رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع والعشرون
بعض لحظات الضعف يكمن فيها كل الاشتياق الذي نحشرة داخل غطاء سميك وخشن من الكبرياء. من لم يستغل لحظة ضعف الاخر حين يلتجئ له بطريقة مباشرة - أو غير مباشرة- فهو سيخسره الى الأبد. فمع كل لحظة ضعف يتم فيها أهمالنا يزداد كبريائنا أكثر وتتجلد قلوبنا لتصبح أقسى وأقسى ونجد المبررات اللازمة لنبتعد الى الابد. سنجد القوة الكافية لنقول لهم وداعاً. سنجد القوة الكافية لنتقبل حقيقة أنهم لم يكونوا لنا منذ البداية. لذلك أحذر هذه اللحظات. أما أن تستغلها أو أن تتقبل جفائهم!
- يزن. اظن أن الوقت قد حان!
ارتجف قلبه كجسده من هذه العبارة التي نطقتها وهي تسدل جفنيها بنعاس فهزها بعنف من كتفها وهو يصرخ بها بخوف:
- أياكِ يا ليلى أن تستلمي. أبقي معي. لا تفقدي وعيكِ!
فتحت عيناها بفزع على هتافه بها فصرخت به موبخة:
- لن أموت أيها الأحمق. كنت أقصد حان الوقت لأخبر مازن!
طرف بعينيه بكل بلاهة بينما هي توليه ظهرها وتدثر الغطاء على جسدها وتقول:
- أذهب لتغير قميصك فرائحته كريهة!
نظر نحو قميصه وعاد لينظر لها بذات البلاهة بينما هي تحاول كتم صوت ضحكتها وهي تدس رأسها تحت يدها تدعي النوم.
عاد الى رشده فقال فوراً:
- أجل أنتِ محقة. رائحته مقززة بسبب ذلك الحيوان الأحمق الذي تقيء عليه!
- هل تعني نفسك أم سوزان؟! حدد لأعرف!
- أتعلمين شيئاً؟ سأخبر الاطباء أن يتوقفوا عن أعطائكِ الدواء. امثالكِ يستحقون الموت بكل جدارة!
- ستسدي لي معروفاً لأتخلص من رؤيتك هنا كل يوم!
- أجل. ولكني واثق أنكِ ستراقبيني من السماء كما كنتِ تراقبيني بسرية من نافذة الصالة في شقتكم كلما خرجت أو عدت للمنزل!
نظرت له بشهقة تكاد أن تعترض فقاطعها قائلاً:
- أجل كنت اراكِ واطنش!
ضيقت عيناها بمكر وهي تقول:
- سبحان مغير الأحوال إذاً. في الماضي أراقبك من نافذة صالتنا بسرية واليوم أنت تراقبني من خلف باب غرفتي هنا بسرية كلما غططت بالنوم!
كاد ان يرد فقاطعته هي هذه المرة قائلة:
- أجل كنت أراك واطنش!
- ذاتاً لم أكن آتي الى هنا من اجلك!
- اوه لا بالطبع بل من اجل تنظيف الحمام!
- لا. كنت آتي لأبحث عن سوزان!
- لا فرق. الحمام أو سوزان كلاهما ذات الشيء بالنسبة لي!
ثم أدارت ظهرها له مجدداً ولكنه لاحظ ارتفاع وجنتيها قليلاً فأدرك أنها تضحك ولكنها تحاول ادعاء العكس.
تبسم وأحنى جذعه وتقاربت شفتيه من وجنتها مما أوقف جريان الدم في عروقها من التوتر، ولكنه لم يمنحها القبلة التي توقعتها بل غيّر رأيه في اللحظة الأخيرة حين وقع بصره على خاتم الخطوبة الذي يحيط أصبعها فرفع انفه نحو خصلات شعرها - أو ما تبقى منها - واستنشق نفساً عميقاً من عطرها وهمس:
- سأبقى أحبكِ وحدكِ!
ربما لو أنه قبّلها ما كان سيثير قلبها بهذا الجنون مثل ما فعلته به هذه العبارة!
أول ما خرج من الغرفة طرحت أنفاسها المكتومة ووضعت يديها على وجنتيها الملتهبتين أحمراراً وتبسمت وكأنها مُنحت أملاً جديداً في الحياة!
كانت تقف على جرف المياه تتلاعب بها بقدميها العارية والمقشعرة من برودة المياه. لم تشعر بلذة السعادة هذه منذ فترة طويلة. كانت تضحك من غير سبب وهي تركض للأمام ليصل الماء لركبتيها ثم تعود أدراجها نحو الرمل الندي بينما ترفع أطراف فستانها الأبيض المنسدل بأريحية فوق جسدها الممشوق.
لا يزال شعرها كما هو ينافس الليل باسوداده وطوله ويتراقص مع الهواء على نغمات صوتها الضاحك.
أحست به من مسافة قادم نحوها وهو يرفع بنطاله الخمري نحو ركبتيه ويفتح بعض أزرار قميصه العلوية ويتقدم إليها بابتسامة. توقفت عن اللهو ونظرت اليه بشوق تنتظر قدومه. تبسمت وتبسمت أكثر حتى كادت أن تضحك من فرط سعادتها. كل ما مرت به كان مجرد كابوس مخيف استيقظت منه لتوها. لا يوجد خاتم يحيط أصبعها ولا حقنة تنغرس بوريدها ولا المحلول يدب في يدها ولا الكيمياوي الذي يقتل لها شعرها، لا تزال ليلى المرحة والنشيطة والتي تحب الحياة كما هي بسوادها وبياضها.
وقف قبل أن يصل اليها ونادها: - ليلى؟ هل تسمعيني؟!
تلاشت ابتسامتها رويداً. هذا ليس صوته الذي تعرفه، وليست الجملة المناسبة لهذا الحدث الذي تعيشه. أنها مجرد جملة دخيلة من ذلك العالم البعيد الذي تهرب منه.
جلست القرفصاء وألصقت ركبتيها على صدرها وأغلقت أذنيها بيديها وعصرت عينيها بقوة وهي تحذر نفسها بخوف: - لا تفتحيهما. لا تنظري إليه. إياكِ أن تفعلي. أبقي هنا أرجوكِ!
- ليلى؟ حبيبتي؟!
فتحت عيناها بفزع ليختفي البحر والسماء والرمال الندية ولتقع عيناها على مازن الذي يقف بجوار سريرها ويطبطب على خدها بلطف ليوقظها، كادت أن تبكي وهي ترفع يدها أمام وجهها لترى الخاتم حيث هو. وحقنة السيروم حيث هي، لقد فتحت تلك البلهاء عينيها!
مسح على خدها بعطف وهو يقول بقلق:
- هل أنتِ بخير؟!
أغمضت عيناها بألم وتمتمت بحزن:
- يا ليتك لم توقظني يا مازن. يا ليتك أبقيتني قليلاً بعد!
تبسم بشيء من الألم المشابه وهو يقول:
- ألهذا الحد تريدين الهروب من الواقع؟!
حدقت بعيناها الدامعتين وقالت بصوتها المهزوز:
- وهل تراه واقعاً يستحق أن أعيش لحظاته؟!
- من يعلم؟ قد يصبح كذلك! قد تتمنين أن تعيشي كل لحظة به بدل أن تخسريها بالأحلام!
- تقصد قبل أن أموت!
تنهد وهو يرد بهدوء:
- لن أنكر. ولن تنكري أنتِ أيضاً. عليكِ أن تحاربي الموت أن أردتِ أن تعيشي وليس ان ننكر وجوده فحسب!
نهضت بضعف من استلقائها وتمتمت باستهجان:
- أجل. أن أردت!
أنزلت قدميها من السرير ولكنها لم تنهض بل نظرت له قائلة:
- هل يمكنك استدعاء روان من أجلي؟!
- سأفعل. ولكن اولاً دعينا نذهب نحو غرفة العلاج الأشعاعي. ستخضعين له اليوم!
وأمسكها من يدها لينهضها ولكنها صلبت جسدها لتوقفه وهي تسأله بتردد:
- هل.
وصمتت تبتلع بقية حروفها ولكنه بقي يحدق بها بذات النظرات وكأنها مسترسلة بحديثها وينتظر منها أن تكمل، فأكملت بنبرة خافتة تعكس كل خوفها:
- هل. سيؤلمني؟!
نظر لها بشفقة بينما صدره يعتصر بقوة عليها. لا يليق بفتاة مثلها أبداً أن تذبل بهذا الشكل. بعد كل القوة التي كانت ترسمها عليها والصلابة فقد مضغها المرض وطحنها بقسوة بين أنيابه الحادة، وألاصعب من هذا كله أنه يمضغها وحيدة رغم كل من يحيطونها!
دخل في هذه الاثناء والديها مع الممرضة وهي تدفع الكرسي المتحرك. تقدمت أمها نحوها وهي تقول بابتسامة مشجعة:
- هل نذهب حبيبتي؟!
قالت ببرود بينما تحدق بالكرسي المتحرك وكأنه صديقها الجديد الذي تعرفت عليه حديثاً:
- وهل أملك الكثير من الخيارات لأرفض؟!
واستندت من فورها على يد مازن ونهضت بصعوبة لتجلس على الكرسي. فسيقان الرياضية التي كانت تمتلكها وتجري بها برشاقة بلعبة كرة المضرب لم تعد كما هي وبدأت تتخلى عنها بدورها وتعلن استسلامها وتوديعها نحو السبات الابدي!
جلست بجسدها الهزيل على الكرسي واتجهو معاً نحو غرفة العلاج الاشعاعي الذي سيجربوه لها اليوم لأول مرة لعله يعطي مفعولاً مع مرضها أفضل من الكيمياوي الذي يجعله يصبح أكثر شراسة.
فتحوا باب الغرفة فوجدوا روان هناك تجلس بالقرب من الطبيب علاء المسؤول عن الجهاز يطالعان تقرير ليلى. نهضت نحوها بابتسامة فتبسمت ليلى بدورها بينما تقول روان:
- إذاّ كيف حال بطلتنا؟!
قالت ليلى بعدم اهتمام تحاول رسمه بصعوبة على رد فعلها بينما ترد:
- تريد قصة شعر جديدة!
نظرت روان نحو شعرها بعيون تحمل بعض الاكتئاب والحسرة ولكنها رغم ذلك تبسمت لتشجعها بينما تربت على شعرها بلطف:.
- سنساير الموضة يا فتاة. جميعهن يحلقن شعرهن هذه الفترة، وربما أقصه أنا بدوري وأفتح كوافيير هنا للجميع. ربما سأحصل على أرباح أكثر من كوني طبيبة!
وغمزت لها فتبسمت ليلى وهي تهز رأسها قائلة:
- لا حول الله. غريبة الأطوار أكثر من حبيبكِ!
ارتبكت روان فوراً وحدقت بمازن الذي يبادلها التوتر ذاته بينما قالت جيهان تحاول خلق جو من المرح:.
- ما هذا؟ لم تقولي لنا أن لروان الجميلة حبيب؟ وأنا التي قدمت صورتها لأكثر الشباب العازبين وسامة في حينا ليتعرفوا بها!
فهتفت روان فوراً بخجل:
- فعلتِ ماذا؟!
فردت جيهان ببراءة:
- فتاة مثلكِ ستشارف على بلوغ الثلاثين وبهذا الجمال، سيكون ذنب أن تبقى دون ارتباط!
فقال مازن فوراً باعتراض ولم يبالي بكون الأمر مجرد مزاح:
- وما الذي ستفعله بالشباب؟ لتنشغل بعملها فحسب الان!
ثم دفع كرسي ليلى وهو يقول:.
- دعونا ننهي الامر!
فرفعت ليلى نظراتها بمكر نحوه فدفعها من رأسها ليبعد عيناها وهو يقول:
- لا تجعليني ابدأ بشتم نظراتكِ هذه وابتلعي كلامكِ!
- لا أستطيع. سأصاب بعسر الهضم أن ابتلعت كل الكلام الذي أريد أن أفجره بوجهك الان!
وضع يده على فمها وقال بهمس بينما يدخل للغرفة الاخرى التي تنفصل عن الغرفة الحالية بفاصل زجاجي:
- فقط أغلقي فمكِ بحق السماء بدل أن يقاضيني والدكِ بتهمة الخيانة الزوجية!
ضحكت ويده لا تزال تغلق فمها بقوة.
حملها بين يديه وجعلها تستلقي على السرير الصغير وتلك الآلة المستديرة الضخمة فوق رأسها. حدقت بها باضطراب وانزعاج ولا تعرف هل ستكون سبب نجاتها أم خطوة اخرى نحو الموت.
خرج مازن من الغرفة الاولى فوجد روان وعلاء فقط أما والديّ ليلى فقد كانا ينتظران في الخارج، كان ينوي الخروج ايضاً ولكنه توقف حين شاهد علاء يتحدث معها بصوت منخفض نسبياً ويبتسم وهي تبادله الابتسامة ذاتها وكأنهما صديقان مقربان منذ سنين. لاحظت توقفه دون الخروج فنظرت له دون أن تسأله شيء ولكن ملامحها الجامدة أوصلت له سؤالها عن سبب وقوفه فقال ببرود:
- كم سيستمر بقائها هنا؟!
فردت ببرود مشابه:.
- لا تشغل بالك. سأعيدها بنفسي للغرفة بعد أن تنتهي.
نظر نحو علاء بنظرة مقتضبة وعاد لينظر لها من غير تعليق ففهمت لِما يلمح ثم قال فوراً غير مبالياً بما سيظنه علاء:
- ركزي بعملكِ!
وخرج من الغرفة بينما هي وجهها أصبح كالبندورة الناضجة ونظرت نحو علاء بارتباك الذي كان ينظر باستغراب وقالت بتلعثم:
- أنه. أنه يوصيني بالتركيز من أجل. تعرف. من أجل خطيبته!
حاول أن يكتم ابتسامته وقال:.
- اجل. ربما أخطئ بالتعبير فقط وقال ركزي بعملكِ بدل أنتبهي لها!
- ذلك.
قاطعها فوراً محاولاً تلافي أحراجها أكثر:
- على اية حال. دعينا لا نجعل المريضة تنتظر.
وجلس على كرسيه فتقدمت هي بخجل لتجلس على الكرسي المجاور بينما بقيت ليلى وحدها في الغرفة الاولى ويتواصلان معها عن طريق مكبرات الصوت الذي يربط بين الغرفتين.
بدأ الجهاز في العمل فقالت روان تحاول قطع الوقت على ليلى قدر الأمكان دون أن تجعل عقلها ينحدر نحو مستويات أخرى من المخاوف والقلق:
- ستبدأ الامتحانات النهائية بعد أسبوعين تقريباً. قال الطبيب أن جاء العلاج الاشعاعي بنتيجة فستستطيعين خوضها.
تبسمت ليلى وكأنها تسخر من نفسها:
- كلانا يعرف إني لن أخوضها يا روان!
- كفاكِ تشائماً وإلا سأدخل الان لأخنقكِ ثم أنعش قلبكِ بعد أن تموتي وأعود لخنقكِ!
ضحكت ليلى على عقليتها الاجرامية الغريبة ثم قالت بجدية:
- أتعلمين أن أمي البارحة بدأت تريني صور الفستان الذي أعجبني الأسبوع الماضي وتطلب مني أن أختار اللون الزهري بدل الأرجواني.
- وأين المشكلة؟!
- المشكلة إني لا أذكر إني رأيت هذا الفستان سابقاً أو تناقشت مع أمي حوله قبل البارحة يا روان!
نظرت روان نحو علاء والذي حدق بها بذات الأسى بينما ليلى تكمل حديثها وهي تحدق بالسقف:.
- يخبروني بالكثير من الاشياء. ولكني أخاف أن أقول أني لا أعلم أن هذا قد حصل أو إني قلت هذا. أخاف حتى أن أعترف بيني وبين نفسي بهذا الأمر!
- ليلى.
قاطعتها في الحال:
- أعلم. النسيان أحد أعراض المرض. أعلم ما يفعله بي. لذلك هل تتوقعين أن أتمكن من اجتياز الامتحانات بهذا الدماغ المرهق الذي أملكه؟ لا أظن أنا ذلك!
ثم تنهدت لتبتلع بكائها وأكملت:
- أنا أعرف إني سأقوم بتأجيل الامتحانات على اية حال.
- حتى ولو قمتِ بتأجيلها. سيكون من الأفضل لو تعودي للجامعة هذه الفترة. لا أعلم ولكن ربما رؤية صديقاتكِ سينفعكِ!
ضحكت ليلى باستخفاف وهي ترد:.
- صديقاتي؟ لا أملك شيئاً كهذا! لم أعد تلك المرحة والمضحكة. لم يعد هناك سبب يحتاج ليبقين بقربي. أصبحت المريضة البائسة. بالفعل خلف كل شر يكمن شيء من الخير. مرضي جعلني أتقيء الناس الواحد تلو الآخر. هل تتخيلين أن حتى أبنة عمي ريهام والتي كانت أقرب شخص لي في العائلة لم تأتي لزيارتي واكتفت بمكالمة هاتفية سريعة بحجة انشغالها بالدراسة؟ ليس هذا ما يزعجني. ما يزعجني حقاً هو إنها لو كانت مكاني لكنت تركت كل شيء ووقفت بجانبها بهذه الظروف. ما يزعجني هو سخافة تفكيري واندفاعي نحوهم. بينما هم لا يفضلوني على شيء!
فقالت روان فوراً وقد أزعجها حقاً تصرفاتهن:
- من يحتاجهن على اية حال. لديكِ أنا!
- يا للثقة!
ضحك علاء وقال لروان:
- لو كنت مكانك لقمت لخنقها الان فعلاً!
فقالت روان تحاول مداراة كرامتها التي بعثرتها ليلى:
- هي تحبني. أنها لا تعترف بذلك فقط!
فردت الأخرى بيننا تضحك:
- أسفة. ولكني مرتبطة على اية حال!
- ليلى أغلقي فمكِ بدل أن أغلقه بطريقتي!
أحياناً الصداقة تحتاج صدفة تجمعنا. تحتاج أن تفهم ظلام الطرف الاخر قبل بياضه. احياناً لا تحتاج الى شيء كي تستمر ولكنها تستمر بكل الأحوال. أن تحبني لسبب فحبك قابل للزوال. ولكن أن تحبني لذاتي فهنا ستبحث عن سبب لتتركني حين أجرحك. ولكنك لن تتركني. فأنت لن تجد مهما بحثت. هكذا على حبك أن يكون ليستمر!
مرت ثلاثة أيام اخرى ويبدو أن حالة ليلى قد استقرت بعض الشيء بعد العلاج الأشعاعي، لم تتحسن ولكنها استقرت وكانت هذه علامة جيدة بالنسبة لهم.
كانت قد ودعت شعرها منذ ثلاثة ايام حين قصصته روان لها. ومن يومها وهي لا تنزع غطاء الرأس الصوفي رغم أنه فصل الصيف. ومن يومها وهي ترفض مقابلة يزن. لم يتبقى لها شعر ولا رموش تؤطر عيناها ولا حواجب كثيفة تزيد ملامحها وسامة. كانت حتى هي ترفض رؤية وجهها في المرآة. لم تتقبل هي ذاتها فكيف هم سيتقبلوه؟ أنها طبيعة البشر على اية حال. يحكمون على الشكل لذلك يهتمون به كثيراً. لم تشأ أن تخلق صورتها الاخيرة في عقولهم بعد أن تودعهم. أرادت أن تبقى بمخيلتهم تلك الحسناء الفاتنة التي تتباهى بملامحها وحسن هيئتها.
فُتح باب الغرفة ليدخل مازن عليها بينما هي تستلقي على سريرها تحدق بالنافذة البعيدة عنها بعيون مشتتة تبدو بعالم آخر.
جلس بقربها على السرير ولف يده من حولها وقال بعطف بينما يرفع يدها ليطبع قبلة خفيفة عليها وهو يقول:
- بما تفكرين؟!
- بالله!
وتبمست بينما هو يحدق بها باستغراب. رفعت بصرها اليه وقالت:
- لقائي سيكون به عمّا قريب. ربما حان الوقت لأفكر به!
حرّك أبهامه بشكل دائري على وجنتها وهو يقول:.
- لا تجزمي حول لقائكِ به. ربما يفعل كل هذا ليجذب انتباهكِ له فقط وليس ليأخذكِ بجواره.
أعادت أبصارها نحو النافذة وهي تقول بخفوت:
- ربما لا يجذب انتباهي له فقط. بل لشناعتي ايضاً!
فقال مازن باستنكار:
- شناعتكِ؟ وما الذي قد تكوني فعلته لتسميه شناعة؟!
استندت على يده وجلست وهي ترفع ركبتيها أمام صدرها ومسحت تلك الدمعة السريعة التي نزلت من بين جفنيها وقالت بينما تنظر بعيون متألمة:.
- ربما لا نشعر بفضاعة ما نفعله ألا بعد أن نعيشه!
مسحت دمعة أخرى وقعت وقالت بينما عيناها تستمر بذرف المزيد:
- كانت هناك فتاة معي بذات مرحلتي الدراسية في الثانوية. كان اسمها حياة ولكن بقية الطلاب كانوا يلقبوها بالموت
- لماذا؟!
- كانت بشعة وذات ملابس فوضوية ودائماً ما تكون فضفاضة عليها وتعتليها بعض البقع القديمة.
- وهل كنتِ من ضمن الذين يسخرون منها؟!
بكت بصمت وعضت شفتها السفلية بقوة بينما تشغل عيونها بالنظر نحو أصابعها التي تعبث بهم بخجل وهي تقول:
- لا. كنت لطيفة معها ولا أحب أن يسخرون منها بهذا الشكل، ولكن كلما ارتديت ملابس جديدة أو أثنت بعض صديقاتي على جمالي وأناقتي كنت أنظر بسرية لها لأرى تلك النظرة بعينيها وأشعر بالرضا من نفسي.
نظرت نحوه مجدداً وهي تكمل:.
- تلك الحسرة التي في عينيها التي تتمنى بها أن تكون مثل جمالي وشكلي وشعري. كنت اشعر بالرضا يا مازن كلما وجدتها تنظر لي بتلك الطريقة ويزداد ذلك التبختر والتباهي بداخلي.
ثم وضعت يداها على وجهها تكمل بقية بكائها وهي تقول:.
- الان الله جعلني أشعر بما كانت تشعر به. بدأت أرى كيف تكون النظرات حارقة بالنسبة لي من الناس التي تحكم على الشكل فقط ويهمهم منظري كيف يكون. بدأت أشعر بالخجل من نفسي وأتمنى لو أختفي عن الانظار كلها. فكيف هي أنهت الثانوية معنا؟!
عانقها مازن وطبطب على ظهرها برفق وهو يقول:
- لا تبكي حبيبتي. المهم إنك لم تكوني تشعريها بذلك كما كان يفعل البقية.
- ولكن الله كان يرى ما يعتمر بداخلي. لذلك جعلني أكثر بشاعة.
- ليلى. أتعلمين أن المشكلة ليست في بشاعتكِ؟ المشكلة إنكِ الوحيدة التي ترى نفسها بشعة ولا أحد سواكِ يشعر بذلك. أنتِ فقدتِ شعركِ وبعضاً من وزنكِ فقط. بعض الأمراض أو الحوادت يجعل الشخص يتعرض لتشوه خلقي أو بدني ورغم ذلك يتقبلون شكلهم فيتقبلهم العالم بدورهم، ما أن تصبحي بخير حتى يعاود شعركِ النمو. كيف بالذين لن يعاود شعرهم النمو؟ أو الذين تتشوه وجوههم؟ هل يعني أن عليهم أن ينبذوا نفسهم عن المجتمع فقط لأن بعض الأشخاص سطحيين وسيحكمون على شكلهم؟!
حدقت بعينيه المليئة بالأمل والتفاؤل فتبسمت ولفت يديها من حول خصره واستكانت برأسها على صدره وقالت بتنهد:
- أن لم تحافظ عليك تلك الحمقاء فقط أخبرني وسأقتلها من أجلك!
تبسم وهو يستكين بذقنه أعلى رأسها وتمتم بحسرة:
- لا أعلم متى ستصدقين ذلك، ولكني وروان بالفعل وصلنا للنهاية!
رفعت رأسها نحوه وقالت بمكر:
- ومن قال لك إني أقصد روان؟ أنا كنت أتحدث عن الفتاة التي سترتبط بها من بعدي!
ثم ضربته بسبابتها على جبينه وهو تقول:
- ولكنك لا تفكر بسواها لذلك أي امرأة سأتحدث عنها فلن تكون بالنسبة لك سوى روان. فبالنسبة لك لا امرأة في حياتك سواها، أنا التي لا أعلم متى ستصدق أنكم لم -ولن- تصلوا للنهاية بهذه السهولة!
بقي يقلب عيناه داخل عيناها بشيء من الحيرة فتبسمت وهي تعانقه بقوة وتقول:.
- أن كنت تريدني بقربك لأنك تحتاجني لأشافيك فسأبقى لحين رحيلي. كل ما سأطلبه منك هو مجرد وعد. هو أن لا تتحامق وتكابر وأن تتمسك بها بقوة حتى وأن رفضتك. فكلاكما لعنة ورحمة بحياة الاخر. لا تنفعا أن تكونا معاً. ولا ينفع أن تنفصلا. لذلك أحترقا مع بعضكما بدل أن تحرقا بعضكما!
قبل أن يرد عليها بشيء دخل عليهما لعنة حياتها هي ورحمتها. توقف لوهلة ما ان فتح الباب وبقي يحدق بهما بجمود ظاهري بينما داخله يشتعل. حاولت سحب نفسها فوراً من بين يدا مازن ولكنه لم يسمح لها وضغط بيديه حولها أكثر وعيناه تحملقان بيزن. أدركت جيداً غايته وهو يحدق به بكل هذا التركيز. أنه ينتظر أي رد فعل تثبت له شكوكه التي تلامست مع أطراف اليقين ليحرق هذا المكان عليهما هو ويزن. هو لن يغضب من ليلى فهي بالنسبة له انسانة عرفها من عدة شهور فقط. ولكنه سيكون مؤلماً أن يكذب عليك شخص تعرفه من سنين!
لم يعرف يزن، ولا حتى ليلى، كيف استطاع أن يسيطر على انفعالاته وهو يقول بكل هدوء:
- أعتذر. سأعود لاحقاً!
حينها فقط أطلق مازن ليلى من بين يداه وقال بهدوء مشابه:
- لا بأس يزن. تفضل!
قال وهو ينزل أبصاره المقتضبة أرضاً:
- لقد أرسل المختبر تحليلاتها الأخيرة.
ثم وضع الملفات التي بيده على المنضدة القريبة منه وقال:
- سأعود نحو عملي الان. بالشفاء!
لم ترد بشيء ولم ينتظر هو أن يسمع صوتها أن كانت تنوي الرد. فآخر شيء من الممكن أن يطيق سماعه في هذه اللحظة هو صوتها!
خرج وهو يلعن ويشتم ويكاد أن ينفجر بغضبه ليكسر كل ما يحيطه من أثاث وأشخاص وربما حتى مرضى. الحب لا يؤلم. الغيرة هي من تحرق!
نظر مازن نحوها وتبسم قائلاً:
- هيا. حان الوقت لنذهب.
فقالت باستغراب:
- الى أين؟!
- تعالي معي فحسب.
ثم وقف وأنهضها معه ليجلسها على الكرسي المتحرك وينزع مئزره الطبي ثم يتوجه بها نحو خارج الغرفة باتجاه مخرج المشفى. لمح من بعيد يزن يتحدث بانفعال الى روان وهو يعصر يديه بقوة وغضب وكأنه يعصر أحدهم بينهما. لمحته روان بدورها فتمتمت شفتاها بشيء ليزن جعله يصمت فوراً ويشيح نظراته بغضب جانباً لا يريد رؤيتهما معاً. تنهد مازن بضيق وتمتم باختناق:
- أرجوك يا إلهي أن لا يكون الأمر صحيحاً!
رفعت ليلى رأسها نحوه وهو تقول:
- عفواً؟!
تبسم وقال:
- أحادث نفسي حبيبتي.
فقالت بتنهد:
- اللهم يشافينا مما ابتلى به غيرنا.
ضحك وهو يهز رأسه بيأس من تعليقاتها المستمرة عليه.
خرجا من المستشفى نحو سيارته فأسندها على يده لتسير بضعف نحو مقعدها الأمامي لتجلس بجواره وينطلق هو بسرعة معتدلة ويتبادل معها أطراف الحديث. سارت السيارة ما يقارب النصف ساعة الى أن وصلا نحو منتجع سياحي عبارة عن أكواخ متباعدة عن بعضها في غابة صناعية وبحيرة صغيرة تتوسط المكان. تبسمت وهو يفتح لها الباب وقالت باستغراب:
- الى أين أحضرتني؟!
حك مؤخرة رأسه وهو يقول:.
- في الحقيقة كنت أنوي خطفكِ منذ اليوم الذي تعرفت به عليكِ ولكني كنت احاول قمع ذلك المجرم بداخلي دائماً. ولكن الان فقدت السيطرة تماماً!
- هل من المفترض أن أصرخ الان؟!
- سيكون جيداً لأضافة بعض الحماس للأمر. ولكن سيشتكون علينا من في الأكواخ المجاورة قبل أن تفعلي أنتِ ذلك!
ضحكت ونزلت مستندة على يده وتدير رأسها من حولها تتفرج على المكان اول مرة وقالت وهي تزفر أنفاسها براحة:
- المكان جميل حقاً!
- لقد تم افتتاحه الشهر الماضي. لقد استشرت طبيبكِ وقال بأنه لا بأس بأخراجكِ ليلة من المستشفى ولكن بشرط أن تكون تحت متناول يدي عدة الاسعافات الاولية وكل ما تحتاجيه في حالتكِ في حال حصول شيء سيء، لذلك قمت بتجهيز الكوخ بكل ما نحتاجه!
ضيقت عيناها وهي تقول:
- أتعني أنه أنا وأنت، بمفردنا، سنقضي الليلة هنا؟!
مط شفتيه بسخرية وهو يقول:
- لا. سأحضر من أجلكِ بعض الحراس الشخصيين أيضاً أن أحببتِ!
- ولكن أبي.
- لقد أخذت رأيه ووافق.
رفعت كتفيها وأنزلتهما وهي تقول بحسرة:
- كنت أعرف أنهما يريدان التخلص مني. ولكن لم أظن أنهما سيتماديان لهذا الحد ويجعلاك تدرك الأمر!
ضحك وهو يحثها على المسير قائلاً:
- تحركي بدل من وقوفنا كالأبلهين هنا!
سارت معه الى الداخل حيث يتألف الكوخ من غرفة نوم قام بتجهيزها بالاوكسجين ومحلول السيروم وكل الحقن الضرورية وعلبة اسعافات الطوارئ وحتى حقنة من الادريناليين في حال توقف قلبها. وصالة ذات نافذة عريضة تشغل أحد الجدران بطوله وعرضه تطل على البحيرة والأشجار لتمنح الجالسين هناك منظراً خلاباً. ومطبخ ذو تصميم امريكي حيث ينفصل عن الصالة بحاجز رخامي قصير يتم وضع الصحون عليه من أجل وجبة خفيفة لشخصين لا أكثر. وهناك الشرفة التي يتم الوصول إليها من نافذة الصالة ذات التصميم الفرنسي والتي يتوسطها باب لا يبرز منه سوى مقبضه. كانت الشرفة مجهزة بطاولة خشبية وكرسيين مع غطاء سميك من أجل الليالي الباردة!
تبسمت ليلى وقالت:
- لو قضيت ما تبقى من عمري هنا ما كنت سأشعر بالملل أبداً. أنه مكان رائع!
أغلق مازن الباب وقال:
- سعيد حقاً أنه نال أعجابكِ!
نظرت نحوه وقالت:
- ولكنك لم تخبرني، لماذا أحضرتني الى هنا؟!
تقدم منها ليمسك يديها بين يديه برفق وقال:
- أظنه علينا أن نتحدث ليلى.
تنهدت بأسى:
- وأنا أظن ذلك أيضاً!
أحاط خدها بيده وقال:
- سنتحدث لنصلح ما تم كسره بيننا. وليس لتنهي كل شيء بيننا!
كادت أن ترد فأسكتها قائلاً بمزاح:
- قلت لكِ سنتحدث ولكن لم أقصد أن نتناقش الان قرب الباب يا ليلى!
ثم جعلها تسير معه ليجلسها على الأريكة وهو يقول:
- والان أرتاحي هنا قليلاً بينما أذهب لأعد من أجلنا بعض العصير الطبيعي المنعش لتستعيدي حيويتكِ!
تبسمت وسكتت أحتراماً لرغبته بينما هو توجه نحو المطبخ ليبدأ بتحضير عصير الفواكه حسب ما تحبه هي.
مضى الوقت عليهما وهما تارة يتبادلان الحديث وتارة تغط هي بالنوم لساعة نتيجة لأرهاقها المستمر.
حلّ الليل عليهما لتستيقظ هي من نومها خاملة ومرهقة وكأنها لم تكن نائمة بل تخوض أعمالاً شاقة. خرجت تستند على الجدار الى أن وصلت للصالة لتراه هناك يتابع مبارة كرة القدم.
نهض من فوره ليسندها ويجلسها بجانبه وهو يقول:
- هل أنتِ بخير؟!
قالت بأرهاق:
- اشعر ببعض الخمول فقط!
وضع يده على جبينها وقال:
- حرارتكِ مرتفعة.
- قالت لي روان أن هذا الشيء طبيعي أثناء فترة العلاج!
اطفئ التلفاز ونهض نحو المطبخ ليحضر لها كوباً من الماء وغطاء خفيف لتتدثر به. شربت الكأس الى آخره وتدثرت جيداً وتبسمت كي تمطئنه وقالت:
- شكراً لك أمي!
جلس بجانبها ليتدثر معها بالغطاء وقال:
- هذا سيبقى سراً بيننا. أن عرف بقية الزملاء إني أفعل ذلك فسأفقد شخصيتي!
تبسمت من غير رد وهي تحدق به بحزن. أمسك يدها بين يديه وقال فجأة من دون مقدمات:.
- هل لا زلتِ تحبيه؟!
اختفت ابتسامتها تدريجياً وقالت بجمود:
- ما الذي خطر على بالك فجأة لتسألني شيئاً كهذا؟!
- هذا سبب مجيئنا يا ليلى. أريد أن أتحدث إليكِ كصديق وليس كخطيبكِ. لقد حكمت على بقائكِ معي لغايتي الشخصية ولم أسألكِ عن رغبتكِ أنتِ. أن كنتِ ستنجين من هذا المرض أو تهلكين فبالحالتين لا أريدكِ أن تخوضي هذا المشوار مع شخص لا ترغبين وجوده بقربكِ!
وضعت يدها الأخرى فوق يديه التي تعانق يدها وقالت بحزم:
- سواء كنت بجانبي كصديق أو كخطيب يا مازن فبالحالتين أريدك بجانبي. لا تظن ولو للحظة إني أريدك أن تبتعد عني أو أن وجودك يضايقني. لقد ساعدتني في الوقت الذي لم يفعل فيه أحد ذلك ووقفت بجانبي وتحملتني رغم أدراكك إن لي ماضي. قليل من الرجال سيتقبلون هذا!
- بالرغم من ذلك عليكِ أن تجيبيني يا ليلى. هل لا زلتِ تحبيه؟!
فقالت له بتوسل وغصة:
- مازن. لا تفعل ذلك!
فرد برفق:
- على أن أفعل ليلى. علينا أن نصل لقرار!
- بخصوص ماذا؟
- أما أن استمر معكِ كخطيبكِ أو صديقكِ.
- هذا الشيء أنت من ستقرره. أن استمررت كصديقي فهذا في حالة عودتك أنت وروان لبعض فقط. أما بالنسبة لي فلا تظن أن أنفصالك عني سيغير من حياتي شيء. لن أبعدك عني لأقربه هو مني وأزيده تعلقاً بي في الوقت الذي أشارف على توديع الجميع!
- حين تقولين هو. فمن هو بالضبط؟ لِما لا تلفظين أسمه قط؟!
أزدردت ريقها وحروف أسم يزن على مشارف شفتيها تكاد تنطقهن. ولكن وككل مرة عيون مازن التي تحمل هذا الكم من الألم والخوف من القادم يجعلها تصمت وتتردد في الإفصاح. أنه يريدها أن تنطقهن وأن لا تنطقهن في الوقت ذاته. هو يدرك جيداً من يكون لذلك يرفض أعترافها بسره. فحين يصبح الدليل بين يديه لا يوجد أي سبب يقنع به نفسه أن لا يهدم كل شيء بينه وبين يزن. لا يزال إلى الان يوهم نفسه باستحالة وجود شيء بينهما دون أن يعترف له يزن بذلك. من المستحيل أن يفعل به يزن ذلك وكل ما يفكر به الان هو مجرد وسوسة شيطان لا أكثر!
تبسمت وقالت:
- وما الذي ستسفيده أن قلت أسمه؟!
كاد أن يرد فقالت:
- ليس يزن. أن كان هذا ما تحاول الوصول إليه، فليس يزن!
ألصق شفتيه ببعضهما مجدداً وحدق داخل عيناها الباسمة ما بين تشتت وجمود.
هي ستموت على اية حال، وتحطم حلمها على اية حال. فما الذي ستسفيده من الكذب؟!
كانت هذه الفكرة الوحيدة التي خطرت له في لحظتها في محاولة منه لتصديقها. أحياناً حبنا لشخص ما ومدى تعلقنا به تجعلنا نكذب على أنفسنا قبل أن يكذب علينا الناس بشأنه، فقط كي نحافظ عليه، حبه ليزن هذه المرة وليس لليلى!
وربما الفكرة ذاتها قد خطرت لليلى أيضاً في لحظتها. هي ستموت على اية حال، فلماذا لا تتحمل الذنب وحدها وتنقذ تلك الصداقة التي تجمع بين هذين الاثنين والتي ستتحطم بسببها هي؟!
- من هو يا ليلى؟!
- ما شأنك به؟ دعني أحتفظ بذكراه فقط بيني وبين نفسي يا مازن. ألا يمكنني؟!
صمت مرة اخرى ثم قال بعد تفكير استمر للحظات:
- يمكنك. بشرط أن تقسمي لي بأنه ليس يزن!
وهنا هي من صمتت لتدخل بدوامة من الحيرة.
الله رحيم. عادل. رؤوف. صبور. ولكن هل سيسامحها ببساطة على قسمها الكاذب؟
حين نكون على مشارف الموت سنهتم حقاً بذنوبنا وسنفكر قبل ارتكابها. ربما لهذا السبب الله يضع الموت نصب أعيننا دائماً!
بللت شفتيها بطرف لسانها وقالت:
- أقسم لك أنه ليس هو من أحب!
وأغمضت عيناها بألم ترجو فقط أن يمر الأمر على خير، قبل أيام فقط كانت تخبر يزن أنها اكتفت من كل هذه الأكاذيب وستخبر مازن. ولكن أن نخطط لأمر ما هو شيء. وأن ننفذه هو شيء آخر!
نامت ليلتها من غير فرق كبير عن المستشفى حيث المصل في يدها والاوكسجين في أنفها والغرفة تغط برائحة المعقمات الحادة.
أما مازن فنام ليلته على الأريكة بجانب سريرها ولكن براحة شديدة وابتسامة عريضة تعلو ثغره حتى وهو يغط بنوم عميق وقد قرر أن أول شيء سيفعله غداً بعد عودتهم هو الأعتذار ليزن على سوء ظنه وحماقته ويرمم كل ما كسره. دون أن يدرك أنه بحد ذاته قد كُسِر دون أن يشعر بكل تلك الشظايا المبعثرة داخله!
استيقظ الفجر على صوت أنفاسها وآنينها بأسمه بضعف. لم يدرك في البداية ماذا يحصل وأين هو بالضبط؟ ثم نهض فجأة مفزوعاً حين وقعت عيناه عليها وهي تحاول الجلوس وتفشل بينما تستنشق أنفاسها بصعوبة!
- ليلى؟!
صرخ بأسمها ورمى نفسه بخوف من فوق الأريكة ليتعثر بركضه إليها من شدة قلقه وأشعل الاضواء بسرعة ويداه مرتبكة لا يعرف ما الذي يفعله بالضبط وكأنه نسى في لحظة كل ما درسه وكل ما أوصاه طبيبها بحالات كهذه!
وضع كلتا يديه على صدغه ينظر لها بتوتر يحاول أن يخطو الخطوة الاولى فقط في إسعافها لعله يتذكر الباقي، بينما عيناها هي تتحول للأحمر وبشرتها للأزرق!
أخرج هاتفه بسرعة واتصل على يزن ووضع الاتصال على مكبر الصوت ووضعه على المنضدة بينما يركض نحو علبة الاسعافات الاولية!
- أجل مازن؟!
اجابه صوت يزن المتعب ليهتف به الآخر بصوته الخائف:
- يزن أين أنت؟!
فجأة اكتست نبرته بالجدية والقلق وهو يقول:.
- لا نزال في مناوبتنا الليلة. ماذا حصل؟ هل ليلى بخير؟!
فتح العلبة ورفع صوته ليسمعه:
- ليست كذلك يا يزن ليست كذلك!
ليصرخ به الاخر فوراً:
- ما بها؟!
- لا وقت للشرح، أنها تتعرض لنوبة. ارسل سيارة إسعاف فوراً نحو المنتجع السياحي الجديد للكوخ رقم سبعة. فوراً يا يزن!
وبعدها اختفى صوت يزن وانشغل مازن بإخراج العدة بينما يقول محاولاً جذب انتباه ليلى قدر الأمكان كي لا تفقد وعيها وتتوقف عن محاولة استنشاق الهواء:.
- حسناً حبيبتي كل شيء سيكون بخير، أنتِ فقط أبقي معي وإياكِ أن تفقدي وعيكِ. اتفقنا حبيبتي؟!
لامس عنقها ليفحصها فلاحظ انتفاخ بقصباتها الهوائية والمريء وهذا ما يمنع الهواء من الدخول نحو رئتيها. أخرج في الحال مشرطاً صغيراً ومد يده المرتجفة نحو عنقها بتردد وليس وكأنه طبيب وفعل ذلك عشرات المرات. سيكون الأمر مختلفاً حين تكون حياة من نحب على المحك. وسيكون أكثر صعوبة حين تكون بين أيدينا!
لامس المشرط عنقها فأعاده انشات نحو الخلف. هل ينتظر الأسعاف؟ ماذا لو تأخروا؟ عيناها تزداد جحوظاً واحمراراً. ماذا لو فقدها الان بين يديه؟ في هذا المكان البعيد عن كل من تحب؟
أزدرد ريقه بتردد ولكن انتشله من كل هذا الارتباك شهقتها المرتفعة التي تحاول من خلالها سحب الهواء. قلبها سيتوقف ما لم يسرع بالتحرك وأنقاذها!
ضغط على المشرط بقوة كي يمنع يده من الأرتجاف، ومن دون التأخر ثواني آخرى، مده نحو عنقها وجرحه بعمق ليصل نحو قصبتها الهوائية ثم أدخل أنبوب مستدير متصل بأنبوبة خارجية يقوم بضغطها ليمكن الهواء من الدخول لرئتيها بشكل مباشر ويساعدها على التنفس بعض الشيء، وبالفعل جاءت هذه الخطوة بنتيجة وبدأ يشعر بأنفاسها تنتظم بعد أن فقدت وعيها!
بقيت يداه تحيطان الأنبوب المتصل بعنقها ولكن قدماه خانتاه في التماسك أكثر وسقط بضعف على ركبتيه ووضع رأسه فوق يدها يبكي بشيء من التأسي عليها وعلى أوراق حياتها التي تتساقط شيء بعد آخر!
رفع رأسه بعد دقائق ونظر لها ليجد الدم قد لوث عنقها وقميصها فنهض بحذر وثبّت الأنبوب على عنقها باللاصق الطبي وأحضر قطعة قماش نظيفة وماء وبدأ يمسح لها عنقها لتجذب نظره تلك السلسلة الفضية التي تخفي نهايتها دائماً تحت ملابسها وتنزعها أن لبست شيء سيكشفها، كالفساتين مثلاً!
لِما لم تخطر فكرة كهذه من قبل على عقله حين كان يلاحظ السلسلة في عنقها؟ لِما لم يفكر أبداً برؤيتها؟ لِما لم تخطر فكرة التأكد من الأمر سوى الآن؟!
مد يده بتردد مرة آخرى نحو عنقها، ولكن هذه المرة ليجرح قلبه هو ويموت وليس ليجرح عنقها ويحييها!
سحب السلسلة بين أصابعه بهدوء وأخرجها من تحت قميصها. كان يعرف جيداً ماذا سيجد في نهايتها لذلك كانت ملامحها تتجعد بألم بالكاد يدفع تلك الغصة في حنجرته بعيداً ويطرد مل الأفكار عن رأسه.
كانت مجرد ثواني قليلة، لكنها كانت عمراً بأكمله بالنسبة له إلى أن أخرج القلادة بشكل نهائي وشاهد الميدالية، النصف الآخر من قلادة يزن!