رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والعشرون
الجو هادئ إلا من صوت الأشجار التي تُصدِر هسيسًا خافت، السماء مُحاطة بهالة السحاب الأسود رغم حلول الليل، أجواء شتوية بحتة تُدخل الرهبة على النفس خاصة في الظلام، خطَّ أربعتهم الصحراء ليُصبحوا على الطريق الرئيسي الملئ بالأشجار الكثيفة التي تُحيط الجانبان، استقر ريان بجانب يزن وعلى جانبه الآخر موسى، و عمر جاور إبن عمه وجميعهم تسلحوا بالأسلحة، ثيابهم السوداء نافست الليل في قتامتها، ليصبحوا غير مرئيين، فقط ضوء خافت يُصوَب تجاه وجوههم فتجدها منكمشة بقسوة، وكأنهم يُقسمون بالدمار.
الجميع يُفكر هل سينتهي اليوم على خير! ولا يوجد إجابة لذلك السؤال سوى الصمت، بينما يزن تشتد قبضته بقسوة مُخيفة أكثر كُلما اقتربوا من وجهتهم، سيجعلهم يدفعون الثمن غاليًا، خاصةً سليم المنشاوي الذي وقع مع مَن يرحم، مشاهد من طفولته المُنتهكة تمر بخاطره ليقسو وجهه أكثر، ولسوء حظهم كل من سيُقابله؛ سيُقابل الشيطان ليس يزن الراوي.
توقفوا أمام الباب الخلفي للشركة الخاصة بعدوهم، أخرج يزن سلاحه من جيب حِلته السوداء القاتمة مُتسائلًا بشر: جاهزين!
لم يُجيبوه، بل أخرجوا أسلحتهم ناظرين له بتحفز يُغلفه القسوة، والآن كُل من بالداخل سيُقابلون أربعةً من الوحوش الثائرة، وحوش هم مَن صنعوها بأيديهم، حتى ريان الرجل اللطيف تحوَّل تمامًا ليُصبح وجهه جامدًا صلبًا لا يختلف عنهم.
فتح يزن الباب الخلفي بحذر، ثم نظر إليهم بنظرة ذات مغزى، ليكون المكان هادئ وصوت تعمير أسلحتهم هو الصادح، دلف يزن أولًا، تلاه ريان، ثم موسى، وبالنهاية عمر ليؤَمِّن ظهورهم.
المكان هادئ، صامت، مُظلم، ومُخيف، وأول عقبة كانت بطريقهم رجلان يقفان أمام أحد الغُرف، بابها مُغلق وضوء أحمر خافت يتسلل من أسفل الباب الخشبي القوي، أخرج يزن كاتم الصوت من جيب بنطاله الخلفي، واضعًا إياه بمحله الطبيعي، وبهدوء شديد وبرود صوَّب على رؤسهم، نفخ في فوهة مُسدسه وعلى ثغره إبتسامة مُنتصرة.
اقترب من الباب ببطئ وهم خلفه، وعلى حين غُرة فُتح الباب لتظهر من خلفه إمرأة ترتدي ثياب مُلتصقة على جسدها وضحكاتها المُقززة تملئ المكان، تصنمت محلها عندما رأت هؤلاء الرجال، كادت أن تصرخ فذهب إليها ريان سريعًا ضاربًا إياها على رأسها بظهر سلاحه، وقعت محلها فاقدة الوعي فإلتقطها موسى يُخفيها خلف الصناديق الكرتونية حتى لا تُثير الشُبهات.
هُنا تحدث عمر بصدمة: سليم المنشاوي عشان يبعد الشك عنه عامل شقة دعارة في شركته!
نظر موسى للمكان حوله بإشمئزاز وهو يُردد بغل: طول عمره ن والوساخة بتجري في دمه.
زمجر بهم يزن بصوت خافت حتى لا يسمعهم من بالداخل، ولكن كيف سينتبهون لهم وهم بالأساس سُكارى لا يدرون شيئًا من حولهم! إلتقط يزن عصا حديدية غليظة من أحد الجوانب، ثم ردد بدموية وإستمتاع: هندخل دلوقتي، واللي يعصلج معاكم اقتلوه.
إبتسامة مُميتة ارتسمت على أفواههم، ليردف ريان بإستمتاع وهو يُعمِّر سلاحه: واو أكشن، وأنا بموت في الأكشن.
ضرب يزن بقدمه الباب، ليُفتح على مصرعيه ويعم الصمت على الأجواء، إلا من صوت الأغاني الصاخبة، تصنم الجميع مكانه من الخوف، وقد صدمهم أسلوب المُفاجأة في الهجوم، اتسعت إبتسامة يزن وكأنه في أحد الألعاب المُسلية، مُردفًا بإستمتاع: ازيكم يا حلوين!
وما كاد الرجال أن يذهبوا حيث أسلحتهم؛ سبقهم يزن بإعطاء الإشارة لمن خلفه بتصفيتهم، وما هي إلا دقائق معدودة وكانت الغرفة غارقة بدمائهم العَفِنة وأصوات صرخاتهم تملأ الغرفة، بعض الهمهمات المُتألمة فقط هي التي كانت تخرج من أفواههم، ليُعيد يزن إطلاق الرصاصات من جديد ببرود مُهلك للأعصاب، حتى توقفت الحركة بالغرفة كُليًا.
توتر جسد ريان فأمسك بذراع موسى بخوف، متشدقًا برجاء: يالهوي دا طِلع سفاح بجد، أنا عايز ماما.
إحمر وجه موسى لكتمانه لضحكاته التي كادت أن تدوي عاليًا، نظر لملامحه الفزعة فأردف بصعوبة: اسكت يا ريان الله يسترك، مش كفاية كنت بتتفرج!
نعم. وهل كنتم تظنون أن ريان سيقتل! بل كان يقف مُنزويًا بركنٍ من الغرفة حتى لا تُصيبه الطلقات، لم يفعل شيئًا سوى الصراخ.!
في تلك الأثناء استدار له يزن قائلًا بسخرية لازعة: يلا قدامي يا سيد الرجالة. أنا مش عارف هي قضيتك ولا قضية أبويا!
تحدث ريان بقوة زائفة ناظرًا إليه بقوة: على فكرة أنا كان ممكن أقتلهم كلهم عادي جدًا، بس مكنتش عايز أتغابى عليهم عشان أنا قاسي، فسيبت ليكم المهمة التافهة دي.
أمسكه يزن من قميصه دافعًا إياه من للأمام قائلًا بسخرية تحت صدمة ريان من حديثه: طيب قدامي يا قاسي عشان انت اللي هتكمل المهمة دي وهتكون في الأول.
السعادة تغمرها الآن، كل شئ سار جيدًا وكما ينبغي، مسرورة بإنجازها الكبير الذي حققته، تغلبت على جشعها الذي سيطر عليها لسنوات، إستقلت وصال على فراشها وعلى محياها إبتسامة سعيدة، فخورة بذاتها، استطاعت رد الأمانة له بعدما ظنت أن نفسها الضعيفة ستغلبها مجددًا.
انتفضت من على فراشها لتقف أمام نافذتها، الهواء البارد يلفح صفحات وجهها الأبيض، ليغزو الإحمرار خديها من برودته، رفعت عيناها المُلتمعة للسماء شاردة بغيومها التي تُغطيها، الغيوم كانت تظهر ك كتل سوداء يُنير من أسفلها ضوء القمر المخفى تحتها.
وفي تلك الأثناء تذكرت عابد، قضت معه شهرًا كاملًا، رأت فيه أخلاقه، إجتهاده، أدبه، مساعدته للتلاميذ غير المقتدرين على دفع رسوم حصصهم، وأخيرًا وسامته المُهلكة، فبشرته القمحية المائلة للإسمرار تُزيده وسامة، أغمضت عيناها وهي تتذكر ردة فعله عندما خرجت لتجلب بعض الوجبات الخفيفة لكليهما، وحين عودتها رأته جالسًا على كرسيه دافنًا رأسه بين كفيه بأسى، وضعت الطعام جانبًا مُنادية عليه بقلق بالغ، رفع رأسه يُحدجها بذهول وكأنه لم يتوقع رؤيتها، مُرددًا بعدم تصديق: وصال!
قطبت جبينها بتعجب من دهشته ثم اقتربت منه عدة خطوات لتقف أمام مقعده مُتسائلة بإستغراب: اه وصال، مالك مستغرب كدا ليه!
لم يعلم بما يُجيبها، فقد ظنها هربت وأخذت الأموال مثلما قال ذلك المجهول، سألها مباشرة دون مراوغة: انتِ كنتِ فين!
حدجته بشك وحديثه المُبهم يُخبرها بعلمه لحقيقتها، أشارت للأكياس البلاستيگية التي تحتوي على الطعام ثم تحدث بهدوء: كنت بجيب أكل من برا وجيت على طول.
لا يعلم لما ارتاح قلبه، فقد كان يشعر بأن الهواء أوشك على الإنسحاب مم داخل رئتيه، ويا ليتها تعلم خوفه من ذهابها، وبرغم كل تلك الصراعات التي بداخله؛ أومأ بهدوء ثم جلسا سويًا لتناول الطعام، وبالطبع لم تغفل عن تحديقه الطويل بها ثم يعود مرةً أخرى للإستغفار.
أفاقت من تذكرها على صوت رسالة نصية أُرسلت على هاتفها، أمسكته لتفتح تطبيق الرسائل الشهير الواتساب، فوجدت منه رسالة نصية يسألها بها: نمتي!
ورغم تعجبها من مراسلته لها ولأول مرة، أجابته مُبتسمة وكأنه أمامها: لسه.
بتفكري في إيه!
تشكلت إبتسامة خفيفة على ثغرها ثم كتبت له: دا تحقيق صح!
ثم تركت له بعدها إيموچي ضاحك.
انتظرت ثوانٍ ليأتيها رده المُمازح: ولا تحقيق ولا حاجة، بس جيتي على بالي قُلت أكلمك.
استمتعت مع الحديث معه فسألته بإستمتاع: اممم جيت على بالك! ويا ترى كنت بتفكر في إيه!
وجدته يكتب بعد إرسالها ما كتبت، ليأتيها رده الصادم والذي لجمها في محلها لعدة ثواني:
بفكر لما تبقي مراتي هخليكِ تشتغلي معايا تاني ولا لأ.
وهُنا حرارة جسدها غلبت برودة الشتاء القارصة لتشعر بالسخونة تسري في أنحاءها، ابتلعت ريقها بتوتر ثم نظرت للهاتف مرة أخرى تتأكد من إرساله تلك الجُملة حقًا، ورأتها، شهقت بعنف واضعة يدها على فمها بعدم بعدما أرسل لها رسالة أخرى بعد أن طال إنتظاره: كل دا مصدومة! على العموم بكرا هنتكلم في حاجات كتير أوي مش هينفع نتكلم فيها دلوقتي، تصبحي من أهلي.
شعرت بالدوار يُداهما، فوضعت يدها على رأسها مُتمتمة بهمس خافت: يخربيتك. شقلبت حالي بكلمتين بس! أومال بكرا هتعمل فيا إيه!
استطاعت السيطرة على ذاتها بعد مدة قصيرة، لكن بالطبع لم تستطيع السيطرة على ضربات قلبها الصاخبة، وقفت لتُغلق الشرفة ثم ذهبت لتستلقي على فراشها، مُجبرة ذاتها على النوم.
مشى ريان مُرغمًا وهو يُحدق يزن من الحين للآخر بنظرات مُغتاظة يُقابلها هو ببرود، زجره يزن بعنف وهو يكاد أن يُصاب بالجنون من أفعاله الطفولية حقًا: يابني إنجز، أنا جايب إبن أختي معايا!
وقف ريان فجأة ناظرًا له بغضب، ثم تشدق بحدة: متزعقليش كدا انت فاهم ولا لأ.
احتدت عيني يزن بقوة، فأمسكه من تلابيبه مُردفًا بهسيس مُرعب: انت قولت إيه!
ربَّع ريان ساعديه وهو بين يديه بسخط ولم يُجيبه، هو بالأساس يُريد إفتعال المشاكل ليعود للوراء، لا يريد أن يكون في المقدمة، سيُقتل أولًا إن عثر عليهم الرجال، قال مُتحججًا بعدما رأى الغضب مُرتسم بعيناه: أنا عايز أروح الحمام.
وما رآه لم يكن سوى السخط من الجميع، دفعه يزن للخلف ثم سبقهم متمتمًا بسخط: حمار زي اللي وراك.
نظر ريان خلفه فلم يجد سوى عمر وموسى المُتابعان، فتسائل باستغراب: قصده على أي حمار فيكم!
نظر كُلًا منهم للآخر، ليردف عمر بتوتر وهو يلحق ب يزن مُباشرةً: أكيد موسى، وهو هيشتمني أنا ليه!
تبعته نظراتهم المُتعجبة ثم ذهبوا خلفهم مُباشرةً.
فتح يزن باب الغرفة الآخر المُوصل لردهة الشركة الخلفية كما هو مذكور بالأوراق، وجد أمامه ممر طويل وخالي مُظلم بشدة، أخرج هاتفه ليُنير بالمصباح لتُصبح الرؤية واضحة وظاهرة بعدها، كان يُلاحظ رسومات وكلمات غريبة مرسومة على جدران الممر، وما تعجب منه هي تلك الأشكال المُرعبة الموضوعة على الجانبين، وقف موسى أمام تلك الأشياء مُحدثًا بغرابة: إيه الحاجات دي!
أتاه صوت يزن المُحذِر الصارم: محدش يلمس أي حاجة، إحنا مش عارفين هنقع في أي فخ.
ضرب ريان بكلامه عِرض الحائط واقفًا أمام أحد الرموز يُحاول تذكر أين رآها من قبل، دقق النظر بها بقوة ليجدها عبارة عن صليب بداخله رجل مُعلق من قدمه، وهنا فتح عيناه عند تذكره مُتحدثًا بصدمة: أنا عارف الرموز دي إيه.
انتبه إليه الجميع ليلتفوا حوله، وهنا جاء سؤال عمر المتعجب: عارفها إزاي!
بدأ بسرد ما رآه من تعابير ورموز غريبة عند تشفيره لشركة سليم المنشاوي وكل الأحداث تتقاذف داخل عقله: لما هكرت شركة سليم المنشاوي ودخلت على ملفات الشركة والموظفين وعرفت إنه بيتاجر في الأثار، ولما تابعت أكتر شوفت الرموز دي بس مفهمتش حاجة، حفظت كل حاجة عندي على فلاشة بس للأسف مش فاكر حطيتها فين، ولما رَوحت البيت بحثت على الإنترنت وعرفت إن الرموز دي بتخص الطلاسم والسحر الأسود والأعمال السُفلية وحاجات بتخص العالم الآخر زي الجن والعفاريت وغيره.
كمان عرفت إن اللي بيعمل الطلاسم دي بيكون عامل عهد مع أقوى عشيرة في الجن وبيكون ملهوش مِلة أصلًا، غير إن لازم يكون فيه قرابين كل سنة والقرابين دي بتبقى أطفال أعمارهم متقلش عن 8 سنين، بيدبحوهم وبياخدوا دمهم ويعملوا بيها طلاسم غريبة كدا، بيقرأوا عليها حاجة إسمها التعويذة الإبراهيمية وهي من أقوى التعاويذ الموجودة في عالم السحر والشعوذة.
كان الجميع يستمعون له بصدمة، لم يأخذهم تفكيرهم بأنه بكل تلك القذارة، هو فقط لم يعصي ربه، بل كفر به! أسئلة كثيرة تدور بعقولهم المُشوشة، وهنا السؤال الذي يُفكر به الجميع، لما يحتاج سليم المنشاوي للسحر!
وبالطبع لم يستطيعوا التوصل إلى إجابة منطقية تُرضي فضولهم، أخرجهم يزن من الشرود والخوف الذي سيطر عليهم مُتحدثًا بقوة: إيه مالكم! إحنا هنعمل نفسنا معرفناش حاجة وهنكمل اللي جينا عشانه، غير كدا ملناش دعوة، يلا.
أنهى حديثه ثم سبقهم بهدوء ليتبعوه وعقلهم شارد خائف، ساروا بالممر الطويل حتى وصلوا إلى نهايته فوجدوا بابًا حديديًا لا يُمكن إختراقه سوى بكلمة سر خاصة به، شد يزن على خصلاته بغضب وكاد أن يفقد عقله من تلك الذِلة التي لم تخطر على باله، تعداه ريان الذي أمسك بجهاز الحاسوب الذي وجده بالغرفة حيث مقتل الرجال، مُثبتًا كامل أنظاره عليه، وأصابعه تضغط على الأزرار بحرفية شديدة.
سأله موسى بتعجب وهو يقف جانبه لرؤية ما يفعله: بتعمل إيه يا ريان! وجبت الجهاز دا منين!
أجابه وعلى ثغره إبتسامة منتصرة وحدقتاه تلتمع بالظفر: بهكر السيستم بتاع البوابة دي عشان يتفتح من غير ما يدي إنذار ونتكشف، وأدينا خلصنا.
نطق بالأخيرة بنصر تزامنًا مع صفير البوابة الحديدية ثم فُتحت على أخرها ليظهر من خلفه ممر الشركة الرئيسي والخاص بالعمال، حدجه يزن بإعجاب مُردفًا وهو يضرب على كتفه ضربات خفيفة يُمنيه على مجهوده: لأ جدع.
الشركة مُضاءة بإضاءات ضعيفة خافتة، ورغم رُقيها وجمالها؛ إلا أنهم بعد ما علموه أصبحت ك ممرات أحد أفلام الرعب التي يُشاهدونها، ارتعدت فرائس ريان فأمسك في ذراع يزن قائلًا بفزع يشوبه الرجاء: تعالى نِرجع وأنا مسامح.
حاول يزن كتم ضحكته قائلًا بسخرية: خايفة يا بيضة!
آه.
أجابه ريان دون مراوغة، فأمسك يزن بيده وكأنه يُمسك صغيره الخائف مُتشدقًا بسخرية: ومكنتش خايف وانت بتهكر سيستم الشركة وتوقع نفسك في المصيبة دي ليه!
مطَّ ريان شفتيه قائلًا بلامبالاة: كنت قاعد زهقان وبسلي وقتي، وبعدين...
قطع حديثه وتوقفوا مكانهم فجأة وهم يروا سليم المنشاوي أمامهم وإبتسامته المقيتة مرسومة على وجهه، تعجبوا من وجوده بذلك الوقت خاصةً أن الأوراق التي دونها منير المنشاوي تقول أن لديه شُحنة هامة للغاية ولا يُمكن تأجيلها، ومثلما ظهر أمامهم فجأة اختفى أيضًا فجأةً!
ابتلع عمر ريقه بهلع ثم جاور ريان هامسًا في أذنه بصوتٍ باكٍ: واد يا ريان تعالى نهرب إحنا ونسيبهم هنا.
لطم ريان على وجهه وهو يُولول مُتحسرًا: يالهوي يالهوي هو راح فين! مش كان هنا دلوقتي!
نظر موسى ل يزن نظرات ذات مغزى، ثم تشدق هازئًا: سليم المنشاوي بيلاعبنا بعفاريته.
صدحت ضحكات يزن عاليًا هاتفًا بإستمتاع شديد: هي دي المهمات ولا بلاش، لو هو هيلاعبنا بعفاريته؛ فإحنا كمان هنلاعبه بس بعقولنا.
صدح صوت ريان فجأة قائلًا بلهفة وخوف: وبما إني معنديش عقل فأنا out.
وأنا كمان out ومش بعرف ألعب.
وافقه عمر في الحديث وهو يكادُ يبكي فزعًا وخوفًا.
حدجهم يزن ببرود، ثم أمسك كليهما ليدفعهما للأمام هاتفًا بعبث: طب يلا قدامنا عشان نخلص أم المهمة دي.
الشك دخل عقله وهو لم يسمح لذلك، الوقت متأخر لكن لا بئس سيذهب له ويعلم الحقيقة، ارتدى فارس ثيابه مسرعًا ثم خرج من غرفته ليجد زهر نائمة على الأريكة بعدما فشلت فشلًا ذريعًا في إقناعه للخروج من غرفته، لم يكن بحال جيد لرؤيتها وتحميلها غضبه، لذلك خرج من المنزل دون أن يُصدر أي صوت.
صعد سيارته مُنطلقًا بها بسرعة عالية، وبعد مرور نصف ساعة وصل إلى العمارة التي يقطن بها شاكر، جميع الإجابات لديه الآن وسيعلم الحقيقة مهما كان الثمن، صعد للبناية مُستخدمًا مصعدها الكهربائي حتى وصل إلى شقته، رن جرسها وانتظر عدة ثواني وكررها مُجددًا حتى فتح له شاكر بملامح وجه ناعسة والذي ردد بدهشة لمجيئه بذلك الوقت: فارس!
تخطاه والجًا للداخل ثم جلس على الأريكة مُتسائلًا بهدوء مصطنع: هو سؤال واحد وعايز أعرف إجابته يا بابا، وهمشي على طول.
أغلق شاكر الباب رغم تعجبه ثم جلس أمامه متحدثًا بتأكيد: قول يابني في إيه!
ليه نجدت قتل أمي!
صُدم شاكر من سؤاله وتجمد محله، لم يكن يتوقع أن يأتي له ويسأله ذلك السؤال، كيف علم بمعرفته بذلك الأمر! أجابه بمراوغة وكأنه لا يفهم حديثه: م. مش عارف. وبعدين أنا هعرف منين!
إنفلتت زمام غضبه فصدح بغضب عارم: لأ عارف، عارف ومن زمان كمان ومخبي عليا، أنا عايز أعرف ال دا قتل أمي ليه! عايز أعرف ليه دبحها!
هنا تيقن شاكر بمعرفة فارس لكل الحقيقة، فقط ينتظر تأكيده عليها: خانته...
صمت ثم تنهد مُطولًا: أو هو اللي كان شايف كدا.
ازدادت أنفاس فارس توترًا وجلس محله مرة أخرى، ثم ردد بعدم تصديق: يعني إيه كان شايف كدا!
أخذ شاكر نفسًا عميقًا وتلك الذكرى الكريهة تأتي بذاكرته مرة أخرى: كان مفكرها بتخونه معايا.
رمش عدة مرات بعدم تصديق وكأن عقله لم يستطيع إستيعاب حجم الحديث، ليزفر شاكر بضيق ثم أكمل حديثه بقنوط: نجدت كان مريض نفسي، كان صحبي وسره معايا، كان محترم جدًا وابن ناس، لحد ما سافر وحب بنت هناك واتجوزوا بس اكتشف إنها بتخونه لإنه كان عقيم، ولما عِرف قتلها وقتل صحبتها اللي كانت معاها عشان متبلغش عنه وتقبض عليه، وبعدها بسنتين حب كمان بنت بس هي مكنتش بتحبه وقتلها برضه بنفس الطريقة، بقا يحس بالنقص من نفسه، لحد ما رِجع مصر تاني وتصرفاته كلها كانت غريبة، شاف ميادة واتعلق بيها وقرر تبقى ليه، حاول يعتدي عليها في الأول ولما سلطان عِرف قوَّم الدنيا ومقعدهاش، ومن هنا بدأ خيط العداوة بين العيلتين، بعدها بفترة نجدت هدد ميادة إنه هيقتلك لو متطلقش من سلطان وفعلًا طلبت الطلاق واتجوزته بعد ما خلصت فترة العِدة، كان نجدت فرحان إنها خلاص بقت مِلكه، وبعد جوازهم بسنتين ميادة تعبت وراحت للدكتور طلب منها تحاليل و نجدت كان معاها، وبعد يومين لما راح جاب نتيجتها الدكتور قاله إنها حامل.
هو طبعًا سِمع الكلام دا وقرر يقتلها زي ما عمل قبل كدا، وقتها إحساسه بالنقص زاد أكتر وأكتر، وقتلها فعلًا وكان راضي ومبسوط جدًا، لكن مكملش دقايق والدكتور كلمه وقاله إن التحليل إتبدل مع مريضة تانية وإن ميادة عندها دور برد في معدتها مش أكتر، إنهار وفضل يصرخ ولما طِلعوا عشان يشوفوه لقوه منتحر جمبها، طلبوا الإسعاف لكن للأسف الإتنين كانوا ماتوا.
البرودة، فقط البرودة هي كانت من تُسيطر على أطرافه ثقُلت أنفاسه ليغيم كل شئ من حوله، لقد ظُلمت والدته وهي في بيت والده وفي بيت آخر، وآخر ما استمع إليه هو صراخ شاكر بإسمه عند فقدانه لوعيه.
كاذب من قال أن الأم بئر أسرار لولدها، إتكأ شهاب بذراعيه مُعتدلًا على الفراش، ثم أطلق آنه مُتألمة خافتة من فمه وهو ينظر لقدمه وتلك الجبيرة التي تُحيطها بحسرة.
تذكر ما حدث منذ ساعات عندما أطلقت والدته صرخة من فمها مُستنكرة ومصدومة من حديثه: يلاهوي.
فزع من صراخها فذهب إليها ليُكمم فاهها قائلًا برجاء: بتعملي إيه يا ماما انتِ كدا هتفضحيني.
في ذلك الوقت أتى والده والجميع مُهرولًا على صراخها، بما فيهم بكر وسميحة وإهداء، تسائل سلطان بتعجب عندما هدأ فزعه من رؤيتهم بخير: بتصوتي كدا ليه يا ماجدة!
أمسك شهاب بيدها ليُسرع بمُقاطعتها مُبتسمًا بتوتر: مفيش يا بابا دا إحنا كنا بنسمع فيلم رعب وماما اتخضت.
نفضت ماجدة عن ذراعه بغضب ثم ذهبت تجاه زوجها مُتشدقة بقنوط: شوفت يا سلطان! شوفت اللي ابنك عايز يعمله فينا!
قطب الجميع جبينهم بتعجب، فتسائل بكر مُستفسرًا: إيه اللي حصل بس يا أم شهاب!
أطرقت رأسها بحرج مُصطنع، فلوت شفتيها بحزن مُجيبة إياه بصوت خافت: والله ما عارفة أقولك إيه يا أبو معتصم، مكسوفة منك ومن عمايل المحروس إبني.
ذهبت إليها سميحة لتُجاورها ثم ربتت على ذراعها بحنان: في إيه بس يا ماجدة حيرتينا معاكِ!
ابتلعت ريقها بتوتر مصطنع ثم أشارت ل شهاب المُتصنم من أفعال والدته، مَن يستمع لحديثها الآن يقول بأنه يمشي مع إبنه في الضلال! اتسعت عيناه بصدمة عند حديثها: المحروس إبني حاطط عينه على زينة البيت إهداء، وقال إيه كان جايبلها ورد وشيكولاتة السافل، ويا عالم كان هيعمل إيه تاني!
انتقلت أبصار الجميع بغضب ل شهاب الذي إبتسم ببلاهة، ولم يُلاحظوا تلك التي تكاد تنصهر من الخجل، اقترب منه سلطان بعدما إلتقط العصا الكبيرة التي يحتفظ بها لتربية أولاده قائلًا بهسيس مُرعب أخافه: الكلام اللي بتقوله أمك دا مظبوط!
ارتعشت أطرافه عائدًا للخلف عدة خطوات وهو ينفي برأسه متشدقًا بإرتعاش: والله. والله يا بابا أنا كنت هديها الورد بس!
شمَّر بكر عن ساعديه ليقترب منه هو الآخر يُحدجه بشر: سيبلي الطالعة دي يا سلطان.
نفى سلطان برأسه ضاربًا إياه أول ضرباته على جانب فخذه: لأ أنا اللي هربيه.
أطلق شهاب صرخة مدوية مُتألمة مُمسكًا بقدمه هاتفًا بصياح: يا بابا والله كنت هاجي أقولك بس لما أتقدملها.
هتف بكر صارخًا بغضب وهو يضربه بيده على مُقدمة رأسه: ولما بتحبها كدا متقدمتلهاش دلوقتي ليه! إيه لسه مبلغتش!
كاد أن يُجيبه فوجد عصا أخرى هابطة على ذراعه من والده فصرخ بحدة مُتألمًا، ولم ينتظر لثانية أخرى فهرول من أمامهم مُسرعًا دافعًا إهداء في طريقه وهو يهتف بحسرة: حسبي الله ونعم الوكيل، كل دا بسببك يا بومة.
هرول خلفه والده وعمه لينالوا منه، وصل إلى باب الشقة وفتحه ليهرب، وبالفعل خرج منها لكن تعرقلت قدماه ليسقط من على سلالم المنزل، طالعه الجميع بشماتة وبعدها أحضروا له الطبيب الذي أخبرهم بوجود كسر في قدمه اليُسرى وتحتاج للتجبير.
عاد من ذكرياته وتعابير وجهه مُجعدة بسخط من والدته، أقسم ألا يُخبرها بسرًا مرة أخرى، وإلا ستفضحه في القنوات الفضائية المرة القادمة.
خيالات سوداء تمر من جانبهم، أصوات هسيس مُرعبة تُصدر من الحين للآخر، صوت الرياح الشتوية تُعطي للأمر رعبًا أكبر، وها هو ينكمش بجانب يزن الذي فاض الكيل به ليصرخ بنفاذ صبر: يابني بقا متعصبنيش، متطلعنيش عن شعوري بدل ما أربطك هنا، هو أنا جايب ابن اختي معايا.
طالعه ريان بغضب فتركه وذهب للإمساك ب موسى الذي قهقه عاليًا من أفعاله الحمقاء، أحاطه بذراعيه ثم أردف وهم يسيروا معًا: تعالى يابني محدش هيستحملك غيري.
وصل أربعتهم إلى غرفة مكتب سليم المنشاوي، وظهر ذلك من مظهره الأنيق والمُرتب عكس باقي أفرع الشركة، فتحوا بابه بهدوء فأردف يزن بصوت خافت مُحذر: مهما كان اللي ممكن نشوفه جوا فهيبقى مش حقيقي، هو بيحاول يلاعبنا ودي كلها تخيلات.
وبمجرد ما أنهى حديثه؛ وجد أربع نسخ من سليم المنشاوي تقف أمامهم على هيئة طيوف، لوى موسى شفتيه بإشمئزاز متحدثًا بقرف: ملقاش غير سِحنته العِكرة ويعمل منها أربع نسخ!
بينما أمسك عمر بذراع يزن قائلًا برجاء: هعملها على نفسي والله من كُتر الخوف.
أبعده يزن بتأفف ولا يعلم أيجدها منه أم من المغفل الآخر!
تقدموا للداخل وتفرق كُلًا منهم لمكان يبحثوا في الأدراج المُختلفة، نظر ريان لجهاز الحاسوب الموضوع على المكتب فإتسعت بسمته بحماس مُريب، جلس على أحد المقاعد واضعًا إياه على قدمه يُحاول فتحه، وبعد ثلاث دقائق من المحاولات إستطاع أخيرًا، إبتسم بإنتصار لذاته هامسًا بفخر: الله عليك يا واد يا ريان، قمر وذكي.
دخل على الملفات الخاصة بكاميرات المُراقبة، فوجد العديد والعديد من التسجيلات، حاول تذكر تاريخ القبض عليهم لكن لم تُسعفه ذاكرته، لذلك رفع رأسه يُنادي على موسى فمن الممكن أن يتذكر الوقت الذي قابله به، لكن سرعان ما صرخ بفزع عندما قابله وجه سليم بإبتسامته المقيتة.
انتبه الجميع له فذهبوا إليه ينظروا بتعجب لجهاز الحاسوب، ليتسائل عمر بإستفهام: بتعمل إيه يا ريان!
إستعاد رباطة جأشه مُجيبًا إياه بهدوء: بشوف تسجيلات الكاميرا وقت ما اتقبض علينا ونطلع بإعتراف سليم إن هو اللي لفق لينا القضية أنا و غزل.
صمت قليلًا ثم نظر ل موسى سائلًا إياه: موسى انت قابلتنا يوم إيه!
قطب جبينه لثوانٍ يُحاول التذكر، ثم هتف بحماس: يوم 11/11.
بحث ريان في سجلات الكاميرا قبل ذلك اليوم، ظل يبحث لمدة ربع ساعة تقريبًا إلا أن صرخ بفرحة: لقيته.
قام بفتح الصوت ليستمعوا إلى صوت سليم المنشاوي يتفق مع صديقه فريد بوضع المخدرات لكلًا من غزل وريان بعد أن يتفق مع أحد سائقي الشركة ليقلهم حيثما سيذهبوا، وتوضع تلك العقاقير بالمقاعد الخلفية للسيارة حتى تثبت التُهمة عليهم.
إحتضن موسى ريان بسعادة متشدقًا بسعادة: وأدي دليل برائتك في إيدك أهو، انقله في فلاشة بقا.
ودليل برائتك انت كمان أهو يا موسى.
هتف بها يزن وهو يُمسك ببضعة أوراق تحتوي على الشُحنة التي لفقها سليم له ولرجاله بتوقيع صريح منه وختم من الشركة، يبدو أن النسخة التي قدمها سليم المنشاوي في المحكمة كانت مُزيفة وبالطبع كان للقاضي يد في ذلك.
التمعت عيني موسى بدموع سعيدة للغاية، ليحتضنه ريان بفرحة عارمة هاتفًا بحنان: وفي الآخر العدل هو اللي انتصر يا موسى ودليل برائتنا في إيدينا.
ابتسم عمر بسعادة فذهب ليطوق ذراع إبن عمه قائلًا بغرور: بيحبوا بعض زي ما انت بتحبني بالظبط يا صحبي.
نظر له يزن بحدة، ليسحب عمر يده بتوتر من نظراته، إبتسم يزن إبتسامة جانبية ثم احتضنه قائلًا: فعلاً زي ما أنا بحبك بالظبط ياخويا.
ابتسم عمر لتتسع إبتسامته تدريجيًا ثم بادله العناق بحب أخوي شديد.
بعد وقت قليل تحدث ريان بجدية بعدما استطاع ريان نقل التسجيلات على هاتف عمر: يلا دلوقتي نخرج قبل ما حد يجي وتبقى مشكلة.
وافقه الجميع والتفتوا ليذهبوا كيفما جاءوا من الممر السري، لكن انطلقت صوت الرصاصات تصدح في الأرجاء، تلاها صراخ ريان بإسم موسى الذي وقع أرضًا بحدة وثيابه الغارقة بدمائه.