا إلهي. ما هذه الدراما المبتذلة!
فقال بشيء من الأحراج:
- هذا أفضل من أن أقول إني اعض القلم حتى يصبح غير قابل للأستخدام!
ضحكت بقوة وهي تقول:.
- أحقاً تفعل ذلك؟!
- ليلى!
لم تكن نبرة عادل. بل كانت نبرة يزن الساخطة وهو ينظر لها بغيض. يزن الذي تود أن تقتله هذه الليلة من شدة غضبها منه!
ردت ببرود:
- أجل؟
فقال بنظرة حادة:
- أن كنتِ أنهيتِ ضحككِ هنا فرافقيني!
قالت بينما ترفع حاجبها بكبرياء:
- وأن لم انتهي؟!
حدق بوجهها للحظات ثم قال:
- أعتذر إذاً عن المقاطعة!
توقعت كل شيء إلا هذا! توقعته أن يثور غاضباً أو أن يزجرها. لم تتوقع أن يتركها بهذه البساطة ويرحل!
قال عادل بعد رحيله:
- من هذا الغاضب؟
فقالت من غير أن تنظر اليه:
- عن إذنك!
وتركت كوب عصيرها الذي لم ترتشفه من الاساس فوق المنضدة وتبعت يزن مسرعة.
أمسكته من يده لتوقفه بعد أن تجاهل ندائاتها وقالت فور أن نظر أليها وانفاسه ترتفع وتنخفض بغضب:
- اسفة. لم أقصد ذلك!
سحب يده منها وقال:
- لا تبالي!
وعاد ليسير مجدداً فوقفت امامه مقاطعة عليه طريقه وقالت بترجي:
- بل أبالي!
اشاح وجهه جانباً متجاهلاً تلميحها فقالت متداركة كرامتها:
- أعني. لا يهون على أن أزعج اخي. أليس كذلك؟!
نظر لها بحدة فقالت بأبتسامة مستفزة:
- أليس كذلك؟
فقال فوراً بعصبية:
- من كان ذلك الشاب؟
- زميلي في المدرسة على ما يبدو. اليوم أدركت أنه معي بذات الصف بل وذاتاً يجلس خلفي مباشرةٍ.
فقال بأنفعال:
- وهل تنوين أن تصبحا اصدقاء أم ماذا؟!
فقالت مدعية البراءة:
- وما المشكلة في هذا؟، أعني أن نصبح اصدقاء؟ هل هذا خطأ؟
- بالطبع خطأ. لا يجوز أن تتحدثي مع شاب غريب!
- أنه معي بذات المرحلة. ليس غريب.
- أنتِ لا تعرفيه.
- اجل. لذلك سأتعرف عليه. يبدو شاب لطيف ومرح وقد أضحكني كثيراً. عكسك تماماً.
قطب حاجبيه بغيض وهو يقول:
- وكيف عكسي؟
- أي ليس عصبي المزاج دائماً. أنه لطيف.
فقال بحدة بينما يرفع أصبعه محذراً:
- أن قلتِ لطيف مرة أضافية سأجعلكِ عاجزة عن الحديث لبقية حياتكِ!
بلعت باقي كلماتها فوراً بأرتباك وصمتت من غير تعليق اخر. قال هو بعد لحظات بذات النبرة المنفعلة:
- وما هذا الفستان السخيف الذي ترتديه؟
قلّبت عينيها بملل وهي تقول:
- عدت للتقمص دور الأخ الأكبر؟
- ردي على سؤالي من غير تعليقات سخيفة!
كتفت يديها الى صدرها وهي تشد على حروفها:
- حسناً يا أخي أن أبي وافق مسبقاً على الفستان. قال أنها حفلة عائلية ولا بأس به!
- حفلة عائلية؟ هل كل من في الحفلة من أسرتكِ؟
فقالت باستفزاز:
- لقد قلت لك أن أبي وافق. لا تتدخل أنت!
كز على أسنانه بغيض وأمسكها من مرفقها بقوة وسحبها معه غير مبالياً بأعتراضها وذهب حيث تجلس منى وجيهان ووجّه كلامه الى جيهان وهو يقول:
- سأخذ ليلى الى المنزل.
فقالت باستغراب:
- لماذا؟ هل حصل شيء؟!
- لديها امتحان ولم تنهيه بعد.
نظرت لها جيهان باستياء وهي تقول بملامة:
- ألم أسالكِ وقلتِ إنكِ أنجزتِ كل فروضكِ؟ لماذا لم تخبريني بأمر امتحانك؟
بقيت ليلى تتلكأ في حديثها لا تعرف أي كذبة عليها أن تقول لتكمل كذبة يزن. أي امتحان هذا الذي ستدرسه وهي لا تملكه من الأساس؟
زفرت جيهان بضيق وهي تقول:
-حسناً سنذهب لتدرسي.
فقال يزن معترضاً:
- لا داعي لذلك. ذاتاً سأعود الى المنزل لأني متعب وسأخذها معي.
سكتت لثواني مفكرة ثم قالت:
- حسناً عزيزي. ولكن لا تتركها في الشقة بمفردها. حاول الاطمئنان عليها بين الحين والأخر...
- سأفعل...
وسحبها مرة أخرى من يدها التي لم يتركها من الأساس واخترق الحضور وهو يجرها خلفه من غير أن يهتم بمحاولاتها بسحب يدها وهي تشعر نفسها كالحمقاء بهذا المنظر وكيف يسحبها بهذا الشكل وكأنها ارتكبت ذنباً لا يغتفر!
أول ما خرجا من خارج البناية سحبت يدها بقوة منه وهي تهتف به بقهر:
- هذا يكفي يزن! لن أسمح لك أن.
وقبل أن تكمل جملتها أمسكها من عضدها بقوة وهو يقول من بين اسنانه:.
- أخفضي صوتكِ يا ليلى وألا لن تمر ليلتك على خير!
جعدت وجهها ببؤس واكتست عينيها بطبقة دمع خفيفة جعلته يصمت فوراً ويبتلع باقي حماقاته.
لمح على مسافة مازن وروان نزلا لتوهما من السيارة ويتجهان اليه، زفر بضيق وأفلت يدها وهو يدفعها برفق قائلاً:
- انتظريني قرب سيارتي. ساتي بعد دقائق.
سارت بخطوات ساخطة دون أن تعلق بشيء. نزلت من السلم بينما مازن وروان يصعدا اليه يحدقان بها باستغراب بعد أن شاهدا من بعيد أنها بمشادة مع يزن، لاحظ مازن دموعها التي بدأت بالنزول فأدار بصره باتجاه يزن ليجده شعلة نار متوهجة من الغضب فهمس لروان فوراً:
- أتعرفين من تكون؟!
فهمست بدورها:
- لا اظن إني رأيتها سابقاً. واياك أن تسأله. فهو يبدو غاضباً!
وصلا اليه والقيا التحية بلطف فرد هو باقتضاب محاولاً جعله هادئ قدر الأمكان:
- اهلاً بكما.
فقالت روان:
- هل أنت ذاهب لمكان ما؟
- أجل. مضطر أن أعود للمنزل لظرف طارئ. أعتذر منكما ولكن ستحضران الحفلة بمفردكما!
فقالت روان بأحراج:
- بمفردنا؟ بالكاد نعرف أسرتك يا يزن!
فقال مازن فوراً:
- وما شأننا بأسرته؟ الأهم أن نعرف مكان تقديم الطعام!
تبسم يزن وهو يرد:
- في اخر القاعة.
- هذا رائع. يمكنك الذهاب الان!
فقالت روان بذهول:
- يا إلهي. هل أنت جاد؟!
- ألا يكفي إني معك؟ ما شأنك ببقية الحضور؟
- ولكننا.
فقاطعها يزن فوراً زاجراً:
- روان. أرجوكِ!
نظرت له باستفهام فحرك عينيه بسرعة نحو السيارة. نظرت حيث نظر وشاهدتها تقف عند الباب. فأدركت فوراً أن هذه ليلى!
تبسمت بلطف وقالت له:
- حسناً إذاً أذهب. سنقضي بعض الوقت ونرحل بدورنا.
فقال بينما يتخطاهما راحلاً:
- شكراً لكما كثيراً. واعتذر بشدة!
وصل الى السيارة ليفتحها ففتحت هي الباب بغضب وجلست بداخلها ساخطة تكتف يديها الى صدرها وتشيح وجهها ناحية نافذتها بعيداً عنه.
قاد السيارة بغضب مماثل وقال بعد فترة صمت وجيزة:
- من كان ذلك الأحمق؟
فقالت بنبرتها المهتزة من البكاء من غير أن تنظر اليه:
- اخبرتك أن عادل معي في المدرسة وتعرفت عليه اليوم فقط!
فصرخ بها موبخاً:
- وحفظتِ أسمه ايضاً؟!
فالتفت اليه بانفها المحمر ووجنتيها المتوهجتين من البكاء وهتفت به بانفعال مماثل:
- أجل حفظت أسمه. وأجل سنصبح أصدقاء وسندرس معاً وليس من حقك أن تعترض بشيء!
- ليلى لا تفقديني أعصابي!
- لِما أُفقدك أعصابك؟ أنسيت إنك أنت الذي قلت إني مجرد صغيرة وعلى أن أخوض الأحاديث مع صغار مثلي فأنت أكبر مني وعقولنا مختلفة ولن نتفاهم ابداً؟!
- ما دخل هذا بما نناقشه؟
- بل هذا اساس ما نناقشه. أنت تتلاعب بي وأنا كالساذجة استمر ب...
وقطعت كلماتها فوراً مع تزايد بكائها وحماقة ما ستقوله. عضت شفتها السفلية بندم وهي تشيح وجهها جانباً من غير أن تقول كلمة اخرى. وفعل هو المثل. فضربات قلبه العنيفة منعته من إيجاد جملة أخرى يكمل بها النقاش. هو فهم تماماً تلك الكلمة التي نطقت منها حرف واحد فقط. بل ذاتاً كان يفهم الأمر منذ فترة طويلة ولكن يرفض تقبله!
وصلا نحو البناية حيث شقتيهما فيها. نزلت هي فور توقف السيارة وصفعت الباب بقوة بينما هو زفر بضيق وأعاد رأسه الى الخلف يستند على مقعده. يشعر بالفوضى تعم في رأسه غير قادر على إسكاتها. قلبه يريد شيء وعقله يرفضه. وعقله يقرر شيء وقلبه ينفيه. وها هو داخل حرب ضارية ينتظر فوز أحدهما ليرتاح. ولكن على ما يبدو أن المنافسة ستطول!
نزل بعد لحظات من سيارته وصعد بتعب نحو الشقة.
وصل الى الطابق المنشود وتفاجئ بها تقف عند باب شقتها المقابلة لشقتهم مستندة الى الجدار وتدير رأسها الى الجانب الاخر بعيداً عنه محرجة.
لم يستطع كبح ابتسامته بينما يفتح باب شقته وقال بنبرة ساخرة ليستفزها:
- يبدو إن إحداهن نسيت المفتاح!
فقالت بعصبية:
- ويبدو أن أحدهم لم يعطها فرصة للتحدث لتتذكر أمر المفتاح!
فتح باب الشقة وأشار برأسه قائلاً:
- تعالي لتدخلي.
فردت بعناد:
- لن أفعل!
تبسم وهو يتنهد باستسلام بينما يتقدم اليها. فأصعب ما يواجهه أنه يعجز عن ابقائها غاضبة منه لأكثر من ساعة وسرعان ما يصالحها وينال رضاها، ويصر بعد ذلك أنه لا يعشقها وأنها مجرد مراهقة ساذجة!
وقف أمامها وأمسك كلتا يديها من مرفقيها وقال:
- أنا أسف!
نظرت اليه بعدم رضا ليكمل:
- تعلمين أن أصعب شيء بالنسبة لي هو أن أعتذر لأحدهم. وها انا ذا أعتذر لكِ في كل مرة!
فقالت بينما تفقد سيطرتها على دموعها:.
- لأنك تخطأ بحقي كل مرة وتبالغ بكلامك وردود فعلك على اشياء سخيفة لا تستحق!
نظر لها بنظرة منكسرة وقال بنيرة غريبة أقرب للحزن:
- لا تستحق؟ لو إنك فقط.
وقطع عبارته بينما يطلق تنهيدة ويشيح وجهه جانباً فقالت هي بنبرة أكثر حزناً:
- يزن أنا.
فرد فوراً بنبرة جافة وهو ينظر لها زاجراً:
- أنتِ طفلة يا ليلى!
سحبت يديها بعنف منه وقالت:.
- لست كذلك. وأنت لا تكبرني سوى بخمس سنوات. كف عن معاملتي كما لو كان فارق العمر بيننا عشرون عاماً!
- ليس الأمر هو فارق العمر يا ليلى. لكن أنا عرفتكِ طفلة. مجرد طفلة تقضي أغلب وقتها في منزلي. تزعج نومي ودراستي وأشتري لها الحلوى كلما أحسنت التصرف! لا زلت اراك تلك الصغيرة ذات ال12 عاماً التي لا أزال الى الان أربط لها شرائط حذائها لأنها لا تعرف. هل أمكنكِ أن تعرفي الان كيف اراك!
حركت عيناها الغاضبة والباكية بذات الوقت داخل عيناه المنكسرة وقالت بنبرة ذات معنى:
- إذاً أنا مجرد طفلة بالنسبة لك؟
أخذ نفساً عميقاً بحيرة وأطلقه يحمل كل حسراته ثم نظر اليها مترجياً وهو يقول:
- أنا متعب يا ليلى. ونقاشنا هذا لن يوصلنا الى أي نتيجة. دعينا ندخل الى الشقة أرجوكِ!
فردت بعناد:
- أخبرني أن هذا هو قرارك النهائي وأنك لن تغيره؟!
لم يرد عليها بشيء وسحبها من يدها ليدخلا نحو الشقة بدل أن يتناقشا في ممر البناية وقال ساخطاً:
- أنتِ مُتعِبة وعنيدة حقاً!
أغلق الباب بعنف لتفلت يدها منه بذات العنف وهي تتحدث اليه بأنفعال قائلة:
- لست أنا العنيدة بل أنت الذي لا يمكنه أتخاذ قرار واحد.
ثم قالت بعناد وأصرار:
- أنت لن تتدخل مجدداً فيمن على أن أصادق أو من لا أصادق. لن تتدخل مع من أتحدث أو مع.
فقاطعها فوراً:.
- أهذا كل ما يشغل بالكِ؟ تدخلي المستمر بكِ؟، إذاً لن أفعل هذا مجدداً!
نظرت اليه بصدمة من بروده وبساطته بمثل هذا الموقف وهو يلقي بكل ظنونها جانباً ليمحي كل شكوكها بأمر أهتمامه بها!
تلكأت كلماتها بادئ الأمر ليقول هو بحدة:
- ألديكِ أعتراضات اخرى بشأني تريدين مني تغييرها؟ فقط أخبريني وسأفعل!
ثم تركها ودخل غرفته بهدوء من غير صفع باب أو خطوات غاضبة. ليشعرها بمدى حماقتها من تشبثها به ومحاولاته العديدة في أبعادها عنه. فهو قد أثبت لها الان أنه على استعداد كامل ليفعل أي شيء من اجل أن تتركه فقط حتى وأن عنى ذلك تغييره لكل تصرفاته معها كما تحب وترغب!
اتكات على المنضدة المجاورة لها تحمي جسدها من التداعي. أنها منكسرة وحزينة للحد الذي تكون فيه عاجزة حتى عن الصراخ أو البكاء بصوت مرتفع!
رفعت يدها بضعف وجففت دموعها وقد قررت أن هذه هي نهاية الأمر. ستفلت يده وتقنع نفسها أنه كان مجرد حب طفولة ساذج. هي ستنضج ولكن من أجل غيره من الان فصاعداً وليس من أجله. لن تنتظر عيد ميلادها بشوق لعل هذه السنة سيراها أكبر عن سابقتها. ستتوقف عن كونها حمقاء تتبعه راجية منه أهتمام فعلي وليس لكونه كأخيها!
وبالتأكيد كل هذه القرارات قد تنازلت عنها ونسيت امرها ما أن خرج من باب غرفته. نبض قلبها نبضة عنيفة أيقظت لها كل حواسها. لا سيما مع نظرته النادمة تلك وهو يحدق بها!
نهضت لتستدير موليةٍ اياه ظهرها مدعية تحديقها بلوحة منصوبة على الجدار الذي كان خلفها بينما تجفف بقية دموعها وتستعيد رباطة جأشها!
شعرت بخطواته تتقدم اليها بهدوء. تقف للحظة وتعاود المسير. تتردد في التقدم ثم تقرر أكمال ما بدأته، لحظات من هذا السكون حتى سمعت نبرته الخافتة وهو يقول بتلكأ:
- أنا، أحبكِ!
فتحت عيناها بصدمة غير مستوعبة ما يقول حقاً. أول شيء خطر على بالها أنها فقدت الوعي بعد أن دخل الى الغرفة وكل هذا هو محض هلوسة فقط! حاولت أن تستدير اليه ولكن جسدها مصاب بالشلل التام وعقلها عاجز عن العمل ليأمره بذلك. كيف عسى كلمة من اربع حروف فقط أن يكون لها كل هذا التأثير؟!
فجأة تنشطت حواسها مع انفتاح باب الشقة ودخول منى وخليل أليها. قالت منى بابتسامة:
- اوه أنتِ هنا!
فقالت فوراً بارتباك وكأنها تبرر وجودها:
- المفتاح. لم يكن. لم يكن معي!
ثم اردفت فوراً بينما تخرج من الشقة مسرعة دون أن تنظر لأحد فيهم:
- مع السلامة.
نظرت منى باستغراب نحو يزن وهي تقول:
- ما بها؟!
فقال هو بارتباك مماثل:
- وما ادراني!
ودخل غرفته مسرعاً يحاول ضبط انفعالاته ونبضات قلبه، جلس فوق سريره محدقاً بنقطة معينة امامه بصدمة وهو لا يزال بدوره الى الان غير مستوعباً ما قاله واقدم عليه!
ليلة من أجمل وأصعب الليالي بالنسبة لهما. كلمة واحدة تركتهما مستيقظين حتى الصباح من غير أن يقترب النوم منهما إلا مع بزوغ الفجر.
هو المحظوظ استطاع التغيب عن الدوام. ولكن ليلى المسكينة لم تستطع أقناع أمها أنه ليس لديها أمتحان حقاً وأنه لا مشكلة أن تغيبت اليوم فانتهى بها الأمر تذهب الى المدرسة مع ساعة نوم واحدة!
قضت اليوم بطوله نائمة فوق كرسيها ولا تستيقظ ألا وقت الدرس لذلك لم يجمعها مع عادل سوى التحية فقط!
عادت الى المنزل بخطوات متثاقلة تعد الوقت الذي ستصل فيه من أجل أن تنام!
دخلت من باب البناية وتنشطت كل خلية بجسدها وطار النوم بعيداً وهي ترى يزن يقف عند باب المصعد.
ازدردت ريقها بصعوبة واقتربت بخطوات مرتجفة نحوه بينما تقبض على حزام حقيبتها المدرسية بقوة علّها تستمد منه بعض القوة.
وقفت بجواره بينما هو مستغرق بالتحديق داخل تلك الشاشة الصغيرة اعلى المصعد منتظراً نزوله، فقالت بنبرة خافتة من غير أن تنظر أليه:
- مرحباً.
نظر اليها بارتباك وكأنها أفزعته من حلمه ورد بصوت متلكأ:
- مر. مرحباً.
واستمر ينظر اليها بينما هي تنظر امامها متحاشية التقاء العيون!
أنزل ابصاره نحو حذائها وتبسم حين وجد شرائطه مفتوحة.
وضع مفتاح سيارته في جيب بنطاله المنزلي القصير وجلس القرفصاء عند قدميها وسحب الشرائط وبدأ بربطهن بينما يقول محاولاً خلق اجواء اعتيادية بينهما بدل هذا التوتر:
- يوماً ما لن أكون بجواركِ وستحتاجين الى ربطهم. أنتِ حقاً عليكِ أن تتعلمي كيف تفعلين ذلك!
فقالت قاصدة استفزازه بينما يقف من جديد:
- لا تقلق. عادل يعرف كيف يفعل ذلك!
قال بسخط بينما هي بالكاد تكتم ابتسامتها:
- لا أحب هذا النوع من المزاح!
ظلت محتفظة بابتسامتها الى أن فُتح باب المصعد وصعدا اليه. كان هو يستشيط غضباً بينما هي تستمتع بهذه الغيرة التي تطفو الى السطح غير قادر على إنكارها كما كان يفعل!
فجأة مد يده على زر التوقف الاضطراري في المصعد فتوقف عن التحرك ونظرت هي اليه بتفاجئ لتجده يندفع بالكلام قائلاً بينما يخرج اصابعه واحد تلو الاخر ليعد:.
- اولاً. لن تتحدثي مع شاب من الان فصاعداً. ثانياً. لن تلبسي مجدداً وطوال حياتكِ كلها فستان اسود. ثالثاً. لن تذكري أسم هذا المستفز عادل مجدداً ولن تتحدثي اليه أو تسأليه أو تنظري أليه حتى!
بقيت تتظر له بذهول بينما يكمل هو:
- أليس هذا ما أردته بتصرفاتكِ الحمقاء التي دفعتني للأعتراف البارحة؟ إذاً ستتحملين كل هذه الشروط من غير أن تعترضي!
صمتت للحظات وهي تحدق به ثم قالت:.
- أكنت تعنيها حقاً يزن حين قلتها؟، أم أنك فعلت هذا فقط لتجعلني أنفذ شروطك؟
- ما رأيكِ أنتِ؟
- لا أعلم! الى وقت قريب جداً وأنت مصّر إني مجرد طفلة!
- ولا أزال!
- فما الذي جعلك تعترف؟ أن كنت لا تجدني مناسبة لك وأني مجرد صغيرة بالنسبة لك. فلما قلت ما قلت؟ لما لم تتركني بسذاجتي فقط وما هي إلا فترة وسأنساك!
صمت هو هذه المرة للحظات حتى قال:.
- وهذا ما جعلني أعاود الخروج من الغرفة. هذا ما جعلني أعترف لكِ لأرتاح.
نظرت له بعدم فهم فرفع يده بتردد ليضعها على جانب خدها وهو يحرك ابهامه بشكل دائرة فوق وجنتها بينما يقول:
- أرعبتني فكرة أن تنسيني. وان تحبي غيري. أو أن يجعلكِ ذلك الأحمق تهتمين لأمره!
ثم قال بابتسامة منكسرة:
- ربما لا ندرك قيمة الاشياء إلا حين نوشك على خسارتها!