قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس عشر

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس عشر

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس عشر

هل انتابك الخوف من الوحدة من قبل؟ الخوف من ان تغمض عيناك بشكل ابدي فلن يتذكرك احد؟ ولن يشعر بفقدك احد؟ ان اقصى ما سيفعلونه هو اطلاق حسرة لشبابك الذي ضاع فقط. ببساطة لن يكون مكانك خالي وسيملأونه قريباً بغيرك، دعني اسألك. هل خفت ان تموت وانت وحدك؟ دون ان يسارع احدهم لالتقاط جسدك قبل سقوطه. ودون ان يصرخ معلناً ختام حياتك. ان تموت كقط شوارع ضال في زاوية مظلمة بعيداً عن انتباه الناس جميعاً، ببساطة. هل تخاف الموت؟

ليلى كانت تخافه. ليس كيان الموت بحد ذاته، بل الخوف من مواجهته بمفردها بين جدران منزلها الخالي من سواها...
- انستي؟ أهذا هو العنوان؟
التفتت بنظرات شاردة نحو سائق التاكسي الذي اضطر لرفع صوته كي ينبهها لوصولهم بعد ان فشل في لفت انتباهها لوقوفهم منذ دقيقة كاملة وهي تنظر بعيون خاوية من نافذة السيارة نحو لا شيء دون ان تنتبه لوصولهم...

نظرت نحو يسارها باتجاه منزل جدها ومدت يدها بصمت نحو حقيبتها لتخرج الاجرة له وتنزل من السيارة من دون ترك شكر أو أمتنان.
تخطتها سيارة الاجرة راحلة بينما هي لم تحرك ساكناً. رفعت عينيها الفارغة نحو نوافذ المنزل الذي انطفئ النور في معظمها.
تقدمت خطواتها بتعب وطرقت الباب مراراً وتكراراً قبل ان تتذكر وجود جرس بإمكانه ان يوصل قدومها اليهم بشكل اسرع!

لحظات وسمعت صوت الحارس نعمان يعلن عن قدومه. فتح الباب وقال ونبرته لا تخلو من الاستغراب:
- اهلاً انسة ليلى.
دخلت وهي تقول بنبرة خافتة:
- اهلاً نعمان. هل جدي مستيقظ؟!
- لا اعلم انستي، كنت في غرفتي. ولكن الوقت لا يزال مبكراً وهو لا ينام في مثل هذا الوقت.
اومأت بصمت وتابعت سيرها نحو الباب الداخلي لتطرقه من جديد، ولكن هذه المرة لم تستغرق سمارة مدبرة المنزل الكثير من الوقت لتفتحه.

ابتسمت فور رؤيتها لليلى وفتحت الباب بشكل اوسع وهي تقول: - مرحباً بكِ انستي.
دلفت وهي تنزع معطفها الخفيف بينما تقول: - اهلاً سمارة.
ثم اكملت: - لو سمحتِ جهزي لي غرفة وحمام ساخن فأنا متعبة.
- حاضر.
صعدت السلم بعد ان القيت المعطف فوق الاريكة، ولكن خطواتها توقفت فوراً مع انبعاث صوت جدها الذي خرج لتوه من غرفة مكتبه:
- ليلى؟
نظرت اليه بصمت وعلامات جامدة لثواني ثم تفاجئ بها تبتسم بضعف له وتقول:
- مرحباً.

بادلها ابتسامتها بتردد وتقدم اليها ليقف بداية السلم وهي تقف وسطه وقال:
- أأنتِ بخير عزيزتي؟!
اومأت في البداية ثم اردفت:
- اجل. لقد سافر ابي وامي لزيارة خالتي بسبب اصابتها وخفت من بقائي وحدي في المنزل. لذلك اتيت للمبيت هنا.

شعر بشيء من الارتياح الداخلي حين عرف انها قررت للمجيء الى هنا بدل الذهاب الى بيت عمها للبقاء مع ريهام كما اصبحت تفعل مؤخراً حين يسافر والديها. و مؤخراً بالطبع منذ ان رفض ارتباطها بيزن. كانت تلك بداية سوء علاقتهما ببعض وتجنبها له معظم الوقت. ولكن اليوم احس ان هناك شيء بها قد تغير وهذا ما اصابه بالسعادة لقرارها!
- إذاً. هل تناولتِ عشائكِ؟!
- لا. لا اشعر بشهية. انا متعبة فقط واريد الخلود للنوم.

ثم استدارت تريد اكمال صعودها فاوقفها صوته مرة اخرى وهو يقول لها بنبرة عطوفة: - انا لم اتناول عشائي بعد. ربما يمكننا تناوله سوياً.
امهلت نفسها بعض الوقت بينما تعصر يديها وتفكر بعمق، عليها ان ترفض طلبه ببساطة كما رفضت له عشرات الطلبات مؤخراً، ولكن اليوم بالفعل هناك شيء مختلف بها. هي ببساطة لا تريد جرح احد.

فجأة تغير كل سخطها وغضبها الى اللامبالاة. لم يعد هناك شيء يستحق ان تغضب من اجله مقارنة بمرضها، انا اتساءل. هل البلاء يكون سبباً احياناً لتقريب الناس المتنافرة؟
ربما!
التفتت اليه وحدقت داخل عيناه التي عكست بعض الرجاء فيها فتبسمت فوراً وقالت:
- حسناً لا ضرر من ذلك. سأستحم وانزل!
بادلها ابتسامة اكبر وقال:
- هذا جيد. سأنتظركِ.

صعدت نحو الحمام الذي جهزته من اجلها سمارة ووضعت لها الملابس التي تركتهم ليلى اخر زيارة في منزل جدها وكان عبارة عن بنطال اسود وقميص ابيض...

جلست في حوض الاستحمام الممتلئ بالماء الساخن فاسترخت فوراً عضلات جسدها المرهقة. اغرقت نفسها داخل الماء وكتمت انفاسها ليحجب عنها الماء صوت العالم الخارجي. ربما عليها الاعتياد منذ الان على الابتعاد عنه. لا تعلم كم تبقى لها من الوقت ليبدأ جسدها بالانهيار والتداعي. ستفقد القدرة على الحركة ومن ثم على النطق وربما النظر والسمع ايضاً. تتمنى حقاً ان تموت قبل ان تصل لهذه المرحلة!

طرقت عليها سمارة الباب بعد عشر دقائق حين لم يكن يعم الحمام سوى السكون. نظرت بامتعاض نحو الباب بينما تقول سمارة:
- هل كل شيء على ما يرام انستي؟!
فردت بسخرية:
- لا تقلقي. لم انتحر بعد!
وكما توقعت فسمارة لم تعلق بشيء على جملتها الاخيرة. اي بالفعل هذا ما كانت تسعى للتأكد منه!
فمنذ اخر مرة حاولت فيها الانتحار اصبحت اسرتها كثيرة الهوس بالحرص عليها من تركها بمفردها بمكان مغلق لأكثر من خمس دقائق!

انهت حمامها بعد ذلك لتغير ملابسها وتنزل الى الطابق السفلي من اجل الانضمام للعشاء مع جدها.
وجدته واقفاً عند مائدة العشاء التي لم تتحضر بعد رغم ان الصحون قد رتبت عليها ولكنها خالية.
التفت اليها وقال برصانة:
- استمر هاتفك بالرنين مراراً وتكراراً.
القت نظرة سريعة على معطفها الملقى فوق الاريكة حيث كان الهاتف في احد جيوبه ثم اعادت ابصارها مجدداً نحو جدها وهي تسمعه يقول:
- لقد كان مازن. لذلك رددت عليه.

بقيت تتطلع فيه بجمود من غير تعليق ليكمل هو:
- كان واضحاً من كثرة اتصالاته انه قلق لذلك اجبته، ومن باب اللباقة دعوته للعشاء معنا. لذلك هو على وشك الوصول. سننتظره!
اطلقت تنهيدة ملل بينما تجلس على المائدة وتقول بنبرة هادئة تحمل بعض الامتعاض:
- هلا توقفت عن حشر نفسك بحياتي جدي. لو سمحت؟!
جلس هو على رأس المائدة وقال بهدوء مماثل ولكن خالي من اي امتعاض:
- لم اكن اعرف إن حضور خطيبكِ على العشاء قد يزعجكِ!

- ليس الامر كونه يزعجني او لا. ولكن ألم تفكر لربما انا لست بمزاج لخوض المجاملات الان؟!
- انه مجرد عشاء يا ليلى. لا تبالغي!
اخذت نفساً عميقاً يعكس ضيقها وقالت من غير ان تنظر اليه:
- كل شيء تراه مبالغاً، ولكنك تعجز عن رؤية كل الاشياء المتراكمة بداخلي والتي دفعتني لهذه المبالغة بتصرفاتي!
حدق بوجهها للحظات ثم قال:
- لا تزالين تكنين له المشاعر. أليس كذلك؟ أعني حفيد قاسم.
نظرت له بسخط مكتوم ثم قالت:.

- ولأخر يوم في حياتي البائسة سأفعل.
ثم رفعت زاوية فمها بسخرية وأكملت:
- ولكن لِما عساك ستبالي بهذا! أنت ستنفذ بحقي ما يرضيك ويشفي لك غليلك بجده.
- أتظنين إني لا اشعر؟!
نظرت اليه بصمت ليرسم ابتسامة منكسرة على شفتاه قبل ان يكمل:.

- أتظنين إني لا أعلم إنكِ تموتين الف مرة في اليوم؟ أو إنكِ تنامين باكية كل ليلة؟ اتظنين إني لم الاحظ ذبول عينيكِ؟ أو كثرة شرودكِ؟ أنا لست مثلكِ، انا يمكنني ان اشعر بالنار الموقدة في صدور المقربين مني.
ثم نقر بسبابته على صدره واكمل:
- ولكن لا يمكن لأحد ان يستعشر النار المتراكمة في صدري انا، لا يمكنهم ان يقدموا تضحية لأجلي. وبالمقابل يطالبوني ان اقدم تضحية من اجلهم.
تنهد بحسرة وهو يكمل:.

- عذابكِ الذي تعيشيه الان كنت سأعيشه انا لو أنك ارتبطتِ بحفيد قاسم ذاك. فهل كنتِ ستهتمين يا ترى وانا اموت الف مرة باليوم؟ أولم يكن يكفيني كل هذا العذاب الذي جعلني قاسم اعيشه لتجعليني اعيش مثيله الان؟!
ثم اكمل بانكسار:
- لا تكوني انانية يا ليلى!

ولأول مرة تصمت امامه من غير رد او دفاع. لأنها المرة الاولى التي تشعر به يتعذب بالفعل من غير ان تتجاهل عذابه لتقدم مصلحتها عليه اولاً. ربما هي بالفعل انانية كما وصفها. ولكن أليس جميعنا في الحب انانيين؟!
لحظات من الصمت حتى سمعوا صوت الباب الداخلي للمنزل يُطرق. اسرعت سمارة اليه لتجد أن الضيف مازن كما هو متوقع.

تبسم يحيى فور رؤيته وصافحه ورحب به بحرارة بينما اكتفت ليلى بالبقاء وراء الكواليس في هذه اللحظة وتعمد هو تجاهلها وشغل نفسه بالحديث مع يحيى.

ألقى عليها سلام بارد ومصافحة متكلفة قبل ان يجلس على الطرف الاخر من المائدة وهي على اخر بينما يحيى يترأسها، أحدهما على يمينه والاخر على يساره. متشابهين حتى بطريقة هدوئهما وتفضيلهما للصمت والتجاهل عند جرحهما، ربما علاقتهما كانت تثبت أن التشابه ليس سبباً كافي لنقع بالغرام. والتناقض ليس سبباً كي لا نفعل!

رغم ما هي به من مشاعر سيئة ممزوجة بعدم مبالاة بأي شيء، إلا انها لم تتمكن من عدم المبالاة به شخصياً. احياناً تشعر إنه مجرد طفل مخذول وهي ملجأه الوحيد. لذلك تتألم حقاً حين تكون هي سبب جرحه!
انتهى العشاء من غير أي تبادل حديث فيما بينهما واكتفت هي بالصمت طوال الجلوس.

استأذن مازن منهما بعد أن تلقى مكالمة هاتفية من والدته وخرج نحو الشرفة فوجدها يحيى الفرصة الوحيدة ليتحدث الى ليلى التي وجدت اهتماماً غريباً بشرشف الطاولة المزخرف كي تشرد به بعقلها نحو دهاليز بعيدة.
سحبها صوت جدها من فوضى تفكيرها فهمهمت كأجابة وهي تراه واقفاً فقال فوراً:.

- سأصعد أنا نحو غرفتي لأخلد الى النوم. استأذني من مازن بالنيابة عني. وكذلك. أريدكما أن تتحدثا على انفراد. فعلى ما يبدو أن لديه ما يقوله!
وقفت من باب الاحترام وجدها يغادر الغرفة بينما دخلت سمارة في هذا الوقت تحمل اكواب الشاي. تنهدت بقلة حيلة واخذت كوب الشاي الخاص بمازن وهي تقول:
- سأخذه بنفسي.
وخرجت نحو الشرفة. فتحت الباب ودخلت بهدوء وهي تجد مازن على وشك انهاء المكالمة بينما يقول بضجر:.

- حسناً امي فهمت. دعينا نؤجل الامر للغد أرجوكِ. حسناً. الى اللقاء.
وقفت بقربه وهو يغلق الهاتف وهي تسأله بنبرة هادئة:
- هل حصل شيء؟!
قال وهو ينفث انفاسه وكأنها مكتومة منذ ايام:
- مجرد سوء فهم بسيط بينها وبين اخواتي. هن عنيدات وهي متمسكة بقرارها. لذلك من الطبيعي أن نخوض نقاشات عقيمة في الاسبوع مرة على الاقل.
قدمت له كوب الشاي وهي تقول:.

- لم تمضي على وفاة ابيك سوى سنة واحدة. لم يعتادوا على غيابه بعد. لذلك عليكِ أن تحل محله يا مازن وأن لا تتقاعس من كثرة المسؤولية الملقاة على عاتقك. حاول أن تستمع لوجهة نظر كل واحدة بهن دون أن تتخذ قرار سريع فقط لتنهي الخلاف وتفرضه من غير نقاش. هذا سيزيد الامور سوءً.

نظر لها بنظرة جامدة ووضع كوب الشاي جانباً من غير أن يرتشف منه شيئاً وقال بينما يستند على سور الشرفة بكلتا يديه التي يعصرها بغيض يحاول التحكم بعصبيته:
- وهذا ما افعله مع كل الناس مع الاسف. أستمع لوجهات نظرهم مطولاً علّهم يخبروني إني كنت مخطئاً وأن الأمر ليس كما اظنه.
اشاحت وجهها جانباً وزفرت بضيق وهي تدرك أنها المقصودة بجملته الاخيرة فانفجر بها فوراً دون أن يترك لها فرصة الاعتراض على فتح هذا النقاش:.

- هل تدركين عدد المكالمات التي حاولت بها الاتصال بكِ؟ هل كلّفتِ نفسكِ لتقرأي الرسائل الكثيرة التي تركتها لكِ من قلقي؟
نظرت اليه فازدادت نبرته حدّة وهو يكمل:
- هل تدركين حضرتكِ إني ذهبت الى منزلكِ لأطمئن عليكِ بعد أن خرجتِ من منزل يزن بتلك الحالة؟ وإني اتصلتِ بوالدتكِ حين لم تفتحي الباب فأخبرتني بمكان المفتاح الاحتياطي لأدخل للبيت كالمجنون ابحث عنكِ وأنا اظن أنه قد حصل شيء لكِ.

ثم فتح يديه بابتسامة عريضة رغم عصبيته وهو يكمل بذات الانفعال:
- ويا للمفاجئة! الانسة ليلى ليست ذاتاً في منزلها ولم تفكر حتى اخباري بذلك أو تكلف نفسها الرد علي!
قالت بندم صريح:
- أنا اسفة يا مازن. اعلم إني كنت مخطئة بذلك ولكن.
قاطعها فوراً:.

- اسفة؟ أتظنينها كلمة ستفي بالغرض كل مرة مع مازن الاحمق؟ تفعلين ما يحلو لكِ وتتجاهليه كل ما أردتِ ذلك لأنكِ متأكدة إنكِ ستعودين وتجديه في ذات المكان ينتظركِ ويتقبل اعتذاركِ ليسامحكِ؟ هل أنا مجرد لعبة وتمضية وقت بالنسبة لكِ؟
- كلانا كذلك بالنسبة للأخر. فلا تنكر ذلك.
صعقته كلمتها لتنظر له باستياء وهي تكمل:.

- ليتوقف الجميع رجاءاً عن لعب دور المثالية معي وجعلي الشيطان الوحيد امام تصرفاتهم الملائكية. لقد سئمت أن أكون دوماً المذنبة والطرف الاخر هو المظلوم المضطهد بسببي!
اقتربت منه خطوة وهي تكمل من غير تردد في جهض كل كلماتها بصراحة أمامه:.

- أنت ستحاول بشدة أن تغيرني وأن تجعلني احبك وأهتم بكِ. ليس من حبك لي. بل خوفك من رجوعك أليها. تخشى أن أجبرك بتصرفاتي هذه أن تنفصل عني فتضعف وتعود لها لا سيما بعد أن انفصلت عن خطيبها...
قال بتهكم:
- لا يليق بكِ دور الخطيبة الغيورة بالمناسبة. فلا تلعبيه معي!
نقرت بأصبعها على صدره وهي تقول:.

- الأمر ليس غيرة. ولكن أن كنت أضعف من أن تقاومها فلا تلومني لأتف الاسباب كالطفل المدلل الذي يرجو العناية الدائمة من غير أي تقصير.
امسك يدها بقوة وأوقفها عن لكز صدره وحدق بعينيها بغضب للحظات وقال وهو يزيد من ضغطه على يدها:
- تعرفين جيداً أن ليس هذا ما يحصل. بل أنتِ الذي ستتهميني في كل مرة ألومكِ على تقصيركِ أتجاهي بأني أتعذر بمشاكلي كي أعود لها.
ثم انزل يدها بغضب وهو يجحظ بعينيه ويكمل:.

- لو إني اريد العودة اليها فلا تظني بأن وجودكِ سيمنعني. ببساطة سأنفصل عنكِ وأذهب اليها لا سيما وإنك سترحبين بفكرة الانفصال كثيراً من شخص لا تكنين له أي مشاعر.
ثم اكمل:
- ليس أنا من يتشبث بماضيه يا ليلى لدرجة أنه لا يمكن أن يعيش حاضره ولا مستقبله.
نظرت له بتوتر فاومئ واثقاً مما يقول:
- لست أنا الذي يخاف أن يتقدم خطوة ويفضل أن يبقى بعيداً كي لا ينجرف بمشاعره.
صمت لحظات قبل أن يعود ليقول بألم:.

- لا يوجد رجل على الأطلاق يقبل أن يسمع من خطيبته عن علاقتها السابقة. ولكني رغم ذلك استمعت لكِ وتفهمتكِ ولم أحملكِ ثمن تجربة قد فشلت، وحين فعلت ذلك أتهمتني إني لا ابالي بكِ أو لأني اريد أن انساها افعل ذلك.
عاد اليه الغضب فجأة وهو ينهرها:
- نعم أنا اريد نسيانها. ولكنكِ لا تسمحين لي بذلك. تخشين أن أقع بغرامكِ وأتمسك بكِ.
واكمل فوراً بحزن:.

- وهذا من حقكِ، فكيف عساكِ ستتقبلين مشاعر شخص أجبرتكِ عائلتكِ على الارتباط به؟!
فتحت عيناها بصدمة ولكن قبل أن تستوعب ما قاله لها كان قد اختفى من امامها صافعاً باب الشرفة بقوة ومن ثم خرج من المنزل بشكل نهائي.

تداعى جسدها فوق الارض بضعف واستندت على الجدار تضم ركبتيها الى صدرها لتبكي حظها السيء كالعادة سراً بعيداً عن كل من تدّعي الصرامة امامهم. عداه هو الذي تلتاذ به كلما انكسرت ولن تخجل في يوم من البوح بكل ضعفها امامه، الوحيد الذي تتحدث اليه كما تتحدث الى نفسها من غير أن تزين كلماتها أو تخفي بعضها، شخص منحها الله لها نسخة واحدة في حياتها. وهي خسرته ببساطة!

وقف يزن عند استعلامات قسم الطوارئ يراجع اسماء مرضاه وحالاتهم وهو يدلك في اثناء ذلك رقبته براحة يده بعد أن تشنجت من شدة أرهاقه من هذه الليلة الطويلة التي لا تبدو أنها تنوي الانقضاء فيعود الى منزله ليرتاح.
- أعددتها خصيصاً من اجلك!
ألتفت بعينيه المتعبة نحو وجه سوزان المبتسم وهي تقدم كوب القهوة من أجله. تبسم بتكلف وهو يتناوله منها ويقول:
- شكراً لكِ. احتاجه بالفعل. ولكن هل من مناسبة؟

رفعت كتفيها وانزلتهما بحركة عفوية وهي ترد:
- أنه عربون شكر عمّا قلته لي. لقد غير الكثير بداخلي رغم انه لم يتخطى بضع كلمات. ولكنك عرفت كيف تختارها. وايضاً كأعتذار عمّا بدر مني من حماقة وانقياد خلف مشاعري وسط تلك الظروف الحرجة التي لم تكن ملائمة على الاطلاق لعنادي.
اومئ بابتسامة رضا وعاد مرة اخرى يغوص داخل الملف الذي بين يديه متجاهلاً وجودها.
- أيمكنني أن أسألك شيئاً؟!

قالتها لتسحبه من شروده فتبسم بتعب وقال:
- بالطبع تفضلي!
-هل أنت.
وقطع عليها جملتها رنين هاتفه. سحبه من داخل مئزره الطبي بعدم اهتمام في البداية وفجأة توسعت عينيه ما بين دهشة وتوتر وهو يقرأ اسمها، ليلى!
قال حتى من غير ان يزيح عينيه عن الهاتف وينظر لسوزان:
- عن اذنكِ.
واتجه مسرعاً نحو مكتبه واغلق الباب من خلفه. اخذ نفساً عميقاً ليجلي صوته المرتبك ويهدأ من روع قلبه المضطرب قبل أن يرد مدعياً الهدوء:
- ليلى؟!

- أتعلم يا يزن. اظن إني بدأت أؤمن بالقدر.
سحب كرسي مكتبه وجلس بهدوء وهو يبتسم بسرية عنها. فكيف سيخبرها بكل الشوق الذي يعتمر بداخله والحنين لأيامهما معاً واحاديثهما الطويلة، الليلة هو تناسى مازن وسمح للضعف البشري أن يسيطر عليه ويكمل حديثه معها دون أن يختتمه كالعادة. فقال لها بذات النبرة الهادئة:
- وما الذي جعلكِ تؤمنين به فجأة؟!

- كيف لصدفة كهذه أن تحصل؟ كيف لماضي جدي ان يرتبط بحاضري أنا؟ كيف لجدك أن يرتكب اثماً ويورث العقاب عليه لحفيده؟ هل هناك احد غير القدر يجيد وضع خطة منسقة كهذه؟!
- لكل شيء سبب. هذا ما أؤمن أنا به!
سمع تنهيدتها على الطرف الاخر قبل أن تقول:
- اجل. ربما لم يكن ينفع ان نبقى معاً.
تذكرت مرضها فنزلت دمعتها بألم بينما تكمل:.

- ربما القدر قد أحبّك فلم يشأ لك ان تتعذب مع أنسانة مثل حالتي، ربما أرادك أن تتعرف على الافضل. تلك التي ستعيش معها سعيداً طوال حياتك دون أن تتركك في يوم أو تجرحك.
ارتجف صوتها من تلك الغصة التي تسد لها حنجرتها وهي تقول ببكاء:
- ولكن أن كنت سأموت على اية حال، فلِما لم اموت في يومها وينتهي كل هذا العذاب؟ ربما ما كنت ستكرهني حين تعود من السفر وتجدني قد متُ بدل أن تجدني قد ارتبطت بغيرك!

اغمض عيناه بألم وشعر بشيء يطعنه في وسط صدره مباشرةٍ وهو يسمع منها هذا الكلام فقال من دون وعي:
- كنتُ سأموت من بعدكِ فوراً. ما كنت سأتحمل ولن أتحمل هذا في يوم يا ليلى.
- أتركني يا يزن. أنا لا استحقك ولا استحق أي احد. أتوسل اليك أن تنسى أمري.
سمعت همسته الحزينة وهو يقول:.

- سأكذب عليكِ أن قلت يا ليتني أنساكِ. فرغم أن ذكراكِ تعذبني إلا إني لا أريد حتى نسيانكِ يا ليلى، للأن اكره نفسي بشدة عمّا أحمله لكِ من حب وأنتِ تخصين غيري، تخصين اقرب شخص لي في هذه الحياة من بعدكِ. ولكنني ببساطة لا يمكنني الكف عن حبكِ.
- أنت غبي.
- أعرف.
- وأنا اغبى.
ضحك من وسط دموعه كما فعلت هي وقال:
- واعرف هذا ايضاً.
صمتت للحظات قبل أن تقول:.

- أتعلم. لا زلت لا اعرف كيف اربط شريط حذائي. ربما على أن أتعلم.
- من المخجل حقاً أن فتاة في ال23 ولا تعرف كيفية ربط حذائها الرياضي!
- كنت أتعمد أن لا اتعلم وارفض أن يعلمني أحد. كي أستغل الأمر. من أنكِ الذي ستربطه لي ما أن تراه!
- أتذكرين تلك المرة التي لم انتبه له وسقطتِ من السلم حين تعثرتِ بشرائطكِ المفتوحة؟
ضحك كلاهما وقالت له:.

- اذكر إني بقيت ثلاثة ايام لا اتحدث اليك وحمّلتك ذنب سقوطي لأنك لم تنتبه للحذاء، يا إلهي كم كنت حمقاء!
فرد مغيضاً لها:
- كنتِ؟ وكأنكِ لستِ كذلك الان؟!
- حسناً ليس ذنبي إني نشأت حمقاء. فأنت الذي كنت تعلمني كل شيء.
- أي قصدكِ أنا الاحمق يا انسة ليلى؟!
- وهل من عادتك أن تفهم التلميحات بهذه السرعة!
- انها موهبة في عائلتنا.

ضحك كلاهما. وصمت كلاهما من غير شيء ليقولاه بعدها. جرفهما شوقهما بعيداً لأيام دثرها الماضي. مهما ادّعيا الان أنهما يضحكان ويلقيان النكت عن بعضهما الاخر فهذا لن يغير من الواقع شيء ولن يعيدهما لبعضهما. كلاهما منفي عن عالم الاخر من دون ذنب فعلي!
بعد لحظات من الصمت سألها يزن بنبرة اقرب للعتاب الحزين عمّا أحدثته هذه المكالمة من انهيارات بداخله له زمن يرمم بها ليتعود غيابها:.

- ما الذي جعلكِ تتصلين يا ليلى؟ ما الذي سنحصل عليه من هذه الذكريات التي ستقتلنا ما أن ننهي المكالمة؟!
اغمضت عيناها بألم وقالت:
- أنا فقط احتجت التحدث اليك. اليوم كان اسوأ يوم في حياتي وليس هناك من احد غيرك سألجئ له بظروف كهذه، أنا اسفة إن أشعرتك مكالمتي بالألم.
- وهل هناك اسوأ من يلتجأ اليك أحدهم فقط في وقت ألمه وحاجته؟!
- وهل هناك اجمل من أن تكون الوحيد الذي اشعر بالامان بقربه أن كسرتني دنياي؟!

- والى متى يا ليلى؟ وهل يا ترى حين تتشاجرين مع مازن في المستقبل حين تتزوجا ستتصلين بي لتستذكري ماضيكِ معي؟!
- لست رخيصة لأفعل ذلك.
ثم اردفت:
- واحزر شيئاً!
- ماذا؟!
- لقد تشاجرت مع مازن بالفعل!
صمت من غير اجابة فأكملت هي:
- ولكن ليس هذا ما جعلني اتصل بك. بل لأني شعرت فجأة أن ايادي الجميع قد افلتتني على غفلة ولم يعد احد متمسك بي. سواك!
ثم اكملت بأنكسار:.

- لم أدرك إني سأواجه اتهام كهذا منك أنت بالاخص ونظرة سوداء بهذا الشكل!
انفرجت شفتاه يكاد يبرر ليلئم لها ما جرحه بها ولكنه وجدها تقاطعه فوراً وهي تقول:.

- على اية حال أنت محق. كان من الخطأ أن أتصل بك. أنه بالفعل تصرف ساذج وغير ناضج مني، لا زلت الى الان أعاملك كيزن القديم الذي كان يتناسى غضبه مني في لحظة حزني ويعرف حقاً كيف يجعلني اتجاهل كل شيء سيء في حياتي دون أن ابالي به، ولكن على ما يبدو إني اسيء التقدير دائماً وأفسد حياتي من حولي بعاطفتي ومزاجيتي المتقلبة. سواء كانت حياتك أو حياة ذلك المسكين مازن التي استمر بقلبها من السيء الى الاسوأ. وكأنه كان ينقص وجودي في حياته البائسة...

تنهدت بعمق وهي تكمل:
- اعتذر لك. لقد كان خطأي. أعدك أنه لن يتكرر. مع السلامة.
واغلقت الهاتف من غير ان تسمع له رد وهي تلعن نفسها الف مرة على انجرافها خلف عاطفتها ولحظات حنينها. فالناس الذين عرفتهم لم يعودوا كما كانوا. الناس ستتبدل بلحظة ليتحولوا اشخاص اخرين لم نكن نعتقد أن لهم وجود بداخلهم. ربما هي الايام من تفعل ذلك وربما هو الألم. لا يمكن فهم الانسان على الاطلاق مهما تعمقت به!

اغلق الهاتف وشيء من الضياع والتشتت قد عاد ليتلبسه. ما بين وفائه لصديقه وما بين حبه لها. إن احتفظ بأحدهما عليه أن يخسر الاخر. وكأنه خيار ما بين الروح والجسد. ايهما قد يتمكن من تفضيله على الاخر دون ان يموت فعلاً؟!

حلّ صباح اخر قشع منه كل ذكريات الليلة الماضية بالرغم من انه لا تزال هنالك بعض الشوائب ولكنها بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً. احياناً كثرة الالم مطلوبة لتخلق منا شخص عديم الاحساس بمحيطه. فلا شيء ليجرحه ولا شيء ليؤذيه!

تجاهلت وجبة الفطور المعدة على المائدة وودعت جدها ببرود وخرجت نحو جامعتها وكل ما تحمله هو مجرد دفتر صغير استعارته من جدها لتكتب به محاضراتها لحين عودتها نحو المنزل ونقلهم في الدفتر الاصلي.
استقلت الحافلة وهي تجلس بجوار النافذة كعادتها تضع السماعتين في اذنيها تستمع لاغاني عشوائية من غير أن تركز فعلاً بها.
وصلت الى الجامعة وتفاجئت وهي ترى روان تنتظرها عند الباب الخارجي تستند على غطاء سيارتها الامامي!

اقتربت منها وبعض الاستغراب يكتنفها وهي تهز رأسها بمعنى ما الذي تفعليه هنا بينما تنزع السماعات عن اذنها.
تبسمت روان ورفعت نظارتها الشمسية فوق رأسها وقالت:
- صباح الخير!
فقالت الاخرى بتهكم:
- ومنذ متى هذه الابتسامة معي؟!
ضحكت روان ضحكة قصيرة وهي ترد:
- ليس كما تظنين يا متحاذقة...
- من إنكِ تشعرين بتأنيب الضمير على لأني على وشك الموت؟ لما عساي اظن هذا يا ترى؟!

- حسناً. كيف كانت الطريقة المعتادة في القائي التحية عليكِ؟!
رفعت كتفيها ببرود وهي تقول:
- لم تكوني تلقيها اساساً.
تنهدت الاخرى بضجر وهي ترد:
- دعينا نختتم النقاش اتوسل اليكِ ولتعتبريني إني ذاتاً لم ابتسم!
- هذا افضل. والان اخبريني. ما الذي تفعليه هنا؟!
- سنذهب في مشوار.
ضيقت ليلى عيناها وهي تقول:
- وهل أنتِ الأن تسأليني أم تُعلميني بالأمر فقط؟!
- اعتبريه ما شئتِ ولكنكِ ستذهبين معي على اية حال.
- والى اين؟!

- الى المستشفى. ولكن ليس التي اعمل بها إنما لأخرى.
- ولماذا؟!
فردت روان بشيء من العصبية:
- وما الذي تعنيه بلماذا يا ليلى؟ نحن لم نعرض فحوصاتكِ على طبيب مختص ليقيم حالتكِ واكتفينا بمعلوماتنا السطحية بهذا المجال.
سكتت لثواني مفكرة فقالت روان مشجعة:
- كنت اعلم إنك سترفضين القدوم لمشفانا كي لا يراكِ يزن أو مازن لذلك اتفقت مع صديق لي يعمل في مستشفى اخرى أن يستقبلنا اليوم. هو مختص بالاورام وعلاجها.

مطت شفتيها بملل وهي تقول:
- ولِما تفعلين هذا من اجلي؟
- ما هذا السؤال الغبي؟ أما كنتِ ستفعلين المثل لو كنتُ أنا مكانكِ؟!
فقالت ليلى وهي تقوس حاجبيها بدهشة:
- لو كنتِ مرتبطة بيزن؟ كان سيسعدني موتكِ دون أن اشعر بتأنيب الضمير.
تبسمت الاخرى حتى اوشكت على الضحك وقالت:
- حسناً ادرك إنكِ كاذبة. كان يخبرني يزن كم أنتِ طيبة القلب.
- اجل. كنت كذلك.
- ولا زلتِ!

كادت ليلى أن ترد ولكنها ابتلعت كلماتها فوراً وهي تغير مجرى الحديث قائلة:
- دعينا نؤجل امر الطبيب لما بعد محاضراتي. سأفصل من كثرة غياباتي.
- لا يمكننا تأجيله. لن يكون لدي وقت اخر. ارجوكِ يا ليلى!
تنهدت باستسلام واتجهت نحو المقعد المجاور للسائق وهي تضع سماعتيها مرة اخرى وتقول:
- أن قدتِ كالعجائز سأقتلكِ.
تبسمت روان وركبت خلف المقود بينما تقول:.

- هل يمكنكِ على الاقل أن تنزعي سماعاتكِ بدل أن تشعريني إني اوصل مراهقة عنيدة نحو مدرستها الثانوية.
نظرت لها ليلى بطرف عينها فأكملت روان:
- أو يمكنكِ تشغيله على سيارتي لنستمع للأغاني التي تسمعيها معاً.
فقالت الاخرى ببرود:
- لن يعجبكِ ما اسمع فلن تفهميه.
- لماذا؟!
- إنه فرنسي.
- وهل تفهميه أنتِ؟!
- لا.
- وما المغزى من سماعها؟
- بل هذا المغزى من سماعها.
ثم قالت بينما لمحت روان نظرة حزينة داخل عينيها وهي تكمل:.

- فلن تؤثر بي الكلمات أو تذكرني بماضي احاول نسيانه...
ووضعت السماعات مرة اخرى على اذنيها متجاهلة رد روان. فلا تظن إن أحداً سيفهمها على اية حال. ولكن الغريب أن روان بالفعل قد فهمتها. فهذا ما تفعله هي!
سارت السيارة بصمت وكل واحدة بعالم مختلف رغم قرب العالمين من بعضهما.
لم يستغرق الطريق الكثير حتى وصلا الى المستشفى.

نزلت روان وهي تنتظر ليلى التي كانت متسمرة في مكانها تضع يديها في جيوب معطفها وتحدق ببناية المستشفى ما بين تردد من الدخول وما بين عدم مبالاة بأي شيء ستسمعه. فأمراض كهذه حين تصيبنا تقتلنا منذ اللحظة التي نسمع بها الخبر!
- ليلى؟ أندخل؟
قالت روان مشجعة فزفرت ليلى بضيق وهي تتقدم اليها ليصعدا معاً نحو الطابق الخامس حيث مكتب الدكتور ايهاب الذي حجزت لديه روان الموعد.

طرقت الباب بخفة قبل ان تفتحه وتدخل بابتسامة مجاملة وتلقي عليه التحية برصانة تعكس طبيعة العلاقة العملية التي تجمعهما.
دخلت ليلى بخطوات خائفة بعض السيء لتتولى روان دفة الحديث وهي تقول:
- هذه هي ليلى التي اخبرتك عنها دكتور ايهاب.
اثارت امتعاض ليلى فوراً نظرة العطف تلك التي سيطرت على عيون الطبيب للحظات مشفقاً على هذه الشابة التي سيخطفها الموت مبكراً!
مد يده بابتسامة وهو يقول:
- تشرفت بمعرفتك انسة ليلى.

صافحته وردت من غير ابتسامة:
- الشرف لي حضرة الطبيب.
- تفضلا ارجوكما.
جلست روان على الكرسي امام المكتب وما كادت ليلى أن تفعل حتى قال ايهاب معترضاً:
- اجلسي على سرير الكشف لو سمحت انسة ليلى.
اتجهت بصمت وجلست على السرير وعيون روان تراقبها مشجعة لها أن كل شيء سيكون بخير. وهي تدرك من الاساس انه ليس كذلك!
وقف ايهاب امامها واخرج ضوئه الصغير ووضعه على مقربة شديدة من عينها واقترب بعينيه منها لفحصها.

لم يستغرق الوقت الكثير حتى استقام بجسده وهو يقول بينما يطلق تنهيدة حسرة:
- لا يحتاج الامر الى ادلة اكثر. مع الفحوصات التي قدمتها لي البارحة دكتورة روان ورؤية عيناها الان.
والتفت اليها ليكمل:
- انها من دون اي شك مصابة بورم.
ولا تعلم ليلى لماذا ولكنها وجدت نفسها تسقط دموع من غير ارادتها فوراً وكأنها تسمع الامر للتو. وكأنه قتل ذلك الامل الزائف بداخلها من انه لربما كان الامر مجرد خطأ.

مسحت دموعها على الفور وهي تنزل من السرير وتجلس على الكرسي المقابل لروان التي كانت تسيطر على دموعها المترقرقة بصعوبة بينما تستمع لبقية حديث الدكتور ايهاب وهو يتجه لخلف مكتبه مرة اخرى ويطفئ الاضواء:
- المشكلة ليست في الورم.
وعرض اشعة فحوصات ليلى التي قدمتها روان من اجله على لوحة ضوئية واشار بيده على مكان الورم وهو يقول:
- الاهم هو مكان الورم.
قالت روان بقلق:
- وما به؟!

تنهد ايهاب للمرة الثانية وهو يقول بأسى:
- انه في منطقة حساسة يصعب علينا استأصاله.
واشعل الاضواء مرة اخرى ليرى الصدمة تعتلي وجه الفتاتين من غير ان يردفا بكلمة. جلس على كرسيه واكمل حديثه:
- انه قريب جداً على مناطق السيطرة على التنفس. واي خطأ بسيط في العملية سيؤدي الى الموت فوراً من غير ان يكون بوسعنا ان نفعل اي شيء.

قالت روان بنبرة مرتجفة بينما اكتفت ليلى بالصمت خشية ان تقول حرف فتنفجر معه دموعها وصرختها:
- والحل؟!
- الورم ليس حديث العهد مع الاسف. يبدو انها تملكه منذ فترة ولكنها اهملت نفسها مما جعله يتضخم قليلاً. لو اكتشفنا الامر بوقت مبكر لربما كانت فرصة النجاة من دون مضاعفات متاحة، أما الان.
ورفع كتفيه بحيرة وهو يكمل:.

- سيقلل الاشعاع الكيمياوي من تزايد الورم. ولكن يا ترى هل سيقضي عليه قبل أن يقضي هو عليها؟، هذا ما لا يمكننا معرفته الان وعلينا رؤية مدى استجابة جسدها للعلاج.
ثم التفت الى ليلى التي تشوشت الرؤيا لديها من كل تلك الدموع المتجمعة داخل عينيها:
- ولكن قبل ذلك علينا اجراء عملية بسيطة لكِ. علينا سحب عينة نسيجية من الورم لفحصه مجهرياً والتأكد تماماً انها خلية سرطانية وليس مجرد ورم حميد.

احاطت رأسها بكلتا يديها فوراً واحنت جذعها نحو الامام وهي تغمض عينيها بألم بينما تسأله بنبرة خافتة ومرتجفة:
- وأن. وأن كانت سرطانية. فكم تبقى لي من الوقت؟!
- حسناً نحن لا نستطيع ان نحكم انسة ليلى وعلينا ان نعرف مدى استجابة جسدكِ للعلاج وا.
قاطعته بحدة ونفاذ صبر وهي ترفع رأسها اليه وتقول:
- لنفرض انه استجاب. كم لدي من الوقت؟
- قد تشفين.
- وأن لم اشفى. كم سيبقيني العلاج على قيد الحياة ايها الطبيب؟!

زفر بضيق وهو يدرك انه لا مفر امام هذه العنيدة فقال:
- سنة.
فتحت عيناها بصدمة وارتجف فكها الاسفل وهي تسقط دموعها مباشرةٍ من عينيها نحو حجرها غير قادرة من شدة ثقلها على الزحف فوق وجنتيها...
قالت بعد لحظات بذات الصوت المهزوز:
- وأن لم. لم يستجب جسدي للعلاج؟!
سكت الدكتور ايهاب بضع ثواني ثم قال:
- بضع شهور. ربما ثلاثة كأقصى حد.
فقالت بابتسامة مريرة:
- كأقصى حد؟

رفعت يدها نحو وجهها وهي تمررها على خدها ومروراً بعينيها ووصولاً الى شعرها لتقبض على خصلاته التي ستفقدها قريباً ومن ثم نهضت بصمت فوراً وخرجت بخطوات ركيكة من المكتب دون ان تقول كلمة واحدة ودون ان تبالي بهتافات روان التي تبعتها على الفور.
فماذا عسانا ان نقول حين يكون موضوع النقاش موعد ختم حياتنا الى الابد؟
هل سيكون الامر درامياً حيث ستعيش في اخر الفلم وفجأة ينجح العلاج الذي لم ينقذ احد على ارض الواقع؟

هل ستصبح صلعاء ويبقى من حولها يجدوها جميلة دون ان يخفوا مدى شفقتهم على مظهرها؟
اهذا ما عليها العيش معه من الان فصاعداً؟
التكور حول نفسها ببؤس وندب حظها الاسود وتلقي تعازيهم وشفقتهم عليها؟
أم أن الله ببساطة قد حضر لها شيء اخر لطالما سألته عليه في لحظات حزنها ووحدتها وغضبها؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة