قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع

رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع

كم كانت حياة الطفولةِ بسيطةٍ. يكمنُ جمالهُا بتفاصيلها العفوية. كم كان رائعاً ان نحلَ اسوأ الخلافاتِ بمعانقةِ اصابعنا مع بعضِها فقط ليعود ببساطة كُلَ شيء كما كانَ. سنضعُ رأسنُا على الوسادةِ ليلاً لنتذكر ما لَعبنا ونفكر بما سنلعبُ اليومَ التالي. لن ننام ونحن نتذكر سبب الخلاف وانه كان يجب ان لا نسامح. يا ليتَ عالم الكبار يحتوي على معانقة اصِبع فقط!

سارت السيارة بصوتٍ موحش وكِلا الطرفين يفكر بناحيةٍ مُختلفة.
- هل نحن مضطرين لاصطحابها معنا؟ ألا يمكنهُ الاتِصال بإحدى مراكز التصليح كي تأخذَ السيارة ويستقلان هما سيارة اجرة؟
قالتها روان بحنق بينما تعدل وشاحها وتضمها اكثر الى كتفيها بعصبية ليرد يزن بنوع من الاستياء لرفضها لليلى:
- انتِ لا تتوقعين مني بالطبع ان ارفض الطلب فقط لأن وجود ليلى سيزعجكِ.
واردف قبل ان ترد:.

- وكما لا يعرفُ مازن حقيقة مشاعري إتجاه ليلى؛ فليلى ايضاً لا تعرف مشاعرك اتجاه مازن. لذلك كفِ عن بغضها بهذا الشكل. حتى في الحفلة لم تربطكِ معها سوى جملة السلام فقط!
زفرت بضيق دون ان ترد بشيء؛ ليس لأنها لا تملك ما ترد به ولكنها كانت غير مبالية بالصورة التي ستتشكل عنها من اي احد بهذا الخصوص حتى وان كان يزن.

كان يقف امام الغطاء الامامي للسيارة يراقبُ بحسرة توقف المحرك كلياً عن العمل. انها بالفعل اسوأ ليلة تمر عليه لتحرجه امامها. وضعت يدها برفق على كتفه وهي تقول بهدوئها الذي إعتاده؛ عكس صخبها وجنونها الطفولي الذي كانت تتعامل به بحديثها وتصرفاتها مع يزن: -لا تبتئس مازن. ربما سيكون مجرد عطل بسيط سيتمكنون من إصلاحه لك بسرعة في الورشة.

نظر اليها بحرج وهو يقول: -لا يهمني امر السيارة بقدر ما يهمني امركِ. اشعر اني اكثر الشباب حماقة!
فقالت تمازحه لعلها تخلصه من الموقف الذي يرى نفسه فيه: -حسناً ليس اكثر الشباب. هناك الاكثر حماقة منك فلا تحزن!
ضيق عينيه وهو يبادلها مزاحها قائلاً: -أليس من المفترض ان تقولي انت لست احمق يا عزيزي بدلاً من هناك الاكثر حماقة منك؟
-ماذا افعل! انا فتاة صادقة.
-بل وقحة!
-لا فرق!
ضحك واردف:.

-ظننتُ إني سألعب دور الشاب الشهم والخطيب المثالي هذه الليلة، ولكن انتهى الامر بنا في الشارع كالمتسولين نُهينُ بعضنا امام سيارة معطلة.

وقبل ان تكمل ضحكتها كتمتها فوراً مع رؤيتها لسيارة يزن. بدأت نبضاتها تتسارع وصدرها تضيق انفاسه اكثر. لا يزال الى الان يسيطر على قلبها بقوة دون ان تتمكن من التماسك امامه. امام عينيه الحادة والذابلة مؤخراً؛ امام ذاك الفك المنقبض كلما تعانقت عيونهما مع بعض. انها بالضبط كالمراهقة الساذجة التي تفقد توازنها ما ان ترى حبيبها السري!

اوقف السيارة بشكل معاكس حسب طلب روان كي لا تضطر لمواجهة مازن بنظراتها وتحاول ان تتجاهله. نزل منها وتبسم من دون إرادة ما ان شاهد موقف مازن ونظراته التي اوصلها له سراً ساعدني ارجوك. وصل اليه وقال بينما يسيطر على ابتسامته بصعوبة: -اظن ان موقف اليوم سيكون كافياً لتبدل هذه الخردة!
قال مازن مدافعاً عن سيارته العزيزة: -التزم حدودك لو سمحت ولا تطلق على سيارتي خردة. ذاتاً انا اشتريتها قبل سنتين.

رفع يزن حاجبيه بتهكم ليردف مازن فوراً: -حسناً قبل خمس سنوات. ولكنها لا تزال جديدة!
- سأحاول ان اتماسك دون ان اعلق بشيء.
ثم نزع سترته وقدمها باتجاه ليلى من غير ان ينظر اليها وقال:
-اذهبي نحو السيارة انسة ليلى لتجلسي هناك برفقة روان.

مدت يدها المرتجفة وقبضت على سترته مقاومةٍ بصعوبة عدم رفعها نحو انفها لتستنشق عطرهُ الذي تدمنهُ والذي ستفعل اي شيء الان فقط لتتنفسهُ مرةٍ اخرى لعل رئتيها المعطلة تنبض من جديد بالحياة!
ما ان ركبت بالسيارة حتى قال مازن فوراً بينما يزن يرفع اكمام قميصه: -لا تزال روان معك؟
رفع بصره اليه وسكت للحظات قبل ان يرد: - اجل.
تبسم الاخر بسخرية وهو يرد: - إذاً بالفعل ذلك السافل قد تركها!

زفر يزن بضيق وهو يقول: - الف مرة اخبرتك ان لا شأن لك بها.
-وهل انت راضٍ عن تصرف اياد؟
- انت تعلم اني لا اطيق اياد من الاساس يا مازن.
- إذاً ما المشكلة؟
- روان ليست طفلة لنتدخل بحياتها. صمتُها منهُ لسبب. هي تدرك ان تصرفهُ خاطئ ولكن حين لم تجبرهُ على العودة فبالتأكيد لديها سبب مُقنع.
وقبل ان يردَ مازن اوقف يزن كلامه بإشارة من يده وهو يقول:.

- ولن نسأل ما هي الاسباب. واترك روان يا مازن. لا انت مُلكها ولا هي مُلكك. اتمنى ان تتذكر هذا جيداً.

صمت على مضض بينما استلقى يزن تحت السيارة ليرى ما هي المشكلة غير آبهاً بملابسه التي تلوثت وهو في اثناء ذلك لا يتوقف عن الثرثرة مع مازن كل دقيقة بموضوع مختلف. كان وضعهما مع بعض يناقض تماماً وضع روان وليلى المكتفيتان بالصمت المطبق. كان صمت روان بضيق وهي لا تطيق وجود ليلى معها في الكرسي الخلفي؛ بينما صمت ليلى لأنها مشغولة بتلمس سترة يزن التي في حجرها وهي تستذكر ايامها معه بعيون شاردة عن هذا العالم الحاضر ومتمسكة بماضيها الذي تتمنى لو لم يكن مجرد ماضي!

مضت عليهم عشر دقائق كانت كالعشر ساعات بالنسبة لروان وهي تزفر بضيق كل خمس ثوان مما جذب انتباه ليلى اليها دون ان تدرك انها هي سبب هذا الضيق.
- هل تأخرتِ عن موعد او ما شابه؟
قالتها ليلى بهدوء مستفسرة لترد روان باختصار:
- لا.
- تبدين متوترة من هذا التأخير.
فردت الاخرى بتهكم:
- اعتذر ان ازعجكِ تضايقي.
- انا لم اقل انكِ متضايقة بل قلت متوترة!

لم تكن روان لحظتها مستعدة ابداً ان تخوض هذا النقاش مع ليلى لذلك اكتفت بالصمت مع اطلاق زفير حاد يعكس غضبها. قطبت ليلى حاجبيها باستغراب من رد فعلها هذه فنزلت روان فوراً من السيارة وهي تأخذ انفاسها بحدة تكاد تطلق النيران من شدة غيضها. لو كانت غير ليلى لربما تصرفت روان بلباقة اكثر؛ ولكن ولأنها ليلى والتي كانت تدرك جيداً كيف يعشقها يزن فقد خشت ان تسلب عقل مازن بذات الطريقة وينساها - هذا ان لم يكن قد بدأ بنسيانها منذ الان - لذلك مجرد التفكير بهذا كان يصيبها بالتوتر والانفعال طوال الوقت.

اتجهت نحو سيارة مازن وخاطبت يزن متجاهلة ذاك الذي تعلقت نظراته بها بهُيام فور نزولها:
-هل ستتأخر يا يزن؟
مد يزن رأسه من تحت السيارة وقال باعتذار:
- هل ضايقكِ الانتظار؟
- لا بأس بذلك ولكن ان كنت ستتأخر فسأستقل سيارة اجرة.
ليرد مازن فوراً قبل حتى ان يترك مجال ليزن ويسمع رأيه لربما يتوافق مع رأيه:
- اقتراحاتكِ السخيفة هذه تطرحيها امام اياد وليس امامنا. اي سيارة اجرة في هذا الوقت وانت شابة؟

هي كانت ساخطة عليه بما فيه الكفاية فأثار تدخله هذا حنقها اكثر. استدارت برأسها اليه وهي ترد بحدة:
- لا اظن اني سألتك مازن!
- ولا اظن اني اخذُ رأيكِ بما قلتهُ. عودي الى السيارة واستعيذي من الشيطان ودعِ ليلتكِ تمر على خير.
قالت باستفزاز:.

- انت تعلم جيداً ان كلامك لن يؤثر بي وان قررت ان ارحل فسأرحل. لست انت المسؤول عني بل خطيبي؛ وخطيبي موافق عما افعله لذلك لا تتدخل انت لو سمحت وانشغل بخطيبتك فقط وتجاهلني.
ثم اكملت بابتسامة اكثر استفزاز:
-ان استطعت!
هو لم يكن ذلك النوع السهل كما كان يبدو عليه بل ان كبريائه ينافسها بقوة؛ فرد بذات طريقتها الاستفزازية:
- لو لم استطع لما تواجدت ليلى الان في سيارة يزن يا عزيزتي روان.

ثم اقترب خطوة منها ليكمل بابتسامة رغم غضبهُ الذي يكتمه بصعوبة:
- أم ان اكثر ما يُغيضكِ انها بالفعل بدأت تُنسيني اياكِ ولم تعودي قادرة على استفزازي اكثر بأياد وان ليلى ستحتل قلبي بدلاً منكِ؟
لم يكن يدرك مازن انه لم يشعل النار في روان فقط بل كانت هناك كتلة اخرى اكثر حرارة تكاد تصهره بهذه اللحظة وتنهي هذه المهزلة. نهض بغضب من مكانه بينما يطلق انفاسه الحادة بقوة وهو يزجرهما:.

- انهيا هذا النقاش الطفولي فوراً، وانت يا روان عودي الى السيارة؛ خمس دقائق وسنرحل كدت انتهي.
علقت ابصارها الحادة بعيون مازن الباسمة للحظات ثم تركتهما وعادت نحو السيارة من جديد. دخلت واغلقت الباب بعنف فسألتها ليلى دون ان تدرك ما حصل:
- هل انتِ بخير؟
فردت الاخرى بحدة واضحة هذه المرة:
- هل على ان اقدم لكِ تقريراً عن حالتي كل خمس دقائق أم ماذا؟
فردت ليلى مستنكرة اسلوبها:
- عفواً؟
فتمتمت الاخرى بسخط:.

- فقط اسكتي ولا شأن لكِ بي!
لتمزق ليلى الشرسة رداء الهدوء الذي يغطيها وهي ترد عليها:
- ما مشكلتكِ معي بالضبط؟
زفرت روان بضيق اشد وهي تقول من غير ان تلتفت اليها:
-لا مشكلة لدي معكِ لذلك لا تحولي الامر للدراما. انا لم أُقابلكِ سوى قبل ساعات فلما عساي ان امتلك مشكلة معكِ؟
- وهذه هي المشكلة بحد ذاتها إننا لم نلتقي سوى اليوم ومنذ لقائنا والى الان انتِ تتحاشين الحديث معي او النظر إلى وتردين بحدة ان سألتكِ.

- مزاجي سيء ولا يسمح لي بخوض الاحاديث؛ لا سيما مع الغرباء.
-. هذه مشكلتكِ وحدكِ ان مزاجكِ متعكر ولستُ مُضطرة ان اتحمل سذاجتكِ ووقاحتكِ.
التفت اليها روان فاغرة فمها بدهشة من تطاول ليلى عليها ولكن قبل ان ترد بشيء قاطعتها ليلى قائلة:
- اجل لقد سمعتني ولن اتراجع عما قلت او اعتذر!

ثم نزلت واغلقت الباب بعنف لتنزل روان بدورها من بعدها وقبل ان تتجه ليلى نحو مازن كانا هو ويزن قادمين باتجاهها وحين شاهد مازن البركان بحد ذاته قد انفجر بوجه كليهما اقترب من ليلى متسائلاً بتوجس:
- هل كل شيء بخير؟
لترد بحدة:
- لا؛ كل شيء ليس بخير وانا لن اركب السيارة مع هذه!
لترد روان بحدة اشد:
- هذه لديها اسم بالمناسبة!
ليقاطع يزن صراخهما:.

- ما الذي اصابكم اليوم؟ لقد تركناكما فقط لدقائق ونعود الان لنرى ان الحرب قائمة. ما الذي حصل بالضبط؟
تجاهلت ليلى الرد عليه وبقيت تعلق ابصارها بمازن وقالت:
- هل اصلحت سيارتك أم ماذا؟
- اجل عزيزتي؛ ولكنه إصلاح مؤقت بالكاد سيوصلني للورشة.
- إذاً دعنا نستقل سيارة اجرة.
ليرد العاشق الاخر معترضاً:.

- ما هذا الكلام يا ليلى؟ وهل سيترك مازن سيارته هنا ويستقل التاكسي ام ستركبينه بمفردك ام انك سترافقينه لورشة التصليح؟ اهدأي واركبي السيارة ولستِ مضطرة لخوض الحديث مع احد. فقط دعيني اوصلكِ وينتهي الامر.
وبالطبع كانت اضعف بكثير من ان تخالف اوامر يزن لذلك ابتلعت حروف اعتراضها على مضض. مد مازن يداه واحاط وجهها ليشيح يزن وجهه فوراً مستغفراً ليسيطر على اعصابه بينما قال الاخر بترجي:.

-حبيبتي، انا اسف ان كنت اضغط عليك او ما شابه ولكن فقط دعِ يزن يوصلكِ هذه الليلة ولنحل الامور على خير وانا اعدك اني سأعوضكِ عن هذا لاحقاً.
تمتمت بسخط حروف غير مفهومة ثم تركته وصعدت السيارة مرة اخرى دون ان تمتلك خيار اخر؛ بينما كتلة النار الاخرى لا تزال مصرة على التحديق بمازن بهذا القدر من الغضب امام عيونه الباردة.
- روان من فضلكِ هلا صعدت انتِ ايضاً؟

قالها يزن بترجي ليقطع عليها سلسلة تحديقها لتعود لمقعدها مرة اخرى. نظر يزن نحو مازن وقال بهمس كي لا تسمعاه تلك المفترستين:
- لو اني واجهت خلاف بين دولتين لحللته اسرع من خلاف بين امرأتين.
ضحك مازن ليهمس بدوره:
- اعانك الله؛ اتمنى ان ينقضي الطريق على خير وتصلوا جميعاً احياء الى منازلكم!
- اشك بذلك يا صديقي العزيز.

ثم ركب السيارة بينما مازن يعتذر بعيونه المترجية لليلى الساخطة. ما ان انطلقت السيارة حتى انكشف الغطاء عن اسرارهم ولم يعد يزن مضطر للتمثيل اكثر فروان تعرف كل شيء. تجاهل ما حصل بينهما ولم يهتم حتى بسؤالهما عن سبب الشجار ونظر من خلال المرآة لليلى وهو يهددها بحدة:
- الترهات التي لبستها اليوم لا اريد رؤيتها على جسدك مرة اخرى. هل ما اقوله واضح يا ليلى؟

حركت نظراتها بتوتر ما بينه وما بين روان لترد روان فوراً بتهكم من غير ان تلتفت وقد فهمت سبب صمتها:
- لا تقلقي عزيزتي انا اعرف بأمر علاقتك السرية بيزن.
لترد الاخرى بحدة:
- لست بخائنة كي امتلك علاقات سرية. مازن فقط لا يعرف شيء عن ماضيّ وذاتاً ليس مهتم ان يعرف. لم يطلب مني اخباره بشيء وقال انه يريدنا ان نبدأ صفحة جديدة ويتجاهل كلانا ماضيهُ. لذلك لم اخبره بأمر يزن.

لم تتمكن روان من الرد رغم انها تمتلك الاجابة. كانت قد فقدت السيطرة على دمعتها الضعيفة مع انطلاق جملة ليلى من ان مازن يريد نسيان ماضيه. لقد ادركت الان انها بالفعل بدأت تتلاشى من عالمه ولن تستطيع امتلاكه مرة اخرى! ولكن الصمت لم يزول. بل كان دور يزن ليرد بنبرة لا تخلو من العتاب:
- وهل هذا قراركِ ايضاً يا ليلى؟
نظرت اليه بحدة بينما تقول:.

- انت تدركُ قراري جيداً يا يزن ولن اتراجع عنهُ حتى وإن رأيتني حقيرة. لذلك لا تتلاعب بكلماتي وانت تعرف المقصد جيداً.
انسانيته كانت ترفض ان تستغل ليلى مازن الى ان تنهي جامعتها؛ ولكن ذلك العاشق الاناني بداخله كان يتلذذ بإخلاصها له فقط.

اشاح الثلاثة نظراتهم على الطريق ليراقبوه بصمت وكلاً لديه مثقل من الهموم بداخله لا يمكن للأخر ان يشعر بها. وكم يكون الامر صعباً ان تكون وسط اقرب الناس اليك دون ان يفهمك احدهم او يطبطب على جرحك برفق دون ان يزيده لك بعدم مبالاته او كلماته الخاطئة!
- اين يقع منزلكم الجديد؟
سألها باقتضاب لترد بهدوئها الذي عاد ليتلبسها من جديد وكأنها تعبت من شد الاعصاب الذي راودها طوال هذه الليلة:.

-على بعد شارعين من منزل جدي. المنزل الاول في بداية الشارع.
تمتم من بين اسنانه بغيض:
-كم امقت ذلك المكان.
بلعت بحسرة تلك الغصة التي اعترتها وهي تتذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي حضر فيه يزن لمنزل جدها وتم تدمير عشر سنوات من الحب بساعة واحدة!
وصلا حيث وصفت له وقبل ان تنزل قال باقتضاب:
-انتظري!

توقفت فوراً عن فتح المقبض وهي تنظر له باستغراب بينما ينظر هو باقتضاب من خلال مرآة بابه الجانبية نحو مجموعة شباب يقفون امام باب بيت صديق لهم بجوار منزل ليلى. تمتم مستغفراً للمرة العاشرة هذه الليلة وقال بضجر بينما يفتح بابه لينزل:
-ارتدي سترتي وانزلي.
وكأنه طلب منها ان تتلحف بالنعيم وليس ان ترتدي سترته فقط. ستشم عطره؛ ستضمه اليها؛ ستشعر بدفئه. لما عساه لا يكون النعيم بالنسبة لها؟

سحبت سترته لتغط بداخلها بحجمها الضئيل مقارنةٍ بكتفيه العريضة ونزلت حيث كان هو ينتظر عند بابه ويحدق بمجموعة الشباب بجدية كي لا يجرؤ احدهم ان يختلس النظر اليها. استدارت من حول السيارة وقالت متسائلة بينما تقترب منه:
-وبالنسبة للسترة؟
فرد بعصبية:
-بحق السماء ادخلي فقط وانسي امر السترة اللعينة بدل ان تستعرضي طولكِ امامهم!
لم تتمكن من كتم ابتسامتها وهي تقول له بنبرتها الانثوية التي تخمد له غضبه:.

-حسناً إذاً. الى اللقاء.
ودخلت بينما عيناه تتعلقان بها ترفضان مبارحتها للحظة. تمتم هامساً حين دخلت:
-ولا تزالين مصرة ان تفقديني عقلي ايتها الصغيرة المجنونة!
ثم تبسم رغم ما به من الم ودخل نحو السيارة لينطلق بها مجدداً باتجاه شقة روان التي كانت تراقب ساعتها كثيراً. فقال مستفهماً:
-هل لديك عمل او ما شابه؟
لترد باختصار:
- لا.
- لما تبدين متوترة بهذا الشكل إذاً وكأنك مستعجلة للعودة الى المنزل؟

- متعبة فحسب يا يزن!
هو بالطبع لم يصدقها ولكن لم يضغط عليها اكثر بأسئلته بعد كل ما مرت به الليلة من توتر اعصاب. ولكنه لم يقاوم دون ان يسألها:
- على ماذا تشاجرتما انت وليلى بالضبط؟
ردت بحنق:
- انها فقط كثيرة الاسئلة وتتدخل بأشياء لا تعنيها.
- هذه ليست طباع ليلى. ربما كانت قلقة عليك فقط.
- وهل سأتبلى عليها مثلاً؟
نظر اليها باستياء من عصبيتها المفرطة وقال بجدية:
- بالمناسبة. لقد بدأت تفقدين صوابكِ.

سكتت ولم ترد. هي بالفعل بدأت تفقد صوابها وتحول ابسط الكلمات الى شتائم فقط كي تتشاجر مع احدهم؛ ليس بسبب ليلى فقط ولكن ما كنت تعيشه روان في هذه اللحظة صعب عليهم ان يفهموه. كانت وسط مثلث من الهموم علها مواجهتها في آن واحد. اياد؛ مازن؛ وليلى. غاضبة من مازن؛ تغار من ليلى؛ ومخذولة من اياد. ليس لأنه تركها فحسب بل هي بدأت تتيقن مما هو اكبر. هي فقط تريد الوصول للمنزل كي تتأكد مما يجول في عقلها من شكوك.

رغم ان الطريق لم يطول نحو منزلها إلا انها شعرت انهُ إنقضى بشق الانفس. ودعت يزن باستعجال ونزلت بخطى سريعة نحو شقتها. بالطبع ليس لتدخل وترتاح بل لتحضر مفاتيح سيارتها...
راقبت من نافذة الصالة رحيل يزن لتنزل هي مسرعة نحو سيراتها وتنطلق نحو مكان واحد لا غير. منزل اياد!
احياناً نحن ندرك الحقيقة جيداً ولكننا نتغاضى عنها. نُفضل أن نتمسك بالوهم على أن نواجه الواقع.

كانت عينيها مظلمة. جزء بداخل قلبها يصلي ان لا تكون شكوكها حقيقية من اجل ان لا تتعرض للملامة منهم ومن نفسها. وجزء اخر يدعو بكل جوارحه ان يكون ما تظنه فعلي كي تمتلك الذريعة المناسبة التي ستغتال بها شفقتها امام دموعه وتصريحات ندمه المزيفة. ولذلك هي ببساطة لا تعرف ما الذي تريده بالضبط في هذا اللحظة!

زادت من سرعتها اكثر دون ان تبطء ولو قليلاً إلى ان وصلت نحو شقته، حينها فقط استخدمت فراملها. نظرت بعيونها الباردة نحو سيارته المركونة اسفل البناية. اغمضت عينيها بحسرة وهي تذرف دمعة بينما تتمتم متوسلة:
- إلهي ارجوك. إشفق على حالي!
اخذت نفساً عميقاً ادركت انها ستحتاجه قريباً ونزلت من سيارتها. صعدت السلم بدل المصعد وكأنها ترجو الوقت ان يطول اكثر من اجل ان تشحن نفسها بالجرأة الكافية.

وقفت امام باب شقته مترددة ما بين المواجهة او الانسحاب. انها لحظةٍ حاسمة ستقرر كل شيء. لذلك عليها ان تستعد لخوض قرارها المصيري هذا!
رفعت يدها بتروي وكأنها تجبرها على الارتفاع وضغطت زر الجرس بهدوء لينطلق بقوة لم تعاكسها.

ولأنه لم يتوقع ابداً انها قد عادت من الحفلة دون ان تكمل سهرتها برفقة يزن ومازن بل وحتى لم يتوقع ان تقدم على خطوة مماثلة بإن تحضر نحو شقته في هذا الوقت، لذلك فتح الباب ببساطة من غير ان يتردد او يتسائل عن الزائر الذي توقعه فتى توصيل البيتزا التي طلبها قبل عشر دقائق!
جفل فور فتحه للباب ورؤيتها وتيبس الدم في عروقه ليغدو وجهه شاحباً. تمتم بارتباك:
- رو. روان؟ ما الذي تفعلينه هنا؟!

حملقت به للحظات ثم قالت ببرود:
- ظننتك قلت إنك في عمل وان والد صديقك متوعك؟!
- أ أجل. أجل انه كذلك. ولكني انهيت الامر اسرع مما توقعت.
- ولِما لم تعد للحفلة؟ او حتى ان تتصل بي كي تتأكد ما ان عدت او لا حتى تأتي لاصطحابي؟
- كنت متعب وكنت.
قاطع جملته الركيكة من الاساس صوت انثوي تعرفه روان جيداً:
- هل وصلت البيتزا حبيبي؟

توسعت حدقتيها فوراً بصدمة وهي تشاهد نرجس إحدى الممرضات معهم في المستشفى تظهر من خلف اياد، بشعرها المموج وفستانها القصير جداً وخطواتها الاريحية داخل الشقة كما لو كانت شقتها...
كانت صدمة ثلاثية الابعاد لهم. نعم هي تشك بخيانته لها. ولكن لم تتوقع ان الامر وصل لهذا الحد.
ضمت نرجس شفتيها لبعضهما وكأنها تكتم بقية حروفها وهي تنظر لروان المصدومة امام هذا المنظر تكاد تقسم انها ميتة مع تصلب جسدها بهذا الشكل.

نظرت روان باستنكار وعدم تصديق باتجاه اياد الذي يحاول بشتى الطرق ان يتخلص من تلك التأتأة ويرتب جملةٍ تامة امامها ويفشل من شدة توتره، على عكس نرجس التي لم تكن تبدو متأثرة جداً باكتشاف روان لأمرهم بل ببساطة سحبت حقيبتها من على الاريكة وتقدمت اليهم وقالت بنبرة استفزازية وابتسامة وضيعة:
- حسناً. سأترككم الان. فعلى ما يبدو لديكم نقاش لتخوضوه.

ثم مرت من جانب روان وهي ترمقها بنظرة تشفي ساخرة وكأنها واخيراً اطاحت بها وكسرتها وسلبت منها الافضلية فلم تعد تلك التي ستحسدها الاخريات على شيء!

لم تبالي روان بها بل وحتى لم ترمقها بنظرة اخيرة. ابقت على اياد فقط عينيها الملتمعة بطبقة دموع كثيفة تعجز عن حفظها طويلاً داخل جفنيها المثقلة بالمئات منهن هذه اللحظة، اما هو فلم يجرؤ على النظر في عينيها مباشرةٍ وانزل رأسه في خجل من مواجهتها او تبرير اي شي لها!
قالت له بعتب وغصة تهز لها صوتها وتضعفه:
- لماذا؟ بماذا اخطأت بحقك انا؟!
نظر اليها بتوسل بينما يقول:
- روان اقسم لكِ لم.
لتهتف به بدموع اشد:.

- لقد فعلت المستحيل لتسلبني من مازن وفعلت. ألا يعني ذلك انك تحبني؟
- تعلمين جيداً اني احبك يا روان!
دفعته من صدره بعنف وهي تصرخ:
- وهل لك الجرأة لتكذب اكثر؟ هل من يحب يفعل شيء قذر كهذا؟ كيف طاوعك قلبك؟
ثم نزعت الخاتم من اصبعها ورمته بعنف داخل منزله وقالت:
- أذهب لتلبسه لها ايها الوضيع!
واستدارت لترحل لتجده يستجمع حروفه الضائعة وهو يبادلها غضبها قائلاً:
- ان كنا سنتحدث عن الخيانة فلست الوحيد يا روان!

نظرت اليه باستنكار ليكمل بذات غضبه:
- ماذا؟ هل تظنيني احمق؟ هل تعتقدين إني لا اعرف ما حصل ويحصل؟ أُدرك جيداً انكِ وافقتِ على الارتباط بي لتنتقمي من مازن فقط. في كل مرة تمسكين يدي وتبتسمين فجأة كنت ادير بصري باحثاً في الارجاء فأدرك انكِ فعلتِ هذا لأن مازن قد ظهر. انتِ كنتِ تستغليني فقط لتثيري غيرة مازن عليكِ، لقد احببتكِ بصدق يا روان وتمنيت لو انكِ فقط تبادليني ولو الشيء اليسير من هذا الحب!

وبما انه وقت كشف الحقائق الضامرة فقد اخرجت هي كل اوراقها بدورها وهي تشاركه نقاشه الحاد:
- تحبني؟ هل ستلعب دور الامير الصالح الان وانا الوضيعة الخائنة؟ هل تدرك كم تحملتك مقابل كل ضربك لي ومعاملتك السيئة وتشكيكك دوماً بتصرفاتي؟ لقد كنت انتظر منك الفرصة التي تجعلني انسى مازن وابدأ حياة جديدة معك، ولكن تصرفاتك الساذجة كانت تزيدني ندماً فقط على قرار ارتباطي بك.

- دعينا لا نكذب على بعضنا. انتِ من المستحيل كنتِ ستحبيني وتنسي مازن. كنت ورقة لعب بيدكِ فقط.
قالت ببكاء اشد:.

- ولكني لم اخنك. لم اذهب اليه سراً، لم افتح معه ماضينا انا وهو مذ احاط خاتم الخطوبة اصبعي. كنت مخلصة لك انت وحدك رغم ان قلبي معه هو. كنت امتلك عشرات الفرص لأنفصل عنك وارتبط به ولكني لم اتمكن من كسرك بهجري وتحملت كل شيء. تحملت حقارتك وسذاجتك ومعاملتك السيئة لي فقط لأني كنت اضعف من ان اكون قاسية معك واهجرك.
ثم اشارت نحو شقته وهي ترفع صوتها اكثر:.

- وهذا ما تجازيني به في النهاية بعد أن فعلتَ كل شيء دمرني منذ ان دخلت حياتنا والى الان؟
واستدارت تريد الرحيل ولكنه عادت مرة اخرى اليه وهي تقول بندم:
- ولكن أتعلم ما يوجعني؟ إني بإرادتي قد تركت حب مازن النقي واخترت حبك القذر فقط لأني كنت غاضبة. كم كنت ساذجة وحمقاء حين خسرته لأجلك انت!
ثم تركته ورحلت غير مبالية بالجيران الذين يمدون رؤوسهم بفضول وخلسة من ابواب منازلهم على هذا الشجار المشوق حسب رأيهم!

ركبت سيارتها وهي تعجز عن التنفس من وسط شهقاتها المتتالية ودموعها التي تجعل المحيط ضبابياً. كانت عاجزة حتى عن ادخال المفتاح في مكانه لتشغل السيارة. لذلك ببساطة استسلمت لانهيارها واسندت رأسها على المقود لتجهش ببكاء اقوى دون ان يكون هناك احد ليبالي بها. كانت كمن يصرخ في وسط وادي. لن يرتد لها سوى صوتها ولن يؤنس وحشتها سوى نفسها. لقد امست وحيدة بالفعل في هذه اللحظة!

كوحدة ليلى وسط غرفتها بينما تضم بين يديها سترة يزن تستنشق عطرها. كلما غرزت انفها في عنق السترة كلما ثملت اكثر برائحته وعطره الرجولي المميز الذي كان يملأ ممر البناية في كل صباح حين يخرج الى عمله، سقطت دمعة شوق قاسية فوق طياتها لتضمها اكثر الى صدرها تبثه اعتذارها الصامت!

قطع عليها صلاة عشقها صوت رنين هاتفها. فتحت عينيها المغمضة لتنفصل رموشها الكثيفة الملتصقة بدموعها عن بعضها وهي تنظر بعدم مبالاة بادئ الامر نحو هاتفها وهي تظن المتصل مازن. ولكنها شهقت بتفاجئ فوراً وهي تقرأ اسم يزن. ردت فوراً وسعادتها تمنعها من التصديق بسرعة ما لم تسمع صوته:
- يزن؟!
ليصلها صوته المتعب:
- اين والديكِ؟!
- انهما نائمين.

- جيد. انا اقف بباب منزلكم احضري لي السترة. قد لا اتمكن من الحضور مرة اخرى الى هنا بسهولة. لذلك احضريها الان!
شقت ابتسامة عريضة تقاسيم وجهها وهي تقول بينما تقفز من سريرها:
- حسناً. انا قادمة!

رمقت نفسها بالمرآة سريعاً وهي تعدل من هيئتها وتمسح اثار دموعها ثم فتحت بابها بهدوء وخرجت على اطراف اصابعها كي لا تُحدث ضجة توقظهم بينما تخرج من المنزل. فتحت الباب الخارجي للمنزل لينبض قلبها بعنف من جديد وهي تراه يقف عند باب سيارته ويتكأ عليه بانتظارها. اما هو فتجاهل نبضات قلبه القوية وركز على اقتضاب وجهه اكثر بينما ينظر لملابسها بحدة وهو يحرر يديه من تكاتفهما ويستقيم بجسده المرتخي وقال فوراً حين وصلت اليه وهو يكز على اسنانه:.

- كم مرة اخبرتكِ ان لا تخرجي ببيجاما النوم؟ هل تنوين اصابتي بالشلل اليوم ام ماذا؟!
فقالت مبررة فوراً:
- انها تقارب منتصف الليل يا يزن والشارع خالي من احد سوانا!
زفر بضيق بينما يلتفت بالارجاء وهو يتأكد ان لا احد فعلاً في الشارع. عاد ينظر اليها مرة اخرى على نبرتها المترددة:
- أيمكنني ان اتحدث اليك؟!
زفر بحدة مجدداً بينما يزيد من التحام حاجبيه ثم قال:
- البسي السترة وتحدثي. لا تبقي هكذا!

وبالطبع رحبت بالفكرة. ستعانق عطره وتخوض معه الحديث. اي نعيم سيكون اكثر من ذلك؟!
غطست مرة اخرى داخل سترته وادخلت يديها المتجمدة داخل جيوبها بينما هو اخرج علبة سجائره واشعل واحدة وهي تنظر اليه بدهشة وما ان زفيره المحمل بالدخان حتى سألته باستهجان:
- منذ متى وانت تدخن؟!
اجاب متهكماً:
- احزري!
زفرت بدورها متضايقة ثم قالت:
- الى متى سيستمر غضبك هذا مني؟!
قوس حاجبيه بسخرية وهو يقول:.

- أأنتِ جادة؟ أتظنين ان غضبي مؤقت عما فعلتِ وانه سيزول مع الوقت؟!
حدقت داخل عينيه قليلاً قبل ان تسأله بجدية:
- لو كنت مكاني. ما الذي كنت ستفعله؟!
رمى السيجارة ارضاً وهو يدعسها بقدمه بينما يلوح باصبعه امام وجهها قائلاً بحدة:
- تدركين جيداً اني لم اكن سأفعل ما فعلته!
فردت مُقتبِسة:
- من السهل التحدث عن الشجاعة وانت بعيد عن ارض المعركة
ثم اردفت:.

- لا تحكم على تصرفي ما لم تعش ظروفي، انت تدرك جيداً ما جدي قادر على فعله، نحن لسنا اثرياء يا يزن جدي هو فقط من يملك المال والسلطة. ان تزوجتك فمسامحة امي وابي لي ورغبتهم في رؤيتي كرغبتي في رؤيتهم لم تكن ستغير شيء من قرار جدي ولن يسمح لهما برؤيتي. وما ان يعارضه ابي سيطرده فوراً من شركته وسيسلب منه المنزل الذي هو من الاساس بأسم جدي وليس بأسم ابي وستمسي اسرتي من غير منزل او وظيفة. هل يستحقون مني ان افعل بهم كل هذا؟ انا لدي واجب اتجاه اسرتي يا يزن. لذلك بالتأكيد انت لم تتوقع مني ان ابيعهم بسهولة واكون انانية.

ليقول بحدة:
- وعشر سنوات من الحب يا ليلى؟

- عشر سنوات من الحب ليست كافية كي انكر كل ما قدموه لي واتركهم ببساطة وارحل. لو كنت انت في موقفي ذاته وارتباطك بي يعني تخليك عن امك وابيك الى امد غير معلوم لتكون معي فقط. هل كنت ستوافق؟ هل ستتخلى عنهم وانت الوحيد لديهم؟ هل ستنسى تربيتهم لك وتعبهم من اجلك ببساطة فقط لترضي انانية حبك؟، ما كنت قادرة على اتخاذ خطوة كهذه يا يزن. كل ما في الامر اني فكرت بعقلي وعاطفتي معاً وليس بقلبي فقط، نعم انا احبك بل واعشقك بجنون. ولكن مهما بلغ حبي لا يمكنني خسارة عائلتي.

صمت امام منطقيتها واشاح وجهه جانباً باقتضاب لتقول هي فوراً من وسط دموعها:
- انا لا يمكنني ان اظل في حيرة من امري بما يخصك فهذا يقتلني ويؤرقني. عليك ان تتخذ قراراك بشأني. عليك ان تخبرني انك ستكون لي فقط وما ان انهي جامعتي سنرتبط!
- نرتبط؟ وتظنين ان جدك سيوافق؟!
- لا. لن يفعل
- ستخالفين رأيه؟
- نعم.
- إذاً لما لم تخالفيه منذ البداية بدل هذه المتاهة التي خلقتها؟

- لأن اسرتي تعتمد على راتب ابي فقط بالاضافة ان مصاريف جامعتي باهضة ولن يستطيع ابي تحملها ان طرده جدي من الشركة. لذلك سأنتظر لحين تخرجي لنتخلص من هذه المصاريف الاضافية وايضاً سأجد وظيفة اعيل بها نفسي واسرتي.
- ومازن؟!
- سأنفصل عنه بالتأكيد.
ليهتف هو بحدة:
- الامر سهل بالنسبة لكِ ان تخسريه ولكن ليس سهل لي ان اخسر صديقي المقرب يا ليلى ولن يسامحني ان ادرك الامر كله وادرك انكِ حبيبتي وانا لم اخبره!

وهنا بهتت ملامحها فوراً لتتحول الى الخيبة شيئاً فشيئاً ثم تبسمت بمرارة وقالت:
- أحقاً؟ لا يمكنك ببساطة ان تتنازل عن صديقك من اجلي ولكن تطلب مني اتنازل عن اسرتي من اجلك؟
قال مبرراً:.

- انا لا اتخلى عنه فقط يا ليلى بل اخدعه واكذب عليه وانا ادرك جيداً جرحه. هل يمكنك فقط ان تتخيلي ما سيشعر به ان ادرك اننا نستغله طوال هذه الفترة؟ والاسوأ ان صديقه المقرب الذي وثق به دون غيره يكذب عليه ويخدعه، هذا التصرف ليس من اخلاقي يا ليلى وتدركين هذا جيداً!
هزت رأسها بتفهم وخيبتها في تزايد ثم قالت بينما تتجرع غصتها:
- إذاً. فأنت تقول ان هذه هي نهايتنا؟

اغمض عينيه بتألم واعاد رأسه للخلف بينما يطلق حسرة وهو يقول:
- ليت الامر بهذه السهولة لأقوله وارتاح. يا ليت النسيان والمضي قدماً يكون بإرادتنا!

ضمت شفتيها لبعضهما تبكي بصمت وهي تشاهد حبهما ينهار قطعة بعد اخرى دون ان تملك القوة الكافية لتعيد ترتيبه وحدها. ابعدت -مُرغمةٍ- سترتهُ عن جسدها لتلفحها برودة الطقس القاسية من غير حماية. قدمتها اليه بصمت لينظر هو اليها بانكسار بينما يرمق سلسلة قلادته لا تزال تحوط عنقها كما تحوط عنقه، هو يدرك جيداً انه مهما فعل او فعلت من المستحيل ان يتخلصا من لعنة حبهما الابدية. كان امراً ينكره رغم واقعيته. وبدل ان يتمسك بالسترة تمسك بيدها هي ليسحبها ويضمها بقوة اليه مستنشقاً عبيرها بعد سنة كاملة من الفراق لتنهار حينها بين يديه باكية اكثر لا تسعفها حروفها عن ترجمة وجعها المستكين بها الان، اخذ نفساً عميقاً من بين خصلات شعرها ليثمل به ويحقن روحه الملتاعة ببعض الصبر لفراقها ومن ثم بلحظة سريعة ابعدها عنه وهو يسحب سترته ويركب سيارته تاركها مصدومة بالفارغ الذي خلفه ورائه، كذاك الفراغ الذي احست به قبل سنة عند ساحل البحر حين رحل عنه. وكأنه عناق وداعه اليها للمرة الثانية!

كان يقود سيارته بسرعة جنونية وهناك ألم قوي يتصاعد من صدره نحو حنجرته ولكن وقبل ان تندفع هذه الغصة من عينيه بشكل دموع قطع رنين هاتفه ذلك. حمله ليجد المتصل مازن. تنحنح ليجلي صوته وبعدها رد بهدوء:
- اهلاً مازن
ليصله صوت مازن المغموم:
- اين انت يا يزن؟
- انا في طريقي للمنزل، هل انت بخير؟
- غيّر طريقك وتعال لشقة روان!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة