قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس

قبل عدة اسابيع.

اليوم هو الجمعة. وكأي جمعة اخرى فالسيد احمد واسرته يقضونها في منزل الجد يحيى، او كما يطلقون عليه منزل الاسرة الكبير. في كل اسبوع يجتمع جميع افراد العائلة من الابناء والاحفاد هنا لرؤية بعضهم الاخر وزيارة يحيى. فهذه هي احدى قوانينه التي يسنها ويجب عليهم طاعتها. دون ان يدرك ان وجود ليلى هنا بجواره بحد ذاته اصبح بالنسبة لها خانقاً ويجعل ايامها سيئة اكثر مما هي عليه، فمنذ ان رفض ارتباطها بيزن وهي على خلاف معه بالكاد تلقي عليه التحية. بل وبالكاد اصبحت تتحدث مع احد.

جلست بعد انتهاء الغداء فوق الاريكة المجاورة للنافذة الكبيرة المطلة على الحديقة واحتضنت بين يداها كوباً من القهوة ارتشفته ببطئ بينما تراقب تراقص سيقان الزهور التي تتخللها نسمات الهواء الباردة، الشتاء يقترب شيئاً فشيئاً ليجعل عالمها اكثر برودة ووحشة، ربما شهرين لااكثر وسيبدأ البرد القارص في احتلال الاجواء وتغزو قطرات المطر الشوارع لتفرض حظر التجول ألا على العاشقين الذي يتخذونه عذراً ليقتربو من بعض تحت مظلة واحدة، كما كانت تفعل هي ويزن!

شعرت بأنخفاض مستوى الاريكة قليلاً فأنتبهت ان احدهم جلس بجوارها. انتزعت ابصارها من فوق الحديقة وحولتها نحو عيون والدتها المحدقة بي وكأنها تحاول قدر المستطاع اقتحام عقل ابنتها لتدخل وسط تلك الثرثرة والبكاء والصراخ الباطني والذي لم تظهره ابداً واكتفت بالصمت بل واصبح احدى صفاتها المميزة منذ سنة كاملة بالكاد تجيب اسئلتهم او تشاركهم حديث بسيط...

اول ماالتقت ابصارهما تبسمت جيهان وهي تقول لها: لما تجلسين هنا وحيدة ياحبيبتي؟ بنات عمك يجلسن في الحديقة وقد سألوني عنكِ لتوهم فلما لاتنضمين اليهن؟
بالكاد جعلت نبرة صوتها مسموعة وانا تجيبها: لدي صداع امي. لارغبة لدي في خوض الاحاديث.
مسحت على شعرها برفق وهي تقول بقلق: ألا ترين ان صداعك يتزايد حبيبتي؟
انه مجرد صداع امي. لاشيء مهم.
ولكنك تعانين منه اغلب الاوقات. مارأيك ان نذهب للمستشفى لنطمئن؟

فأجابت باقتضاب بعض الشيء: اخبرتكِ ان لاداعي لهذا امي. ماالذي سيعطوه لي غير المسكنات التي انا اخذها بالفعل.
ولكنك ترين انها لاتجدي نفعاً ياعزيزتي.
انها تسكن ألمي لبعض الوقت. وهذا كافي بالنسبة لي.

سكتت امها للحظات تحدق فيها بتألم بينما ليلى تنزل ابصارها نحو كوب قهوتها تعبث بحافته بأبهامها وكأنها تتهرب من نطراتها فقط. ولكن برغم كل شيء جيهان كانت تفهم مايجول بداخلها قليلاً فقالت بعطف: ألا يكفي ياليلى؟ لقد مرت سنة كاملة. ألم يحن الوقت لتنسيه؟ ألا ترين الحالة المزرية التي اصبحتي عليها؟

رفعت اليها ابصارها فقط من دون تحريك رأسها وتوقف اصبعها عن التحرك واستكان فوق الكوب وقالت بنبرة حادة قليلاً: بلى! انا اراها، ولكن أترونها انتم ياترى؟ لاتقولي لي الان انكم ستعترضون على شيء انتم من تسببتم به؟
قولي لي اي حل كان لدينا لنفعله؟ انتِ تعلمين مدى تسلط جدكِ وان قرر شيء فلن يجرؤ احد على الاعتراض، وماحصل قد حصل ولايمكننا الان ان نغير شيء أفلم يحن الوقت لتنسي وتخرجي من انعزالكِ هذا؟

أعادت ليلى كلمتها بتشديد وسخرية:
أنسى؟
ثم اكملت بتألم وكأنها فتحت باب جروحها على مصراعيه بكلمتها هذه:.

كيف لأحد ان ينسى 10 سنوات بسنة واحدة يا امي؟ وهل يزن شيء يمكنني نسيانه بسهوله؟ نسيان حبي له؟ حبه لي؟، اهتمامه؟ تضحياته؟ مساندته لي؟ كيف انسى شخصاً عاش معي طفولتي وصباي وشبابي؟ لم اعرف غيره ولم اقع بغرام سواه، فكيف لشخص اعشقه بهذا الجنون وهو يعشقني بجنون اكبر ان اتخطى امره وامحو ذكراه خلال سنة واحدة؟ بل ولاحتى مئة سنة، هذا مستحيل...
- والحل؟!

سكتت ليلى واشاحت وجهها ناحية النافذة مجدداً وقد وعدت نفسها انها لن تسقط دموعها امام احد مجدداً. تكره تلك الشفقة المرسومة في ملامحهم ناحيتها!
- جيهان؟
التفتت كلاهما نحو نبرة احمد المترددة في الانطلاق من بين شفتيه. اكتفت جيهان التحديق بوجهه وهي تدرك جيداً ان نبرته لا تخلو من القلق.
- ابي يطلب حضوركِ. وافينا الى مكتبه!

ورمق ليلى بنظرة عطف قبل ان يستدير راحلاً لينقبض قلبها فوراً وهي تدرك ان هناك شيء ما ليس على ما يرام!
نهضت جيهان تتبع احمد ويكتنفها شعور ليلى ذاته.
دخلت الى المكتب حيث يجلس يحيى على كرسيه الجلد بينما احمد على الاريكة الجانبية يطرق رأسه مفكراً بحيرة!
- اغلقي الباب خلفكِ يا ابنتي!
قالها بصوته الثقيل فخضعت جيهان بصمت وجاورت احمد مجلسه ولكن بظهر مستقيم وانتباه متحفز. اجتماعات مماثلة نادراً ما تحمل الخير!

ساد الصمت للحظات قبل ان يقطعه يحيى قائلاً وهو يركز ابصاره الجادة داخل عيون جيهان المتوجسة:
- كيف هو حال ابنتكِ يا جيهان؟
تلعثمت بأجابتها وهي لا تدرك غاية السؤال ولكنها قالت على اية حال:
- انها بخير!
- اعني. هل نست حفيد قاسم؟!
- المهم انها خضعت لقرارك عمي!
- لا. هذا ليس المهم. انا لا اريدها ان تحيا بتعاسة فقط لتخضع لقراري.

لو كان المقابل غير يحيى لتسلل الامل لقلب جيهان. ولكن لكونه هو بالاخص فقد اردكت عمق كلماته. فقالت بقلق:
- اذاً؟!
اخذ يحيى نفساً قصيراً ثم قال:
- انا لست احمق يا جيهان. ولست قليل الخبرة. انا اعرف جيداً ما تفعله ابنتكِ، ادرك انها تنتظر عودة حفيد قاسم مرة اخرى. اعرف انها لم تنساه ولا تنوي ذلك!
تنهدت جيهان بضيق وهي تقول:.

- لقد ضغطنا على ليلى بما فيه الكفاية عمي واجبرناها على ترك يزن. لذلك لا اظن انه من العادل ان نجبرها على نسيانه ايضاً!
- لسنا نحن من سنفعل!
قطبت حاجبيها بعدم فهم فأكمل يحيى:
- لديها زميلة في الجامعة قد وصفتها لأبن عمها. ووالد الشاب جاء إلى بالامس ليحدد موعداً. وانا قد وافقت!
وهنا انتفضت جيهان واقفة وهي تهتف بأعتراض:
- هذا مستحيل. هذا سيقتلها!
فقال يحيى بحدة:
- بل هذا ما سينقذها!

ثم وقف بتأهب وهو ينظر بحدة اليها ولأبنه قائلاً:
- وان ظننتم انه بإمكانكم انتظار امل طفيف بموتي لتزويجهما فأنا لن اسمح بذلك، لقد خسرت مستقبلي الدراسي واصبحت القب بين اصدقائي بخريج السجون بسبب قاسم. لذلك لن اسمح بتاتاً ان يأتي حب شباب طائش ان يدعس لي كرامتي. وليلى سترتبط بغيره دامني على قيد الحياة!
فقالت جيهان بقهر:
- ولكن هذا ظلم!
فهتف بوجهها:.

- بل الظلم ان تتركي ابنتكِ تتعذب بأنتظار حب لن اسمح بأكماله. انقاذها هو ان نجعلها ترتبط بغيره. نعم ستتعذب لشهر وشهرين وثلاث. ولكنها في النهاية بشر. والله قد منحنا النسيان لذلك ستنسى وستحب خطيبها الجديد وستتمكن من نسيان يزن. ان الفتى مهذب ووسيم وذو شهادة جيدة وقد سألت عنه مسبقاً وهو رجل مثالي!
نظرت جيهان بحيرة نحو احمد المكتفي بالصمت فقال فوراً:.

- اجد ان قرار ابي هو الامثل يا جيهان. وقد مرت سنة كاملة. وحان الوقت لليلى ان تتخطى حزنها وان لا نكتفي بمشاهدتها فقط.
جلست بقلة حيلة. فعلى ما يبدو ان هذا القرار قد تم اخذه مسبقاً!
- استدعي ليلى!
قالها يحيى بحزم فطالعته جيهان بذعر. مع ذلك الكم الهائل من الالم المجتمع داخل روح ابنتها، فهي لا تدرك ماالذي سيفعله هذا القرار بها!

نهضت بقلة حيلة وذهبت لمناداة ليلى التي طالعت والدتها بأستغراب شديد. فقد ذهبت قبل قليل بإعتيادية وعادت الان بذات ملامح ابيها. ولكنها رغم هذا رافقتها بصمت. لم تعد تبالي بأي شيء مؤخراً ليثير فضولها كثيراً!

فور دخولها انسحب ابيها وامها بأشارة من يحيى. وهنا بدأ قلبها ينقبض قليلاً، اغلقت الباب وجلست بصمت حيث كان ابيها يجلس. عم الهدوء الموحش على ارجاء المكان قطعه اخيراً جدها بصوته الذي اصبحت تتشائم حين تسمعه خشية ان يتحدث ليصدر قرار جديد بموتها. ولم تكن مخطئة:
كيف هي احوالكِ بالدراسة؟
اجابت بأختصار شديد:
جيدة.
انها شهوركِ الاخيرة في الجامعة. أليس كذلك؟
اجل.
هذا جيد.

نظرت اليه بتوجس لأرتياحه من اجابتها الاخيرة. فرمقها بنظرته الثاقبة وهو ينقر بأصبعه بتفكير فوق خشب المكتب ثم قال:
انا اتوقع ان حفيدتي العزيزة قد نسيت ذاك الموضوع تماماً. اليس كذلك؟
نظرت نحوه بجمود فأعتقد انها لربما لم تفهمه فأكمل:
اعني. حفيد قاسم.
فأجابته فوراً:
لا.
فأنفتحت يده المكورة فجأة وانبسطت بضربة قوية فوق المكتب جعلت كل عضلة في جسدها تنقبض وكل شعرة تنتصب. فكز على اسنانه بغيض واكمل:.

بل نسيته. وستنسيه. فما تريديه لن يحصل ابد.
رغم خوفها وارتباكها ألا انها لم تصمت. فردت بعناد:
قد تمنعني من الارتباط به. ولكن لن يمكنك ابداً اجباري على نسيانه
فنظر اليها بطرف عينه وقال بثقة:
إذ كان بخصوص هذا الامر فلا تقلقي. تتاقشت مع والديكِ ووجدنا الحل.
اجابته بتوجس:
ماذا تعني؟
زفر بضيق ثم قام من كرسيه ووقف امام النافذة يراقب الحديقة بصمت لعدة ثواني ثم حسم امره والتفت اليها من جديد وقال:.

انتِ امرأة. والمرأة تحتاج الى رجل ليساندها في حياتها.
عندها انتفض جسدها وقامت بفزع عندما بدأت تفهم قصده وجحظت بعينيها على اوسعهما وكادت ان تتكلم من بين انفاسها اللاهثة ألا انه لم يعطيها فرصة بل ورفع نبرة صوته واكمل:.

انتِ في كل الاحوال ستتزوجين. اليوم او غداً او بعد سنة. وبكل الاحوال لن تتزوجي حفيد قاسم حتى وان انا مت. لذلك انصحك ان لاتكوني غبية وتقبلي هذا الشاب الذي تقدم لك، انه شاب جيد. وهو متخصص في الطب ايضاً. اظنه مشابه تقريباً لحفيد قاسم ذاك.
عندها صرخت بوجهه من دون وعي وبغضب جامح:
وهل احببت انا يزن فقط لأنه يختص بالطب؟ هل يعني ان اي احد يختص الطب سأساويه مع يزن او افضله عليه؟
فصرخ بوجهها بنفس النبرة:.

هل فقدت عقلك ايتها الشابة؟!
فردت بتهكم:
فقدت عقلي؟ لا. ليس بعد. ولكني سأفقده قريباً بسببكم...
ثم اكملت وبعض الدموع الحارقة انسابت على بشرتها الناعمة:
ألا تملكاً قلباً ليرأف بحالي ياجدي؟ ألا تراني منذ سنة اتعذب بسبب قرارك غير العادل بحقنا؟ ألا تشفق على قليلاً؟ حرمتني ممن احب ثم تريدني الان ان اتزوج من لااحب؟!
فقال ببرود متجاهلاً مشاعره. فالقرارات الصحيحة نحتاج فيها تجاهل مشاعرنا لنتمكن من تنفيذها:.

سيأتي الليلة لتتعرفي عليه، ومع الوقت ستحبيه.
حدقت فيه بصدمة ثم قالت:
اذاً. انت قد اتخذت القرار مسبقاً؟
ثم عادت نبرتها لترتفع وهي تقول:
اذاً لما ارسلت بطلبي لتناقشني؟ كان بإمكانك ان تُعلمني بالامر فحسب كما تُعلم خادمتك ان تحضر لك فنجان من القهوة. فالامر بهذه البساطة لديك!
رمى بثقل جسده مرة اخرى فوق كرسيه وختم هذا النقاش العقيم قائلاً:
حضّري نفسكِ، سيزورونا حوالي السابعة والنصف.

ظلت تحدق به بعدم تصديق وسمحت لدموعها بالخروج بحرية دون ان تكتمهم. تقدمت نحوه بخطوات يائسة وجلست على ركبتيها عند قدميه بحال مكسور وامل مقطوع وضمت يده بين يديها وقبلتها بهدوء ثم رفعت عيونها الباكية اليه وقالت بتوسل:.

ارجوك. ارجوك ياجدي لاتفعل بي هذا. انت قتلتني. ذبحتني ببطئ. عذبتني. أما يكفيك كل هذا؟ والان تريد دفني وانا حية؟ انت تقودني الى الجحيم وتريدني ان اعيش فيه من دون ان اعترض؟ دع نفسك مكاني. بماذا كنت ستشعر لو انك عشت حياة كهذه؟

مسح دموعها برفق وشفقة ورغم لطف يده على بشرتها الرقيقة ألا انها تخيلتها سكاكين تنهش لحمها واحست بفرق كبير بين برودة اليد التي تكفكف دموعها الان وبين دفء اليد التي كفكفت دموعها قبل سنة في يوم فراقهما. ازداد ندمها اكثر وهي تقارن مابين العالمين. تركت العالم الدافئ بجواره لتعيش في العالم البارد بجوار اسرتها. ولكن. هل سينفعنا الندم بشيء بعد ان نضيع فرصتنا بإرادتنا؟
قال لها وهو مستمر بمسح دموعها:.

انا اعرف مصلحتكِ اكثر منك. قد تريني الان القاسي والحقير. ولكن صدقيني انا افعل هذا من اجل مصلحتكِ اولاً. تلك الاسرة لا تليق بحفيدتي العزيزة. انا متأكد من انك ستنسين حفيد قاسم وستحبين هذا الشاب. انه لطيف جداً.
فقامت منتفضة وقالت بعناد:
لن افعل. ان لم اتزوج يزن فلن اتزوج غيره.
فقام هو ايضاً منتفضاً معها وضرب المكتب بقسوة وغضب وزمجر في وجهها قائلاً:.

ألامر ليس عائد اليك ايتها العاشقة الساذجة! لقد اعطيت كلمة للشاب واسرته أتريدين ان ابدو امامهم كالاحمق الذي لايلتزم بوعده ولايستطيع فرض كلمته على فتاة صغيرة؟
ليست مشكلتي انك اعطيتهم وعد من دون ان تسألني حتى. انا لن اتزوج يعني لن اتزوج.
ستتركين اذاً الجامعة.

عند هذه الجملة انطفأت شعلة وجهها الحمراء واختفى صوتها تماماً. ها هو جدها مرة اخرى يخيرها بين اصعب خيارين. اما ان تترك دراستها. او ان تذهب بقدميها نحو مقصلة اعدامها.
عندما رأى جمودها عرف انه بدأ يعزف على الوتر الحساس فتنهد بأرتياح وعاد ليجلس بهدوء فوق كرسيه ثم قال:
والان كوني فتاة مطيعة واذهبي لتتحضري. واريدك ان تكوني لطيفة مع الضيوف ان حضروا.

لم يجد منها اجابة. ولااعتراض. كانت تحدق في وجهه بجمود. هي تعلم جيداً انه لافائدة من الاعتراض الان او مناقشته. مادام انه قد خيرها مابين اثنين فمن المستحيل ان يسمح لها بخيار ثالث!
عصرت قبضتها. اخذت نفساً عميقاً. شاهدت التاريخ يعيد نفسه امامها مرة اخرى عندما خيرها قبل سنة ايضاً وقتلها بقراره. فلما لاتنهي كل هذا وتجعل الامر واقعياً بدل ان تكون شبه حية؟

استدارت وخرجت من المكتب من دون ان تعلق بشيء. ومن دون ان ترد بشيء على كلام والدتها عندما استقبلتها. ومن دون ان تلتفت نحو ندائات ابنة عمها هيام. اتجهت بجمود نحو الحمام واغلقت الباب بإحكام. وقفت امام المغسلة والمرأة تحدق في وجه فتاة غير واضحة المعاني. بل شبح فتاة. نزلت دموعها ببطئ ووجهها محتفظ بجموده. مدت يدها نحو صندوق الادوية المثبت على الجدار وسحبت منه علبة اقراص المنوم. حدقت فيهم ببرود، ومن دون تفكير فتحت العلبة وملأت راحة يدها بالحبوب وبلعتهم ثم ملأتها مرة اخرى وفعلت مثل المرة الاولى الى ان لم يبقى في العلبة سوى حبتين او اكثر بقليل.

مرت عليها دقائق واقفة في مكانها. بدأ جسدها يرتخي ورأسها يتثاقل. بدأت تشك بأنها اما تسمع اصوات خارج الباب او ان احدهم يناديها. بدأت الهلوسة تجتاح عقلها وبدأت تشعر بتفكك اجزاء جسدها احدهم عن الاخر. وفجأة دارت بها الدنيا وتشابكت عليها الرؤيا. ثم وقعت كجثة هامدة!

اغمضت عينيها وهي تسمع صرخات لاتعلم ان كانت واقعية ام محض حلم. شعرت بجسدها وكأنها يطوف فوق الماء. كان شعورا مريحا بالنسبة لها وهي تظن انها ستترك هذه الحياة البائسة ذات القرارات المميتة وترحل الى الابد، لم تضع في مخيلتها سوى صورة يزن. ولم تندم على شيء في هذه الحياة سوى ندمها انها ستتركه. ولم تبالي بحزن احد عليها سوى حزنه هو. ولكن القدر لم يسمح لها ان تذهب الان. عليها ان تتعذب اكثر.

ربما مرت ساعة. او ربما ايام. او ربما هي مجرد ثواني. لم تدرك ليلى بالضبط كم مر عليها من الوقت وهي داخل سباتها!
فتحت عينيها وتلمست تحتها فراش ابيض ناعم. أهي الجنة؟ لا انها المستشفى برائحة معقماتها وجدرانها. شعرت ببلعومها جاف ولا يزال رأسها يعاني من الصداع والدوار. وربما من الهلوسة ايضاً! عليها ان تكون ميتة. عليها ان تكون كذلك مع كمية الحبوب التي تناولتها فلماذا لازالت تتنفس في هذا الجسد الميت؟

اسرعت والدتها اليها بعد ان استفاقت قليلاً ومسحت برفق على شعرها واحست ليلى بقطرات دموعها تهطل فوق جبينها وهي تحدثها قائلة:
هل انتِ بخير حبيبتي؟ كيف تشعرين الان؟
بللت ليلى شفتيها بلسانها قبل ان يخرج صوتها الضعيف لتسأل:
اين. انا؟
انتِ في المستشفى صغيرتي.
ثم شرعت والدتها ببكاء اقوى وهي تلومها قائلة:
لما فعلتِ هذا ياحبيبتي؟ كيف طاوعك قلبكِ ان تفعلي هذا ألم تفكري بالذي سيحصل لي لو اني فقدتك؟

اجابتتها ليلى ببرود وضعف:
لا، لم افكر! مثلما لم تفكروا انتم بي.
جلست والدتها بإنهيار على الكرسي بجانبها وقالت بقلة بانكسار:
اخبريني ماذا افعل؟ ماذا بيدنا لنفعله ونقف امام جبروت جدك وسلطته؟ حاولنا بشتى الطرق اقناعه ولم يقتنع. ماذا نفعل بعد؟
اشاحت ليلى وجهها الجهة الاخرى ولم تبالي بكلامها رغم معرفتها بصحته. امسكتها والدتها من يدها برفق ثم قالت:
انها مجرد خطوبة ياعزيزتي وليس زواج.

عند هذه العبارة التفتت اليها ليلى بغضب وتفاجئ وقالت باستنكار:
أأنتِ موافقة؟
جلست جيهان قربها على السرير وحضنت وجهها الشاحب بين يديها ثم قالت:
أعلمنا جدك بالامر قبلكِ بدقائق. بالطبع هو لم يطلب رأينا لقد اعطانا علم بالامر فقط. فما بيدنا لنفعله سوى ان نوافق؟!
فاجهشت ليلى بالبكاء واخفت وجهها بين كفيها وقالت:.

يا ليتني اخترته وتركتكم. ماكان سيعذبني كل هذا العذاب. ماكان سيؤذيني. يالحماقتي وسذاجتي. كيف أمكنني تركه لاختاركم؟ ياليتني لم افعل.
ضمتها والدتها اليها بقوة وقالت:.

اعرف ماتمرين به ياصغيرتي. ولكن لايمكن لأحد تغيير قدره. ماحصل قد حصل ولايمكننا لوم انفسنا على الماضي، ومايعرضه عليك جدك ليس ارتباطاً ابدياً واكيداً بهذا الشاب انما هي خطوبة فحسب لتتعرفوا الى بعضكم. ومن يعلم. لربما ستعجبين به. لربما كان قدرك معه هو.
سحبت نفسها فوراً من بين احضان والدتها بعنف واحمّر وجهها بغضب وقالت:
لن احب غير يزن. هل تفهمون؟ من المستحيل ان تجعلوني انساه او احب غيره.

عادت والدتها لتحتضن وجهها بين كفيها وقالت بعطف:
كيف لنا ان نكون واثقين من شيء من دون ان نجربه؟ أنتِ لم تجربي ان تحبي احد غير يزن. وحتى وان لم تحبي هذا الشاب فكيف ترفضينه قبل ان تجربي ما اذ كنت ستحبيه او لا؟ عليك ان تعطيه وتعطي لنفسك فرصة.

ارادت ليلى مرة اخرى ان تسحب نفسها من بين يدي والدتها ولكن جيهان شددت قبضتها برفق عليها وجعلت نبرة صوتها جادة قليلاً لتجعلها تستوعب الامر بعيداً عن العطف والشفقة. فقالت من بين دموعها بزجرة:.

اسمعيني! جدك من المستحيل ان يسمح لك الارتباط بيزن. وليس من المعقول ان تظلِ طوال حياتكِ من دون زواج. ألم تفكري بمصيرك اذ متنا انا وابيكِ؟ مصيرك مع اعمامك ذوي القرارات الصارمة والقاسية مثل جدك. انتِ عليكِ ان تختاري زوجاً مناسباً لتبتعدي عنهم. وهذا الشاب جيد، انه لطيف وذو شهادة جيدة وانا متأكدة انكِ ستكونين مرتاحة معه، لذلك كفي عن تفكير المراهقين الساذج وفكري لمرة واحدة كأمرأة ناضجة واعرفي اين مصلحتك بالضبط، دعي عشقك جانباً الان وفكري بمستقبلك. فقرار واحد منك سينتشلك الى الجنة. او يرديكِ الى الجحيم. لذلك كوني ذكية وعاقلة وفكري جيداً، انتِ ويزن قد تركتما بعضكما فما الفائدة الان من انتظاره؟ هل تناقضين نفسك؟ تعلمين ان ارتباطكما مستحيل فما الجدوى من هذا الانتظار؟

رفعت ليلى يديها وابعدت يدا والدتها عنها بعنف وقالت من بين دموعها:
انتِ لايمكنك ان تفهمي شيئاً. لايمكنك ان تشعري بالنار الموقدة بداخلي. لايوجد قرار سينتشلني الى الجنة. فمنذ اتخذت القرار بالتمسك بكم والتخلي عن يزن انا رميت نفسي بجحيم لايوجد احد قادر على اخراجي منه سوى يزن، لذلك اي حب غير حبه هو مستحيل. واي نعيم من دونه هو جحيم.

اذ كانت كل الحياة من دونه جحيم فعلى الاقل اختاري الجحيم الاقل سعيراً. فمع جدك حياتك ستصبح بائسة اكثر واكثر. وكلما سيجبرك على شيء لستِ موافقة عليه سيخيرك مابين اصعب قرارين في حياتك ولن يسمح لك باختيار ثالث. مثلما خيرك بيننا وبين يزن. ومثلما خيرك مابين دراستك وهذا الشاب. وسيستمر على هذه الحال دائماً. لذلك وافقي على هذا الشاب مادام جيداً بدل ان تضطري في يوما ًما ان تختاري اي احد لمجرد انك تودين التخلص من جبروت جدك.

غطت ليلى وجهها بكفيها وصرخت بألم:
لااستطيع. ارجوكم افهموني. ماتطلبونه مني هو الموت بحد ذاته. بل حتى الموت اهون منه.
سحبت والدتها يديها عن وجهها وقالت بصرامة فهذا ليس وقت التردد والشفقة ومصير ابنتها الوحيدة على حافة الهاوية:.

اسمعيني، جدك لازال ملتزماً بقراره. اما ان توافقي على هذا الشاب او تتركي دراستك. وانا لن اسمح ان تضييع كل هذه سنين الدراسة هباء. لذلك وافقي على الخطوبة واشترطي ان لايكون الزواج ألابعد تخرجك لنضمن انهائك الدراسة. ثم بعدها سنرى ماذا سنفعل. ان كان فتى لطيف ويحبك ولربما جعلك تتمسكين به فستتزوجا. ان لم تستطيعي نسيان يزن ولم يستطع هذا الشاب كسب اعجابك فيمكننا ان ننهي كل شيء...

بقيت ليلى تحدق في وجه والدتها وكأنها بدأت تقتنع قليلاً بكلامها فأستغلت جيهان لحظة السكون هذه التي طغت على ابنتها وقالت:.

تبقت لكِ اشهر قليلة فقط وستنهين الجامعة. وحسب ما عرفت من منى فأن البعثة التي سافر اليها يزن سيتم تمديدها لستة اشهر اخرى. اي بعد تخرجكِ! بهذه الاشهر انتِ سترتبطين بهذا الشاب وحاولي قدر الامكان ان تكوني لطيفة معه. فقبل قليل جدكِ حذرنا، ان انفصل الشاب عنكِ بسبب اسلوبكِ سيجعلكِ تتركين دراستكِ فوراً. لذلك حاولي جعل اسلوبكِ لطيف معه. بعد تخرجكِ انفصلي عنه ولن يضركِ جدكِ بقرار جديد مهما كان. وانا متأكدة حين تشرحين هذه الاسباب ليزن بعد عودته سيتفهم الامر!

فقالت ليلى ببكاء:
- ولكن هكذا سأكون مخادعة وكاذبة مع هذا الشاب يا امي!
- ليس لدينا اي حل اخر. وحين تريدين الانفصال عنه اشرحي له الاسباب لعله يتفهم!
سكتت ليلى لثواني ثم قالت:
- لقد قال جدي انه طبيب. هذا يعني ان هناك احتمالية ان يعمل في المستشفى العام للمدينة وليس مستشفى اهلية. اي هناك احتمالية ان يكون على معرفة بيزن وبنفس مكان العمل!

- اولاً حتى وان كانا بنفس المكان ربما لم يعرفا بعضهما. وان عرفا بعضهما فنحن نعرف ان يزن قد قطع اخباره عن الجميع ولا يتصل بأحد سوى بأسرته وبالتالي لن يعرف بأمر الخطوبة منه ويفهم الامر بشكل خاطئ. وثانياً قد اخبرتكِ ان يزن لن يعود الان وتم تمديد فترة بعثته. لذلك لن تقلقي من امكانية مصادفته!
سكتت ليلى على مضض دون ان تقتنع بالفكرة. ولكن قرارات كثيرة نحن مجبرين على الانصياع لها دون ان نقتنع بها حتى!

ربما الدواء لم يقتلها في يومها. ولكنها منذ ذلك اليوم قد ماتت وتوقف قلبها عن الخفقان مع قرار جدها هذا. صارت تحترق وتحترق الى ان اصبحت رماد متناثر ومتناقض مع ذاته لايملك سبب للعيش او لأي من مظاهر العيش. لم يبالو بالانطواء الذي عزلت نفسها به. ولابأختفاء الابتسامة عن وجهها. ولاببهوت اشراقة عينيها ومرحها. كان الجميع يقدم مصلحته على ماتريده هي. الى ان قتلوها ببطئ وجعلوها شبه انسانة بالفعل.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة