رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع
وقف مازن امام استعلامات قسم الجراحة يراجع مواعيد عملياته بينما بصره يتجول مراراً وتكراراً ما بين شاشة هاتفه والاوراق. خطيبته التي ارتبط بها مؤخراً تبدو غريبة الاطوار. احياناً تكون لطيفة ومرحة واحياناً تبدو وكأنها بعالم اخر بعيداً عنه. او ربما هو من يتوهم ذلك من شدة تركيزه بها فقط كي يشغل عقله بامرها متناسياً امر روان التي على ما يبدو تحسنت علاقتها بعض الشيء بأياد. ربما هذا ما دفع مازن ليستعجل بخطوبته، فقط ليتناساها. ولكن هل بالفعل بإمكاننا تناسي شيء يكمن بداخلنا مهما كان سيئاً او جيداً؟، الحب مثل الداء الخبيث. ينتشر بداخلنا دون ان نسيطر عليه او نتخلص منه. مجبرين على التعايش معه رغم مساوئه والمه لأنه ببساطة مرض لا علاج له. مهما تحملت هو سيتمكن منك في النهاية!
التفت بابصاره المقتضبة نحو ضحكاتهما وهما يخرجان من باب المصعد بأتجاهه. لقد مرت سنة كاملة تغير فيها الكثير من الاشياء. اياد القاسي فجأة لم يعد كذلك وروان المتحفظة اصبحت تميل بمشاعرها اليه، متّبعة ذات اسلوب مازن في التناسي، تحاول اجبار نفسها بالتركيز مع اياد لتتمكن من التخلص من ذكرى مازن بقلبها.
واما يزن فكان مثل الذي ذهب مع الريح. منذ ان ذهب بتلك البعثة لم يعلم احد عنه شيء من اصدقائه وقطع كل اتصالاته معهم. وكأنه رجل دين اعتكف في صومعته عن البشر. ينهك نفسه بالعمل والدراسة وفعل كل شيء من غير توقف او راحة فقط كي يتمكن من النوم فور القاء جسده على السرير. ولكن من غير فائدة!
- مرحبا مازن!
قالها اياد بابتسامة ولكن بنظرة مغيضة يحاول استفزاز مازن من خلالها لتحسن علاقته بشكل مستمر بروان. منحه مازن نظرة باردة لثواني ثم ادار بؤبؤه نحو زاوية عينه نحو تلك التي تحاول كتم شوقها له وغيرتها التي بدأت تطفو للسطح منذ خطوبته، وبعدها اعاد ابصاره نحو الملفات وقال بنبرة جافة:
- اهلاً!
- كيف حال خطيبتك؟
نظر اليه بإمتعاض وسأله: - وما شأنك بها؟
رفع الاخر كتفيه بأعتيادية وهو يقول: - من باب الادب!
اطلق مازن ضحكة استخاف قصيرة وهو يقول له: - لم اظنك تملك واحداً!
ثم وضع الملفات فوق المنضدة ونظر نحو الممرضة وهو يقول: - استدعي الطبيب رؤوف ليوافيني نحو غرفة العمليات رقم 4.
لتجيبه الاخرى بعملية: - حاضر!
ثم التفت نحو روان وقال: - وانتِ ايضاً انسة روان لا تنسِ القدوم!
اومأت بصمت غير قادرة على نطق حروفها المكتومة بعبرتها التي نجح اياد في خلقها لها في محاولات فاشلة منه لجعلها تكره ذكر مازن!
ترك مازن المكان بخطواته السريعة يحاول سحب انفاسه بعيداً عنهما ويفشل. كلما اخذ نفساً استشعر عطر خصلات شعرها يتخلخل انفاسه. كلما لمح وجهاً كان يرى ملامحها، من الصعب علينا ان ننسى شيء ندمنه!
قطع عليه انفاسه المتلاحقة صوت رنين هاتفه فتبسم نسبياً وهو يلمح اسم خطيبته. اجابها فوراً:
- واخيراً استيقظت الاميرة النائمة!
اطلقت ضحكة قصيرة جداً وهي تجيبه بصوت ناعس:
- وهل كنت تتوقع ان استيقظ في السادسة مثلاً؟
- انها التاسعة والنصف وانا انتظر اتصالك منذ الثامنة!
تثائبت بينما تجيبه: - لتشكر الله اني استيقظت الان من الاساس!
ضحك على عفويتها وقال: - حسناً شكراً لفضلك!
- قلت لك اشكر الله وليس ان تشكرني!
وهنا ضحك بصورة اشد وهو يقول لها:
- يبدو ان لك مزاج للمزاح يا انسة متعكرة المزاج دائماً!
- حسناً يا سيد لطيف دائماً دعني انهض لأتناول فطاري!
فقال بتردد: - اسمعي. ما رأيك ان نتناول الغداء معاً اليوم؟
فقالت باستغراب: - الغداء؟ أليس لديك عمل؟
- لدي عملية واحدة اليوم سأنهيها واطلب بقية اليوم اجازة. ما رأيكِ؟
صمتت للحظات صمت كان يتوقعه. لطالما تعذرت بالف عذر لتتجنب الاتصال به او الخروج معه. كان احياناً يراه خجل فتيات واحياناً اخرى كان يجدها انطوائية. ولكن ليلة البارحة كانت مختلفة، حيث استمر حديثهما -او بالاصح حديثه- الى الرابعة صباحاً ما بين حكايا اضمرها الزمن وما بين مزاحات يليقها ليسمع تلك الضحكة الخافتة التي بالكاد تخرج من بين شفتيها!
- حسناً. لا بأس.
قالتها ليتنفس هو الصعداء قائلاً:.
- اذاً انهي فطوركِ وتعالي للمستشفى لنخرج معاً من هنا.
- اتفقنا.
- حسناً. الى اللقاء عزيزتي.
- الى اللقاء.
والتفت من جديد يريد الاتجاه نحو غرفة العمليات ليصطدم بصره بروان التي تقف خلفه مباشرةٍ تحدق به بنظرات تمزج ما بين السخط والالم، وقبل ان يتفوه بشيء تخطته بخطوات سريعة تداري عنه دمعاتها الضعيفة واتجهت قبله نحو قاعة العمليات، اغمض عيناه بينما يرفع رأسه عالياً لينفث انفاسه بضيق. كلما خطى خطوة بعيداً عنها كانت عيناها تجبره على التشبث بها اكثر!
انتهت العملية بعد ساعة او اكثر وروان مكتفية بالعمل بصمت دون ان تشارك زملائها الحديث بشيء او حتى ان ترفع رأسها من فوق جسد المريض ألا ان احتاجت شيء.
خرج الاطباء من غرفة العمليات وتولى الممرضين بقية المهام فسار مازن بأنهاك وهو يبعد الكمامة عن وجه بعد ان غسل يديه مسبقاً، فتنفس هواء المستشفى المليء بالمعقمات ولكنه على الاقل افضل من حرارة انفاسه المحبوسة خلف الكمامة لتحجب عنه رائحة الدم.
- حضرة الطبيب مازن!
التفت بلهفة قريبة الى الفزع على تلك النبرة الرجولية التي نادت اسمه. استغرق بضع ثواني من الزمن يحدق به بعدم استيعاب ثم فجأة صرخ بفرحة بينما يركض اليه:
- يزن؟
وكطفل التقى ابيه بعد سنين، هكذا القى مازن نفسه عليه ليحتضنه بقوة غير مصدق رجوع رفيق عمره. ضحك يزن وضمه اليه وهو يقول:
- لقد اشتقت لك ايها الاحمق!
نظر اليه مازن بفرحة وهو يشد على عضديه بقوة ويقول:.
- متى عدت؟ ولما لم تخبرني؟ ولما لم تتصل بنا طوال هذه السنة ايها الوغد؟
ثم عاد مرة اخرى يعانقه بقوة وهو لا يصدق عودته فعلاً. وفجأة هتاف انثوي هتف باسم يزن ليلتفت كلاهما نحو روان التي ركضت اليه فوراً لتعانقه بقوة متناسية وجود مازن الذي يكاد يرتكب بها جريمة قتل في اللحظة الحالية!
نظرت اليه روان وهم تضم وجهه بين يديها وتقول:
- متى عدت؟
ثم ضربته على كتفه بقوة - بالنسبة لها كانت قوة- وهتفت به:.
- ولما قطعت اخبارك عنا؟
امسك يزن كتفه مدعّياً الالم وهو يقول:
- يا اللهي! هل حفظتما الجملة ذاتها؟
فالتفت نحو مازن لتدرك وجوده فقط حينها ولتقع على ابصاره الجاحظة والمقتضبه لتسحب نفسها فوراً من بين يدا يزن بدل ان تتعرض لضربة من مازن الذي حينها فقط حتى اشاح بصره عنها.
اعادت مجدداً انظارها نحو يزن وهي تقول له:
- متى عدت؟
- في الامس. وقررت ان اباشر العمل اليوم.
فأجاب مازن:
- ولما لم تتصل بي كي اقلك من المطار؟
- انت تعلم اني لم احتفظ برقم احد منكم.
وقبل ان يرد مازن قطع عليهم محاورتهم صوت جهاز التنبيه في حزام روان دليل على ان هناك حالة طارئة وتم استدعائها، نظرت نحو الجهاز ثم نظرت نحو يزن وهي تقول له:
- سأذهب لأرى بماذا يطلبوني واعود. لا تغادر المستشفى وألا سأقتلك!
ضحك وهو يقول:
- لا تقلقي لن افعل!
ما ان رحلت روان التفت يزن نحو مازن وقال:
- وانت ما هي اخبارك؟
فعدل الاخر نظارته الطبية بينما يقول وهو يرفع ذقنه:.
- لن تحزر!
قطب يزم حاجبيه وهو يسأله باستغراب:
- ماذا؟
رفع مازن اصبع يده البنصر ليرى يزن خاتم خطوبته ففتح الاخر فمه بتفاجئ وهو يضربه على كتفه بحماس وهو يقول:
- منذ متى ارتبطت ايها الخائن؟
ضحك مازن وقال:
- منذ حوالي اسبوعين.
ضمه يزن اليه وقال:
- مبارك لك مازن. انت بالفعل تستحق الافضل.
ثم نظر اليه وقال:
- ومن هي هذه سعيدة الحظ؟
- اتفقت ان تأتي الى المستشفى لنخرج للغداء معاً وسأعرفك عليها.
أيوجد شاب عاقل ومحترم يجعل خطيبته هي من تأتي اليه؟ والى اين؟ الى مكان عمله؟ أأنت جاد؟
ماذا افعل يايزن. انا اعلم ان اخبرتها اني قادم اليها ستتعذر لي بألف عذر كي لاازورها
ولماذا؟
لااعلم. انها غريبة حقاً لااستطيع فهمها.
ربما كانت خجولة لذلك تجد صعوبة في مكالمتك. كثير من الفتيات هكذا.
-ربما.
وقبل ان يرد يزن بشيء رفع مازن ابصاره من فوق كتف يزن ثم تبسم وقال:
لقد وصلت، تلك هي خطيبتي.
التفت يزن بأبتسامة، اختفت شيئاً فشيئاً وتلاشت عن وجهه. شعر ان قلبه ينقبض ومعدته تتقلص تكاد تفرغ كل ماتحويه. تشوش بصره ولم يعد يركز جيداً فيما يراه. هذا حلم. عليه ان يكون كذلك، من المستحيل ان يكون القدر قاسياً هكذا. ان يلعب بقذارة معه. ان يغش. ان يجعله يشعر بما شعرت به. ان يضعه امام اصعب خيارين وعليه ان يختار واحد...
هل جربتم الموت مسبقاً؟ لا؟ اذاً دعوني اوصفه لكم. الموت هو ان تشعر ان الاضواء حولك بدأت تتلاشى. واصوات المحيطين بك تصبح كالصدى في اذنيك. اما قلبك فلا تعلم. أهو منقبض بشدة. ام هو متوقف؟ وانفاسك عميقة تملأ رئتيك ولكنك تختنق. واجزاء جسدك تنفصل بعضها عن بعض. هذا بالضبط ماشعر به يزن وهو يتبع اشارة اصبع مازن الى الفتاة التي يسميها خطيبته. الى ليلى، فتاته هو. حبيبته هو. كيف يجرؤ مازن ان يدعوها ب خطيبته؟ ان يجعلها شيء تخصه؟، أتلك هي حدوده الحمراء؟ يعود بعد سنة ليجدها تطوق اصبع يمينها بخاتم يحمل اسم غيره؟
لم تلاحظه ليلى في البداية ألا عندما وصلت قريب منهما. شاهدت شخص ما ينظر اليها بصدمة. ولكن بعيون تشتعل بالنيران، وبالطبع ان لم نتوقع رؤية شخص معين فأننا لانتعرف اليه فوراً، فجأة توقفت كل الاشياء حولها وتباطأت حركة الناس من حولها ولم تعد ترى او تسمع شيئاً سوى نبضات قلبها السريعة وانفاسها المتصاعدة وصورة ذلك الشاب الذي امامها والذي لم تفارق صورته مخيلتها يوماً. حتى انها نسيت امر مازن تماماً ولم تستطع ان تننزع عينيها عن عيني يزن واصبحت تشعر بغصة في حنجرتها تمنعها من التنفس او التكلم. اما هو. فكان بحالة صدمة لم يستطع حتى ان يربط خيوط افكاره ليفهم مايحصل حوله. كيف؟ ومتى؟ وكيف تجرأت؟ ومن دون الكل. مازن؟ اقرب شخص لديه في هذه الدنيا. وان كان مازن لم يعرف قصة عشقهما وارتبط بها فهل نست هي ال10 سنوات من الحب في سنة؟ لقد قطعت عليه وعداً انها لن تكون لغيره. أهكذا تكون وعود النساء؟
تمتمت بدون وعي وقالت بنبرة مرتجفة:
ي. يزن؟!
فقال مازن بتفاجئ وسط هذين التمثالين الميتين:
لحظة. هل تعرفان بعضكما؟
فتمتمت شفتاه هو هذه المرة وهو يهز رأسه ببطئ بعدم تصديق بينما عيناه جاحظة بصدمة اتجاهها:
- هل. هذه مزحة؟
وعند هذه اللحظة بدأت لهفة مازن تتلاشى وهو ينظر بأستغراب اليهما يحدقان ببعضهما بصدمة وقبل ان ينطق بشيء ليسألهما عما يحصل شحب وجه ليلى واحست بالكون يدور بها وبالارض تتمايل تحت قدميها ثم بعد ذلك لم تشعر بشيء سوى بأنهيار جسدها بين يدي مازن وصوته الذي صرخ بأسمها بفزع. ثم لاشيء. اسودت الدنيا واظلمت. وطاف جسدها في الماء. او في الهواء. لافرق. المهم انه طاف وتخدر ولم تعد تشعر بشيء...