رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والعشرون
اللحظات الجيدة لا تأتي معًا، فكيفما جاءت فجأةً تذهب فجأةً وتأخذ معها السعادة التي خلفتها منذ قليل، صوت الإصطدام الناتج عن إرتطامه بالأرض الصلبة؛ جعل قلوبهم تخفق خوفًا عليه، وما زاد الأمر رهبةً هي بقعة الدماء التي بدأت بالإتساع حوله رويدًا ليغرق بها.
التفت الجميع بسرعة ليروا عددًا كبيرًا من الرجال المُلثمين، مُتشحين بالسواد، وعلى رأسهم يقف سليم المنشاوي يُسدد لهم نظرة هازئة وعلى ثغره ترتسم إبتسامته المقيتة، ليردف بترحيب متوعد: مش تقولوا إن عندنا ضيوف كُنا وجبَّنا معاكم أكتر من كدا!
هرول ريان إلى موسى ليجلس بجانبه أرضًا وقلبه يطرق بفزع على مظهره، ضرب على وجهه ضربات خفيفة مُتحدثًا بصوت مُرتعش: موسى فتَّح عنيك، متغمضش حليك صاحي.
حدجه موسى بنظرات زائغة مُملتئة بالدموع ولم يقدر على إجابته، فتح فمه للتحدث لكن قدرته قد خفتت تمامًا، ومثلما خفت صوته؛ خفتت طاقته فأغمض عينه شاعرًا بالدوار من شدة نزيفه، مما زاد الهلع بقلب ذلك القابع أمامه.
رأى سليم نظرات الخوف بأعينهم مما زاد من هيستيريا الضحك لديه، خفتت ضحكاته بعد عدة ثوانٍ ثم أردف بعبث ونظرات ذات مغزى: خلاص قوم يا موسى العرض انتهى.
وبمجرد ما أنهى حديثه؛ حتى اعتدل موسى محله دافعًا ريان الذي كاد أن يبكي عن جسده، ثم وقف ذاهبًا تجاه سليم واقفًا بجانبه، وعلى محياه إبتسامة ماكرة قذرة، وزَّع نظراته على الجميع بشماتة مُردفًا بأسف مصطنع: أوعوا تكونوا صدقتوني! والله أزعل.
أنهى حديثه مُطلقًا ضحكة رنانة عالية شاركه بها سليم الذي ضرب على كتفه مُعظمًا إياه بحديثه: لأ جدع يا موسى، عرفت تجيبهم لحد عندي زي ما إتفقنا.
أجابه موسى بفخر: تلميذك يا سليم باشا.
سليم باشا!
رددها ريان بعدم تصديق بعدما إستطاع الوقوف مُجددًا بمساعدة عمر الذي نظر له بشفقة، طالعه موسى بسخرية ثم تحدث بوقاحة: كان نفسي أبقى معاك وآخد حقي من المُزة اللي معاك بس يلا مش مشكلة، تتعوض.
هُنا واتسعت أعين ريان بصدمة وعدم تصديق عندما نوصَّل إلى أن المقصود بها هي غزل، تحولت حدقتاه للغضب ثم هجم عليه حتى كاد أن ينقض عليه، لكن ذراع عمر مَن منعته حتى لا يُقدِموا على أذيته، فصرخ بهياج صائحًا: إسمها ميجيش على لسانك يا زبالة، كنت فاكرك إنسان نضيف بس طلعت متفرقش حاجة عن الزبالة اللي جنبك.
أتاه الرد الساخر منه: انت اللي مُغفل يا حبيبي، أي حد بيقولك كلمة حلوة بتآمن ليه زي الأهبل بالظبط.
شعر ريان بالألم والإختناق بالوقت ذاته، هو ليس كذلك أبدًا، هو لم يُعطي الأمان له إلا بعد فترة كبيرة قضاها معه، ومن خلالها إعتبره كصديق مُخلص، خرج صوته متألمًا وهو يُعاتبه: كنت مفكرك بني آدم.
لم يستمع لرد، لم يجد سوى البرود والجمود من الطرف الآخر، لذلك إستدار موسى ل سليم سائلًا إياه: أي أوامر تانية يا باشا!
هز سليم رأسه بالإيجاب وعيناه تلتمع بوميض غريب، أخرج من جيب حِلته سلاحه ثم أعطاه له آمرًا إياه بشر: خلَّص عليهم.
وبدون تفكير أخذ موسى منه سلاحه ناظرًا للثلاث رجال بشر، وأول من خرج من صمته هو يزن الذي نفخ بملل ناظرًا لساعة معصمه، ثم هتف بتأفف: انجزوا ورايا شغل مش فاضي للعب العيال دا.
رفع سليم حاجبه بإستنكار من جرأته الزائدة تلك، لوى شفتيه بسخرية متشدقًا بمكر: جه الوقت اللي أقابل فيه يزن الرواي بنفسه!
أجابه يزن بوقاحة أصابته في مقتل: عشان الأشكال الوسخة اللي زي أمثالك متقابلش يزن الراوي بسهولة كدا، لازم مكايد ومؤامرات وشغل عصابات بقا.
تهجم وجه سليم بغضب، خاصةً بعد إحراجه أمام رجاله بهذا الشكل المُخجل، أخرج سلاحه الآخر من جيب بنطاله الخلفي ثم وجَّهه أمام وجهه مُتحدثًا بغل: نهايتك هتكون على إيدي النهاردة يا يزن يا راوي.
وضع يزن يده في جيب بنطاله مُصححًا له حديثه وهو ينظر له بإشمئزاز: يزن باشا الراوي بيه يا حقير.
ثم مسح أرنبة أنفه بإصبع إبهامه ناظرًا لوجهه المقيت الذي يُطالعه بغضب، مُردفًا بسخرية ولامبالاة: وبعدين الكلام دا إتقالي كتير من أوباش زيك، فمش جديد يعني.
وإلى هُنا ووصل إلى ذُروة غضبه، سحب زناد مسدسه مُوجهًا إياه ناحية وجهه، ثم تحدث بشراسة: أنا هعرفك الحقير اللي زيي هيعمل إيه.
وما كاد أن يُطلق، حتى إنطلقت الرصاصات، لكن ليس من سلاحه؛ بل من سلاح موسى الذي صوَّبه تجاه صدر سليم ثم أطلق عليه عدة طلقات وهو يُطالعه ببرود وغل شديدان.
وضع سليم يده على معدته وهو يفتح عيناه بقوة ناظرًا له بعدم تصديق، اِحمرَّ وجهه من الألم وحدقتاه كادت أن تخرج من محجرهما، حاول فتح فمه للتحدث؛ فخرج صوته متألمًا بصعوبة: انت، انت...
اقترب موسى من أذنه قائلًا بفحيح: انت وسخ.
ابتعد عنه لينظر لوجهه بشماتة ثم إستطرد حديثه قائلًا: أختي اللي كنت بتهددني بيها أنا وصلتلها، ومش عايز أقولك إنه بمساعدة يزن الراوي، كنت بلعب عليهم. طلعت غبي وأنا اللي بلعب عليك يا مغفل.
ابتعد عنه حتى وقف أمامه بشموخ، بينما هو جلس على رُكبتاه يُحاول التحمل حتى لا يفقد وعيه، ليستكمل موسى حديثه وعلى ثغره إبتسامة ماكرة: بُص جنبك كدا!
غامت عيني سليم بعرقه الغزير الذي هبط عليها، حاول بصعوبة النظر بجانبه حتى نجح في ذلك، صُعق عندما وجد رجاله مُكبلين وقوات الشرطة تُحيط بالجميع، جميع إعترافاته سُجلت وبرئ برائتهم قد ظهر للجميع، وهو الوحيد الذي خسر اللعبة، خسر دُنياه وآخرته.
أشار عمر للضابط بأخذ سليم آمرًا إياه بقسوة: عايزه حي، مش عايزه يموت بالساهل كدا.
إمتثل الضابط لأمره، فأشار لزميله بحمله لوضعه في سيارة الإسعاف المُنتظرة بالأسفل، دخل عليهم مراد مُتسائلًا وهو ينظر للجميع: الكل بخير!
ربت يزن على كتفه مُومئًا له بنعم، ثم تسائل بضجر: إتأخرت كدا ليه! مش قولتلك تعالى بسرعة بدل ما نتصفى!
أجابه مراد ضاحكًا ناظرًا حوله: الرجالة تحت كانوا كتير، وفضلنا مستنيين لحد ما سليم ورجالته يطلعوا عشان ميشكوش في حاجة.
تركهم موسى يتحدثون ثم ذهب إلى ريان المصدوم ولم يخرج من صدمته بعد، أمسك وجهه بيده ثم أردف ضاحكًا: إيه يابني! أومال لو مكنتش عارف اللي هيحصل كنت عملت إيه!
تدَّخل يزن في الحديث نافيًا: لأ، ريان وقتها راح للبنت اللي معاه عشان الوقت كان إتأخر ومسمعش إتفاقنا.
ضرب موسى بيده على رأسه بتذكر، وكاد أن يتحدث؛ فوجد لكمة قوية من ريان تُسَدد لوجهه، تلاه صياحه الغاضب: انت حيوان.
رمى بجُملته ثم تركهم وذهب من أمامهم سريعًا شاعرًا بالنيران تلتهم فؤاده، لوهلة ظن بأن كل هذا حقيقي و موسى خائن! ظن أنه نقد عهده وسيُسلمهم ل سليم المنشاوي كأضحية، انفض الهواء من حوله شاعرًا بالمكان يطبق على أنفاسه، يُريدها الآن، يُريد غزالته لتُهَدِئ من روعه، يُريدُ والدته!
لحق به موسى بعدما دفعه يزن هاتفًا بصرامة: خليك معاه متسيبهوش.
وقف موسى أمامه وهو ينهج من الركض، دفعه ريان من أمامه هاتفًا بإختناق وغضب: وسَّع من قُدامي يا موسى بدل ما أطلَّع غضبي كله عليك.
رفع موسى يده بإستسلام قائلًا بهدوء: ماشي هبعد، بس إهدى انت بس.
قطب ريان جبينه بغضب عارم ولأول مرة يشعر بكل تلك الضغوطات من حوله، اقترب منه موسى ببطئ وبدون سابق إنذار إحتضنه بقوة، عانقه كطفل صغير يحتاج للإحتواء والحنان، قاومه ريان في البداية لكنه إستسلم له ضاربًا بكف يده القوي على ظهره يزجره بقوة: قسمًا بالله يا موسى لولا إنك مفكر إني عارف ومكنتش تعرف إني معرفش حاجة، أنا كنت قطعت علاقتي بيك نهائيًا، متفكرنيش عشان طيب وبسامح بسرعة أبقى مُغفل زي ما قولت من شوية، بس بحاول أدي اللي قدامي الإهتمام والحنان اللي أنا اتحرمت منه وأنا صغير، غير كدا أنا فاهم الدنيا ماشية إزاي من حواليا بس أنا اللي عامل نفسي مش واخد بالي.
حاوط موسى كتفه بذراعٍ واحدة ثم إتجهوا للخارج هاتفًا بمرح: يا ريان يا خويا انت مش مغفل، انت خبيث ومن تحت لتحت ودا بيبان في سفالتك.
ارتسمت إبتسامة صغيرة على ثغر ريان، ثم أدرف بإستنكار أضحكه: دا على أساس إنك برئ بقا وكدا!
قهقه موسى عاليًا مُتابعًا بخبث وعقله يرسم صورتها أمامه: لأ أنا مش برئ أنا وقح، وقُريب أوي الوقاحة دي هتكون من نصيب صاحبة النصيب.
الحقائق دائمًا تكون أصعب من الخيال.
هرع شاكر لغرفته يجلب عطره ذو الرائحة النفاذة، وضع الكثير منه على يده ثم وضعه على أنف فارس الغائب عن الوعي، نبض قلبه بقوة عند تخيله لمكروه قد يُصيبه.
ف فارس قد عوضه عن أبناءه الذي حُرم منهم، هو عقيم وتزوج من قبل ولكن لم يُنجِب، وهذا سبب إنفصاله عن زوجته، ليأتي فارس ويُناديه بأبي، حينها إلتمعت عيناه بدموع الأسى، ومنذ ذلك الوقت يعتبره إبنه الذي لم يُنجبه و فارس يعتبره أبيه الثاني.
تنغض جبين فارس بإنزعاج لتلك الرائحة، فتح عيناه على مهل ليعود إلى الواقع المؤلم، واقع لم يُسبب له سوى الألم والمُعاناة، واقع ظلم والدته وأبعدها عنه، إلتمعت الدموع بعيناه ولم يقدر على منعها، تلك الدمعات نابعة من فؤاده المُحترق على والدته.
هبط شاكر يُقبَّل جبينه بحنان، ثم أردف بحزن: إهدى يا حبيبي عشان ميحصلش ليك حاجة، كل حاجة مقدر ومكتوب عند ربنا، متعملش في نفسك كدا.
استند فارس على ذراعيه ليعتدل، ثم حدج شاكر بنظرات زائغة مُشوشة، سائلًا إياه مباشرةً دون مُراوغة: ليه نجدت شَك فيك انت بالذات مع إنك كُنت صحبه!
تنهد شاكر مُطولًا ناظرًا له بيأس، هو يعلم بعقله العنيد وسيعلم كل الحقيقة اليوم، بدأت ذاكرته تعود مرة أخرى لذلك اليوم، ليشرد وهو يروي بأسى: نجدت كان صحبي زي ما قولتلك، فكان قايلي على كل حاجة، ومن غير دخول في تفاصيل هو دا السبب اللي خلى أخواتي يقاطعوني، بس دا مش موضوعنا دلوقتي.
المهم إنه في يوم لما راح الشغل، وقتها أنا قولت هروحله بيته عشان أحذره من اللي بيعمله دا، عيلة أبو زيد مش هترحمه لو عرفوا الحقيقة مع إنه إبنهم، بس أنا ملقتهوش في بيته ولقيت ميادة الله يرحمها، كانت ست طيبة وبشوشة وعلى نياتها، وقتها نجدت ولقاها واقفة معايا على الباب، وعلشان عقله ومفكر الناس زيه؛ فكر إنها بتلاغيني وخصوصًا إنها زي ما قولتلك كانت بشوشة وبتضحك في وش أي حد، اتخانقنا أنا وهو وقاطعنا بعض فترة، بس وقتها فكرت لو أنا مكانه وبحب مراتي وبغير عليها ممكن أفكر كدا، حاولت أحطله أي عُذر، وقررت للمرة التانية أروحله بيته وأعتذرله وأرجَّع العلاقات من تاني، كان يوم جمعة وكنت عارف إنه يوم أجازته عشان كدا روحتله، وللأسف ملقتهوش هناك، وخرجت بسرعة عشان لو جه فجأة ولا حاجة، بس للأسف كان شافني وأنا خارج، وطِلع ضربها وشتمها ودا كله أنا معرفش عنه حاجة، لحد ما في يوم لقيت مرات أخويا بتحكي صدفة قدامي إنها شافت وِش ميادة موَرم وعليه كدمات، وقتها عرفت إني السبب بدون قصدي ولا عِلم مني، ومن تاني يوم ميادة تعبت وراحت عملت تحاليل والباقي أنا حكيتهولك.
كان فارس يستمع إليه بقلب نازف على والدته، ظُلمت وقُتلت على يد من يرحم، وهو مَن كان يظن أن عائلة أبو زيد كاملة مشتركة في ذلك! لكن تفكيره كان خاطئ، بل ذلك النكرة هو سبب كل هذا العناء، أنزل شاكر رأسه مُتابعًا بألم: ولما جالي الورقة اللي كانت مكتوبة بإسمي من نجدت قبل ما يموت وهو بيحكيلي كل حاجة فيها أنا وقتها إنهارت وحسيت إن أنا السبب.
هبطت دموع فارس، فحاول التحكم في ذاته أمام شاكر على الأقل، ليُمسك بيده قائلًا بحنان: متقولش كدا يا بابا، انت ملكش ذنب، الذنب الوحيد على الحقير اللي مات، ربنا يجحمه، عمري ما هسامحه ولا أمي هتسامحه.
ابتسم له شاكر إبتسامة باهتة حنونة، ثم جذبه من يده ناحية الغرفة قائلًا بصرامة مُزيفة: يلا علشان تنام، هتبات معايا النهاردة، بقالك كتير مش بتيجي.
وللحقيقة لم يُجادل، يشعر بخمول شديد في رأسه، يتوقَ للنوم وللنسيان، تمدد على الفراش وبجانبه شاكر الذي بدأ بقراءة آيات قرآنية قصيرة، حتى ذهب في النوم العميق، هاربًا من العالم ومن البشر.
لم تنم، ولم تَذُق عيناها عيناها طعم النوم منذ مغادرته، ظلت مُستيقظة حتى أوشكت الشمس على السطوع، خائفة بشدة وهي هُنا وحيدة بدونه، تشتاقه حد اللعنة، حزينة لإحزانه، لكن بنفس الوقت ليست نادمة، نفخت الهواء الذي برئتيها مُتمتمة مع ذاتها بصوت خفيض بقلق: يا ترى انت فين بس يا ريان!
أنا هنا يا قلب ريان.
أتاه همسه العاشق، لتستدير بفزع من مجيئه فجأة، وضعت يدها على صدرها هامسة بهلع: حرام عليك خضتني.
أغمض عيناه بعبث وهو يقترب منها ببطئ أربكها: سلامتك من الخضة يا غزالتي.
ابتلعت ريقها بإرتباك وهي تعود تلك الخطوات التي تقدمها، لتقول مُحاولةً في إلهائه عن عبثه الذي يُهلِكها: ك. كنت فين!
اقترب منها أكثر وهي تعود أيضًا حتى إصتطدم ظهرها بالحائط وهو أمامها مُباشرةً يضع ذراعيه بحانبها يُحيطها من الجانبين، أنزل رأسه لمستوى أذنيها ثم أردف بهمس خافت: كنت بجيب دليل برائتنا، اللي هيخلينا نتجوز ونتلم في بيت واحد.
كان صدرها يعلو ويهبط من مشاعرها التي بعثرها هو، لكن بمجرد ما نطق بكلامته؛ حتى فتحت عيناها ناطقة بصدمة وسعادة: بتتكلم جد!
انشرح قلبه لسعادتها، فهز رأسه بالإيجاب، راسمًا على ثغره إبتسامة جميلة، وعيناه الرمادية اللامعة تجول على تفاصيلها المُحببة لقلبه، اسند رأسه على جبهتها ثم همس بصوت عاشق جياش بالفصحى:
وأسبلتُ عيناي لتفاصيلك، لأغرق في التفاصيل وأُحِبِك.
فتحت غزل عيناها الدامعة تنظر له بعشق، لتردف بشغف مُماثل له: عيناكَ أحبائي، وأنا بهما هائمة.
صمتت قليلًا ثم أردفت: بحبك أوي، زمش هحب حد زيك.
اعتدل في وقفته ثم سألها بحذر: ممكن أعمل حاجة واحدة بس!
أغمضت عيناها بشك تُطالعه بدون فهم: حاجة إيه!
لم يُجيبها، ولم يتحدث، بل احتضنها فقط دون أن ينبث ببنت شفة، احتضنها بقوة مُحيطًا بخصرها وهو يُغمض عيناه بألم، يُريدها جانبه للأبد، يُريدها له فقط، ومع إثبات برائتهم يسفترقوا بسبب عائلاتهم.
هبطت دموعها بألم شاعرة بالمضخة التي أسفل يديها، قلبه ينبض بقوة لأجلها، تشعر بأنها النهاية، العداوة التي بين العائلتان ستُفرَّق بينهما، مغفلان لا يعلمان بأنها أوشكت على الإنتهاء، سمعت همسه الحزين:
أوقات ببقى نفسي نفضل هربانين العُمر كله بس نكون سوا، بس برجع وبقول إنك تستاهلي عيشة أحسن من دي، تستاهلي إني أفتخر بيكِ قدام الناس كلها وأقول إنك مراتي من غير ما أخاف أو أستخبى، انتِ تستاهلي كل حاجة حلوة.
خرجت من أحضانه لتُحيط بوجهه وهي تتحدث بحنان: هنفضل سوا ومش هنبعد صدقني، هفضل معاك وفي ضهرك دايمًا، هكون مراتك قدام الناس كلها ومش هنهرب، هكون معاك وليك لوحدك يا ريان.
امممم وبعدين!
شهقا بفزع عندما جاء ذلك الصوت المُتابع لحديثهم منذ البداية بوجه هائم وهو يبتسم ببلاهة، التفتا لذلك الصوت فلم يجدا سوى موسى وبجانبه كُلًا من يزن وعمر ومراد وجميع قوات الشرطة!
فتحت غزل عيناها بصدمة، لتختبأ خلف ريان تُداري من خجلها، التفت يزن ل عمر مُتحدثًا ببرود: خُدهم أداب واحبسهم في زنزانة واحدة.
صدحت ضحكات موسى عاليًا بمرح، ليردف بحديث وقح ذات مغزى أوقح: هنِرجع بعدين هنلاقيهم بقوا تلاتة مش اتنين بس.
أمسك ريان ببعض الأحجار، قاذفًا إياهم تجاه موسى متشدقًا بصراخ: بس يا حيوان يا سافل.
صمت قليلًا ثم أكمل بعبث: أنا مش هسمح غير بتوأم.
كتم صوت تأوهه المتألم عندما غرزت غزل أظافرها بلحم ظهره، ليُعدَّل من حديثه مُردفًا بصوت مكتوم متألم: بس كله بالحلال.
قطع عمر حديثهم مُتحدثًا بجدية بحتة ليظهر بوضع الصرامة أمام القوات: المهم، انتوا مطلوب القبض عليكم.
إيه!
نطق بها ريان بصدمة، ليُطمئنه بقوله: دي إجراءات روتينية وإن شاء الله على بكرة أو بعده بالكتير هتعيشوا حياتكم بطريقة طبيعية.
حلت الراحة على وجوه الجميع، والسعادة على وجه كُلًا من غزل وريان، أمسك بيدها ثم خرجوا من الكهف ليصعدوا إلى سيارات الشرطة من الخلف بعد أن وُضع بيدهم الأصفاد الحديدية.
جلس كُلًا من ريان وغزل جانب بعضهم، مُقيدين بأصفاد مُشتركة، نظروا لها مُبتسمين، مُتذكرين أول لقاء لهم، لقاء بدأ بأصفاد حديدية مُقيدين بها وعِراك، وانتهى بنفس تلك الأصفاد، لكن بعد أن كُتب عليهم الحب، وحلَّت عليهم لعنة العشق، عشق شُيد بأنساج قوية يصُعب فكاكها، صمتوا. والعيون فقط من تتحدث، ولغة العيون هي أكثر لغات العالم هيامًا.
حل الصباح، وشمس يومٍ جديد تظهر على إستحياء، لتدخل مُقتحمة الأرجاء، وها هو جاء الغائب للمشتاق، وعاد لموطنه، طرق محمود على باب منزل إبراهيم أبو زيد لتفتح له فوزية، التي ما إن رأته حتى هللت بسعادة: محمود! حمدالله على سلامتك يا حبيبي.
احتضنها محمود بود: الله يسلمك يا حماتي، أومال عمي إبراهيم فين!
جاءه صوت إبراهيم الذي خرج لتوه، فعانقه بود مردفًا بسعادة: حمدالله على سلامتك يا حبيبي، مقولتش إنك جاي ليه كنت جيت استقبلتك بنفسي!
أعطى محمود علبة الحلوى المُغلفة ل فوزية ثم أجابه مبتسمًا: حبيت أعملها ليكم مفاجأة.
في تلك الأثناء، خرجت ميران مصدومة عندما استمعت لصوته، ظنت بأنها تتهيأ مجيئه، فلو كان سيأتي لأخبرها في الهاتف عند حديثهم منذ قليل، فتحت عيناها بدهشة عندما رأته أمامها، لتصرخ بإسمه بفرحة أفزعتهم: محمود!
نطقت إسمه ثم هرولت تجاهه فاتحة ذراعيها في نية لإحتضانه، لكن قاطعها صراخ والدها بها: هتعملي إيه يا قليلة الرباية!
توقفت محلها فجأة ناظرة له بغباء، ثم أشارت تجاه ذلك الواقف يكتم ضحكته وإشتياقة بصعوبة، مُردفة ببلاهة: هحضنه.
خلع والدها نعله عن قدميه ثم قذفه تجاهها صارخًا بغضب: تحضني مين يا حيوانة! وأنا واقف بقرون مش مالي عينك!
ضربت بقدمها الأرض صائحة بضجر: يا بابا ما هو كان مسافر يعني عادي!
تشنج وجه والدها مُكررًا كلمتها الأخيرة بإستنكار: عادي!
نظر لها ثم أشار للداخل بصياح: ادخلي يابت جوا البسي حاجة عِدلة تقابلي بيها خطيبك بدل ما أتبرى منك.
نظرت لبيچامتها الكرتونية الواسعة ثم عادت للنظر لوالدها مرة أخرى بسخط ولم تُعقب، استدارت ذاهبة لغرفتها حتى وصلت إلى بابها، كادت أن تدلف للداخل فإستدارت ناظرة له مُستغلة إنشغال الجميع معه، لتطبع قُبلة له في الهواء مع غمزة عابثة من عيناها الوقحة، ثم دلفت للداخل مُجددًا.
أما هو فقد صُدم من فعلتها، ودَّ إحتضانها أمام عائلتها وتقبيلها وتبًا للجميع بعد ذلك، حاول السيطرة على أفكاره المنحرفة التي سببتها تلك الوقحة والإنسجام معهم، لكن عقله أبى التفكر سوى بها، يُفكر ماذا تفعل بالداخل الآن!
تجهزت للذهاب لمكان عملها، دخلت وصال للداخل وقلبها يقرع بعنف، اليوم غير باقي الأيام، ليلة أمس قال بأنه سيتزوجها، واليوم هي في مواجهة له، سيقولها مُباشرةً، لكن عقلها يُعنفها، يُخبرها بأن تقول له الحقيقة كاملة، هي تُنكر أنها تميل له وتشعر بالإنجذاب تجاهه، لذلك يجب أن تبدأ معه بصفحة بيضاء.
كان يجلس بالمدخل مُنتظرًا إياها، لاحظ توقفها وشرودها، حتى أنها سارت لتجلس بالمكان الذي تجلس به دائمًا ولم تُلاحظه! فتح عيناه عندما كادت أن تجلس على قدماه بدون وعي، ليصرخ عاليًا: استغفر الله العظيم.
صرخت بفزع من صراخه لتبتعد عنه لاإراديًا برعب، لم تفهم شئ ولا سبب صراخه، كادت أن تُعنفه فوجدته يقول بسخط وهو يلوح بيده عاليًا: ما هو مش معني إني قولتلك هتجوزك يبقى تقعدي على رجلي على طول كدا! في قبلها كتب كتاب يا ماما مش سداح مداح هي!
طالعته بصدمة وقد شُل لسانها عن الحديث، لتُردف ببلاهة: انت، انت، انت.
أشاح بيده بعيدًا، ثم ذهب ليجلب كرسي آخر ليجلس عليه، تزامنًا مع حديثه: أنا إيه بس يا شيخة! اتقي الله.
رفعت سبابتها بعدما تقدمت لتقف أمامها، مُشيرة أمام وجهه: على فكرة أنا مش قصدي ومكنتش شايفاك.
جلس على المقعد الآخر بعيدًا عنها بمسافة نسبية ثم تحدث بعبث: مصدقك يا غالية، اقعدي بقا خليني أقول الكلمتين اللي عندي.
ذهب الوجوم، وحلَّ محله الإرتباك والخجل، عضت على شفتيها ثم ذهبت ببطئ للجلوس على المقعد الآخر المُقابل له، ربع يديه أمام صدره ثم تحدث بجدية وهو يُحيد ببصره عنها: دلوقتي يا بنت الناس أنا حاسس بقبول ناحيتك وعايز أتقدملك، فكنت حابب أعرف رأيك وهل انتِ موافقة ولا لأ؟
فركت يدها معًا وهي تشعر بالتوتر يعتريها، خائفة من إخباره فيقوم أحمد بفضحها أمامه عندما يعلم بأمر الخِطبة، خرج صوتها مُتلعثمًا بعد عدة دقائق يُشاهد بها توترها وخوفها: أنا، أنا عايزة أقولك حاجة.
هز رأسه مُشجعًا إياها على الحديث، لتبدأ هي بقص كل شئ من البداية، لم تكذب عليه ولو بكلمة واحدة، كانت تُلاحظ ملامح وجهه التي تتحول للجمود والقسوة عندما تتعمق بالحديث، كانت أطرافها ترتجف خوفًا لكنها حسمت أمرها بعدم الكذب، أنهت حديثها لتنظر له بترقب مُنتظرة ردة فعله، لكنه لم يفعل أي شئ، ظل ناظرًا لها بجمود حتى وقف محله مُتحدثًا بملامح مُبهمة بلا تعابير: انسي اللي قولته كله، عن اذنك.
ذهب وتركها تنظر لأثره بصدمة، ابتلعت ريقها بصعوبة فشعرت به كالعلقم في حلقها، تجمعت الدموع بحدقتاها وظلت أطرافها مُتيبسة لفترة، حتى استطاعت بعد دقائق أن تُسيطر على نفسها، شهقت رغمًا عنها كاتمة صوت بكاؤها بيدها، لكم شعرت بأنها حقيرة في تلك الأثناء، شعرت بأنها مجرد دُمية يُحركها كما يشاء، لكنها لا تلومه على شئ، هذا حقه ولم يُخطئ، لملمت شتاتها ثم أمسكت بحقيبتها وذهبت، ذهبت وأقسمت على عدم العودة مرة أخرى، غافلة عن عيناه التي تابعتها بحسرة.
بعد ثلاثة أيام من التحقيقات، كان هذا وقت الحُكم النهائي الخاص بثلاثتهم، فقد كانت الشرطة في الأيام الماضية تُحقق في قضيتهم، جلبوا فريد وهو صديق سليم المُقرب والذي يعلم عن جميع أعماله القذرة، وأكد على عدم تورط موسى ورجاله بالقضية التي أُثبتت عليه، وما هي إلا مكيدة للإيقاع بهم، وكذلك ريان وغزل اللذان تم تلفيق التُهمة على كليهما، بوضع العقاقير المُخدرة في أحد السيارات التابعة لرجالهم للتخلص منهم، لكن لم يأتي بخاطرهم أن يستطيعوا الهرب.
جاء القاضي ومن معه ليُصيح مساعده عاليًا عن بدأ الجلسة، وقف الجميع ثم جلسوا مُجددًا بأمر من القاضي الذي أمسك بالأوراق بين يديه يُطالعها بإنتباه، وذلك المُحامي الذي وُكِل لهم من جهة يزن الراوي للدفاع عنهم.
وبعد وقت من المُرافعات وتقديم الأدلة التي تُثبت برائتهم، صاح القاضي عاليًا ناطقًا بحكمه: حكمت المحكمة حضوريًا، على المتهمون ريان منصور الطحاوي، موسى عادل زهران، و غزل إبراهيم أبو زيد، بالبرائة.