رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن
التراكمات ثقيلة كالجبال، والألم يتزايد ك زخات المطر، أمطارٌ عاصفة مُحملة بالرياح تعصف بالفؤاد، وضرباتٌ تضربُ به حتى يُعلن الإستسلام، نيرانٌ تنبش بالداخل يَصعب إطفاؤها ولا يشعر بها أحد، وما كان على بنو البشر إلا أن يُزيدوا من حجم الضرر.
مُنذُ الأمس وهي لم تنسي حديثه، عقلها لم يتهاون في التخفيف عنها، سجود ضحية الإهمال مازالت تبكي من ليلة البارحة، تنعي حظها العثر الذي أخجلها كثيرٌ من المرات، لم ينصفها ولو لمرة، فجميع تجاربها كانت تبوء بالفشل، تذكرت منذ قليل مهاتفة معتصم لها يطلب منها مقابلته، وهي الآن ليس لديها القدرة للمواجهة، لكن بنفس الوقت تحتاج لصديقها ليُخفف عنها آلامها ولو قليلًا.
تجهزت بروحٌ نازفة، وقلبٌ مُرهق قبل جسدها، مسحت دموعها بقليل من المياه، ثم خرجت من غرفتها لتجد عائلتها تجلس بالصالون، وكعادتها رسمت ابتسامة مرحة على وجهها، ثم جلست بجانب والدها الذي قبلت وجنته مردفة بمرح: بابايا القلب والروح يا عسل.
رفع طه حاجبه بسخرية، ثم تحدث قائلًا: عايزة إيه يا قردة! ما هو كلامك دا مش بيطلع غير لو عايزة حاجة.
حمحت بحرج وهي ترسم ملامح البراءة على وجهها: بصراحة كدا يا حُجيجة أنا عايزة أروح عند واحدة صحبتي شوية.
خلع نظارته الطبية التي كان يرتديها ثم وضعها على الطاولة أمامه، استدار لها وهو يرمقها بتفحص: صحبتك مين دي يا جوجو.
ااا. واحدة متعرفة عليها في الجامعة يا بابا، وعرفت إنها تعبانة حبتين فعايزة ازورها.
صغيرته فاشلة في الكذب، منذ الصغر وهو كان يُدللها فكانت أقرب أولاده إليه، هناك سر كبير تُخبئه، لكنه لم يريد الإلحاح عليها، لذلك سمح لها بالذهاب وهو يقول: ماشي يا حبيبتي، روحي بس نص ساعة بالكتير وتكوني هنا.
تهللت أساريرها لموافقته، وقبل أن تذهب أمسك بكفها ثم أنزل رأسها لمستواه ممرًا يداه على أسفل عينيها: وابقي خبي أثار دموعك كويس عشان مش تبان هاا!
اعتدلت في وقفتها مرة أخري، فأصابها الإرتباك لا تعلم كيف اكتشف بكاؤها، وجدته يقف أمامها ثم نطق بغموض وملامح مُبهمة: متفكريش إني علشان سايبك براحتك يبقي معرفش بنتي فيها إيه أو بتعيط ولا لأ، انتِ قبل ما تكوني بنتي ف انتي حتة مني وجزء من روحي.
ثانية أخري وستنهار أمامه باكية، لكنها لن تستطيع إخباره بما يجيش به صدرها، لا يمكنها إخباره بأنها تُحب ابن عمها، لا تستطيع حقًا، لذلك تهربت منه ومن حديثه مُردفة بسرعة قبل أن تذهب من أمامه: ع. عن إذنك يا بابا، عشان متأخرش.
بعد ذهابها أو هروبها بالمعني الأصح تنهد بضيق وهو يجلس محله مجددًا، نظرت له أميرة بأسى مُردفة بقلة حيلة: قلبي مش مطاوعني يا طه باللي بتقوله دا، إزاي أشوف بنتي كدا ولا أخدها في حضني ولا أطبطب عليها!
الأمر صعب عليه هو الآخر، أغمض عيناه المنهكة بتعب ثم فتحها مرة أخري لينظر لها بحنان وهو يربت على يدها: متقلقيش يأم العيال، سجود مش صغيرة ولا عيلة علشان متعتمدش على نفسها، هي مفكرة إنها لما تكتم جواها يبقي دا صح، سجود عايزة اللي يوجهها، عايزة الحنية، عايزة اللي يرجعلها ثقتها بنفسها ودا اللي فشلنا فيه للأسف.
تشدقت أميرة بيأس ولا تعلم ما يجب عليها فعله مع ابنتها: دي زي القمر. مش عارفة مش واثقة من نفسها ليه بس!
ربت على يدها بحنان للتخفيف عنها، ثم أردف متمنيًا: ربنا يكتب اللي فيه الخير يا أميرة.
اللهم انّك عفوٌ تحبُ العفوُ فَأعفُ عنَا.
لم يَكن بالمنزل إلا غرفتين فقط، واحدة خاصة ب شاكر، والأخري كانت لكليهما، لم يوجد بالصالون أي من الأرائك سوى مقاعد صغيرة لا تتناسب مع أجسادهم الكبيرة، فنامت غزل على الفراش، وتبرع ريان ونام على الأريكة الموجودة بالغرفة.
استيقظ ريان بعد ليلة لم ينعم فيها بالنوم المستقر، نظر حوله بإنزعاج ولحالة نومه المشعثة، لاحظ غزل التي تتقلب على الفراش بأريحة ومن فوقها الغطاء، ليلوي شفتيه بإمتعاض وهو يُردد: ناس هايصة وناس لايصة. اتمطعي يا بنت المحظوظة.
لمح بطرف عينه بعض الأوراق وبجانبهم بعض الأقلام، أمسك تلك الأوراق وإحدي الأقلام ثم بدأ بتدوين بعض الكلمات التي يختنق بها صدره، لطالما كانت الكتابة هي المصدر الوحيد للتنفيس عن ضيقه، لذلك تعلم اللغة العربية بطلاقة ليستخدم الكلمات العميقة المناسبة لحالته.
بعد بضعة دقائق فتحت غزل عيناها ببطئ، تحسست غطاء شعرها لتجده ثابت كما نامت به، فإستندت على ذراعيها للإعتدال، مسحت بأطراف أصابعها عيناها بنعاس لتجد ريان منهمك في الكتابة بتركيز، قطبت جبينها ثم تساءلت بفضول: صباح الخير. بتكتب إيه!
ترك ما بيده ثم وضها على الطاولة مجيبًا إياها بإبتسامة: ولا حاجة، بس أنا بحب أكتب اللي حاسس بيه مش أكتر.
صمت ولم تجد ما تقوله، فبالتأكيد جميع كلماته حزينة مثل حياته، خرج هو من الغرفة قاصدًا المرحاض تاركًا إياها تشعر بالفضول حول تلك الكلمات التي كتبها، وقفت على بُعد مسافة مناسبة من الطاولة التي تحتوي على الأوراق، قضمت أظافرها بتوتر وهي تُحدث نفسها: عيب يا غزل مينفعش اللي بتفكري فيه دا، مهما كان دي خصوصيته وأنا مينفعش أقرب منها أبدًا.
بعد ثواني قليلة كانت تمسك الأوراق بين يديها وتبدأ في قرائتها.
ورغم أنها مجرد أوراق لم يعرف ماهيتها بدأ حديثه بقوله: عزيزتي مذكرتي.
(لا أعلم ما الذي يجري ولكني أجري وراه، فالدنيا ماشية بضهرها وحطت عليا، كل الظروف كانت مُتاحة أمامي لأشرب حشيش، لكن أخلاقي وتربيتي الفاضلة منعتني من ذلك، أنا معروفٌ دائمًا بأنني شاب ذو أسلوبٌ رقيقٌ للغاية، وللأسف رقتي كانت سبب عنائي، وجدت صعوبة في تربية ابني البريئ مدثر، لكن بفضل الله قمت بتربيته أفضل تربية والجميع يشهد بأخلاقه، أتمني أن أجد حياة سعيدة بعد كل ذلك.
المُرسل: رقتي سبب عنائي ريان ).
هل قُلت من قبل بأنه تعلم اللغة العربية ليكتب ما يجيش به صدره! حسنًا أعتذر، فاللغة العربية تنعي حظها بسبب ذلك الريان، لقد تفنن في تعذيبها بكلماته تلك، وعن أي مشاعر يتحدث هو واللعنة!
تشنج وجه غزل بينما كانت كلماته، ظنت بأنها ستري تأثير الليلة الحزينة الماضية في خطابه، فلم تجد سوي ذلك المرض، تمتمت بسخط وهي ترمي بالوريقات على الطاولة مجددًا: قال بكتب اللي حاسس بيه قال، يا أخي ياريتك ما حسيت.
قالت كلماتها ثم خرجت من الغرفة لتجلس على الاريكة الصغيرة الموجودة أمام التلفاز مُنتظرة ريان لتدلف للمرحاض بعده، أمسكت بجهاز التحكم تُقلب بين القنوات بملل، حتى فتحت عيناها فزع وارتفعت نسبة الإدرنالين بجسدها، لتهب من مكانها صارخة بعلو صوتها: يلهوي.
{ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا }.
الحياة ليست عادلة معه بالمرة، فكل مرة يجلس ويذاكر بها يتمني لو كان ابنًا لعميد الجامعة التي يدرس بها حتى يضمن نجاحه بكل سهولة، جلس شهاب مرغمًا على مكتبه الخاص، وأمامه العديد والعديد من الكتب، اضطر أسفًا للمذاكرة علَّ وعسى أن ينجح في تلك المادة ويرأف به معلم المادة لقتله للفأر المسكين، قضم أظافره بتوتر، فتلك هي السنة الأخير له بالجامعة، ولو رسب بتلك المادة سيضطر للإنتظار عامًا آخر.
نعى حظه ونعى تلك الجامعة وهؤلاء الأطباء، ليرمي كُتبه جميعها أرضًا وهو يكاد يبكي، دخلت عليه والدته مروة لتجده بهذا المظهر المثير للشفقة، أو للضحك أيهما أقرب، هي الأكثر علمًا بأن ولدها لم يكن يريد دخول تلك الكُلية لصعوبتها، لكن والده أجبره على ذلك قِصرًا.
جلست بجانبه تكتم ضحكتها، لتربت على ذراعه مُدعية الحزن وفضولها يقتلها لمعرفة ما وراء عصبيته المفرطة: مالك يا حبيبي! احكيلي يمكن ترتاح.
زفر شهاب بضيق وهو يُجيبها بإختصار: مفيش يا ماما، ضغط مذاكرة بس.
ألحت مروة في سؤالها لمعرفة ما به، لذلك تحدثت بعتاب: احكيلي يا واد دا أنا أمك، لو مكنتش هتحكيلي هتحكي لمين يعني! احكي يابني سرك في بير.
وخلف إلحاحها استسلم ليبدأ بإخبارها بكل ما حدث في المعمل وموت الفأر بسبب خوفه الشديد منه، وتهديد الطبيب برسوب كل من يموت منه الفار، ومجرد ما إن انتهي من سرد جميع التفاصيل حتى لطمت والدته على صدرها بصدمة: يا مصيبتي! يا مصيبتي. يا مصيبتي. يا مصيبتي.
فزع شهاب من صراخها، وازداد خوفه عند تخيله لمعرفة والده بالأمر، حاول كتم ثغرها لكنها كانت تستمر بالصراخ، حتى نجح أخيرًا في إغلاقه مُردفًا بإرتعاب: ايه بس يا ماما دا! هو دا اللي سرك في بير يابني!
لم يظهر من وجهها إلا عيناها المنفتحتان بصدمة على آخرهما بشكل مُخيف، وعندما لاحظ الأمر وشاهد مظهر عيناها، ابتعد عنها بفزع وهو يُردد بخوف: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، انتي اتلبستي ياما ولا إيه!
تحدثت مروة بهمس وهي تُحدجه بنظرات غريبة أخافته: انت بتقول إيه يا ولااا! هتعيد السنة وتشمت أم عماد فيا! والولية البومة أم عابد هتشمتها فيا! هتحط راسنا في الوحل قصاد عيلة أبو زيد يا ولاااا!
هرع إليها ممسكًا يدها بتوسل: ماما بالله عليكي ما تقولي لحد، أبويا لو عرف هيمرجحني.
ابتلعت ريقها وعادت إلى حالتها الطبيعية وهي تُربت على ذراعه: عيب عليك دا أنا أمك، ومستحيل سرك يطلع لحد أبدًا، سلام بقا أروح أجهز الغدا.
ذهبت وتركته يوبخ نفسه على إخبارها بسره، لكنها والدته وبالتأكيد ستحفظ سره ولن تُخبر به أحد مهما حدث.
وإدمَان الغناء يثقل القرآن على القلب
ويُكرهه إلى سماعِه.!
طوال الليل وهو لم ينام بهدوء، كلماتها تصدح في أذنه، وعتابها يؤرقه، وعندما حلَّ النهار صعد فارس إلى شقته بعدما اطمئن على نوم مدثر لرؤيته زوجته الحبيبة زهر، ظل يفكر في حديثها، فإستنتج أن غضبها ما كان سوى خوفًا عليه، هي معها كل الحق لذلك سيُبادر بالإعتذار، فتح الباب بهدوء، ليسمع صوت همهمات خافتة تأتي من غرفتهم الخاصة.
يبدو أنها تبكي أو ما شابه، كان باب الغرفة مواربًا فكاد أن يفتحه حتى استمع إلى حديثها الصادم مع إحدي صديقاتها، تصنم في مكانه عندما سمع صوت بكاؤها المكتوم وهي تقول: ما انتي عارفة يا ني ين إن جوازي منه كان غصب، وكنت ندمانة على الجوازة دي ووجوده جنبي، جاية دلوقتي وتلوميني!
أُصيبت أطرافه بالبرودة حتى سرت إلى عروق قلبه، قل تنفسه حتى ظن أنه سيصيبه نوبة قلبية الآن، حاول أخذ أنفاسه لكنه لم يستطيع، لذلك فضَّل الخروج من المنزل ويهبط للأسفل مجددًا.
بينما بالداخل هي كانت مازالت تبكي، مسحت دموعها ببطئ وهي تتذكر معاملته الحنونة معه وبسمة صغيرة تشكلت على ثغرها وهي تبدأ بالحديث عنه: بتلوميني إزاي إني حبيته يا ني ين! فارس يتحب من غير أي حاجة، بقى جزء من روحي، بُعده عني بيقتلني وزعله مني مخليني تايهة، مش عارفة أعمل إيه!
وعلي الجانب الآخر كانت ني ين تغلي من الحقد، فكل شئ بحياة الأخري مثالي ويسير على ما يُرام، عكس حياتها هي مع معتصم، ف ني ين هي خطيبة معتصم وحبيبته أثناء نُضجه، علاقتهما مضطربة وهي قد تعرفت عليه عن طريق صديقتها زهر، حاولت بشتى الطرق أن تُفرق بينهم عن طرق بَث السُم في أذن زهر لكن مُحاولاتها كانت تبوء بالفشل.
بعد فشلها في تلك المحاولة مرة أخري، تحولت نبرة صوتها إلى البرود وهي تقول بلامبالاة: خلاص يا زهر، هجيلك بكرا ونفكر سوا.
مسحت زهر دموعها مُردفة بتيهة: ماشي يا ني ين، سلام.
تركت الهاتف من يدها، وباليد الأخري استندت على الفراش لتحاول الوقوف، لكن صداع الرأس الذي داهمها لم يُسعفها في ذلك، فإستندت على الفراش من خلفها وعقلها يفكر ويدور في مسارات مغلقة، إلى أن نامت من الإنهاك.
إن رأيتَ هذا فادعُ لي
أحتاجُ دعواتٍ لا أعرفُ مِن أين أو مَن هو صاحِبُها.
المرء يحتاج لمن يسمعه، لمن يداويه، لمن يُربت على جُرح قلبه حتى يُشفي، عادةً ما تكون الوحدة جزء من الحلول للبُعد عن الجميع، لكن أضرارها مُدمرة، لم تجد من يسمعها منذ الصغر إلا هو، معتصم النويهي صديقها المُخلص والحنون بالوقت ذاته، الصديق الأصدق والأوفى، والأرق!
ذهبت إلى مكانهم المعتاد، صخرة كبيرة تُغطي وجودهم وأمامهم منظرًا خلابًا، وجدته يستند على الصخر وشارد للأمد البعيد، وسيم كالعادة، اقتربت منه حتى انتبه لوجودها، فقابلها ببسمة حنونة كالمُعتاد منه، وتلقائيًا ابتسمت له حتى وصلت جانبه.
خرج من فمها تنهيدة عميقة ثم استندت على الصخرة بجانبه بهدوء، لم تنبث ولو ببنت شفة، يخلو المكان من كل شئ إلا صوت تنفسها المضطرب، لم يجد منها إستجابة أو حتى كلمة واحدة لذلك بادر بالحديث بكلمات بسيطة لكن تحمل في طياتها السؤال عن ما بها: أخبارك إيه يا جوجو!
أجابت بجملة واحدة وتحشرج صوتها بألم وهي تقول بسخرية مريرة: أحمد بيحب تسبيح أختي.
لم يُنكر صدمته فهي كانت تُخبره بكل شئ عنها، وللحقيقة هو لا يُطيق وجود أحمد بجانبها، يراه شخص مُراوغ غير آمين، ورغم إنه أخبرها بإحساسه له، نفت هي وظلت على حبها الخفي له، لم يجد ما يقوله إلا أن يحثها على الحديث مُردفًا بإشفاق: وبعدين!
تائهة هي لا تعلم بما تبدأ أو كيف تتحدث، تابعت مُردفة بإرهاق يتخللها: قالي إنه عايز يعرف رأيها فيه، عايزني أنا أروح لأختي وأسألها لو هي موافقة تتجوزه ولا لأ، غصب عني خلاني أغير منها رغم إنها ملهاش ذنب، بس ذنبها الوحيد إنها أحلي مني.
صمت لثوانٍ ثم تابعت بضحكة تحمل مقدارًا كبيرًا من الألم: وأنا كنت هستناه يبصلي على إيه، أنا مفيش فيا حاجة حلو، لا شكل ولا جمال ولا منظر ولا أي حاجة، كنت مستنية إيه عايزة أعرف!
كل مرة تبدأ بنبذ نفسها كان ينهرها بشدة، لكن تلك المرة تختلف، وقف قبالتها وهو يتحدث بصوت حنون: انتِ مش وحشة. انتِ مميرة، ومش أي حد هيلاحظ التمييز دا غير اللي بيحبك بجد.
رفعت عيناها الدامعتين تجاهه، فأصبحت كاللوحة الفنية بالنسبة له، غابة خضراء مُحاطة بالأشجار تُزينها قطرات الندي لتُعطي لها مظهرًا خاص، ليهمس بدون وعي وهو يقترب منها قليلًا: عيونك بتقتلني بجمالها، وأنا بحبها، وبحبك،!
سرت القشعريرة بجسدها من حديثه المُربك والذي يتحدث به ولأول مرة، بينما صحح حديثه مسرعًا بعد حالة الخدر التي تلبسته قائلًا بتلعثم: ق. بحبك عشان انتي أقرب واحدة ليا وصحبتي.
ابتلعت ريقها وهي تُحاول لم شتاتها ثم غيرت موضع الحديث وهي تتسائل: عملت إيه مع ني ين! كل حاجة كويسة دلوقتي!
ذكرته بسبب شقائه لذلك لوي شفتيه بضجر وهو ينفخ بغيظ شبيه بالأطفال: بصراحة بقا يا جوجي أنا زهقت منها. بومة كدا وسُهنة مش زي ما هي مبينة، وبصراحة كدا بفكر أسيبها.
ضحكت على حديثه ثم قلدته وهي تُذكره بأول مرة يعترف بُحبها: بحبها يا جوجي، بموت فيها يا جوجي. هي اللي هتعوضني يا جوجي. ودلوقتي بتقول عليها بومة!
قهقه على حديثها وشاركته في الضحك، ليسرقا من الوقت ما يُسعدهم، راميين الأحزان جانبًا، وينتهزوا الفرصة للسعادة.
وما الصديقُ للصديق إلا روحٌ يتكئُ عليها، وما هو إلا بعضدٍ يشتدُ به الآخر.
صداقتهم كانت من نوعٍ آخر، علاقة تُثير الفضول، مواجهة ليظلوا معًا لسنواتٍ من العمر، ظلوا يتحدثوا ويتحدثوا كثيرًا حتى مر بهم الوقت، ذلك المكان الذي جمعهم للمرة الأولي، وتلك المرة لم تكن سوي البداية، بداية صداقة. أخوة. أو ربما قصة جديدة ومن نوعٍ آخر.
صلَّى عَلَيهِ اللَّهُ فِي عَليَائِهِ
فعَلَيهِ صَلُّوا يا كِرَامُ وأكثِرُوا.
كان ريان يتحمم ويُدندن مع نفسه بالمرحاض، من يسمعه يُصيبه الشك بأن هذا محكوم عليه بخمسة عشر عامًا وهارب من العدالة.
خرج من المرحاض ويلف حول جسده منشفة كبيرة، ظل يرقص ويدندن ببعض الأغاني ويميل على غنائه: أنا مش مبيناله أنا نوياله على إيه. ساكتة ومستحلفاله و...
أبله هذا أم ماذا! يرقص كأفضل الراقصات وهو واقع بمشاكل ليس لها نهاية! وقف محله ثانية ليُفكر في كلمات الأغنية التي نساها، ليتذكرها ويبدأ بالغناء مجددًا، أمال خصره يمينًا ويسارًا ثم يدور به كاملًا وهو يضع إصبع السبابة على أنفه.
وبعد ربع ساعة تقريبًا حمحم بجدية رافعًا رأسه بعنهجية، ثم ذهب تجاه خزانة الملابس الخاصة ب شاكر، لكن جميعها كانت قصيرة عليه وذلك بسبب طول قامته، جاءته فكرة أنارت بعقله ثم بدأ بتنفيذها والإبتسامة الحمقاء تُزين ثغره.
أما بالخارج.
رأت غزل على القنوات الفضائية بينما كانت تُقلِب بملل في التلفاز صورتها هي و ريان، والمذيع يقوم بتشييع الخبر الصادم وهو يقول بعملية: إرهابيين قاموا بالهروب من قوات الشرطة عند تنفيذ الحُكم عليهم وذلك بالمعاونة مع العصابات الإرهابية التي ساعدت في ذلك، وقد أعلنت الحكومة مبلغ مالي ضخم مُقابل رحلة البحث عنهم وتسليمهم للعدالة مجددًا.
لطمت على وجهها وهي تُصيح بأعلي صوتها: يالهوي، يا فضيحتي. انت يا معرفة الهبابة. يا ريان!
فزع من صراخها ليخرج مُهرولًا لها دون أن يُعير ما يرتديه أي إهتمام، ليقول بفزع: مين مات! مالك بتصوتي كدا ليه؟
أشارت للتلفاز وهي تُجيبه بهلع: احنا اللي هنموت ياخويا. احنا اللي هنموت يا عنيا. بص وشوف بعنيك.
نظر للتلفاز وبدأ بقراءة ما هو مُدون بشريط الأخبار، ثانية. ثانيتان حتى تشكل على ثغره ابتسامة سعيدة وهو يقول بفرحة عارمة: أنا طلعت في التليفزيون! أنا طلعت في التليفزيون. زمان ابني فخور بيا دلوقتي. ألف حمد وشكر ليك يارب. ألف حمد وشكر ليك يارب. صدق اللي قال ربنا بيعوض.
أمسكت موضع قلبها وهي تكاد أن تُصاب بذبحة صدرية، ماذا فعلت في حياتها حتى تُبتلى بشخص به هذا الكم من الغباء!
وعلى باب الشقة بالخارج. كان شاكر يُحادث مديره للإتفاق على الحفلة المُقامة الليلة إحتفالًا بالإنجازات الضخمة للشركة، أردف بإحترام قبل أن يُغلق الهاتف: تمام يا فندم مش هتأخر، سبعة بالكتير وهتلاقيني قدام حضرتك، مع السلامة.
أغلق الهاتف وما كاد أن يضع المفتاح بالباب حتى رن الهاتف مجددًا ليُجيب بعجالة: ألو.
ايوا يا شاكر بيه. البدلة اللي حضرتك طلبتها بعتهالك النهاردة للبيت وفيه واحدة ست استلمتها مني.
وأول من جاء بعقله هي غزل، فهي الفتاة الوحيدة الموجودة بالمنزل، لذلك شكره بسرعة واعدًا إياه بإرسال له إكرامية زائدة في المرة المُقبلة، دخل لشقته بهدوء، فلاحظ المُشاحنة التي بينهم، ليقول بتعجب: مالكم واقفين كدا لي...
لم يكد يُكمل جملته حتى انتبه للملابس التي يرتديها ريان، أشار تجاهه وهو يتحدث بصدمة: مش دي البدلة اللي المكوجي جابها من شوية.
اتسعت ابتسامة ريان أكثر وهو يلتف مُتباهيًا بها، مردفًا بكبرياء: إيه رأيك تحفة عليا صح! لقيتها قصيرة عليا فعملت البنطلون برمودا وقصيت القميص خليته نص كُم عشان الكاجول وكدا.
وبالمقابل صرخ به شاكر وكاد أن يُجَن فعليًا، فما كان عليه أن يُمسك بسكين الفاكهة موجهًا إياه نحو رقبته، متمتمًا بهسيس مُرعب: أنا دلوقتي هخلص عليك، وأقطعك، وأعبيك في أكياس، وارمي لحمك للكلاب تنهش فيه،!