رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل الثالث والعشرون
في كل مرة أعيد تكرار ذات الجملة مرارًا وتكرارًا وكأني لم أقم بصياغة غيرها في حياتي. ولكنكم ستدركون في مرحلةٍ ما كما أدركت أنا من أنه حقًا في بعض الأحيان لا يكون الحب كافيًا لنسامح.
سيمنحك الحب تسع مسامحات، ولكنه سيسلب منك العاشرة. ستغفر وتغفر وتغفر لدرجة إنهم سيعتقدون إنكَ لا تعرف ما معنى أن تعاقب. ولكنك في الحقيقة تعرف ما معنى أن تكون غاضبًا وساخطًا وعديم الرحمة. أنتَ ستعرف جيدًا كيف تعاقب، بل وهذا أكثر ما تجيده، ولكنك فقط تقوم بتأجيله عدة مرات. لأنك تدرك حين تعاقبهم، فستمحو كل ما تملكه من ذكرى حسنة عنهم!
كانت تدرك إنه يتجنب دخوله إلى الغرفة أثناء وعيها في محاولة فاشلة منه للالتزام بوعده بتركها وشأنها، وقد أدركت أيضًا إنه أنهى أي ارتباط سيجمعه بسوزان. لم تستنتج ذلك من عيون سوزان الذابلة في الأمس، بل أحست بذلك من تلك العبارة المشفرة التي ألقاها مازن على مسامعها من أن يزن قد عاد لرشده وليس عديم الضمير لهذا الحد كي يستمر بمشروع الخطوبة بعد كل ما حصل بسبب ذلك. لم تتجرأ على سؤاله عن مقصده فهي أدركت لأي شيء كان يلمّح وتأكدت من ذلك بعد أن سألت روان وأخبرتها عن انفصال سوزان ويزن. كانت تدرك أن ما يختلج مازن لم يعد مجرد شكوك وتساؤلات بل اقترب الأمر رويدًا من اليقين. وفي الحقيقة هي لم تبالي. لقد اقتربت ما يكفي من الموت للحد الذي لم تعد تبالي بسذاجة البشر واهتماماتهم الفارغة. لم يعد لأي شيء معنى وحالتها تنتكس يومًا بعد آخر!
مضت ثلاثة أيام على تواجدها في المستشفى وقد ساءت حالتها أكثر بعد جلسة الكيمياوي تلك، لدرجة أن الأطباء لا يعرفون ما الذي يصيبها، وكأن المرض يبني حصون دفاعية أشد من مناعتها فيلتهم كل علاج ويتغذى عليه ليصبح أكثر وحشية وهمجية ويهاجم جسدها بطريقة أكثر شراسة وكأنه حصل على الإمدادات. لذلك أدركوا أن كل ما سيفعلونه لها من الان فصاعدًا هو مجرد عمل والذي يتضمن تقديم هذا العلاج لهذا المريض إلى أن يموت وليس أن يتركوه يصارع المرض لوحده. هذا ما قاله الطبيب المختص لوالديها ليكونوا على استعداد لأي شيء!
نقص وزنها بشكلٍ ملحوظ خلال هذه الايام وبدأت خصلات شعرها تتساقط أكثر عن ذي قبل ولكنها ترفض التخلص منه كليًا كما يفعل أغلب مرضى السرطان. وكأنها تودع هذه الخصلات القليلة التي تبقت على شعرها - رغم بشاعة منظرها - ولكنها كانت مولعة بشعرها كثيرًا. لم تكن ترى سر الجمال والانوثة يكمن بمساحيق التجميل، التي كان يزن يحرمها منها من الأساس، بل بالشعر الطويل والكثيف. وها هو ذا اليوم يبدأ بلفظ أنفاسه الاخيرة بين يديها ليودعها وكأن قدرها في هذه الحياة أن يتركها كل شيء تحبه!
-بالمناسبة يمكنني رؤيتكِ تبكين حتى لو كنتِ تديرين ظهركِ إلي. لست غبية!
قالتها ليلى بضجر وعصبية لأمها التي تحاول إشغال نفسها بترتيب الملابس بالخزانة الصغيرة في الغرفة التي ستصبح مستقر ليلى من الان فصاعدًا. مسحت دموعها واكتفت بالصمت من دون أن ترد عليها بشيء لتكمل ليلى بذات نبرتها الغاضبة: - أنا لن أموت غدًا أمي لذلك هلا كففتِ عن نصب الحداد أمامي؟!
فقال أبيها بنبرة عطوفة: -ألأمر ليس كذلك حبيبتي. أنها فقط.
فالتفتت إليه لتقاطعه بحدة: -فقط ماذا يا أبي؟ منذ أن عرفت بالخبر وإلى اليوم وهي لا تكف عن هذا البكاء وكأنني في كل مرة أغط فيها بالنوم لن أستيقظ منه مجددًا. أهذا هو الدعم الذي أحصل عليه منكما؟ إذاً من الجيد إنني لم أخبركما منذ البداية لأني أعرف إنكما ستتصرفان مع ألأمر بشكل عاطفي وتزيدان من إشعاري بالإحباط!
ما أن أنهت ليلى جملتها حتى فتح مازن الباب وهو يحمل بين يديه كوبين من القهوة. نقل بصره باستغراب ما بين ليلى ذات الملامح العصبية وجيهان التي تتجمد أمام الخزانة من دون فعل شيء بينما تعصر قبضتيها وتضم شفتيها لبعضهما وتبكي بصمت دون أن تلتفت إلى أحد فيهم، قطع هذا السكون الموحش، الذي طغى فجأة، السيد أحمد وهو ينهض من مكانه ويقول بابتسامة: - أتمنى أن يكون أحد هذين الكوبين من نصيبي. فأنا بحاجة إليه!
بادله مازن الابتسامة وهو يمد أحدهما من اجله وقال: - أجل، وأحضرت للسيدة جيهان أيضًا واحد.
أغلقت باب الخزانة بهدوء ومسحت دموعها وبالكاد رسمت ابتسامة على وجهها وهي تقول: - شكراً لك عزيزي. ولكني لا أريد الان. ربما في وقت لاحق!
ثم تركت الغرفة وخرجت وهي تشعر أن دقيقة أخرى هنا ستصيبها باختناق أبدي. تنهد أحمد بقلة حيلة وقال: - سأخرج لأستنشق بعض الهواء مع جيهان.
وتركهما وخرج بدوره من الغرفة. حوّل مازن عيناه نحو ليلى التي لا تزال تدير عيناها نحو النافذة متجاهلة وجوده. هي قد قررت الإفصاح عن كل شيء وأنهاء هذا الارتباط. فلم يتبقى بالحياة شيء لتنهيها بكتم ما تريد فعلاً وتحقيق رغبات الاخرين. أدركت الان فقط أن الحياة أقصر من أن نهدرها ونؤجل سعادتنا لإشعار آخر. ولكن كلما نظرت بعينيه تحاول الإفصاح عمّا تكتمه تجد نفسها تضعف أمامه وأمام تلك العيون الذابلة بكثرة مؤخراً. أنه يقتلها بصمته أكثر مما يقتلها المرض. هي تدرك أنه يعرف كل شيء ولكنه لا يفصح عن أي شيء على الإطلاق. أنه يشفق على مريضة السرطان هذه. وهذا أكثر ما يجعلها ساخطة!
أقترب رويداً منها وجلس على الكرسي المجاور للسرير حيث كان يجلس أبيها وشابك يديه أمام جسده مستند على ركبتيه ليفعل ذلك وقال بصوت هادئ:
- ماذا حصل بينكِ وبين والدتكِ؟!
- ليس بالشيء المهم!
- لا أظن أن الشيء الغير مهم سيدفعها للبكاء!
فردت بعصبية:
- وهل هذا أمر جديد تفعله؟ أنها تنصب الحداد على منذ أن عرفت بالأمر!
- وهذا من حقها. أنها اليوم لا تفقد أبنة يا ليلى بل ستفقد أمومتها بفقدكِ. هي لا تملك غيركِ فكيف تريديها أن تتعامل مع خبر مرضكِ؟!
زفرت بضيق وهي تشيح بوجهها جانباً اتجاه النافذة وتقول:
- أنت لا يمكنك أن تفهمني!
فرد الاخر بنبرة بدأت تميل للتهكم والحدة:
- ومن قد يفعل؟! أتحداكِ أن تذكري لي أسم شخص واحد بإمكانه أن يفهمكِ!
نظرت له تكاد أن ترد ولكنه لم يعطها الفرصة لفعل ذلك ونبرته تزداد حدة:.
- أنتِ تحيطين نفسكِ بأسوار شائكة لا تسمحين لأحد بعبورها ومن يتمكن من العبور فلن يفعل ذلك من دون أن يُجرح ويتأذى. لِما لا تكونين واضحة لنفهمكِ؟ لِما تكتفين بالصمت والعبارات القصيرة الجارحة وتريدينا أن نفهم الضعف الكامن خلفها؟!
فصرخت به بقهر:.
- ليس ضعفًا! ولكن لا يمكنك أن تقف ببساطة أمام شخص يحتضر لتبكي طوال الوقت لتجعله في كل لحظة يتخيل أنه ربما لن يستيقظ غداً في ذات السرير بل متوسداً قبره. أنتم لا يمكنكم فهم الهشاشة التي أمر بها أنا حالياً. لم أعد أملك القدرة لأصبح أقوى من هذا. لقد كنت اتشاجر مع روان يوم وأتوسل بها يوم آخر فقط من أجل أن لا تخبركم لأني أعرف جيداً أنكم لن تسمحون لي بالصمود وستطالبوني بالانهيار وتعرية ضعفي وعدم إدّعاء القوة. ولكني أحتاج أن أدّعي القوة وأحتاجكم أن تفعلوا ذلك لأني بالفعل أريد أن أصدق أن كل شيء سيكون بخير رغم إنه لن يكون كذلك!
من بين كل تلك الكلمات المحشورة ببعضها والمندفعة بسرعة من داخل فمها، هو لم يتوقف سوى عند تلك التي يخص روان ليستفسر عنها:
- كيف كنتِ تتشاجرين معها؟!
سكتت لثواني وهي تحدق بوجهه بذات غضبها وقد قررت أن تجعله يندم عمّا فعله وقاله لروان، فهي تدرك أن نظرته لروان كنظرة يزن لها وأنهما لا يتركان الفرصة أبداً ليجعلاهما يبرران ما فعلا. قالت بنبرة حادة:.
- يمكنك أن تتخيل أكثر الكلمات الجارحة التي ستخطر على بالك وستجدني قد قلتها لها في كل مرة كانت تخبرني أنها ستخبركم وأنه لا يجوز إخفاء الامر عنكم!
كان يحدق بها بجمود دون أن يُبدي أي رد فعل أو أهتمام ولكنها تدرك جيدًا أن هناك شيء ما قد انقبض بداخله فأكملت بذات النبرة:.
- ويمكنك أن تتخيل كل أنواع البكاء والتوسل أيضًا الذي كنت أتوسلها به، وحين اتهمتها أنت أنها كانت تستغل مرضي لتصل إليك ففي الحقيقة العكس كان هو الصحيح. أنا من كنت أستغل مرضي وأجعلها لا ترفض طلبي بالسماح لك بالعودة لها. أتعلم لماذا وافقت على فعل ذلك؟!
سقطت دمعة منها بينما تكمل بألم:.
- لأني أخبرتها إني سأجرحك وإني لن أتمكن من الاستمرار معك بعد الان. أنا لا يمكنني نسيان الماضي يا مازن مثلما أنت لم تتمكن من نسيان ماضيك. سواء كنت رجل أم امرأة فالأمر سيان، كلانا نملك القلب ذاته وسنشعر بالاذية ذاتها. وأنا لا يمكنني الأستمرار معك لأني سأجرحك بوجودي وسأجرح نفسي في كل مرة أجدك فيها تعاملني بكل هذا الصبر واللطف بينما أنا ببرود. لذلك اخبرتها إني ساتركك فور إنهاء جامعتي ولكن أن فعلت ذلك أنت ستتأذى حين ترى أن كل من أحببتهم وساعدتهم قد تخلّوا عنك. لذلك طلبت منها أن تعودا لبعضكما وأن تعود لتحبها. لقد كانت تنتظرك في نهاية الطريق الذي كنت سأتركك أنا فيه وأجرحك. كانت تنتظر بصمت اللحظة التي ستسقط فيها لتلتقطك بين يديها بدل أن تقع وتتأذى. ولكن أنت بكل سذاجة وبرود قد قلت ما قلت لها فقط لأنك تدرك أنها ستحبك مهما فعلت بحقها. لقد كنت تستغل هذا بها!
لم تتغير ملامحه بكل كلمة قالتها بل وتنهد ببرود ما أن صمتت وقال بينما يميل رأسه يميناً وشمالاً من اجل فرقعة فقرات رقبته:
- لا أعلم متى ستصدقين الأمر حقاً.
ثم نظر بعينيها مباشرةٍ بعيون خالية من أي تأثر:
- ولكني لم أعد أبالي بأمر روان، وأما بالنسبة لماضيكِ.
نهض من مكانه يهم بالرحيل وأكمل ببرود:
- لا تقلقي. سأجعلكِ تنسيه!
ومنحها قبلة فارغة فوق جبينها وخرج من الغرفة بينما هي تنظر له بصدمة وبلاهة نوعاً ما. أهو جاد؟!
خرج من الغرفة وقد انعكست الان فقط الملامح الحقيقية التي كان يخفيها. ما بين سخط وألم وحزن وغضب وندم كلها ممتزجة ببعضها. فاحياناً الشعور بالندم يكون أسوأ من الشعور بالألم!
اتجه نحو استشارية قسم الجراحة من اجل مراجعة مواعيد عملياته فوجدها تقف هناك تراجع بعض سجلات المرضى. توقفت قدماه للحظات وتباطئت سرعته ليطيل النظر أليها قبل أن تراه. كانت ترفع شعرها كالعادة نحو الاعلى وبعض الشعيرات القصيرة تتدلى على عنقها من الخلف الذي تتوسطه شامة سوداء حفظ مكانها جيداً فلطالما كان يستمر بمراقبتها أثناء محاضراتهم الدراسية وهو يجلس في المقعد الخلفي لها. كم كانت الأيام تبدو مثالية حينها!
تنهد بأسى وطرد كل ضعفه جانبًا واتجه حيث تقف وسحب ملفاته بصمت ليطالعها ومسافة قصيرة تفصل بينهما، ولكن رغم ذلك لم يزعزع حضوره لها شيء كما السابق. بقيت على هدوئها كما هو دون أن تلتفت اليه ودون أن توقف نقرات أصبعيها للحظة متفاجئة بظهوره وهي تلحن بهما لحنٍ ما كان يبدو فوضويًا وعبثيًا من غير تنظيم، ولكنه كان يعكس غياب عقلها في مكان آخر بعيدًا عنها. حاولت جاهدة أن لا يسمع اضطراب انفاسها أو توتر ملامحها وبقيت تدّعي تركيزها بالاوراق التي بين يديها. ربما بعض الأهمال هو المطلوب لنجذب أنظارهم حين يفقدون الأهتمام الذي اعتادوا على تلقيه منا!
استمر وقوفهما لثلاث دقائق حتى رن هاتف روان. سحبته من جيب مئزرها وسارت بضع خطوات قليلة وهي ترد:
- أهلاً ايهاب!
حركّ كرتا عيناه عن الملف الى الجانب قليلاً باقتضاب وهو يستمع لبقية الحوار الذي لا يفهم عمّا يدور ومن ايهاب هذا:.
- لا أستطيع أن أقول لك أن الأمور أفضل بل كل يوم يمر يصبح أسوأ. أجل. لا هذا ايضًا لم ينفع. أجل وأنا كنت أنوي ذلك أيضًا. ربما سأمر خلال هذا الأسبوع لرؤيتك ونتحدث. اجل فهمت. شكراً لاهتمامك. مع السلامة!
أنهت المكالمة وعادت نحو ملفها المفتوح بينما هو لم يعيد أبصاره نحو ملفه بعد بل سألها فوراً بنبرته المقتضبة:
- من ايهاب هذا؟!
فردت بهدوء وبنبرة خالية تمامًا من أي عصبية:
- لا شأن لك.
عض شفته السفلية بغيض وهو يزفر بحدة وحاول أن يسيطر على مشاعره التي أقسم إنه لن يمنحها لأي أحد من اليوم فصاعدًا، ولكن ربما يمكنك أن تتحمل وضع يدك على صفيح حار لمدة خمس دقائق ولا يمكنك كتمان الغيرة للحظات!
قال في محاولة منه لاستفزازها من أجل أن تدافع عن نفسها ضد اتهامه وتبرر له كالعادة فتخمد غيرته:.
- حسناً لا ألومك. لا يمكنكِ تحمل شهر واحد من غير أن تدخلي رجلاً ما إلى حياتكِ. ما أن تنفصلي عن أحدهم حتى تسعي للأرتباط بالآخر!
نظرت له بابتسامة تكاد تتحول ضحكة وقالت بذات هدوئها من غير أن تفقد أعصابها معه:
- أجل أنت محق. فكما تعلم أنا فتاة وحيدة. أين سأقضي وقتي؟ ومن يدري قد أدعوه لشقتي ذات يوم حين تتوطد علاقتنا. لذلك لا تستغرب أن رأيته ذات يوم معي!
فهتف بها فوراً بحدة:
- بماذا تهذين أنتِ؟!
كان صوته كافياً ليجعل بعض الممرضات في الاستشارية يلتفتن إليه ليخفضه فوراً بإحراج بينما ينظر بغيض نحو روان الباسمة من غير رد فعل يذكر. لحظات حتى قرر أن ينضم لها بهذه الابتسامة وهو يقول:
- أنتِ محقة. فعلى ما يبدو إنكِ أدرى بأخلاقكِ مني. من أنا لأشكك بصحة قولكِ؟!
قاطعا حربهما الباردة بحضور زميلتهما في العمل آيتن وهي تضع الملفات التي بيدها على منضدة الاستشارية وتقول بعدم تصديق وابتسامة أقرب للصدمة دون حتى أن تلقي التحية:
- هل سمعتِ بالخبر؟
رسمت روان ابتسامة مجاملة على وجهها بينما تقول:
- أي خبر؟
- نرجس واياد؟ لقد ارتبطا!
وهنا بدأت الابتسامة تختفي تدريجيًا من وجهها ليطغى بدلاً عنها الشحوب وهي تنظر بجمود نحو آيتن التي أكملت:.
- يا إلهي! حين خانكِ معها لم أكن أظن الأمر أكثر من نزوة سخيفة سيندم أياد عليها. لم أكن أظن إنه سيفضل واحدة مثل نرجس المنحلّة وعديمة الأخلاق عليكِ أنتِ!
نظر مازن بسخط نحو آيتن فعلى ما يبدو إنها بدأت تتحامق في جرح روان التي اكتفت بالصمت والنظر بألم نحوها وقال فورًا بعصبية:
- بل ذاتًا إنه لا يستحق سوى نرجس فهو منحط ووغد مثلها. ذاتًا سيكون ارتباطه بروان جريمة!
فقالت آيتن بتلكؤ:.
- أجل بالتأكيد. أنا فقط كنت.
فقاطعها بحدة:
- لا أنتِ ولا هي ولا هو. لقد انفصلا عن بعضهما حين أدركت أن سافل مثله لا يستحق واحدة مثلها، فلِما تستمرون بتناقل الاخبار وإيصالها لروان؟ ما شأنها بهما هي؟ وذاتًا أياد لا يستطيع أن يفعل أي شيء سوى اختيار الارتباط بتلك الوضيعة نرجس بعد الاشاعات التي تناقلت عليهما!
فقالت آيتن بإحراج:
- أجل بالطبع. هذا ذاتًا ما كنت أقصده!
وأخذت أوراقها وغادرت بعيداً عن تلك المدفعية البشرية الذي لم يعطها أي فرصة للتحدث!
فور أن غادرت نظر بأسى نحو روان التي تكسرت رؤية حدقتيها بسبب تلك الطبقة الزجاجية من الدموع. كاد أن يتحدث ولكنها قطعت عليه عبارته وهي تنظر إليه بابتسامة منكسرة بينما تقول بصوت ضعيف:
- شكرًا لك!
وتركته ورحلت بينما هو ينظر لها بحسرة. أنها تتحمل كل شيء بصمت مطبق من غير أن تنفجر. لذلك وبدل أن يتراجع كعادته قام باللحاق بها وأمسكها من يدها ليوقفها فنظرت له باندهاش ليقول فورًا بأسى:
- أنه لا يستحق أبداً ما يختلجكِ الان أبداً. لا تذرفي دمعة من أجله أرجوكِ!
تبسمت بألم وقالت بهدوء بينما تضع يدها الثانية فوق يده:
- ليس من أجله يا مازن.
وسقطت دمعة بينما تكمل بمرارة:.
- بل من أجل نفسي وأنا مضطرة أن أستمع لهذا الكلام. أنا أعرف أن نرجس انسانة عديمة الاخلاق. ولكن هذا ما يقتلني. من إنه خانني وتركني من أجل واحدة مثلها. هل أنا رخيصة لهذا الحد الذي يفضّل به نرجس علي؟
رفعت كتفيها بحيرة بينما تكمل بابتسامة تحمل كل وجعها:
- أحيانًا أتساءل بماذا عساي أكون قد أخطأت ليحصل لي كل هذا؟
ثم سحبت يدها بلطف من يده وتركته ورحلت. أحيانًا لا نحتاج أحدهم بقربنا لنشكي بقدر حاجتنا أن نكفّ عن الشكوى كي لا تقتلنا كل تلك الكلمات التي نوقظها من سباتها ونظهرها للنور على غفلة!
بينما كانت روان تختبئ عن الانظار لتداري قلبها المجروح كانت ليلى تحاول مقاومة ألم من نوع آخر. كانت تجلس على حافة سريرها تتأوه بوجع بينما تقبض على معدتها التي تشعر بها تنقلب رأساً على عقب. ضغطت أكثر من مرة على زر نداء الممرضات ولكن لم يحضر أحد بينما هي قدماها لا تسعفها لتنهض. كانت ضعيفة بشكل جديد كلياً وكأن المرض نهش لها حتى قدرتها على السير. نادت بصوت ضعيف ومبحوح يكتم خلفه دموع ترفض أن تعترف بهم فتنهار وتستسلم كلياً لمرضها:.
- أرجوكم. هل من أحد هنا؟ أمي؟ أبي؟ أي أحد؟
- ليلى؟
اخترق مسامعها صوت انفتاح الباب وصوت يزن المحمل بكل أنواع الخوف فأسرعت بمد يدها نحوه دون أن تهتم بالمشكلة التي تجمع بينهما وقالت برجاء:
- ساعدني للوصول للحمام لو سمحت. معدتي مضطربة!
أسرع إليها ولف يديه على خصرها بينما هي لفت يدها من خلف كتفه لتستند عليها وتوجها بخطوات ضعيفة نحو الحمام بينما هو يقول مشجعاً:.
- حسناً حبيبتي. ستكونين بخير. أنها آثار العلاج الجانبية فقط!
وقبل أن تصل نحو مشارف الحمام أحنت جذعها العلوي وكادت أن تسقط أرضاً فأسندها على صدره لتفرغ كل معدتها فوق قميصه. جلسا أرضاً بينما هو يمسح برفق فوق شعرها ويقول:
-حسناً حبيبتي أهدأي. لا بأس بذلك
فقالت بضعف وإحراج:
- أنا حقاً أسفة!
تبسم وهو يمسح بقية اثار القيء من حول فمها بيده وقال بابتسامة:.
- لا بأس حبيبتي. ذاتاً أنا أكره هذا القميص وأريد سبباً لرميه!
تبسمت بدورها على مواساته الحمقاء لها فبقي يمسح بيده على شعرها بينما هي تستسلم بين يداه، فكل شيء بجسدها خامل وموجع ولا قدرة لها على مواجهته. مرت بضع ثوانٍ وأصابعه تتخلخل وسط خصلات شعرها يملّسه لها بهدوء ليجعلها تشعر ببعض الطمأنينة، ولكنه توقف فجأة عن فعل ذلك واستقرت يده بجمود داخل شعرها بينما أحست هي ببعض الاهتزاز يتخلخل أنفاسه الثابتة. رفعت نظراتها باستغراب نحوه لتجد عيناه تحدق بها بجمود وأسى. حدقت فيه لثواني تحاول معرفة ماذا أصابه ولكنه لم يزح نظراته ولم يغيرها فقالت:.
- ماذا هناك؟
انسابت يده بهدوء بينما يقول بابتسامة عبثية يحاول بها تزييف ما يدور حقًا:
- لا شيء. مجرد شيء سخيف تذكرته!
بقيت تصرّ على معانقة عينيه بقوة فهي تعرفه جيدًا حين يكذب. أنزل يده، ورغم إنه كان قابضًا عليها بقوة، إلا إنها استطاعت ملاحظة ما يحاول إخفاءه بها. رفعت يدها بفزع نحو شعرها ولكنه أسرع ليوقفها بينما يتوسلها قائلًا:
- ليلى حبيبتي. صدقيني ليس بالأمر الجلل!
دفعت يده بهستيريا ورفعت يدها من جديد نحو رأسها لتقبض على إحدى خصلات شعرها فصدمت بها تنتزع بسهولة من فروة رأسها. صرخت بجزع وذرفت دموعها وهي تدرك أن لا فائدة إن فعلت ولكنها فقدت السيطرة على كتمهم أكثر. بقيت كالمجنونة تبكي وتنتزع خصلات شعرها التي ماتت قبلها ولم تعد أي حياة تدب فيهم. جسدها يتهاوى جزء بعد آخر ويموت بينما هي لا تزال حية!
ضمها بقوة إليه وأحكم إغلاق يديه حولها كي يمنعها من رفع يديها مجدداً نحو شعرها بينما هي تجهش بالبكاء قائلة:
- لقد أصبحت بشعة يا يزن. أنا لم أعد فتاة بعد الان. أنا مثل الوحش يا يزن مخيفة وبشعة!
غرس أنفاسه في المنطقة الكامنة بين أذنها وعنقها وهمس بصوت ضعيف وباكي:.
- أنتِ أجمل النساء أقسم لكِ. لا شيء قادر على جعلكِ بشعة. يا ليتكِ ترين ما أراه أنا. لا فقدانك للشعر ولا للوزن سيجعلكِ بشعة يا ليلاي. ستبقين دومًا أجمل ما رأت عيناي أقسم لكِ!
كان صوت بكائها يرتفع أكثر وأكثر دون أن تواسيها كلماته وهو يشعر بمدى الوجع الذي يتلبسها في هذه اللحظة. أغمض عيناه بألم وشاركها بكائها بصمت بينما تتوافد الى عقله عشرات الذكريات عنها في كل مرة كانت تتعلم فيها تسريحة شعر جديدة لتريها له أو تتباهى بطوله أمامه وتخبره أن الشباب في فصلها يحبونه كثيرًا فقط لتغيضه وتثير غيرته. تذكر تلك المرة التي استمرت بالبكاء لمدة يوم كامل وتخاصمت مع والدتها فقط لأنها قصصته لها أكثر مما طلبت هي. تذكر الخلطات الغريبة وذات الرائحة الكريهة التي كانت تضعها لشعرها فقط من أجل أن تحافظ عليه. والان هو يتساقط بين يديها من قبل حتى أن تسحبه بقوة!
أحس بيداها تقبض على قميصه بقوة وتقول بنشيج:
- ما الذي سيحصل لي يا يزن؟
رفع رأسها عن صدره وأحاط وجهها بين يديها وقال بابتسامة ارتسمت وسط دموعه:
- ستخضعين للعلاج وسيتساقط شعركِ وتتألمين وتقتربين عدة مرات من الموت. ولكن في النهاية أنتِ ستكونين بخير!
- وأن لم أكن؟
سكت للحظات بينما يعلق أبصاره الثابتة بأبصارها المنكسرة ثم قال بحزم:.
- لا أهتم للأمر كثيراً في الحقيقة حتى وأن لم تكوني بخير. فأي مكان سترحلين إليه سألحق بكِ!
تبسمت وهي تنزل رأسها نحو الأسفل وقالت:
- لن تفعل. الموت ليس بتلك السهولة لتقرر الذهاب إليه قبل أن يأتي إليكِ. أنه مخيف حين تشعر به يقف على الجهة المقابلة للباب. لذلك ستقوم بإحكام أغلاقه جيداً وتحاول الاختباء منه تحت أي سرير. ولكن المشكلة إن عيناه تتبعك حيثما ذهبت!
حاول أن يتحدث فوضعت أطراف أصابعها على فمه وقالت بانكسار:
- أطلق سراحي يا يزن. أشعر أن الله يبقيني داخل هذه الحياة رغم عذابي من المرض فقط لأن روحك مرتبطة بروحي. لذلك تخلى عني أرجوك ودعني أرحل. أنا أموت في كل لحظة تمر علي!
تساقطت دموعه في الحال وقال بأنفاس مرتجفة بينما يزيد من قبض يديه حول وجهها:.
- أنا أحبكِ يا ليلى. هل تعرفين ما معنى أحبكِ؟ ليست مجرد كلمة عابرة أنطقها لأثير أعجابكِ أو أعبر عن أعجابي. أحبكِ يعني أن سبب وجودي هو حبكِ فقط ولا لشيء آخر معنى. فكيف تطالبيني بالرحيل؟ والأبدي يا ليلى؟ لا تقتليني أرجوكِ!
رفعت يدها ووضعتها على جانب وجهه الملتحي نسبياً وقالت بابتسامة ضعيفة:.
- أنا أموت يا يزن. كل يوم يمر على أقترب خطوة من نهايتي. لا تدعني أصل إلى هناك وأنت لا تزال تتشبث بي لأنك ستصل للنهاية ذاتها معي!
بدأت أنفاسها متعبة وكأنها كانت تركض لساعات فسكت دون أن يستمر بنقاشها فيجهدها أكثر. حملها بين يديه برفق ووضعها في سريرها. منحها قبلة أعلى رأسها وقال بينما لا تزال شفتيه تستقران على بشرتها في حين عيناها بدأت بالأنسدال رويداً نحو عالم الأحلام:.
- لا شيء لي قبلكِ ولا شيء لي بعدكِ. أنتِ المركز الذي أدور أنا حوله. أن توقفتِ سيقف كل شيء معكِ. ضعي هذا دوماً بالحسبان!
تبسمت قبل أن تغلق عيناها بشكل نهائي فتبسم هو بدوره فتمتمت بضعف:
- أظنه حان الوقت يا يزن!