رواية نستولوجيا للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع عشر
وقفت روان تستند على غطاء السيارة الامامي تراقب بسرية مازن الذي يدير ظهره أليها ويراقب البحر بصمت. هما على هذا الوضع منذ 15 دقيقة ولا يبدو إنه ينوي الحديث.
أبعدت خصلات شعرها التي ألصقها الهواء على وجهها وأسكنتهم خلف أذنها وهي تقول:
- إذاً. هل تريد قول شيء؟!
أخذ نفساً عميقاً ثم التفت اليها بينما يديه تستريح بجيوب بنطاله الأسود. حدق بعينيها للحظات ثم قال بينما يتلاعب بطرف حذائه بالرمال تحت قدمه:.
- أردت أن. أن أعتذر عمّا بدر مني اليوم!
- فقط اليوم؟
نظر لها وهو يقول: - لتشكري الله إني سأعتذر من الأساس!
تبسمت وأشاحت وجهها جانباً في محاولة فاشلة لأخفاء ذلك عنه. شعرت بخطواته تقترب منها فرفعت رأسها بتفاجئ وأرتباك اليه وهو يقترب منها كثيراً حتى وقف أمامها مباشرةٍ لا تفصل بينهما سوى بضع انشات. أزدردت ريقها بتوتر وهي تحت مجهر نظراته الثاقبة. كان ينظر لها بتفكير أكثر من كونه شوق وكأنه يحاول معرفة ما يدور حقاً بخلجها لعله يستأصل كل شكوكه ويقطب جروحه. لو أنه فقط يسمع ما تفكر به وليس ما تقوله!
قالت وهي تركز عيناها بصلابة بدورها داخل عيناه:
- ما الذي تريده بالضبط يا مازن؟ هل جئت هنا لتعتذر فقط؟
رفع يده بهدوء وتلمس خدها برفق مما دفع الدماء أن تتفجر به فوراً وتتصاعد الحرارة اليه مانعة اياها من قول كلمة أخرى بصلابة. بينما هو قال بكل بحسرة:
- أحياناً أفكر. إنك ومنذ البداية لم تكوني لي بل أنا من كنت أُشعر نفسي إنكِ ملكي!
أغمض عيناه وهو يستند على جبينها بينما هي تتوسع عيناها بصدمة أكبر وهو يكمل حديثه بذات نبرته الهادئة:
- ربما في النهاية أنتِ لم تكوني ملكاً لأحد ولن يقص لكِ أحد جناحيكِ!
قالت بنبرة هامسة ومرتجفة بينما تغمض عيناها بتوتر:
- لم. لم أكن اراك سجناً بالنسبة لي. أبداً!
- أنظري لِما وصلنا أليه في النهاية؟
- لم نصل لشيء يا مازن. نحن حيث نحن ولم نتقدم خطوة مع بعضنا أبداً، حبنا لبعض كان في داخلنا فقط!
- لو إني فقط أعترفت!
- بل لو إني فقط سألت!
- لو إني أجبرتكِ على عدم الأرتباط به.
- ولو إني فقط أستمعت لك!
ماذا لو؟ أحياناً تكون أصعب بكثير من ألف كلمة جارحة. سنتمنى بها اشياء ليست صعبة الحدوث. بل قد وقعت وانتهى الأمر ولن تعود. أنها ببساطة تشرح لنا بإيجاز ماهية الندم. كلاهما في لحظتها أوقدا بنفسهما النار وكأنهما الان فقط قد اعترفا وأخيراً بذنوبهما التي لطالما أنكراها ليحملا الطرف الاخر الملامة فقط.
لحظات اخرى حتى عاد مازن خطوتين نحو الوراء مولياً اياها ظهره من جديد وهو يقول بصوت ثقيل يكتم خلفه بعض الدموع: -أتعلمين إن ليلى قد طلبت أن ننفصل؟
استجمعت هي بدورها تماسكها وردت بصوت ضعيف: -أجل. لقد أخبرتني بذلك ايضاً.
نظر لها باستغراب وهو يقول: -إذاً كنت على علم بالأمر؟
-أجل
-لهذا السبب أنتما صديقتان حميمتان الان؟
كانت نبرته تحمل بعض السخرية فردت هي بشيء من الاستياء: -وهل أبدو لك إني من هذا النوع؟
أشاح وجهه جانباً للحظات ثم تطلع بها من جديد وهو يسألها قائلاً: -منذ متى؟ متى أخبرتكِ بالأمر؟
-حين ذهبنا الى شقة يزن. أخبرتني إنها تعرف ما يجمعنا وأنها ستنفصل عنك.
-متى عرفت بالأمر؟ أعني. كيف عرفت إنك أنتِ التي كنت أحبها؟
- قالت إنها أحست بالأمر منذ ليلة الحفلة وتأكدت من ظنونها حسب ما أعتقد بعد أن تشاجرت أنت وأياد. ظننت أنها صارحتك بالأمر مسبقاً.
-لا. حين كنت أتحدث عنكِ أمامها لم أكن أذكر أسمكِ. ولكني لم أتفاجئ كثيراً حين طلبت مني بشكل صريح أن أعود لكِ. من البداية كنت أعلم إنها تدرك إنكِ المقصودة بحديثي ولكنها لم تتحدث عن هذا ابداً بشكل مباشر سوى قبل يومين.
صمتت من غير تعليق فنظر اليها وقال:
-إذاً. ماذا أخبرتكِ بالضبط؟
-أظنك تعرف بقية اقتراحها. أنه ما طلبته منك بالضبط!
فقال هو بفضول واهتمام يفشل في إخفائه:
-وما كان ردكِ؟
-بالطبع لا تتوقع مني أن أوافق!
فقال بإحراج:
-لا. بالطبع لا.
فقالت هي بنبرة ضعيفة وعيون تحمل شيء من الحزن:
-حتى وأن أردت ذلك بشدة؟
بهتت ملامحه فوراً وانقبض وجهه بألم لتكمل هي بنبرة مرتجفة توشك على البكاء:
-ألا بأس أن أكون أنانية ومريعة إن كان الأمر يخصك؟ أن أكون عديمة الإحساس لا تبالي سوى بسعادتها الأبدية معك؟
-روان.
قاطعته فوراً وهي تبتسم ساخرة من نفسها بينما تقع من مقلتيها على غفلة دمعة ضعيفة:.
-أنسى ما قلته أرجوك!
ثم قالت بينما تنظر له مدعية الصلابة:
-قل لي. هل وافقت أنت حين عرضت عليك الأمر؟
تنهد بحيرة بادئ الأمر ثم قال:
-ليلى ليست طبيعية!
-ماذا تعني؟
-أنها تصر على عودتنا لبعضنا وكأن كارثة ستقع أن لم يحصل هذا. تستعجل بالأمر أكثر من اللازم. بالتأكيد هنالك سبب دفعها لهذا!
أشاحت فوراً وجهها جانباُ بارتباك فشلت في إخفائه فدفع هذا بالشك لقلبه وهو يسألها في الحال:
-يا ترى هل تعرفين أنتِ هذا السبب؟
فقالت ببعض التلعثم:
-وما أدراني أنا؟
حين حل الصمت من غير صوت مازن دفعها هذا للنظر أليه لتدرك فوراً تلك النظرة التي تعتلي عينيه وهو يحدق بها. أنه لا يصدقها! أشاحت وجهها من جديد متجنبة النظر اليه ومدعية إنها لم تفهم شكوكه وما يدور في رأسه.
أقترب منها وقال بتشكيك:
-ما الذي تخفيه يا روان؟
رفعت نظرها اليه وقالت مدعية الثبات:
-لا أخفي شيئا. ما الذي دهاك؟
فقال هو بنبرة أقرب للتحذير:
-وأن اكتشفت العكس لاحقاً؟
كانت تدرك لحظتها أن بدأ صفحة جديدة مع أحدهم لا يجب أن تبدأ بكذبة على الاطلاق. لا سيما مع مازن الذي بالكاد خطا خطوته الاولى في طريق مسامحتها. ولكنها لم تتمكن من خذلان ليلى وكشف كل شيء لمازن فقط لتنال رضاه. فقالت وهي تجيد دور الواثقة مما تقول بصعوبة:
-لا أخفي شيء يا مازن. وأن اكتشفت العكس لاحقاً فيحق لك اتخاذ أي رد فعل تريد دون أن ألومك.
زفر بضيق بعد أن التمس صدقها وقال بحيرة أشد:.
-ما الذي يدفعها لهذا إذاً؟
عدلت من وشاحها القطني لتدثر به كتفيها وقالت بشيء من السخط مغيرة مجرى الموضوع:
-أيمكننا الذهاب الان؟ فمن الواضح أن سبب قدومنا الى هنا لنتناقش حول قرار ليلى. ولا أظن إني معنية بهذا الأمر. يمكنك سؤالها هي وليس أنا.
تحركت خطوتين باتجاه الباب الأمامي للسيارة فأوقفتها يده وهو يمسكها من مرفقها. نظرت اليه باستغراب فقال هو فوراً بجدية تامة:.
-قرار ليلى يعنيني كثيراً يا روان. لأنه سيكون الفاصل ما بين سعادتي الأبدية. أو تعاستي!
سحبت يدها برفق منه وكتفتها مع الاخرى أمام صدرها وقالت بينما تقطب حاجبيها:
-و يا ترى أنا على أي جانب من اختيارك؟ سعادتك؟ أم تعاستك؟
حدق بعينيها للحظات بنظرات جامدة ثم قال:
-ربما عليكِ سؤال ليلى هذا السؤال. فعلى ما يبدو أنها تعرفني أكثر منكِ.
ثم تركها وصعد الى السيارة خلف المقود معلناً اختتام النقاش فزفرت هي بدورها بضيق وصعدت الى جواره من غير أن تضيف أي تعليق أو سؤال كما فعل هو!
كانت تجلس وسط عتمة غرفتها فوق سريرها تضم ركبتيها الى صدرها وتستند بجبينها عليهما تخفي وجهها وعيونها الذابلة. أنها متعبة الى الحد الذي تكون فيه عاجزة حتى عن البكاء، مستسلمة لكل ذلك الألم الذي ينبض بداخلها عوضاً عن قلبها. أنها تفقد كل شيء. لم يعد أي أحد معها أو يبالي بها. وكأنها فجأة اكتشفت الحياة على حقيقتها فلم تعد تلك الزهرية الطرية التي كانت تبدو عليه. بدت كالوحش حقاً!
هنالك شيء أكتشفته مؤخراً في داخلها قادر على أن يؤذيها حقاً. تعبت من اقتباس دور الظالمة أو المظلومة. لم تعد تبالي حقاً بما هي عليه فعلاً. أنها تريد الرحيل فقط عن كل شيء!
ربما هو الله من يفعل ذلك حين نكون في محطتنا الاخيرة. يبدأ بتعرية الحياة من أقنعتها لننبذها بدورنا ونتقبل ما سيحصل لنا فقط لنفارقها.
رن هاتفها فرفعت رأسها من انحنائها ونظرت اليه. كان يزن!
في وقت اخر كانت سترد بكل لهفة - ولا زالت تمتلك اللهفة - ولكنها لا تمتلك الرغبة لفعل ذلك. عليها أن تطلق سراحه!
حوّلته للوضع الهزار وألقته جانباً تتطلع من نافذتها المجاورة نحو عتمة حديقتهم الغارقة بظلام طفيف لا يبرز من خلاله سوى ألتماع أوراق النباتات من أنعكاس ضوء القمر الشاحب عليها. تحب بشدة هذا المنظر وهذا الترقب وكأن أحدهم سيخرج الان فجأة من خلف شجرة الصنوبر لينظر الى عينيها مباشرةٍ ويأخذها نحو عالم اخر يدخلاه من جحر الارنب نحو بلاد العجائب وينسى هذا العالم ذكرها ويتلاشى وجودها من بينهم.
أغمضت عيناها للحظات وهي تطلق نفساً طويلاً وهادئاً من بين شفتاها ثم فتحتهما بتعب وكأنها تجاهد لفعل ذلك بينما تسمع اهتزاز قصير من هاتفها. أنها رسالة!
سحبته بأطراف أصابعها ورفعته أمامها لتنكسر ملامحها وهي تشاهد أسمه أعلى الرسالة:.
- كم من الصعب أن نحمل بداخلنا أسرار لا يعرفها سوانا. هذا الأمر متعب حقاً. يبقينا مترقبين طوال الوقت ومتحفزين نخشى الوقوع بالخطأ ونُكشف. مع كل نظرة حادة نظن أنه تم اكتشافنا ومع كل اتصال يردنا نظنها النهاية. أليس متعباً أن تبقي منتبهة طوال الوقت؟ منتبهة لحديثكِ وتصرفكِ ونظراتكِ وتخبئين هاتفكِ جيداً كي لا يقع على غفلة بين يديه لحظة وصول رسالة مني؟ أن لم تتعبي فأنا تعبت من هذا كله. أريد أن أخبر مازن بكل شيء وهو من سيحكم على مواصلة حياته معكِ أو الأنفصال. لا أريده ان يكتشف الأمر من غيري وأخسره الى الأبد!
أندفعت واقفة من سريرها واتصلت به في الحال وهي تتنفس بتوتر. طال الرنين من غير صوته الى أن انقطع فأعادت الاتصال مرة اخرى وهي تشتم ألف شتيمة بالثانية. رد في منتصف الرنين وهو يقول بتهكم:
- الان أصبح يعجبكِ أن تتكلمي؟ وقبل ثواني تجاهلتِ اتصالي فحسب!
فهتفت به بعصبية:
- كفاك تصرفات طفولية يزن لقد سئمت منك!
ليهتف بها بعصبية مماثلة:
- بالطبع فعلتِ فلديكِ المثالي مازن أليس كذلك؟
- على الأقل لم أعد الوحيدة التي بدأت حياة جديدة فأنت فعلت ذلك ايضاً. ما رأيك أن أخبر سوزان ايضاً كم أنت مولع بي؟!
ضحك ضحكة قصيرة ساخرة وهو يقول:
- ماذا؟ أأنتِ جادة؟ تدركين جيداً أن لا شيء بيني وبين سوزان لذلك كفاكِ افتراضات سخيفة!
- وبالمناسبة لا يهمني أن كان بينكما!
- أعلم أنكِ كاذبة!
- لست كذلك!
عمّ الصمت للحظات بينهما بعد زوبعة الصياح تلك وهو لا يسمع شيئاً سوى أنفاسها المرتجفة بسبب نشيجها الصامت. قال باستعطاف:
- ليلى.
لتقاطعه بنبرة أقرب للتوسل:
- يزن لو سمحت!
صمت مجدداً مانحاً أياها فرصة للتماسك الى أن قالت بعد ثواني:.
- أسمعني. أن أردت أن تكون أنانياً بحقي وتخبر مازن بكل شيء فقط كي لا تخسره أو ما شابه، فافعل ذلك لن أبالي. حقاً لن أفعل. ولكن من أجل مصلحته هو وروان لا تفعل ذلك الان أرجوك. أمنحنا بعض الوقت فقط اتوسل أليك!
- أنا لا أفعل ذلك لأكون أنانياً بحقكِ ليلى ولا أفعل ذلك من أجل مصلحتي. أنا لا أريد خسارة مازن لأن مازن لا يستطيع خسارة شخص اخر مقرب منه. أنتِ لا يمكنكِ أن تتخيلي ما الذي سيفعله هذا به. أنه صديقي يا ليلى. ولا يمكنني جرح صديقي من أجل امرأة ولو كانت هي الحياة بالنسبة لي!
- لن تجرحه صدقني يا يزن. أنا سأخبره بكل شيء ولكن فقط أمنحني الفرصة. وسأخبره أن صمتك كان من أجل مصلحتي لأن جدي هدد بفصلي عن الجامعة أن أنفصلنا لذلك أشفق على وسكت. ولا أظن أن مازن بتلك الأنانية لدرجة أنه سيتجاهل كل هذا ويتمسك برأيه فقط. وصدقني هو ايضاً غير مستعد لخسارتك. لقد كاد أكثر من مرة أن يتركني لأنه كان يشك بكون شيء بيني وبينك كان يجمعنا بالماضي لذلك لا يريد أن يخسرك بارتباطه بي، صدقني أنتما الاثنان تعنيان لبعضكما الاخر أكثر مما أعني أنا لأي واحد بكما!
سكت لبعض الوقت مفكراً ثم أطلق تنهيدة تعبر عن قلة حيلته وخضوعه الدائم لها بطريقة أو بأخرى وهو يقول:
- حسناً. سنؤجل الأمر لأرى ما الذي تخططين لفعله بخصوصه هو وروان. ولكن أن طال الأمر فسنتحدث يا ليلى!
نظرت نحو نقطة بعيدة وهي تقول بينما ملامحها تبدو بعالم اخر:
- صدقني. لن يطول الأمر!
- حسناً.
وصمتا من غير إضافة تعليق اخر. كان جلياً أن النقاش قد انتهى ولكن كلاهما عجز عن التوديع والرحيل. أغمضا عيونهما بذات اللحظة يستمعان لأنفاس الطرف الاخر المتخبطة تارة والساكنة تارة اخرى.
- يزن؟ لا زلت معي؟
- دائماً!
تبسمت بينما تقع دمعة وحيدة من بين جفنيها المغمضة.
- هل يمكنني أن أسألك شيء؟
- بالطبع.
- لو. لو تبقى لك - على سبيل المثال - أسبوع واحد لتفارق الحياة. كيف ستقضيه؟ بعيداً عني أو معي؟ وحيداً عن الجميع أو من ضمنهم؟ تستمتع به أو تضيعه متقوقع على ذاتك تندب نفسك بنفسك؟
- ما هذا الكلام الغريب يا ليلى؟ هل أنتِ بخير؟
أطلقت ضحكة قصيرة بينما تمسح وجنتيها المبللة بالدموع وهي تقول:
- لا تقلق أنا كذلك. ولكن هذه الاسئلة الغريبة تنتابني كلما كنت وحدي أحدق بحديقتنا المعتمة!
وألقت نظرة من جديد للحديقة وكأنها تحاول إضافة الصدق لحديثها من أنها فعلاً سبب تفكيرها هذا.
سمعت صوت أنفاسه تُطلق على الجانب الاخر وقال:
- لو تبقى لي أسبوع واحد فقط فسأفعل أكثر الاشياء جنونية!
تبسمت بينما تستمر بالنظر نحو خارج نافذتها:
- مثل ماذا؟!
- الشيء الاول سأخطفكِ!
قوّست حاجبيها بدهشة:
- تخطفني؟!
- أجل. وسنتزوج!
ضحكت وهي تسأله:
- ماذا عن مازن ووفائك له؟
- حسناً تباً له. أنا سأموت بعد اسبوع من يأبه بصديقه؟!
ضحكت بقوة مما دفعه للابتسام بدوره. لقد اشتاق حقاً لصوت ضحكاتها هذا الذي لم يسمعه منذ فترة طويلة حقاً!
- حسناً أيها المتهور. وماذا عن جدي؟!
- تباً له ايضاً!
هتفت مؤنبة:
- يزن!
- ماذا؟ أنا سأموت بعد اسبوع لذلك سأشتمهم كما يحلو لي!
هزت رأسها بيأس بينما تكمل ضحكاتها ليكمل هو حديثه مستغلاً هذه اللحظات:.
- وثانياً أخبرتكِ إني سأخطفكِ. لذلك كان واضحاً إني لن اطلب يدكِ من جدكِ ليوافق أو يرفض!
تنهدت بحسرة وهي تقول:
- ليتك فعلت هذا قبل سنة!
تنهد بدوره وهو يرد:
- اجل. يا ليت!
ساد الصمت بينهما من جديد قبل أن تقطعه هي ايضاً لتسحب كلاهما من دوامة الماضي التي أغرقتهما بالذكريات:
- قل لي. لو أنه تبقّى لك أسبوع. ألن يكون من الأفضل لك أن تجعلني أكرهك بدل أن تجعلني أتعلق بك أكثر؟!
- سأكون أحمق أن فعلت هذا يا انسة ليلى. تبقّى لي أسبوع وأفارقكِ وتريدين مني أن أبعدكِ عني وأحرم نفسي أن أثمل بما تبقى لي بعطر شعركِ أو أن أموت بين يديكِ؟ وهل تتوقعين أن الحب الذي تكنيه لي بقلبكِ على مدى سنوات سأتمكن من دحره في أسبوع لأجعلكِ تتقبلين موتي؟
ثم قال وهي تتخيل ملامح وجهه تماماً مع هذه العبارة. ابتسامة شاحبة مع عيون دامعة:.
- وماذا إن كنت لا أريدكِ أن تتقبلي موتي؟ ماذا لو كنت أنانياً بحبكِ لهذا الحد؟ الى الحد الذي أريد أن أموت وأنا متأكد إنكِ لن تحبي غيري أو تفكري بغيري؟ ماذا لو كنت أريد أن أسمع صوتكِ كل يوم عند قبري؟ ماذا لو كان حبكِ يفقدني عقلي الى الدرجة التي لا أريد أن أسمع صوت ضحكاتكِ إن كنتِ ستمنحيها لغيري؟ ماذا لو كنتُ مهووساً بكِ لهذه الدرجة؟ وأني سأقسم عليكِ أن لا تزوري قبري أبداً أن أرتبطتِ بغيري؟ ألم تفكري ولو للحظة إني أحبكِ بهذا القدر؟
كانت تستمر بعض شفتها السفلية وتضع يدها على فمها وهي تكتم صوت نشيجها لدرجة أنها كانت تعجز عن التنفس دون أن تبالي. عصر عيناه بقهر وهو يجد نفسه في كل مرة ينجرف خلف عواطفه مستحلاً ما هو من حق غيره. الحب أناني بالنسبة له ولكن ليس عديم الاخلاق. لا يستبيح حق غيره تحت شعار كل شيء مسموح بالحب والحرب. لم يكن يؤمن بهذا من الأساس!
- ليلى. لا يمكنني!
أعلنت عن بكائها بصوت مسموع ما أن سمعت ثقل صوته المحمل بالدموع الصامتة.
- توقفي أرجوكِ! لا يمكنني ذلك. لا يمكنني أن أتحدث أليك ما لم أخبر مازن بكل شيء.
سحبت أنفاسها بصعوبة وقالت بصوت مبحوح:
- سأفعل يزن سأفعل. أمنحني بعض الوقت أرجوك.
- إذاً على أن أنهي المكالمة الان.
ابتلعت ريقها بصعوبة لتجعله يتجاوز تلك الغصة في وسط بلعومها وقالت:
- حسناً. وداعاً!
وأغلقت الخط قبل سماع وداعه. لم تكن متأكدة أنها ستتركه لو سمعت صوته لوقت اطول، كانا مستعدين للتحدث لشروق الشمس وما بعدها. لاحاجة أن يجدا الكلمات ليفعلا ذلك، فصوت انفاسهما كان سيشعرهما بالاكتفاء!
مضى أسبوع اخر عليها تتلقى فيه بعض العلاجات بسرية - عدا عن روان - استعداداً لجلسة الكيمياوي الاولى التي ستخضع لها يوم السبت حيث - وبمساعدة روان - قد تم تحديد موعد جلساتها في الوقت الذي لا يكون فيها أياً من مازن أو يزن في المستشفى.
استيقظت صباح يوم الجمعة بوجه شاحب وصداع لا يمكنها تحمّل ألمه ومعدة مضطربة!
نهضت بخطوات ضعيفة نحو الصيدلية الموجودة في حمامهم ولكن قبل أن تستخرج الدواء منه أفرغت معدتها كعادة كل صباح في المغسلة.
نظرت بقرف نحو نفسها في المرآة وهي تلاحظ انسحاب كل الالوان من ملامحها. لم تبدأ جلسات العلاج وهي بهذا الشكل. فكيف ستكون بعد العلاج؟!
تنهدت بضيق وفتحت الصيدلية لتستخرج بعض المسكنات وتبتلعهم على معدة خاوية فقط لتستخرج هذا الألم الفضيع!
بحثت بين العلب البيضاء عن اي دواء للمعدة ولكنها لم تجد، لذلك تناولت كنزتها من فوق الاريكة حيث تركتها ليلة البارحة وخرجت بهدوء من باب منزلهم متجهة نحو الصيدلية القابعة في اخر شارعهم.
عادت بعد دقائق وهي تحمل علبتين من ادوية اضطرابات المعدة، التي قد تناولت منها حبتين في الطريق، فوجدت والدتها في المطبخ قد استيقظت لتوها وبدأت بأعداد الفطور. حملقت باستغراب نحوها وهي تتوقف عن تقليب البيض داخل المقلاة وقالت بينما تتفحص منظرها المزري:
- أين كنتِ؟!
أغلقت الباب وقالت بينما تلوح بالعلبتين:
- معدتي مضطربة ولم أجد أي دواء لدينا. لذلك خرجت لشرائه.
- بمنظركِ هذا؟!
أردفت بينما تمط شفتيها:.
- أحياناً أشكر الله أنكِ مرتبطة مسبقاً!
تبسمت وهي تجلس على الكرسي الطويل أمام الفاصل الرخامي القصير الذي يفصل بين المطبخ والصالة وقالت:
- أليس من المفترض أن ترى الأم أولادها دائماً وسيمين حتى بأسوأ حالاتهم؟!
- اجل. وهذا يثبت لنا كم أنتِ بشعة لدرجة حتى أمكِ لا تراكِ جميلة!
قهقت ضاحكة:
- تم رفع الثقة الى 1%. شكراً لكِ اماه!
تبسمت جيهان وهي تقرصها من أنفها قائلة:
- تعلمين أنكِ الأجمل لدي!
- وكأن لديكِ عشرة اطفال لتريني الأجمل مثلاً؟!
- حسناً. حاولت أن أشجعكِ فحسب. ولكن لا فائدة!
قطع عليها ردها قبلة ابيها على خدها وهو يجاورها على الكرسي الاخر بينما يقول:
- أجمل صباح مع اجمل سيدتين في هذا المنزل!
نظرت له ليلى مشاكسة:
- وكأنك السيدة الثالثة مثلاً؟ ما مشكلتكما بالعد هذا الصباح! أهناك مخلوقات اخرى تعيش معنا ولا أدري؟!
وضعت جيهان اطباق البيض والزبدة امامهما وقالت:.
- حسناً يا انسة اينشتاين. ما جدولكِ لليوم؟!
حشرت لقمة كبيرة داخل فمها وهي تقول:
- لماذا؟!
- كنا نفكر أن نتناول العشاء معاً في مطعم ما. ويمكنكِ دعوة مازن ايضاً!
- سيكون عظيماً! ولكن دعكم من مازن فذاتاً سأخرج معه بعد قليل لذلك لا أظن أنه يستطيع الذهاب معنا في الليل ايضاً.
- أين ستذهبون؟!
- الى الشاطئ.
- بمفردكما أم مع أسرته؟!
- بل مع أصدقائه.
- اوه. سيكون جميلاً أن تقضي بعض الوقت الممتع وتتعرفي عليهم.
قالت ببرود بينما تقطع البيض الى مربعات صغيرة بشوكتها:
- أعرفهم مسبقاً.
- أحقاً؟ منذ متى؟!
- روان تعرفت بها قبل فترة.
ثم نظرت نحو أمها بوجه خالي من التعابير:
- وأظنكم تعرفون مدة معرفتي بيزن!
توقف أبيها عن المضغ فجأة وهو ينظر لها بذهول بينما استقامت أمها من انحنائها بينما كانت ترتكز على الفاصل الرخامي بساعديها ونظرت لها بعيون جاحظة وهي تسألها بتشتت:
- من؟!
رن هاتفها في هذه الاثناء فتناولت المنديل لتمسح فمها واخذت هاتفها من جانبها ووقفت قائلة وهي تتطلع اليهما بتقاسيم مبهمة لا تعكس اي شيء:
- مفاجأة صحيح!
ثم قالت بشيء من التهكم:
- صادف أن الشاب الذي ارتبطت به يكون صديق حبيبي السابق منذ سبع سنوات. حظ سيء ها؟
ثم تجاهلت تأتأة الكلمات على شفاههما واتجهت الى غرفتها كي ترد على مازن.
- إذاً. هل الانسة سمكة مستعدة؟!
- هل من المفترض أن أضحك على نكتك السخيفة هذه؟!
- هيا ليلى بالله عليكِ هذا أقوى ما استطعت التفكير به. حاولي أن تشجعيني!
قهقهت وهي تقول:
- حسناً حسناً سأحاول أن أضع أمامي صور مهرج أو ما شابه من الان فصاعداً حين تلقي إحدى هذه النكت كي أتمكن من التفاعل معك!
- ذاتاً روان تحب نكاتي السخيفة!
- ربما لأنها سخيفة مثلك!
تنهد بقلة حيلة وهو يقول:
- حسناً أنا أستسلم! لا يمكنني مجاراة لسانكِ السليط!
ضحكت وهب ترتمي فوق سريرها بينما تقول:
- إذاً. ما هي الاخبار؟!
- لا شيء جديد. اخر مرة تحدثنا فيها حول موضوعنا هو عندما خرجنا من المطعم.
- وبعدها؟
- أصبحت الأمور شبه اعتيادية بيننا ولم نعد نتجنب بعضنا كالسابق. حتى إني بعثت لها رسالة ليلة البارحة حين تغيبت عن العمل!
- هذا جيد. رائع أنك فعلت هذا. ربما هذا سيقصر المسافات بينكما!
تنهد مرة اخرى وهو يقول:
- ولكني لا زلت الى الان عاجز عن فهم موقفكِ أنتِ وأصراركِ على ارتباطي بها وانفصالي عنكِ!
- شرحته لك ألف مرة يا مازن. لا أريد أن أكون مثل أمي ولا أريدك أن تكون مثل أبي! أنا لا أحمل ذات المشاعر القوية التي تحملها روان لك. لذلك لن يؤذيني أرتباطك بغيري كما سيؤذيها!
- ولكن كما أخبرتكِ. لن أعلن عن شيء ولا حتى لروان ولن أنفصل عنكِ إلا بعد أن تنهي امتحاناتكِ كي لا يتخذ جدكِ أي خطوة اتجاه انفصالنا!
تبسمت وهي تقول:
- أنا حقاً ممتنة لك. أنت أروع من حظيت به!
- اوه هيا! تعلمين أني أتوتر أن مدحني أحدهم. قومي لتتجهزي وأتركي هذا الكلام. سأمر عليكِ بعد ساعة. أتفقنا؟
ضحكت على خجله وقالت:
- حسناً فهمت. سأذهب الان. وداعاً.
أنهت المكالمة واستغرقت بعض الوقت مستلقية على سريرها تعاني من اعياء شديد وليس كأنها اسيقظت للتو فقط!
الوقت يتآكل بسرعة وهي تشعر بكل شيء يفلت من يدها. أنها المرة الاولى التي تنتظر الامتحانات بهذا الشكل كي تستعجل أنفصالها عن مازن كي تمنع عنه رؤيتها بعد أن يتساقط شعرها فيكتشف الأمر فوراً. تحاول التستر على مرضها قدر الأمكان وألا سيغير رأيه أن عرف!
رمت كل هذا التشائم والتفكير الأسود في زاوية بعيدة من عقلها ونهضت لتحضر نفسها من أجل هذه الرحلة التي لم تفعل بها شيء سوى أن تستمتع بوقتها وتستغل كل لحظة لتمارس ما فوتته طوال تلك السنين التي منحها الله لها!
وصلا هي ومازن الى الشاطئ بالتزامن مع يزن وروان الذي حضرا بسيارة واحدة كالعادة.
القت التحية بأعتيادية عليه حتى هو استغربها ثم اتجهت نحو روان لتعانقها والتي همست لها فوراً:
- كيف حالكِ؟ صدقاً؟
نظرت لها بابتسامة وهي تقول بنبرة منخفضة لا يسمعها سوى روان:
- حسناً لن أقول إني لست قلقة من الغد وخائفة بعض الشيء. ولكني حقاً بخير. أحاول أن أعيش لحظتي دون أن أفكر بالغد.
تنهدت:.
- فكما تعلمين. من الان فصاعداً لن أضمن إني سأعيش غدي. لذلك سأعيش كل يوم بكل لحظاته من غير أي تفكير.
ربتت على كتفها وهي تقول بأشفاق فشلت في إخفائه:
- لا تقولي هذا. ستكونين بخير!
غمزت لها بمشاكسة وهي تقول:
- أتركينا من أمري. أخبريني عنكِ؟
ضمت شفتيها لبعضهما تارة ومطتهما تارة اخرى فقط لتخفي ابتسامتها بينما تحاول إدعاء الاعتيادية وهي تقول:
- لا شيء جديد.
ضيقت عيناها بعدم تصديق وهي تقول:
- اوه حقاً؟!
توردت وجنتيها وهي تضم بأحدى يديها وشاحها الى نفسها أكثر وترجع باليد الاخرى خصلة شعرها خلف أذنها:
- توقفي عن هذا. أنه محرج أن أتكلم مع خطيبته عنه!
قهقت ضاحكة وهي تقول بينما تسير مبتعدة عنها باتجاه البحر:
- حسناً أيتها المتحاذقة. سأستغل الغد لأجباركِ على الحديث!
تبسمت بينما تراقبها تتجه بخطوات سريعة الى المياه لتببل قدميها به وترشق نفسها بذراته الباردة مستمتعة بهذا الشعور الذي يقشعر له بدنها بتلذذ واستمتاع!
- مرحباً!
قاطع عليها نظراتها صوت مازن وهو يجاورها. نظرت له بابتسامة مرتبكة وهي تقول بنبرة مهزوزة:
- أ. أهلاً. كيف حالك؟!
- بأفضل حال. ماذا عنكِ؟
- جيدة!
وأُختتم حديثهما عند هذا الحد دون أن يجدا ما يضيفاه لذلك جاء أنضمام يزن أليهما كالمعجزة وهو يقول بملامح مبهمة بينما يحدق بليلى وهي تلعب بالمياه بقدميها وعلى وجهها ابتسامة عريضة نقية:
- يبدو أن أحدنا على الأقل يعرف كيف يستمتع بوقته!
رد مازن بابتسامة وهو يشاركه تحديقه بها على مسافة منهم لا تمكنها من سماعهم:.
- دعوني أصدقكم القول. أول ما ارتبطت بها كانت فتاة كئيبة وهادئة بشكل كان مثيراً للريبة أحياناً في الحقيقة. ولكن الان.
فتح كلتا يديه بتعجب مشيراً نحوها وهو يقول بابتسامة تحمل بعض الإعجاب:
- أنها أكثر الفتيات مرحاً اللواتي قابلتهم في حياتي. تغيرت حقاً في الفترة الاخيرة!
نظر يزن نحو روان ممازحاً ليغيضها:.
- هل سمعتِ أيتها الكئيبة؟ قال عن ليلى التعيسة التي لا تجيد إلقاء النكات حتى أنها أكثر الفتيات اللاتي قابلهن مرحاً. فهل يمكنكِ أن تتخيلي منظركِ فقط؟!
منحته ابتسامة مغتاضة وهي تضربه على كتفه وتقول:
- ظريف جداً أيها الأحمق!
قهقه ضاحكاً على منظرها بينما تفشل بإخفاء ابتسامتها ثم عاد لينظر نحو ليلى مستغلاً أن الجميع يفعل ذلك ولن يشكك مازن بأمره!
- ما رأيكم أن نتمشى بمحاذاة المياه؟!
أقترح مازن الأمر فرحبت روان على الفور بالفكرة بينما أعترض يزن قائلاً وهو يلوح بكتابه أمامهما:
- أذهبا من دوني. سأجلس لأكمل قراءتي، فالطقس يساعد على هذا!
وتركهما مبتعداً نحو كرسي وطاولة قابعين تحت مظلة عريضة تقيه ضوء الشمس مدعياً مطالعة كتابه بينما عيناه تختلس النظر لتلك الغجرية التي تراقص المياه بقدميها مفقدة أياه تماسك عقله الأخير. تلك التي لم تمنحه حتى نظرة سريعة أو كلمة مشتاقة وكأنها قد رحبت حقاً بفكرة أنفصالهما بشكل نهائي تاركة أياه ليرتبط بغيرها!
مرت نصف ساعة حتى أنهت لعبها بماء البحر ورمال الشاطئ كطفلة صغيرة احضرتها اسرتها لأول مرة للبحر!
كانت سعيدة بكل جوارحها لدرجة ان لا شيء سيعكر مزاجها ولا جرح سيشغل بالها. كانت خالية من اي شعور سوى السعادة ومن اي اهتمام سوى بنفسها. هكذا يجب ان تعيش منذ البداية!
انهت جولة لعبها مع الامواج وروان ومازن يراقباها ويضحكان على طفوليتها. اكتشفت اليوم روان لِما كان يزن مولعٍ بها. عادت مؤخراً ليلى القديمة ذاتها. صاحبة الضحكة الدائمة والروح الطفولية في كل وقت. عكس ليلى التي عرفتها قبل فترة بجوار مازن!
اختتمت مرحها لتجلس امام ذلك العاشق الهادئ بكثرة في الفترة الاخيرة تاركة بعض المجال لمازن وروان كي يستمتعا بوحدتهما معاً حتى وان لم يتحدثا. امور لن يفهمها سوى من يحب حقاً!
جلست امامه تسحب انفاسها المتسارعة بينما هو ينظر لها بشبه ابتسامة متحسرة للايام الخوالي وهي تنصحه قائلة:
- عليك ان تجرب الماء يا يزن انه حقاً رائع!
أغلق كتابه الذي أنهى منه سطر واحد فقط وأخرج علبة سجائره واختار من بينها واحدة ليشعلها بينما يقول بنبرة ذات معنى:
- اعتذر. لا اجيد لعب الدور مثلكِ مع المياه!
تبسمت وهي تفهم مقصده:
- لم أكن ألعب اي دور بالمناسبة. كنت احظى ببعض المرح فحسب!
اومئ برأسه مدعياً التصديق بينما ينفث دخانه يميناً يحدق من خلف نظاراته الشمسية بالافق البحري البعيد المدى وهي تراقبه بصمت.
ثواني حتى قالت بنبرة تحمل بعض الاسى:.
- لا تجعل حياتك ليلى فقط يا يزن.
نظر إليها لتكمل:
- لا تربط كل شيء بي لدرجة ان لم اكن متواجدة لا معنى لوجودك. تعلّم ان تعيش من دوني فالحياة بها الاجمل مني!
لا يعلم ما هو الشعور الذي اكتنفه لحظتها بالضبط؟ هل هو الغضب ام الاستهجان؟ الحزن ام خيبة الظن؟ انه أمّا أمام امرأة مزاجية او خائنة!
قال باستنكار فوراً وهو يصلب جسده المرتخي ويستقيم به:.
- منذ متى وانتِ بهذا الشكل يا ليلى؟ كيف استطعتِ أن تنسي ما عشناه معاً بكل هذه البساطة لتنفيني عن عالمكِ وتتعلمي أن تعيشيه من دوني؟ أأنا المخلص لكِ اكثر مما يجب وابالغ بأخلاصي؟ أم أنتِ عديمة المشاعر التي نست عشر سنوات بسنة؟ هل كان.
قاطعته فوراً بنظرة تعكس انكسار قلبها:
- لم انساك يا يزن. ولن افعل!
حدق داخل عيناها باستياء رغم ما احدثته في قلبه من فوضى إلا أنه قال بصرامة:.
- إذاً ما تفسرين تصرفاتكِ مؤخراً أن لم تكوني تحاولي إنكار الحب الذي جمعنا؟ كالطلب مني أن أبحث عن غيركِ وأن أجد الفتاة المناسبة؟ منذ متى وشيء كهذا عادي بالنسبة لكِ؟
- ليس عادي! ولكني أحاول ان اجعلك انت من تنسى. اريدك ان تعيش حياتك يا يزن ولا تحيط نفسك بهالة الحزن هذه. عليكِ ان تمضي في طريقكِ، فطريقنا معاً قد تهدم ولن يتم اصلاحه ابداً. فأنت ترفض الارتباط بي بعد انفصالي عن مازن حفاظاً على صديقك. وانا لا استطيع الارتباط بك احتراماً لمشاعر جدي. لذلك ما الجدوى من بقائك مخلصاً لي؟.
سكت لثواني وانفاسه ترتفع وتنخفض بغضب قبل ان يقول في محاولة منه لاستفزازها:.
- أتعنين إنكِ لا تمانعين ارتباطي بغيركِ؟ او حتى الزواج من غيركِ؟
بكى كل شيء فيها إلا عينيها. صرخ كل ما بها إلا صوتها. كتمت ظاهرياً ما اعتمر بداخلها من مشاعر وازاحت قلبها جانباً واستمعت لعقلها الذي لا يقله هوسه به عن قلبها. عليها أن لا تكون انانية معه وتربطه بها فقط لترضي نفسها وهي لا تعلم متى ستسوء حالتها وتموت. كيف سيكون وضعه أن ماتت وهو وحيد وحزين بهذا الشكل؟.
أحياناً حب المرأة للرجل يكون كحب الام لأبنها. مهما تأذت فأنها ستفعل المستحيل من اجل إسعاده!
نهضت من مكانها بهدوء وأجبرت نفسها على الابتسام فبدت بسمتها منكسرة وشاحبة وهي تقول:
- لا بأس ان تحب وتبحث عن الفتاة التي ستنسيك أياي، ولكن لا تتزوج الان يا يزن. انتظر بضع شهور اخرى. لم يتبقى الكثير.
فقال باستغراب:
- لم يتبقى الكثير لأي شيء؟!
- لرحيلي!
فقال بتوجس:
- ستسافرين؟!
تبسمت بحنو وقالت ولها قصد اخر:.
- اجل، بعيداً عن هذا كله. لذلك حين ارحل اريد ان يكون هناك من سينسيك ليلى...
ثم استدارت راحلة باتجاه البحر مرة اخرى تخفي دموعها بين مياهه، بينما هو تجمد في مكانه من هول ما سمع، شعر بالأختناق فجأة وهو يتخيل أياماً لن تكون فيها بجواره ولن يراها حين يتعذر بأي شيء كي يجمعه الطريق بها صدفة!