رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل السادس عشر
لم يكن لهم سبيلٌ للإستيعاب، مصدر نجاتهم الوحيد قد قُتل، دليل برائتهم قد ذهب، ابتلعوا ريقهم ثم اقتربوا من جثته الجاثمة على الأرض الصلبة، دمائه مُتحجرة، يبدو أن الجريمة تمت قبل مجيئهم بكثير، وجدوا كثيرًا من الأوراق المُبعثرة حوله، ارتبكت حواسهم عندما استمعوا لصوت صافرة سيارات الشرطة، وك رد فعل تلقائي لطم ريان على وجهه متمتمًا بولولة: اتقفشنا. رُحنا في داهية. يا خرابي على شبابك يا ريان، يلهوي. يلهوي. يلهوي.
ودت غزل في تلك اللحظة أن تنقض عليه وتُبرحه ضربًا، هذا المُغفل سيضعهم داخل مصيدة حُيكت لهم ببراعة للإيقاع بهم، ضربته على ذراعه بقسوة ثم قالت موبخة إياه: اسكت خالص دلوقتي.
توقف عن نواحه ثم نظر لها بجمود، مُشيرًا تجاه مكان ضربتها: انتِ ضربتيني دلوقتي!
كادت أن تصرخ به؛ لكن وجدت ملامح وجهه تدل على الجدية الشديدة، وللحقيقة هي توترت، ابتسمت بغباء وهي تضع يدها مكان ضربته: ك. كنت بهزر.
حُلت عُقدة وجهه ليحل محلها إبتسامة عريضة ثم أردف قائلًا: تمام، يلا نهرب.
نظرت له غزل بسخط، وفي أقل من الثانية كانت تُلملم تلك الأوراق المُبعثرة حول جُثة منير المنشاوي، قطب ريان جبينه مُتسائلًا بتعجب: بتلمي الورق دا ليه!
ارتدت ثوب المُحاماة ثم أردفت شارحة وهم يتجهوا ناحية الشُرفة الكبيرة المُطلة على الشارع الخلفي للمنزل: أكيد هنلاقي حاجة تفيدنا في الأوراق دي، ما هي مش هتبقى موجودة لله وللوطن، أكيد اللي قتل منير المنشاوي كان بيدور على حاجة، وسواء لقاها أو ملقهاش فهو في النهاية قتله وعرف خطته معانا وقرر يلبسنا الليلة دي كلها.
حديثها كان واقعي ومُقنع، بينما ريان كان ينظر للأوراق بخوف، وعندما لاحظت نظراته تسائلت بتعجب: مالك! بتبص للورق كدا ليه!
ابتلع ريقه بقلق ثم أفصح عن مخاوفه قائلًا: طيب افرضي كانت روحه لِبست الورق دا، احنا هيبقى إيه وضعنا! هنموت ملبوسين.
حقًا أصبح الأمر لا يُحتمل، أرادت أن تبكي وتصرخ بآنٍ واحد، ماذا إن قتلته وهربت! بالطبع سيكون الأمر رائع.
نظرت له بشر وكأنها تُفكر في تلك الفكرة التي راودت عقلها، حدجها بقلق مُبتعدًا عنها وهو يبتلع ريقه بخوف: بتبصيلي كدا ليه!
همست بفحيح وهي تُمسك بمقص الأزهار لتوجهه إلى رقبته: بفكر اقتلك وأخلص منك بالمرة.
ارتعدت فرائسه ثم قال بنبرة بريئة وحزينة: خلاص مش هعمل كدا تاني.
واللعنة على تلك البراءة، والجمال المتجمعين بشخصيته، لا تعلم أهو أحمق أم برئ، قاسي أم حنون، طيِّب أم ماكر، لا تعلم حقًا، لكنها تعتقد أن كل تلك الصفات به، وبدون مبالغة هو طفل في زي رجل ناضج وبرئ.
استمعوا إلى صوت الأقدام الكثيرة ومن ثم طرقهم على الباب الذي أغلقوه خلفهم، تحولت ملامح ريان للجدية الشديدة وهو يأمر غزل بصرامة للصعود على كتفه ثم تعلقها بذلك السور البارز من الشُرفة، وبالفعل نجحت في ذلك بعد محاولتين على الأكثر.
بينما هو جاورها مُسرعًا، فقد ساعدته بنيته القوية في فعلها في أقل من الثانية، مشوا بحذر على الأطراف البارزة، كان كل هَم ريان هو غزل، خاف أن تنزلق قدماها فتتسبب في أذيتها، لذلك أمسك بخصرها بذراع، وبالذراع الأخر يُمسك بالحافة.
توترت بشدة من فعلته التلقائية، أحس برعشتها تحت يده؛ ليقترب من أذنها هامسًا لها بصوت خفيض: متخافيش أنا معاكِ، أنا ماسكك بس عشان متقعيش.
أومأت له بصمت، ثم وبحذر هبطت من على مواسير المياه والتي ساعدتهم كثيرًا في الهبوط، ولحُسن حظهم كان المنزل في الدور الثاني، أي على مقربة من الشارع الخلفي.
جاء دور ريان للهبوط فتعرقل وسقط على زجاجة حادة غُرزت في جانبه، تأوه بصوت مكتوم رغم آلامه الشديدة، بينما غزل شهقت بحدة وهرولت له سريعًا بخوف، جلست جانبه وهي تكاد تفقد وعيها من القلق، تكونت طبقة رقيقة من الدموع على مقلتاها وهي تهمس له بإرتعاشة: ر. ريان انت كويس.
حاول عدم إقلاقها لذلك أومأ لها بنعم، ثم اعتدل بحذر ليرى جُرح جانبه، وجد الزجاجة قد جرحت طرفه فقط، ولحُسن حظه لم تُغرز للداخل، تنفس بإرتياح حقيقي، لوهلة شعر بأنه على مشارف الموت وأنها نهايته.
لاحظ بكاء الآخرى ليبتسم لها إبتسامة جميلة قبل أن يمسح دماعتها: متقلقيش أنا كويس قدامك أهو، دا جرح بسيط خالص والله، حتى شوفي.
أنهى حديثه ثم رفع قميصه ليُريها جرحه، شهقت بخجل ثم أدرات وجهها للناحية الأخرى لتتحول تعبيراته إلى الخبث والمكر: لأ والله ما ينفع لازم تشوفي.
همست له بضجر خافت: عيب كدا مينفعش.
عبس ثم وقف أمامها متشدقًا بمكر: مش هتطمني عليا!
أردات أن تُخفي خجلها خلف قناع الغضب الزائف؛ لذلك أدرفت بحدة: لا مش هتطمن، ويلا بقا قبل ما نتقفش المرادي بجد.
وللمرة الثانية تُصيح بوجهه، أردف بجمود مُريب للمرة الثانية: انتِ بتزعقيلي تاني!
هزت رأسها سريعًا وهي تضع يدها على فمها، أراد أن ينفجر ضحكًا على مظهرها ذلك، لكن، ليلعب على وتر خجلها أولًا، اقترب منها ببطئ أربكها، ثم وقف أمامها مُباشرةً هامسًا: يلا نمشي.
تجمدت مكانها ونظرت لأثره بصدمة، التفتت فوجدته يذهب وصوت ضحكاته يعلو شيئًا فشيئًا، حدجته بغضب لكن ثوانٍ ووجدت نفسها تبتسم لا إراديًا، هذا الريان خطر وبشدة عليها وعلى، قلبها!
.
اتفضل يا نجدت.
دلف نجدت إلى منزل صديقه المقرب سلطان، ليحتضنه الأخير بود وأخوة، ربت على ذراعه مردفًا: عامل إيه يا نجدت! وأخبار شغلك إيه!
تنهد نجدت مطولًا وعيناه تدور على أنحاء المنزل قائلًا: أنا بخير والحمد لله يا سلطان، والشغل فيه شوية مشاكل كدا بس أهي ماشية.
جاءت زوجة سلطان والتي وجهَّت حديثها ل نجدت تُحييه بإحترام: إزيك يا أستاذ نجدت!
رد عليها مدعيَّا الإحترام: الحمد لله يا ست أم فارس.
يدوم الحمد يارب.
ثم وجهت حديثها لزوجها: أعملكوا حاجة تشربوها يا أبو فارس!
اعملي كوبايتين شاي يا ميادة.
عنيا حاضر، دقيقتين والشاي هيكون جاهز.
ذهبت للمطبخ وظلت أنظار ذلك الحقير تُلاحقها من الخلف، جميلة هي والكل يشهد بذلك، لكن هي تروقه وبشدة، حتى لو كانت زوجة أقرب أصدقائه.
خرج من تفكيره على صوت سلطان المتسائل بجدية: لسه بتشتغل في الشغل البطال بتاعك يا صحبي!
زفر نجدت بضيق، لم يُريد أن يتطرق لتلك السيرة عن أعماله المشبوهة والرشاوي التي يقتنيها من العملاء والموظفين للغش في أعمالهم، لذلك اختصر حديثه قائلًا بزيف: طبعًا يا سلطان، أنا ربنا تاب عليا وصلح حالي الحمد لله.
ربت على قدمه قائلًا بفخر: خير ما عملت والله يا صحبي، وربنا أكيد هيعوضك خير.
رد عليه الآخر بتأكيد زائف وخبيث: أكيد طبعًا.
جاءت ميادة وهي تحمل أقداح الشاي، ثم انحنت لتضعهم أمامهم، لم يغفل ذلك الذئب عن مراقبة فريسته، بل استباح لنفسه بالتعدي على حُرمة الآخرين، ولم يكن سوى صديقه.
دخل عليهم في ذلك الوقت فارس الذي كان في مرحلة مراهقته في الخامسة عشر من عمره، وبالرغم من ذلك أصرَّ على مساعدة والده في دخل المنزل، وذلك لضيق أحوالهم في ذلك الوقت.
انمحت ابتسامته عند رؤيته لصديق والده نجدت، هو في الأساس لا يُطيقه ولا يُطيق وجوده، ومع ذلك صمت إحترامًا لأبيه، ألقى عليهم السلام ثم قبَّل يد كُلًا من أبيه وأمه، ثم دلف إلى غرفته لتبديل ثيابه والنوم ليستريح قليلًا من عناء اليوم.
وبعد إنقضاء ساعة كاملة، وقف نجدت للخروج، وبعد السلام والتحية من الطرفين خرج من المنزل بأكمله، وبالطبع لم ينسى أن يرمي نظرة ماكرة ل ميادة التي لاحظت نظراته لها من البداية، لكنها لم تهتم.
وأثناء خروجه من العمارة التابعة للعائلة وجدها هي، ماجدة (والدة شهاب) صديقة ميادة ذلك الوقت، كانت تعلم بنظراته الماكرة تجاه صديقتها، وعند رؤيته له يخرج من البناية وقفت أمامه تقطع طريقه، وقبل أن يهم بالحديث قاطعته دون مراوغة: عجباك وعايزها صح!
قطب نجدت جبينه بعدم فهم ثم تسائل: هي مين دي!
ضحكت ضحكة خافتة ثم رددت ببرود: ميادة.
شعور بالشلل أصابه ولم يقدر على الحراك، فأكملت هي: هساعدك تاخدها، وفي المقابل هتجوز أنا سلطان.
...
خرجت ماجدة من ذكرياتها على صوت طرق الباب، لتمسح دمعاتها المُتسللة ثم وقفت لتفتح الباب.
وجدت ابنها شهاب أمامها يُطالعها بضجر، أعطاها بعض الوريقات من النقود متحدثًا بغضب طفولي وهو يمط شفتيه للأمام: بيقولك بابا دا مصروف البيت يا آنسة ماجدة.
تشنج وجهها بإستنكار، ثم أخذت المال منه، مُردفة قبل أن تُغلق الباب في وجهه: أومال لو مكنتش مخلفة شحط زيك كنت هتقولي إيه!
وقف محله ينظر للباب المُغلق بدهشة، حمحم بحرج ثم نظر حوله؛ ليلمح والده يُطالعه بشماتة، فأردف ببسمة بلهاء: أكيد مش قصدها، إن شاء الله مش هيكون بقصدها يعني.
دلف فارس لغرفة زهر فوجدها تجلس على الفراش ناظرة للتلفاز بغيظ، سمع همسها الغاضب وهي تُتمتم بغيظ: بقا مدثر يقول لبنتي يا لبابة القلب و فارس عمره حتى ما لمحلي بيها! واللهِ لهنكد عليك يا فارس النهاردة.
لعن فارس ذلك الصغير في سره، فهو دائمًا ما يؤرق سعادته مع ابنته، والآن أصبح ابنته وزوجته أيضًا.
دخل بضع خطوات وكاد أن يتحدث؛ حتى استمع إلى صوت تلك الشيطانة الصغيرة تردف بغضب طفولى لوالدتها: شايفة جوزك وعمايله! هو كل شوية ينطلي أنا و مدثر كدا! وبعدين دا حتى مكلفش خاطره يجي يشوفك زعلانة منه ليه.
نظرت زهر لإبنتها بطرف عينها بغضب، فهي أحيانًا كثيرة تشعر بأنها تُحدِث إمرأة ناضجة وليس طفلة في سن الخامسة، لتردف بحدة: يعني عايزاني أعمل إيه يعني!
وضعت يدها في خاصرها بعدما استندت على ركبتيها: اتطلقي طبعًا، ونمشي أنا وانتِ وناخد معانا مدثر عشان دا هيبقى جوزي.
جوزوكِ لقطر يعدي عليكِ يا بعيدة، انتِ إيه يا بت انتِ! عملي الأسود في الدنيا! تخليص ذنوب!
صرخ بها وهو يكاد يقتلع خصلات شعره بعدم تصديق، أهذه طفلة حقًا! وضع يده على قلبه هامسًا: أخرتي هتكون على إيد بنت ال دي.
رفعت له لوچي حاجبها، ثم نظرت لظهر مُشيرة له وهي تردف بإشمئزاز: شايفة بيتكلم إزاي يا مامي! شايفة طريقته البيئة! أنا مش عارفة انتِ اتجوزتيه إزاي.
تشنج وجهه من طريقتها المُتحدثة بها، طفح به الكيل؛ ليقترب منها بخطوات بطيئة حتى وقف قبالتها، حملها من ثيابها حتى باتت أمامه مباشرةً، ثم تحدث بفحيح: أنا ماسك نفسي عنك بالعافية، هعد لتلاتة، عارفة لو لقيتك قدامي هعمل فيكِ إيه! هعلقك على باب البيت وكل اللي رايح واللي جاي هيفضل يضرب فيكِ يا قلب أبوكِ، وبعدها هحطك في ميتم ومش هخلي الدبان الأزرق يعرف طريقك يا أكبر غلطة في حياتي.
ابتلعت لوچي ريقها بذعر، هزت رأسها موافقة على حديثه، ثم همست بصوت مبحوح: ح. حاضر يا. يا بابي.
أنزلها وما كاد أن يبدأ بالعد؛ حتى وجدها تهرول إلى غرفتها هلعًا، تشكلت إبتسامة جانبية على ثغره وهو يمسح على صدره بغرور، ثم استدار إلى زوجته التي تحاول أن تُخفي إبتسامتها عنه، جلس ملتصقًا بها هامسًا بعتاب مُضحك: يعني حد يخفي الضحكة اللي زيك القمر دي! طب واللهِ عيب.
رسمت زهر علامات الضجر على وجهها، ثم ابتعدت عنه قائلة: متكلمنيش لحد ما تعاكسني زي ما مدثر بيعاكس لوچي.
لوى فارس شفتيه بإستنكار مُرددًا: طب بذمتك مش مكسوفة وانتِ بتقولي إن بنتك بتتشقط! دا بدل ما تتحمقي عليها!
ربعت عن ساعديها ثم أردفت بغضب: مش موضوعنا، المهم متكلمنيش تاني.
حاول إسترضائها بحديثه الماكر والوقح: يا هبلة الحاجات اللي عايز أقولهالك مش بتتحكي، دي بتتنفذ على طول.
وللحقيقة قد نجح في ذلك، فقد وضعت يدها على وجهها خجلًا، لقد نجح ذلك الخبيث في إسترضائها، لكنها ظلت على موقفها قائلة: برضه هتغازلني بالفصحى.
أمسك بها من ذراعها مردفًا بخبث: احنا نخلينا في العملي دلوقتي، ونشوف النظري بعدين.
أ
سبوع عاشته بكل معاني الفرح والسعادة، تشعر بأنها تُحلق في السحاب عاليًا، تطيرُ فرحًا وبهجة، حضرته كالماء، إذا وُجِد؛ اِرتوت، وإذا ذهب؛ تظمأ شوقًا إليه.
جلست نوال في شرفة غرفتها تتطلع للأراضي الزراعية بجانب منزلهم، تتذكر الأيام الماضية، كان يُدللها كطفلته، يرعاها كأباها، يهتم بها كإبنته، هو رمز للحنان والدفئ، بدر الرجال كما تُناديه دائمًا، هي أكثر من محظوظة لوجود شخص كهذا في حياتها، مُمتنة لتلك الظروف التي جمعتها به، ولو عاد الزمان لألف مرة؛ لكانت قد كررت خطأها مُجددًا ليأتي ويقوم بإنقاذها بكل بسالة كما فعل سابقًا.
انتفضت بفزع عندما وجدت يد تُخيط بها من خصرها فجأة، ثوانٍ وهدأت عندما استمعت لصوت ضحكاته المشاكسة ترن في الأرجاء، وصوته المُداعب لحواسها يهتف بها: مالِك يا حبة الجلب! بجيتي تتخضي على طول إياك!
التفتت له نصف إلتفاتة ومازالت مُحاطة تحت سطوته، لتقول بمزاح: لا مش اتخصيت يا بدر الرجال، عشان متأكدة إن محدش هيعمل كدا غير انت.
وه! أنا جلبي إجده ميستحملش الدلال دا واصل.
أنهي حديثه وهو يطبع قُبلة رقيقة على وجنتها التي انتفخت قليلًا في الأيام المُسبقة.
ردت له قُبلته بمشاكسة ليقهقه بخفة ثم أردف: بجيتي مش سهلة إياك!
غمزت له بوجه متورد استرد حيويته وإشراقه بوجوده: اتعلمت منك يا حبيبي.
أغمض عينيه بإستمتاع: يا بووووي، حبيبي طالعة من خشمك زي السكر.
ضحكت بإستمتاع وهي تُلاحظ تعبيراته المُبهجة في قربها، وما كادت أن تتحدث؛ حتى استمعت إلى صوت جلبة بالأسفل، قطبت جبينها بتعجب وهي تتسائل: إيه الصوت اللي تحت دا! هو في حد بيتخانق!
هز كتفيه بجهل وتعبيرات التعجب بادية على وجهه، ابتعد عنها متشدقًا وهو يستعد للهبوط للأسفل: مخابرش، هنزل أشوف أهو.
ذهبت خلفه مُسرعة عندما اشتد صوت العراك وداخلها يُخبرها بإقتراب حدوث شيء سئ، لكنها أخرجت تلك الخرافات من عقلها وأكملت هبوطها خلف زوجها.
هبط بدر بعض درجات السلم، ثم توقف محله في صدمة، توقف الشجار لتنظر له تلك السيدة بعيناها العسلية وبشرتها المخملية، دارت العديد والعديد من التساؤلات في عقل بدر، ماذا تفعل زوجته السابقة هُنا،!
أبلغت وصال عابد بموافقتها على عرضه للعمل معه، لكن أن تكون مُعلمة للغة الإنجليزية ليست العربية مثله، ولم يُبدي أي إعتراض على ذلك طالما أنها لم تُؤثِر على عمله، لذلك قام بنشر إعلان على حوائط حارته الصغيرة، ولأن عابد معلم مجتهد وله سيط واسع بإجتهاده؛ ذهب إليها الكثير من الأطفال بعد الإعلان أسبوع، لم تتوقع كَم هؤلاء الأطفال التي ستُدرس لهم، كانوا قرابة الخمسون طفلًا أو أكثر.
ابتلعت ريقها بتوتر، ثم نظرت حولها للأطفال المشاغبين هامسة لذاتها: أنا إيه اللي خلاني أوافق بس! لنفترض إن العيال دي سِقطت في الإنجليزي أنا هيبقى إيه وضعي!
جاء من خلفها عابد ليجدها تُحدث نفسها ببلاهة، ارتسمت إبتسامة صغيرة على ثغره أخفاها على الفور، ثم تحدث بهدوء: ها إيه رأيك!
نظرت له بسرعة واقفة أمامه برجاء: بقولك إيه تيجي تاخدهم معايا بالنص!
كتم ضحكته بصعوبة ثم تحدث بصوت جعله جاد للغاية: احنا هنهزر ولا إيه! يلا على شغلك يا أستاذة.
رسمت ملامح منزعجة على وجهها ثم أردفت بصوا باكي وهي تجلس على المقعد: لأ خلاص مش لاعبة، احنا متفقناش على كدا.
ما تلك الطفلة؟ عن أي لعب تتحدث هي بحق الله، جلس أمامها ثم تحدث بتروي ليسحب منها الطاقة السلبية التي داخلها: تعالي ونتفاهم براحة، انتِ خايفة من إيه؟
ابتلعت ريقها ثم رفعت أنظارها تجاهه كطفلة مُذنبة بشكل جعلها لطيفة للغاية: ما هو أصل بصراحة، كنت مفكرة إنهم هيبقوا تلت أو أربع عيال بس، مش خمسين عيِّل!
ضحك بخفة على حديثها ثم أردف: اعتبري إن قدامك خمس عيال مش خمسين سهلة أهي.
تشنج وجهها ثم أردفت بإستنكار: يا راجل!
نعم!
هتف بها في دهشة من ردها المُفاجئ، لتُحمم سريعًا ثم عدلَّت من إجبابتها سريعًا: قصدي يا جدع!
هز رأسه بيأس ثم وقف فجأة قائلًا بجدية مصطنعة وهو يُشير تجاه الغرفة: يلا يا آنسة على شغلك مش ناقصين عطلة.
قال جملته ثم إتجه إلى عمله بالغرفة المجاورة، وإبتسامة صغيرة تشكلت على فمه، بينما هي وقفت محلها قاضمة لأظافرها بتوتر، لتُخفض ذراعيها سريعًا مردفة لنفسها بتصميم: يلا يا وصال انتِ قدها، وبعون الله العيال دي هتطلع من الأوائل،!
طوال الطريق للفندق كان ريان يُغني بصوته البشع، نظرت له غزل بغيظ من عدم توقفه عن الغناء، مَن يراه يظن بأنه يتجهز للذهاب لرحلة، لا يهرب من الشرطة!
همست لنفسها وهي تُحدجه بغيظ: طب واللهِ ما أنا سامعة أغاني تاني، انت تتوب اللي مش عايز يتوب بصوتك اللي يقرف المعزة دا.
وكأنها سمعها ليبدأ بالغناء مُجددًا ولكن تلك المرة توترت ملامحها بشدة عن إستماعها لكلمات أغنيته: هات إيدك تُحضن إيدي، شوف حُبك جوا وريدي، قربت أقول يا سيدي راح أموت في هواك.
وكأن كلمات تلك الأغنية لها، فقد كان يُدندنها وهو ينظر لها، ولعيناها تحديدًا.!
عضت على شفتيها بتوتر، فصاحت بغضب محاولةً لإخفاء خجلها: ما خلاص بقا، ما قولنا صوتك وحِش ومتغنيش تاني.
نظر لها بقرف ثم رفع ياقة قميصه بغرور، متشدقًا بعنهجية: دا أنا اتعرض عليا أغني في «أرب جوت تالنت» وأنا اللي رفضت عشان مقطعش عيش زمايلي المغنيين.
مصدقاك يا ضنايا، مصدقاك ياخويا.
وصلا إلى الفندق ثم دخلا للغرفة بسرعة ليُلملموا من ثيابهم وأشيائهم ثم استعدا للخروج، أمسك ريان بعض الحقائب والأموال التي أعطاها له منير المنشاوي قبل موته، و غزل أمسكت بالأوراق التي كانت مُبعثرة حول جثته.
خرجا من الفندق؛ ثم نظرت غزل ل ريان بحيرة، قائلة: هنروح فين دلوقتي؟
اتسعت إبتسامته ثم أردف بضحكة عالية: موسى، هو احنا لينا غيره!
عربية يعني «Car». وأنا نفسي أبقى حمار.
ردد الأطفال خلف وصال التي تُعلمهم على طريقتها العصرية بالنسبة لها، والمُغفلة بالنسبة لنا.
أحمر يعني «Red». شِد في شعرك شِد.
أحمر يعني «Red». شِد في شعرك شِد.
ياللي سَنَتك طين. أخضر يعني «Green».
ياللي سَنَتك طين. أخضر يعني «Green».
كان عابد يُتابعها بصدمة حقيقية، وضع يده على قلبه هامسًا بعدم تصديق: العيال ضاعوا، يا مصيبتي.
كان الأطفال يُقهقهون بسعادة وهم يُرددون خلف معلمتهم، وهي ظنت بأن طريقتها الحمقاء تُعجبهم، لذلك أكملت في طريقتها تلك.
بس.
صرخ بها عابد ليصمت الجميع فزعًا من مظهره المُرعب، نظرت له وصال بحدة ثم خلعت نظارتها الطبية التي ترتديها كعرض زائد فقط، ثم قالت بغضب: إيه يا أستاذ عابد مش طريقة دي! المفروض حضرتك تخبط على الأقل عشان متقطعش حبل أفكاري أنا وتلاميذي!
حدجها بإستنكار ثم أشار للأطفال بسخط: تلاميذ إيه يا أستاذة! دا انتِ ناقص تجيبي طبلة وتفتحيها كباريه! أنا لا يُمكن أسمح بالمهزلة دي.
وقفت من على الأرض ثم وقفت أمامه قائلة: آاااه شغل المنافسة والغيرة هيبتدي من دلوقتي بقا! إكمني أحسن منك في طريقة الشرح يعني!
لم تُعطيه فرصة للرد؛ لترفع سبابتها أمام وجهه متحدثة بتحذير مُضحك قبل أن تُغلق الباب بوجهه: اسمع إما أقولك، أنا مش بحب أعادي حد، لكن لحد شغلي واستوب، أيوا أنا أبلة وليا سمعتي.
وقف هو محله ينظر للباب المُغلق بصدمة، عن أي سُمعة تتحدث هي! هي فقط بدأت العمل اليوم لا أكثر، وماذا عن المنافسة! هل هو سيُنافسها هي! هي!
حمحم بغضب ثم نظر حوله، ليجد طُلابه ينتظرونه، ذهب إليهم وبداخله يتوعد ل وصال ولفعلتها تلك.
مين دي يا بدر!
تسائلت نوال بإستغراب عن هوية تلك الفتاة التي تُثير الجَلبة في جميع أنحاء المنزل، لم يُجبها؛ إنما توجه إلى الأخرى بتعابير وجه واجمة سائلًا إياها: بتعملي إيه إهني يا نجاح!
طالعته نجاح بأعين غاضبة، ثم مررت عيناها على نوال التي لا تفقه شئ مما يحدث، اقتربت منها عدة خطوات تتفحصها من رأسها لأخمص قدمها، ثم قالت متهكمة: بجا دي اللي فضلتها عليا يا بدر! هي دي اللي اتچوزتها من بعدي!
صدمة قوية هبطت على رأس نوال عندما استمعت لحديثها، هل كان مُتزوج من قبلها! وهي كانت تظن بأنها الأولى! خدعها، نعم، ولن تستطيع أن تغفر له كذبته.
لاحظت نجاح صدمتها، لذلك قررت طرق النار على الحديد مردفة بدهشة مصطنعة: وه! هي السنيورة معتعرفش إنها چوزها كان متچوز جبلها ولا إيه!
تلك المرة تدخلت والدة بدر ناهرة إياها بغلظة: اطلعي برا يا نچاح، مش هعمل بعد إجده حساب لصلة الجرابة اللي بينتنا، أي حاجة هتمس ابني هنسى إنك كنتِ بنت أختي في يوم من الأيام.
ذهب إليها بدر بخطوات غاضبة، أمسك بها من ذراعها بقوة صارخًا بها: رچعتي ليه تاني يا نچاح!
طالعته عن قُرب، ومازال قلبها يقرع بشدة عند حضرته، لذلك اقتربت منه أكثر بوقاحة متشدقة بوله: رچعت عشان بحبك يابن خالتي، رچعت عشان لسه باجي عليا وعايزاك.
حسنًا هي غاضبة ولحد اللعنة منه، لكن هي أنثي، والأنثي تغار، تحرق كل ما حولها عند شعورها بالغيرة، أُلغي عقلها عند رؤيتها لها تقترب منه هكذا، لذلك ذهبت نوال راكضة تجاه تلك الأفعى ثم أمسكت بها من ذراعها بحدة ناهرة إياها: حبك برص يا صرصار المجاري انتِ، إيه مش مكسوفة من نفسك وانتِ جاية ترمي نفسك على واحد متجوز! مرخصة نفسك للدرجادي!
أفلتت نجاح يدها منها، ثم صرخت هي الأخرى: الواحد دا كان چوزي.
وطلقك.
تخصرت نوال محلها وهي تشعر بنيران تضرم داخل قلبها، تلك الأفعى تريد هدم حياتها، لكن لن تسمح لها بذلك ولو على جثتها.
أغاظها ردها لذلك رفعت سبابتها بوجهها مُحذرة: اسمعي يا بت انتِ...
وما كادت أن تُكمل حديثها حنى استمعت لصوت بدر الصارخ بإهانة شديدة لها: نچاح، إلزمي حدودك وانتِ بتتكلمي مع مرت بدر الأباصيري وإلا تصرفي مش هيعچبك.
ماشي يابن خالتي، أنا وانت والزمن طويل.
قالت كلماتها ثم ذهبت من أمامهم غاضبة وخرجت من المنزل بأكمله، التفت بدر ل نوال محاولًا التبرير لها: نوال. أنا...
لم يُكمل حديثه لأنها تركته وذهبت من أمامه بخطوات غاضبة أقرب للركض وصعدت للأعلى، زفر بدر بقوة وهو يلعن نجاح في سره، هو يمقتها ويمقت سيرتها، والآن هي جاءت لتُعكر صفوه هو وزوجته، ربتت والدته على ذراعه ثم تحدثت بحنان: اطلع صالحها يابني، صالحها وجولها على كل حاچة متخبيش عليها واصل، وهي هتسمعك للآخر.
أومأ لوالدته بود، ثم قبَّل يدها بحنان واستعد للصعود للأعلى حيث زوجته، المهمة الأصعب على الإطلاق، أخذ نفسًا عميقًا ثم زفره على مهل، ومن ثَم صعد خلفها.
مواجهة كبيرة تدور بينهم الآن، بكر الذي يُحاول أن يستشف ردة فعل خطيب إبنته، و مهاب المُحاصر بين أسئلة بكر، و شهاب الذي ينتظر الفرصة للإنقضاض على فريسته، وأخيرًا إهداء التي تُراقب الوضع بقلق.
صعد صوت مهاب الحانق: يعني دي غلطتي يا عمي إني جيت حطيت إيدي في إيديك!
وقف شهاب قبالته متحدثًا بإستفزاز: إيدك تحطها مع إيدك التانية ومتصعدناش بالإسطوانة دي.
اشتعل رأس مهاب غيظًا ثم صاح ب شهاب بغضب: متدخلش انت، أنا مش فاهم انت حاشر نفسك في كل حاجة ليه!
قاطعه بكر بحدة: شهاب واحد من العيلة دي، متنساش نفسك يا مهاب، انت كنت خطيب بنتي، خلي كل حاجة ترجع لمجاريها.
قطب مهاب جبينه بإستغراب: يعني إيه كنت!
رد عليه بكر بجمود: يعني كل شئ قسمة ونصيب يابني، وزي ما دخلنا بالمعروف نخرج بالمعروف.
في تلك الأثناء، ودَّ شهاب أن يرقص فرحًا، أراد أن يُطلق الزغاريد ليُعبر عن فرحته، لكنه رسم تعابير الجمود على وجهه ولم يُبين أيًا من سعادته تلك.
بينما مهاب خرج من المنزل وهو يتوعد ل إهداء هامسًا بغل: فكرك إني مش عارف حالة الحب والغرام اللي بينك انتِ وسي روميو! بس أدي دقني لو خليتك تتهني بيه، هحسرك وهحسر العيلة كلها عليه،!