قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الثاني

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الثاني

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الثاني

وسط ازدحام مشاعرنا وفوضى احاسيسنا نكمن نحن. مشاعر لن نتمكن حتى نحن من فهم ماهيتها. حين نحب احدهم بشدة ويجرحنا سنكرهه بذات الشدة. ليس كره بقدر ما هو انتقام. وليس انتقام بقدر ما هو شوق نحاول اغتياله بأي قسوة!
لا تخشى انسان غاضب. بل اخشى انسان هادئ يتخذ القرارات بصمت من بعيد!

وقفت روان فوق سطح بناية المستشفى تشرب قهوتها في وقت استراحتها هنا دون ان تنزل الى الكافتريا فتلتقي بمازن او تضطر لمجالسة اياد. تحب هذا الهدوء الذي تحظى به بهذه الساعة من اليوم حيث تراقب الناس وازدحامهم من فوق البناية. ترى حركتهم. احاديثهم. لقائاتهم. ولكن من غير الاضطرار لسماع ثرثرتهم. احياناً حين نراقب من بعيد سنرى الاشياء بشكل اوسع واعمق مما لو عشنا وسطها!

- ما الذي تفعليه هنا؟ هل تفكرين بالانتحار؟
التفت بتفاجئ للذي اخترق محراب هدوئها فتبسمت حين وقعت ابصارها على يزن يشاركها الجلوس على حافة السور الذي يحيط حديقة ازهار صغيرة امام سور سطح المستشفى فتبسمت واعادت ابصارها تحدق في الافق امامها وقالت:
- اتمنى! ولكن اعلم ان لا احد يستحق. وانهم سينسون ذكري بعد شهور او ربما ايام ويعودون لممارسة حياتهم. ولن اخلق ذلك الندم الذي اسعى اليه بداخلهم!

شاركها تحديقها في الافق وارتشف بعضاً من قهوته وقال بنبرة رصينة تحمل بين طياتها اللوم:
- اذاً انتِ تعاقبين نفسكِ قبل ان تعاقبيهما!
- ربما. كالكاثولكي المتشدد إلى يجلد نفسه بنفسه حتى يتخلص من الذنوب. وهما ذنوب اريد تخليص روحي منها.
زفر بضيق والتفت اليها قائلاً: - عليكِ ان تنسي مازن يا روان. ذكراه لن تفعل شيء سوى اذية كلاكما!

نظرت اليه بأبتسامة مريرة كسرتها دمعة ضعيفة وهي ترد عليه: - انساه؟ كيف عساي ان انساه قبل ان اصبح شيء اخر تماماً؟ نحن لا ننسى ألا بعد ان يموت شيء بداخلنا يا يزن. حين يموت فقط بداخل مشاعرنا سنتمكن من نسيانه!
ثم اعادت ابصارها امامها مع دمعات اضافية لا تذرفها ألا بحضرة يزن. وكأنه قسيس اعترافاتها!

- احببته بقوة يا يزن وخذلني. كنت واضحة معه بكل شيء. كان يدرك جيداً اني احبه. وكنت اظن انه يماثلني بالمقدار. ولكنه لم يكن كذلك. لقد تخلى عني ببساطة!.
فقال بنبرة حادة تعكس تألمه عليهما اكثر من غضبه منهما: - انتِ من استعجلتِ بأرتباطك بأياد!
التفتت اليه باستنكار: - استعجلت؟
ثم نهضت بأستياء: - لقد انتظرت اسبوع كامل. اسبوع كامل يا يزن ولم يتصل ولم يعترف ولم يفسر. اكتفى بالصمت فقط!

ثم قالت بتأوه من وسط بكائها: - أتعلم ما اقساه من شعور على امرأة تحبك ان تهملها وتشعرها ان غيابها يعادل وجودها؟ ان تثبت لها ان لا اهمية لها في حياتك؟ بعد سبع سنوات من حبي له وتصرفاته التي تثبت حبه وتجبرني ان اتعلق به يذهب ليخبر اياد ان لاشيء يربطنا؟ واني لا اعني له اي شيء سوى زميلة عزيزة؟ وانه لا يمانع ان يرتبط بي اياد؟ سبع سنوات من الحب وعزل نفسي عن حب غيره يقابلني بأعتراف مشابه لاياد؟

نهض يزن من مكانه ليجيب بأنفعال مشابه: - اياد الوغد هو من رتب كل ذلك الوضع وجعلكِ تستمعين لمازن فقط لتوافقي على طلبه الزواج منكِ!
- رتب او لم يرتب ليس هذا ما يهمني بقدر ما يهمني ما اعترف به مازن!
اشاح وجهه جانباً بأستياء ووجهه يزداد انقباضاً فأكملت روان بذات انكسارها وبكائها:.

- انت لا يمكنك ابداً ان تفهمني يا يزن. لا يمكننا فهم شيء لم تعيشه. لا يمكنك ان تدرك كم اكره نفسي يوماً بعد يوم وانا اتحمل وجود اياد على مضض رغم تصرفاته واشتاق لمازن رغم خذلانه لي. لا يمكنك ان تفهم كم اصبحت اكره وجودهما فقط لما جعلاني اشعر به!
كسرت كلماتها عصبيته فالتفت اليها مجدداً وضمها برفق اليه وهو يقول:
- كفي عن هذا البكاء. ألم تتعبي منه؟

غطت وجهها بكلتا يديها بينما تستقر برأسها فوق صدر يزن وهي تكمل:
- تعبت من كل شيء يا يزن. تعبت ان ادّعي اني بخير رغم اني لست كذلك!
ملس على شعرها بلطف بينما اكتفى بالصمت. احياناً هذا كله ما نجيده امام جروح غيرنا وشكواهم. نقف لها وقفة صمت وليس ان نتراقص عليها بعدم مبالاتنا!
جلسا مجدداً حيث كانا واخرج لها منديله لتجفف دموعها فرن هاتفه بهذه الاثناء لتكون المتصل ليلى!
- مرحباً حبيبتي!
- اهلاً يزن.

- كيف ابليتِ بالامتحان؟
- جيدة نوعاً ما.
- هذا مطمئن!
- اسمع يزن. كما تعرف انا اعود بسيارة اجرة مع صديقاتي!
- اجل؟
- لكني خرجت من الامتحان واتصلت بهم وعرفت ان اثنتان منهما ذهبتا معاً واخرى استقلت سيارة بمفردها!
التحم حاجبيه ببعض قليلاً وقال:
- وبالتالي؟
- انا. عدت للمنزل بمفردي!
وهنا نهض من مكانه وهتف بعصبية:
- هل انتِ جادة؟
فأندفعت مبررة لنفسها:.

- وماالذي كنت تريد مني ان افعله؟ اعرف انه لا يمكنك ان تأتي لأصطحابي وابي في العمل في هذا الوقت!
فهتف بحدة:
- كان عليكِ ان تتصلي بي قبل ان تستقلي سيارة اجرة وحدكِ!
- وماالذي كنت ستفعله؟ لم تكن ستممكن من الحضور على اية حال!
- وهل اتصلتِ بي؟ هل تعذرت لكِ؟ كنت سأجد اي حل اخر!
وقبل ان تبرر شيء اخر قال بأقتضاب:
- اذهبي الان. سأعود للمنزل ونتناقش بهذا الخصوص!

واغلق الهاتف من غير ان يسمع ردها وجلس في مكانه مرة اخرى متحفزاً للأنفجار بينما صوته يتمتم ببعض الاستغفار والاستعاذة لعله يقمع شياطين غضبه. هو يعمل في المشفى وشاهد حوادث كثيرة او جرائم لذلك كان يمنعها منعاً باتاً من الخروج بمفردها ولكنها لم تكن تلتزم احياناً. وهذا اكثر ما كان يسبب بينهما المشاكل اغلب الاوقات!
ثواني قليلة وقالت روان بنبرة هادئة بينما كانت تراقب كل ما حصل:.

- حاول ان تتصرف معها بتفهم اكثر يا يزن!
فرد عليها بعصبية:
- ألا ترين طيشها يا روان وعدم التزامها بما اقول؟!
- انها اصغر منك بسنين يا يزن ولا يزال عقلها مائل للطفولة اكثر من النضوج لذلك عليك ان تتفهمها بشكل اكبر وليس ان تجبرها على طاعتك بالصراخ والعصبية!
- لقد حاولت معها بكل الطرق يا روان. انها بالفعل تتعبني احياناً!
- اذاً اتركها!
فألتفت اليها بأستنكار وكأنها شتمته فضحكت فوراً بينما تقول:.

- اذاً اغلق فمك وكفاك تذمراً!
فلتت ابتسامته فوراً وهو يدرك انه مهما اغضبته فهو بالنهاية يدمنها!
تنهدت روان بينما تحدق بتلك الغيمتين تتراصفان معاً وهي تعيد شريط ذكرياتها وتقول:.

- أتذكر حين كنا بالمرحلة الاولى من الجامعة وكل ما كنت تثرثر به هي تلك الطفلة التي انتقلت قبل اشهر لبنايتكم. لتلك الطفلة التي تستعير دفاترك من غير اذنك ان احتاجت ورقة. التي تشاهد التلفاز في صالة منزلكم حين يخرج والديها وترفع الصوت دون ان تبالي بقطع نومك عليك. بتلك التي لا تعرف كيف تربط شريط حذائها وتوليت انت هذه المهمة دائماً كلما صادفتها!
ثم نظرت اليه واكملت:.

- أتذكر بعد سنين حين حدثتني عن تلك الطفلة التي نضجت؟ عن تلك الشابة التي وقعت بغرامها على غفلة؟
ثم تبسمت بمرارة وقالت:
- هكذا يكون الحب يا يزن. ان ندمن دون ان ندرك!
تبسم جانبياً وهو يتلاعب بالهاتف بين يديه ويحدق به بينما يقول:
- انها بالفعل اكثر انسانة تغضبني. اكثر انسانة تفقدني اعصابي.
فطبطبت على كتفه برفق وقالت:
- واكثر انسانة تحبها برغم سلبياتها.
نظر اليها وتبسم قائلاً:
- بالفعل!

- اذاً تمسك بها بأكثر ما تملك من قوة يا يزن، دامك تدمنها بهذا الشكل فمن المستحيل ان تتقبل فكرة خسارتها. حاول تحمل مشاكل مماثلة ولا تشدد عليها من ناحية مساحيق تجميلها او اخطائها العابرة من غير قصد.
- انا افعل ذلك من خوفي عليها يا روان.
- اعلم. ولكن صراخك عليها لن يوصل لها خوفك بقدر ما سيوصل لها قمعك وسيطرتك!

تنهد بضيق وهو يقلب كلامها في عقله جيداً الى ان اودعه بزاوية خاصة قرر العودة اليها لاحقاً ثم عاد ينظر لها وبالاخص لجانب وجهها الايمن وقال:
- على ماذا هذه المرة؟
تجهم وجهها في الحال وكأنها تذكرت ما كانت تحاول نسيانه وعدلت خصلات شعرها لتحرص على انزالهم بالشكل الكافي الذي يخفي بعضاً من اثر الصفعة وقالت بنبرة تحمل غصة تخنقها:
- اسبابه المعتادة على شجارات سخيفة لا تستحق.
- والى متى يا روان؟

سحبت الهواء بقوة بينما تغمض عينيها وبدل ان يزيح الهواء هذه الغصة قام بأسقاط دموعها من جديد بينما تقول:
- مجبرة ان اتحمل!
ليجيب منتفضاً:
- لا، لستِ مجبرة. انها مجرد خطوبة وبأمكانكِ انهاء كل شيء بسهولة!
هزت رأسها بيأس بينما تجيب:.

- الامر اصعب يا يزن. سذاجتي وضعفي لا يسمحان لي بالاصرار على موقف انفصالي عنه. كلما حاولت الابتعاد كلما جاء إلى متوسلاً ومعتذراً وذات مرة قد بكى. فكيف عساي ان استمر برأي دون ان اسامحه حتى وان لم اشأ ذلك؟
اخذت نفساً اخر وكأن صدرها مزدحم بكثير من الفوضى التي تكتمها وتخنقها واكملت:.

- انا اضعف من ان ابادله قسوته ذاتها يا يزن. لا زلت احاول ان امتلك تلك القوة التي تخولني الرحيل من غير الالتفاف اليه مجدداً.
ثم نظرت له وقالت بثقة:
- وصدقني حين امتلك تلك القدرة على الرحيل فلن اعود مطلقاً ولن ابالي بحبه لي مهما كان. سأكون شخص اخر تماماً!
- بدأتِ تخيفيني بالمناسبة!.
ضحكت من وسط دموعها فجففتهم باطراف اصابعها الرقيقة وقالت:
-يجب عليك ذلك. احتاج ان يخاف مني احد مقابل خوفي من الجميع!

تبسم وبعثر لها شعرها بينما يقول:
- انتِ مثل اختي يا روان واكثر. واي احد سيزعجكِ سأقتله. ولولا طلبكِ مني ان لا اتدخل للقّنت ذلك الوغد اياد درساً لن ينساه ابداً متناسياً انه زميلي!
- لا اريدك ان تدخل بخلاف معه بسببي. سأحاول ان اصلحه. وان لم اتمكن فلا اظن انه يمكنني الاستمرار اكثر!
- هذا هو القرار الصائب عزيزتي!
ثم نهض وانهضها معه وهو يقول:.

- والان دعينا نعود نحو العمل وازيلِ من رأسك مشاكلهم بدل ان يموت المرضى بسبب علاقاتنا العاطفية!
ضحكت وهي تجيب بفخر مصطنع:
- سيموتون ضحيةٍ للحب!
- اجل ونحن سندخل للسجن ايضاً ضحيةٍ للحب يا حمقاء!
لتستمر بضحكاتها الرقيقة وسط مزاحات يزن الذي لن يتمكن غيره من انتشالها مما هي فيه، على الاقل بعد رحيل مازن!

جلست ليلى على اريكة الصالة تهز قدمها بتوتر وتقضم طرف اصبعها داخل فمها بينما تراقب الهاتف على المنضدة امامها تاركة مشاهدة التلفاز المشغل من غير فائدة!
- ما كل هذا التجهم منذ عودتكِ من الامتحان والى الان؟
التفتت نحو والدتها الجالسة بقربها واعادت ابصارها نحو الهاتف من غير ان ترد فأكملت السيدة جيهان:
- لقد قلتِ انكِ جيدة في الامتحان. فما بالكِ؟

وايضاً اكتفت ليلى بالصمت فمطت السيدة جيهان شفتيها وقالت:
- هل هذا بسبب عودتكِ لوحدكِ؟ هل غضب يزن؟
فتأفأت بملل فأكملت والدتها بحدة:
- كفي عن هذا التأفأف كل دقيقتين. اما ان تتصلي به وتخلصيني او تتخلصي من مزاجكِ هذا. الشجارات ليست جديدة عليكما لذلك لا داعي لكل هذا التهجم!
فحملت هاتفها بصمت مطبق واتجهت نحو غرفتها من غير ان ترد على امها لتهتف الاخيرة خلفها:.

- لقد اصبحتِ قليلة الادب في الفترة الاخيرة بالمناسبة!
فقالت بعدم مبالاة بينما تدلف:
- حسناً امي اسفة ولكن لا اريد ان اتحدث بهذا الموضوع لو سمحتِ!
واغلقت بابها ووقفت وسط غرفتها وهي تعض طرف شفتها السفلية بتوتر بينما تضغط رقم يزن-رغم انها تحفظ اسمه ضمن جهة اتصالتها- ولكنها تفضل الضغط على ارقام هاتفه وكأنها تمارس العزف فوق آلة موسيقية!

وضعت الهاتف على اذنها واستمعت لرنين المكالمة من غير ان تستمع لرده. رفعت حدقتيها باتجاه الساعة فوجدتها الخامسة والنصف بعد الظهر. بالتأكيد قد عاد من المستشفى وتناول غدائه وحظى بقيلولته. ولكنه برغم ذلك لا يرد عليها!
نفثت الهواء بقوة من فمها وخرجت من غرفتها مجدداً واتجهت نحو شقته. ترددت للحظات ثم تشجعت وطرقت الباب. ثواني حتى اطل وجه السيدة منى ترتدي مئزر المطبخ التي تبسمت فوراً وقالت:.

- يا اهلاً وسهلاً بليلى الجميلة!
بادلتها ابتسامتها بينما ابصارها تتحرك بارجاء الشقة تبحث عن غايتها وهي تقول:
- اهلاً خالة منى كيف حالكِ؟
فسحبتها من يدها وقالت:
- من حسن حظكِ انكِ اتيتِ الان انا اعد الكعك الذي تحبيه!
دخلت وعيونها تبحث عن اي اثر ليزن وحين وقعت ابصارها على باب غرفته الموصد وانواره المطفأة ادركت انه لا يزال نائماً!
- انتظري هنا وسأخرج بعضه من الفرن واحضره لكِ!

وقفت وسط الصالة لم تنتبه اساساً لكلمات السيدة منى وبقيت تركز على باب غرفته المغلق وهالة الهدوء التي تحيطه!

زفرت بضيق اشد وقلقها يتفاقم من ردة فعله تلك التي وعدها به وبقيت تنتظر على مضض عسى ولعل ينتهي كل شيء على خير. وفجأة اهتز جسدها وهي تتفاجئ بأنفتاح بابه وخروجه منه بشعره المبعثر وعيناه المحمرة قليلاً من النوم وخطواته المتكاسلة بأتجاه الصالة. منحها نظرة سريعة بادئ الامر ثم نظر لها جانباً حين مر من قربها يتفحصها من اخمص قدمها لأعلى كتفها دون ان يزيد او يبطئ خطواته وجلس على الاريكة من غير تعليق بينما هي متسمرة في مكانه تبلل شفتيها بفمها الجاف من الاساس. حمل جهاز التحكم وشغل التلفاز يتابع النشرة الرياضية بصمت. التفتت ببطئ اليه وكأنه تخاف ان تتحرك بسرعة وتوقظ ذلك البركان الخامد على بعد مسافة منها وبقيت تحدق به بأستغراب، توقعت ان تبدأ لجنة التحقيق عملها وصوته يرتفع كالعادة. لم تتوقع ان يتجاهلها فحسب!

وصلت السيدة منى مع طبق الكعك وهي تقول بمرح:
- هذه المرة لا اريد اي اعذار يا انسة ليلى ولن ابالي ببرنامجكِ الغذائي وستنهين الطبق كله!
ثم وضعت الطبق على المنضدة فسحب يزن واحدة وقال:
- امي هل يمكنكِ ان تعدي لي بعض الشاي؟
- حاضر حبيبي!
ثم التفت نحو ليلى ووجهها الابله وهي تحدق بعدم استيعاب بتصرفاته وقالت:
- ما بالكِ واقفة بهذا الشكل عزيزتي؟ تعالي لتجلسي!

اطبقت شفتيها المنفرجة وضيقت عيناها المتسعة وجلست على الكرسي بجانب الاريكة من غير كلمة بينما اتجهت منى نحو المطبخ من اجل اعداد الشاي ليزن، يزن المستفز الذي يراقب الرياضة بتركيز لم يعهده هو ذاتاً!
بلعت ريقها بتوتر وهي تراقب بطرف عينها هدوئه بينما يقضم الكعك ويتابع التلفاز!
- يزن؟!
همهم كأجابة من غير ان يلتفت فقالت بنبرتها المتوجسة:
- ألن تتحدث الي؟
- تؤ.

وهنا رفعت حاحبيها بدهشة ليغتال استيائها خوفها وهي ترد بتذمر على بروده:
- هل ستتبع معي هذه الطريقة الطفولية ام ماذا؟
التفت اليها بعيون حادة ومقتضبه فكتمت نبرتها المرتفعة فوراً وكورت يديها فوراً كرد فعل طبيعي لجسدها الذي انسحب من هذه المعركة الخاسرة. اعاد عيناه نحو التلفاز وقال:
- من الطبيعي ان نتبع الطرق الطفولية مع الاطفال عزيزتي ليلى!
- يزن انت تعلم اني لم اقصد!
فنظر لها بعصبية:.

- اجل لم تقصدي. لأنكِ ذاتاً لم تبالي بكلامي لذلك لم تقصدي مخالفته!.
اخفضت بصرها فوراً تعبث بأصابعها من دون اي غاية فقط لتتهرب من لوم عينيه فكسر صمتها عصبيته لتضعفه كعادتها دون ان يتحمل رؤيتها حزينة بسبب كلامه فأمسك يديها الناعمة بين يديه وقبّل اصابعها برفق مما دفعها للأبتسام فوراً وهي تصارع دمعتها ان لاتخرج فنظر داخل عينيها وقال:.

- انا اخاف عليكِ من كل شيء يا ليلى واريد ان احافظ عليكِ كي لا يصيبكِ اي ضرر. حين امنعك من ملبس او مساحيق تجميل او الخروج بمفردك هذا لأني اريد ان احميكِ من عيونهم وليس اني احاول فرض اوامري فقط!
ثم قرصها من خدها برفق بينما يقول بأبتسامة لطيفة:
- شباب اليوم يا ليلى ذئابُ.
وطبع الحمل ان يخشى الذئابا!
فقالت بطفولية:
- حفظت هذا الشعر من كثرة القائك له!
- وهل طبقتهِ؟
- لا.
فضربها بأصبعه على جبينها وقال:.

- اذاً سألقيه عليكِ الى ان تطبقيه وليس ان تحفظيه فقط!
تبسمت ثم شددت قبضتيها على يديه وهي تقول:
- يزن. انا بالفعل اسفة. اقسم لك اني لم اقصد مخالفتك. كل ما في الامر اني كنت متعبة بحق وانت تدرك اني سهرت الليلة الماضية مطولاً وكنت اعلم ان اتصلت بك فلن تسمح لي بالرجوع وكنت ستبقيني في الجامعة لحين ايجادك حل ما. ورأيت اني لم اعد طفلة وبأمكاني الاعتماد على نفسي وان استقل التاكسي بمفردي!

طوال فترة تحدثها كان يحدق بها بأبتسامة ويغوص داخل عينيها كطفل يحدق ببرنامجه الكارتوني المفضل ليسحبه نحو عالم اخر!
- يزن هل انت معي؟
- هل تدركين كم يعشقكِ يزن؟
تبسمت مع جملته هذه وتوردت وجنتيها بحمرة خجل داكنة يعشقها فضربته على كتفه برفق ويدها لا تزال بيده وقالت:
- ما ربط هذا بموضوعنا؟
- بل هذا اساس موضوعنا. بل اساس كل مواضعينا!

- حسناً كف عن ذلك ستأتي الخالة منى وان رأت وسمعت ما تقول ستخبر امي وتبدأن بالاستظراف على كما المرة السابقة!
- ثلاث ايام فقط ولن نهتم بأستظرافهم!
قطبت حاجبيها بعدم فهم وقالت:
- ماالذي سيحصل بعد ثلاث ايام؟
- سأخذ اسرتي لنذهب نحو منزل اسرتكِ كي نطلب يدكِ بشكل رسمي!

وهنا توقف كل شي بالنسبة لها وبقيت تحدق فيه ما بين سعادة ولهفة وما بين عدم تصديق لما تعايشه. نعم هي تدرك هو سيقول كلام مماثل في يوم ما. وتخيلته في كل ليلة. ولكن ان نتخيل شيء ليس كما نعيشه حقاً!
احاط وجهها بين يديه وقال بشوق مماثل:
- لا اصدق يا ليلى ان هذا اليوم سيأتي بالفعل وستكونين لي بشكل نهائي. أتدركين كم سنة انتظرت حلول هذا اليوم؟
تمتمت شفتاها بحروف متقاطعة الى ان قالت واخيراً:.

- لكن. لكن اتفقت انت وامي. اعني قلتم ان السنة القادمة حتى تتم الخطوبة؟
- اعلم. ولكنني اتفقت معهم قبل ايام ان تتم الخطوبة الان والزواج بعد تخرجكِ. ولكننا لم نشأ ان نخبركِ بسبب امتحاناتكِ. ولذلك سأنتظر ان تنهي امتحانكِ الاخير بعد الغد وسأذهب مع اسرتي لمنزل اسرتكم الكبير ليتم الاتفاق على كل شيء بشكل مبدئي وبعدها تتم حفلة الخطوبة!

انهى كلامه وتطلع فيها بأبتسامة ينتظر اجابتها. ولكن لا شيء، كانت تحدق به بعدم الاستيعاب ذاته وشفتاها عادتا للأنفراج مجدداً، ما تعايشه في هذه اللحظة من سعادة تعجز ان تعبر عنه بكلمات. بل فعلت بصرخة!
من دون توقعها ومن دون وعيها قفزت كالبلهاء وعانقته بشدة كادت ان تخنقه وهمست له بحب:
- انا اعشقك يا يزن!

استغرق هو هذه المرة ثواني قبل ان يستوعب ما حصل الى ان رفع يديه ليحيط ظهرها وضمها اليه اكثر وهمس لها بنفس مستوى صوتها:
- وانا ادمن كل شيء فيكِ يا منتهى العشق عندي!

كان هذه اجمل لحظة شعرت بها ليلى منذ سنين. منذ ان اعترف لها بحبه قبل سنوات. حين اغتال لها كل مخاوفها من خسارته ودخول غيرها حياته. كلمة واحدة كانت كفيلة بتجفيف كل دموعها. انا احبكِ، كم يكون لكلمات بسيطة تأثير عميق حين تصدر ممن نحب. وكم يكون لتصرفات ساذجة وغير مبالية جروح اعمق حين تصدر منهم ذاتهم. ألم اقل لكم. الامر يعتمد على من تصدر منهم الكلمات!

انها المرة الاولى التي تتحمس ليلى فيها بهذا الشكل حين تنهي امتحاناتها. اصبحت تسمى العروس بين اهلها. وبدأت والدتها تفكر بفستان طفلتها الوحيدة كيف سيكون والسيدة منى تحضر مكان مناسب لاقامة حفلة الخطوبة، كانت اجواء تشعر ليلى بسعادة تعجز عن كبحها. بدأت تشعر انها المميزة بالنسبة للجميع، هذا من يحضر فستانها وذاك من يختار صالون التجميل المناسب وتتفق هي ويزن عن كل مشاريعهما التي خططا لها من بداية حبهما!

وحان يوم الجمعة. اليوم الموعود حيث يذهب السيد احمد مع اسرته نحو منزل العائلة الكبير حيث الجد يحيى يقطن هناك وحيداً ويجتمع بأبنائه يوم الجمعة من كل اسبوع. وهو اليوم الذي اتفق فيه يزن على الحضور مع ابيه وجده من اجل التقدم رسمياً لخطبة ليلى.

طوال فترة الغداء وما بعده كانت جيهان تلاحظ توتر ليلى وليلى بدورها تلاحظ تلك نظرات القلق السرية التي يتبادلاها والديها مع بعضهما، نظرات تولدت فيهما بعد ذلك اللقاء الذي اجتمع فيه يزن بالسيد احمد في مكتب منزله والذي لم تعرف ليلى ماهيته ولم يخبرها احد. شعرت بتوجس والديها من هذا اليوم بدل الحماس الذي كانا يعيشان فيه قبل ايام. احست بنبرة يزن المتلهفة تتحول للخيبة كلما جاءت على ذكر امر الخطوبة. وتفسير لا يحوي سوى لا شيء، متعب فحسب. كل غرائزها الانثوية تخبرها ان هناك شيء مخفي عنها. ولكن خوفها كان يخبرها ان تبعد هذا التشائم. وان كل شيء سيكون بخير!

الرابعة والنصف. موعد الحضور! بدأت ليلى تسحب انفاس سريعة تحاول التخلص من كل هذا التوتر الذي يعتريها. تطلعت مئات المرات على نفسها في المرآة رغم انها لن تدخل اجتماعهم على اية حال ورغم ان يزن كان قد رآها بأسوأ حالاتها. ولكن هذا اليوم مميز بالنسبة لها!
- ليلى ليلى لقد حضروا!

التفت بشهقة نحو ابنة عمها هُيام التي دخلت عليها الغرفة فجأة تصرخ بحماس. ارتسمت الابتسامة العريضة على محياها وهي تسرع بأتجاه باب الغرفة بينما تسأل هُيام سؤال تدرك اجابته:
- أحقاً؟

سحبتها الاخرى من يدها من غير اجابة وهما تركضان بأتجاه السلم لتراقبا من اعلى يزن وجده وابيه يدخلان من باب المنزل الداخلي يقودهم السيد احمد بأتجاه مكتب ابيه. رفع يزن بصره فتبسم فور وقوعه على ليلى رغم معالم وجهه المُكفهِرّ بداية دخوله وكأن ذلك القلق الخفي لا يزال يسيطر عليه!
- دعينا ننزل!
قالتها هيام بعد دخولهم نحو غرفة المكتب لتجلسا في الصالة لتكونا اكثر دراية بالاخبار ال طازجة كما كانت تسميها هيام!

تصغر هيام ليلى بسنة ولكنها رغم ذلك كانت اقرب واحدة اليها من جميع بنات اقربائهم. كانت ليلى شبه انطوائية. لا تفضل خوض الحديث الشخصي سوى مع البعض اما مع الاغلبية فتكتفي بالمزاحات ومواضيع عامة تجعلها بعيدة تمام البعد عن خصوصيتها. ربما هذا ما جعل اغلب فتيات العائلة يتجنبون سؤالها عن يزن. كانت تكتفي بأبتسامة الموناليزا كما يطلقن عليها كلما سألنها. تنظر اليهم بأبتسامة طفيفة بالكاد تُرى وتحدق بهن بهدوء ثم تشيح وجهها جانباً وتقول ببساطة: لا احب الحديث بالامر! .

الامر الذي يخرسهن فوراً. ويجعلهن يتضجورن منها. ويغتبنها كثيراً. ولكنها لم تبالي طالما انها ليست مضطرة لسماع ما يقلن وليست مضطرة للقائهن سوى يوم واحد بالاسبوع ولم تكن مع تواصل سوى مع هيام حيث تسميها صندوق اسرارها العميق!
- يارب!

التفتت ليلى بقلق نحو التنهيدة المتوسلة التي اطلقتها والدتها. كانت قلقة. قلقة اكثر مما يجب. التفتت بأتجاه هيام التي كانت مشغولة بارسال نظرات التحذير نحو بقية فتيات العائلة ان يكففن عن التهامس فيما بينهن وكان واضحاً انه بخصوص ليلى التي لم تلقي لهن بال من الاساس!

اشاحت وجهها مجدداً عن هيام وانشغلت بتقليب ابصارها فور الارضية وسط صمت الصالة حيث لا ينطق اي احد فيهم كلمة وهم ينتظرون خروج الرجال من المكتب. وفجأة كسر سكون الاجواء صراخ يحيى من داخل المكتب فنهضن جميعهن من اماكنهن المحب والمبغض بقلق على صراخه الذي يليه خروج السيد قاسم والسيد خليل واما يزن واحمد واخوته الاثنين كانوا يحاولون تهدئة الامور ويفشلون!

تقدمت ليلى النساء وهي تنظر بصدمة لما يحدث حيث تبعهم يحيى من المكتب وصرخ بأعلى صوته بقاسم وجسده يرتجف من عصبيته:
- ما تحاول الوصول اليه يا قاسم لن يحصل حتى وانا تحت التراب. دمنا لن يختلط بدمائكم ولو كان مقابل موتي!

نظر اليه قاسم بصمت ونظرة غضب تجتاح عيناه يعكسه من خلال زفيره الحاد ثم اشاح وجهه وخرج ليلحقه ابنه بينما يزن بقي واقفاً في مكانه كمحارب مخذول من جيشه. لا فائدة من بقائه. ولا حتى لرحيله. لم يعد هناك اهمية لأي شي!
رفع ابصاره وحدق بعينا ليلى المرعوبتين. حدق بملامحها التي لا تريد ان تصدق الكابوس الذي تعيشه الان. لا شيء مما يحصل حقيقة. لا يعقل ان حب سنوات يتم مقابلته بالرفض من اسرتها.

دموعها الصامتة كانت كفيلة بحرق روحه دون ان يمتلك القدرة على البقاء اكثر. لذلك كل ما فعله ببساطة انه عصر قبضته بقوة ليسيطر على ما يجتاحه من خيبة وغضب وخرج بخطوات سريعة خلف ابيه وجده من دون ان يعلق بشيء اخر. ودون ان يفعل احدهم هذا!
أتعلمون ما هي التضحية؟
ليس ان نخصص جزء من اوقاتنا المهمة لهم.
ليس ان نتقاسم ما نحب معهم.
ليس ان نمنحهم الحب في حين لم يفعل احد هذا.

التضحية هو ان نترك كل ما نحبه. كل ما نؤمن به. كل ما يقف مع مصالحنا. فقط من اجلهم. فقط لكي نكون معهم!
تضحية لم تعرف ليلى اهميتها في ذلك اليوم، تضحية كانت قادرة عليها. كانت تملك الخيار، واختارت!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة