رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع
حمل شاكر سكين الفاكهة من على الطاولة، ثم وجهه ناحية ريان متمتمًا بفحيح مُرعب: هخلص عليك النهاردة عشان أنا قرفت منك.
ابتلع ريان ريقه بخوف، فابتعد رويدًا رويدًا مُردفًا بخوف: اهدي وصلي عالنبي يا شاكر بيه، مش هتضيع مستقبلك عشان واحد تافه زيي.
خلع شاكر ياقة عنقه وهو يشعر بالإختناق، رفع عيناه للأعلي وهو يهتف بتضرع: يارب أعمل فيه إيه! هيموتني مشلول منه لله.
تكرر النبأ مرة أخري بالتلفاز، لينتبه له الجميع منصتين له، لتتشكل نفس الإبتسامة البلهاء على ثغر ريان مُفتخرًا بشهرته على النطاق الواسع، بينما وضعت غزل يدها على رأسها مُرددة بعدم تصديق: يادي النصيبة. بقينا إرهابيين وقتالين قُتلة!
جلس شاكر على الأريكة والحيرة تنتابه بشدة، لا شك بأن الخطر يحوم حولهم الآن وقوات الشرطة تقوم بالبحث عنهم في كل مكان، ومن المؤكد بأنه سيتم البحث في منزله هو الآخر بإعتباره من عائلة النويهي، نظر لهم ثم أمرهم بحزم في الجلوس، امتثلوا لأمره رغم الرهبة التي احتلتهم، فتحول وجه شاكر للجدية التامة وهو يُحدثهم: انتوا لازم تمشوا من هنا حالًا، وصول الخبر للصحافة وإذاعة التلفاز دا يعني إن فيه خطر على حياتكم، وأكيد الشرطة هتيجي تدور هنا.
مسح ريان بلسانه على شفتيه بتوتر، ثم تساءل مستفسرًا: طيب والحل! هنروح فين ونيجي منين! دا أنا مقطوع من شجرة.
نظر له شاكر بضجر، ثم أردف موبخًا إياه: يابني اهدي وبطل هزار، إما نشوف حل للمصيبة دي.
كانت غزل تستمع إليهم بتيهة وعقلها في وادٍ آخر تُفكر في شئ ما، قضمت أظافرها ثم رفعت أنظارها بإتجاههم، متشدقة بإعتراض: أنا مينفعش أهرب. فيه قضية مهمة مستنياني ولازم أدافع عن موكلي.
رفع شاكر أنظاره إليها، وللحق هو لم يُطيق مكوثها بهذا المنزل وذلك بسبب تلك المشاجرات التي حدثت في الماضي بين العائلتين، فالكُره الذي نُسج بين العائلتين ليس له نهاية، لم يوجه إليها الحديث بل تحدث ريان وهو يقطب حاجبيه بإستغراب: قصية إيه دي! بقولك احنا محكوم علينا ب 15 سنة تقوليلي أدافع عن موكلي! كنتِ دافعي عن نفسك يا حسرة.
نظرت له بسخط ولم تقبل بتقليله من شأنها، لذلك رفعت رأسها بغرور مُردفة بكبرياء: على فكرة أنا كان ممكن أدافع عن نفسي. بس، بس ملقتش فرصة كويسة.
لوي ريان شفتيه بإستنكار مُردفًا بسخرية: والفرصة دي كنتِ هتلاقيها لما نموت إن شاء الله!
صمتت وربعت يدها أمام صدرها ناظرة إليه بضجر، أدارت وجهها للناحية الأخري وهي تُتمتم ببعض الشتائم الساخطة على الوضع الذي فيه، ثواني واستمعوا إلى صوت جرس الباب، ليعم التوتر المكان فأشار لهم شاكر بالدلوف إلى الغرفة مجددًا، ليمتثلوا لأمره بسرعة، ثم ذهب لرؤية الطارق بعدما أعاد ثباته مرة أخري.
فتح الباب بروية ليجد ابنه فارس يقف على أعتاب المنزل ويمسك بيده مدثر المتلهف لرؤية والده، وباليد الأخري لوچي التي أقسمت على القدوم معهم، ورغم إنصدام شاكر من وجود ابنه أمامه، رحَّب به بحبور، ثم أدخله بعدما احتضنه لبضعة ثواني يمحي لهفة الإشتياق من عدم رؤيته لشهور عديدة.
جلس فارس وبجانبه الطفلين، ليتسائل بتعجب عندما طلب منه فارس رؤية صديقه: وانت عرفت إن ريان هنا إزاي يا فارس!
ليُجيبه بهدوء: ما هو اتصل عليا.
بالداخل. استمع ريان لصوت صديقه، فخرج مُسرعًا من الغرفة ومن خلفه غزل التي تمنت رؤية عائلتها في هذا التوقيت، كم تشعر بالوحدة وهي بعيدة عنهم، لكن بالحقيقة ريان يقوم بتسليتها لطباعه الصبيانية المضحكة.
كان أول من يُبصر ريان هو ابنه مدثر المترقب لرؤية والده، انتفض من على الأريكة قافزًا في أحضان والده الذي انتشله بقوة في عناق طويل ودافئ، لم يحدث من قبل أن يبتعد ريان عن ابنه كل تلك المدة، قد تظهر أنها قليلة لكن بالنسبة إليهم وكأنها أعوام، كلًا منهم يعتبر الآخر ملاذًا له، طوَّق مدثر عنق أباه أكثر بإشتياق كبير، ثم أردف بحشرجة يمنع بكاؤه: متبعدش عني تاني يا بابا.
شدد من احتضانه قائلًا بأسف: أسف. أسف والله مش بمزاجي. أسف.
كان يردد تلك الكلمة ومازال بوضعيتهم التي تُحرك المشاعر لكل من يراهم، وقف ريان ومازال يحمل ابنه ثم نظر ل فارس بنظرات ممتنة شاكرة، أنزل مدثر بهدوء ثم ذهب لصديقه ليعانقه بقوة، ضرب فارس على ظهره وكأنه يُعاتبه على إبتعاده اللا إرادي، مردفًا بإشتياق: وحشتني يا صحبي. وحشتني أوي.
بادله ريان العناق بحب، فقليلًا ما يوجد أصدقاء بمثابة الأخوة، يُعينك على قسوة الأيام ومُرها، ردد بإشتياق مماثل: وانت كمان ياخويا.
وتلك هي الحقيقة، هو بمثابة أخ، ورفيق، وصديق، أحيانًا يعوضك الله بشخصٍ يستثنيك على العالم، و فارس كان ذلك الشخص، تخصرت لوچي محلها وهي تنظر ل ريان بضجر: والله يا عمو ريان! نسيت لوچي خلاص!
استدار لتلك القصيرة وهو يرميها بنظرات ضاحكة، ثم حملها مُقبلًا إياها من خدها: وهو حد ينسي حبيبه برضه! دا انتي القلب يابت!
انتشلها فارس من يده لاويًا شفتيه بسخط، ثم تحدث وهو ينظر ل ريان و مدثر الذي يُطالع لوچي بغضب مضحك: هات البت واترزع جنب ابنك. مش هتبقي انت وهو عليها.
نظر ريان لإبنه بفخر لتربيته الصالحة والتي أتت بثمارها، مردفًا بتبجيل: أنا عرفت أربي صح.
وبعد وقت قليل، جلس الجميع يتحدثون على تلك الورطة الواقعين بها، و مدثر يجلس على أقدام والده مُحتضًا أياه، يعوض ذاته عن تلك الساعات العصيبة التي عاشها بدونه.
بدأ شاكر بالحديث وهو يُربع أصابعه معًا موزعًا أبصاره على الجميع: دلوقتي الشرطة بتدور عليكوا كلكم، بخلاف فارس لسه بيدوروا على اللي هربكم.
توترت أعين ريان، ثم تحدث بقلق وهو ينظر ل فارس من أن يُصيبه مكروه: يعني فارس في خطر دلوقتي! انا. انا عندي إستعداد أسلم نفسي للبوليس بس هو ميحصلهوش حاجة.
وضع فارس يده على قدمه وهو يشد أزره: متخافش يا صحبي مفيش حاجة هتحصل.
رمقتهم غزل بإستنكار وهي تُربع ساعديها معًا: مش عارفة إيه جو العشق الممحون دا. أمال لو مكنوش صحاب!
طالعها ريان الذي كان يجلس بجانبها بغرابة وهو يسألها: بتقولي حاجة يا غزل!
رسمت ابتسامة صفراء على محياها وهي بالكاد تكتم غيظها: لأ ولا حاجة بس بفكر بصوت عالي بس مش أكتر.
طيب القلب هو ليُصدقها، نيته الصافية أجبرته على تصديقها، ثم انتبه مرة أخري ل شاكر الذي بادر بالحديث: المهم دلوقتي إن ريان و غزل مش هينفع يقعدوا هنا، لأن الشرطة أكيد هتيجي وتفتش، فلازم حل عشان منروحش كلنا في مصيبة، لازم تهربوا بأسرع وقت، ومكان ميكونش بعيد اوي لأنكم لازم تلاقوا دليل برائتكم في النفس الوقت، الناس اللي انتوا واقعين معاهم مش ساهلين، ولو وصلوا ليكم قبل البوليس أحتمال كبير جدًا يقتلوكم.
عض ريان على شفتيه بقلق، أسيموت بتلك السهولة، هناك الكثير والكثير من الأحلام لم يُحققها بعد، مثل أن يكون مدرب للسباحة وغيرها، امتعض وجهه وهو يُفكر مليًا في حلمه الذي أصبح صعبًا، سب ولعن السبب وراء عناءه.
انتبه لحديث الشاكر المُتبقي وهو يُشير إتجاه فارس: البوليس أكيد هيروح البيت اللي في الحارة. لازم تنكر وتنفي أي حاجة هيوجهوها، اتصدم خليهم يصدقوا إنك متعرفش حاجة.
اجابه فارس بثقة وهو يضع يده على صدره مُتباهيًا بذاته: متقلقش، كله تحت السيطرة، محسوبك يتوه عشر رجالة في بعض.
لوى شاكر شفتيه مستنكرًا من حديثه، ف لطالما كان هو و ريان الأغبي على الإطلاق، همس متمتمًا بسخرية: اتلم تنتون على تنتن.
بتقول حاجة يا بابا!
اصطنع إبتسامة صفراء على وجهه ثم وقف وهو يُحدثهم: ورايا إجتماع مهم بعد نص ساعة، هدخل ألبس وعلى ما أخرج ملقيش حد فيكم بدل ما ألاقي البوليس طابب في دماغي.
أنهي حديثه ثم دخل لغرفته ناقمًا على ريان بسبب إتلافه لثيابه الثمينة، وبمجرد ما دلف للغرفة التي كان ينام بها الأثنين، وجد ورق الصفقة التي كان يُجهز لها مبعثر وبعض الوريقات مكتوب عليها بعض الكلمات الغبية، ليقرأ آخر سطورها رقتي سبب عنائي فعلم من هو الفاعل، صرخ بعلو صوته حتى كادت أحباله الصوتية أن تُتلف: ريان!
«ومَن يَقتَرف حسَنَةً نَزِد له فيها حُسنًا، إنَّ الله غَفور شَكور».
قال شَقيق بن سلَمة: نِعمَ الربُّ ربُّنا.
يا راجل قوم نروح نشوف بنتك، دي من ساعة ما اتجوزت مروحناش ليها ولا مرة!
كانت تلك الكلمات تصعد من فاه مروة والدة نوال موجهة حديثها لذلك الذي يُنفث دخان نارجيلته ببرود.
طالعها بجمود وهي يُشيح بيده بلا مبالاة: يعني هياكلوا البت يعني ياختي! ما تسيبيها ما هي مرزوعة عند جوزها.
طفح بها الكيل من جحوده، لتصرخ في وجهه بقهر: يا ممدوح كفاية قسوة على البت بقا، مش معني إني خلفتلك البنت بدل الولد اللي كنت عايزه تعاملها بالجحود دا، دي بنتك من لحمك ودمك وهي اللي هتشيلنا بعد ما نكبر ونعجز، خلي عندك رحمة بيها عشان تفتكر حاجة حلوة من اللي عملتها وقت عوزتنا ليها.
نظر ممدوح أمامه بشرود، لكن ليس تفكيرًا بما قالته زوجته، إنما يري بعض الذكريات التي جعلته يكون بتلك الوحشية، هو يحمي ابنته كما يظن هو، ليس عليه حرج في تربيتها كيفما يشاء: أنا بعمل كدا عشان أحميها من نفسها يا مروة.
علمت بما يدور بخلده، خاصةً عند علمه بهروبها من المنزل يوم خطبتها، هو أب وله كل الحق في تربية ابنته، لكن تلك القسوة كان لها نتاج عكسي، فلقد رأت مَن يُعطيها الحنان الذي افتقدته في عائلتها، لتُعطي قلبها لأول من يُعاملها بحنان، حتى ولو كان يخدعها فهي تجهل تلك الأمور، وقفت مروة وهي تنظر له بقوة رامية جُملتها التي جعلته ينظر لها بشكل مخيف: نوال مش زي اختك اللي سابتكوا وهربت زمان عشان تتجوز من عيلة النويهي يا ممدوح.
ذهبت من امامه وهي تعلم أن حديثها يُحرقه من الداخل، تتقاذف أمامه المشاهد الذي حاول دفنها منذ عشرات السنون، جاءت هي وبجملة واحدة ذكرته بما مضي، وتلك الصراعات التي حدثت بسبب شقيقته الماجنة كما في نظره، وكأن حالة من الجمود تلبسته لبضعة دقائق، وهو يُفكر مليًا فيما فعله، فإبنته كانت ستقع بنفس الخطوة التي وقعت بها شقيقته، وكاد ان يقتلها ذلك اليوم لولا وقوف بدر أمامه.
تذكر ذلك اليوم حين استمع لها تُحدث أحد الرجال، حينها اشتعلت البراكين في قلبه، لذلك تحدث مع ابن أخيه المتوفي بدر للزواج منها، لم يوافق بدر في البداية، لكن حينما علم بهروبها كان هو الأكثر تصميمًا على الزواج منها ليُغيد تربيتها، همس بيأس وهو يرمي النارجيلة من بين يديه: بكرة تيجي تشكرني على جوازها من بدر، وإني أنقذتها من ذنب مكناش هتعرف تتوب منه طول عمرها.
فيَا رَحم ن جُد بالعَفوِ إنّي
قَليلُ الزَّادِ تملؤنِي العيوبُ.
والقلبُ يهمسُ ناطقًا أين الخلاص، ويُجيبُ العقل ببرودٍ ليس هناك مناص.
عاد فارس للمنزل ومعه الصغيرين، ليجد قوات الشرطة تحتل المنزل بالكامل، رسم قناع البرود بإتقان وهو يقف أمام الضابط: خير يا باشا!
التفت له وهو يحدجه بنظرات لا يعلم أهي متفحصة أم مُشمئزة، ليتحدث بعدها أمامه وأمام جميع العائلة التي لا تفقه شئ: المدعو ريان الطحاوي و غزل أبو زيد هربوا واحنا دلوقتي بنقوم بواجبنا.
شهق الجميع بصدمة غير مُصدقين لما قاله، ليضع فارس يده على صدره مُتصنع الدهشة بطريقة مُضحكة للبعض: يا مراري! هرب إزاي دا! يالهوي الواد اللي حيلتنا ضاع!
أهذا هو ما أمره به شاكر بحق الله! أهكذا يضلهم! كان معه حق عندما وصفهم بنفس الغباء، نظر له الضابط بإستنكار، وبعد أن كان لديه شك صغير بأن أحدًا من تلك العائلة قام بتهريبه، بات مُتيقنًا تمامًا من ذلك، أمسكه الضابط من تلابيبه وهو يسأله بحده: انت هتستعبط يا روح امك! وديت الواد فين يلااا!
تحول وجه فارس للغضب في ثوانٍ معدودة، نفض يد الضابط وهو ينظر له بإحتقار ثم اردف بسخرية تحمل في طياتها الإهانة: والله دا مش شغلي، المفروض دا واجبكم يا حضرة الظابط، مش حضرتك هتقعد على مكتبك وأنا هنزل أدورلك عليه.
وبحديثه زاد الطين بلة، ليتوعد له في سره بعدما استشعر إهانته، كانت حرب النظرات قائمة بينهم إلا أن تحدث بكر بوقاره المعتاد: احنا منعرفش ريان فين يا حضرة الظابط، وزي ما انت شايف كلنا اتصدمنا بالخبر، وأظن كمان عارف إن ريان مش من العيلة وإنه سكن عندنا من سنتين بس وإيجار في الشقة اللي على السطوح.
هز الضابط رأسه بشك وهو يُطالع الجميع بغموض، إلا أن توقف على فارس الذي كان يحدجه بإستخفاف، استدار للشرطي الذي جاء ليؤدي تحيته ثم قال: مفيش أي حد في الشقة يا فندم.
أمرهم بالهبوط وهو خلفهم، وكاد ان يخرج من المنزل إلا أنه استدار مرة أخري رافعًا سبابته قائلًا لهم بتحذير: لو شوفتوه خلوه يسلم نفسه أسلم ليه.
لم يُجيبه أحد فهبط للأسفل ثم اتجه قاصدًا منزل عائلة أبو زيد.
بعد ذهابه التفت بكر له ينهره بحدة: إيه اللي انت نيلته دا! أفرض كان اتلكك وحط الكلبشات في إيدك كان هيبثي موقفك إيه دلوقتي!
تدخل معتصم في النقاش محاولًا تهدأة أبيه: خلاص يا بابا، فارس أكيد ميقصدش.
ثم نظر لفارس ممسكًا بذراعه ساحبًا إياه تجاه شرفة المنزل الكبيرة تحت نظرات الجميع المتوترة.
وعلي الجانب الآخر.
هبَّ إبراهيم من مجلسه بفزع: بتقول إيه! يعني إيه هربت!
يعني زي ما بقول لحضرتك كدا. بنتك هربت هي والمجرم اللي معاها، ولو مسلمتش نفسها الموضوع هيتطور والعقوبة هتزيد.
أنهي كلماته ثم تبعه رحيله هو والآخرون بعدما قاموا بتفتيش المنزل كسابقه، ونفس النتيجة لم يجد به شئ يُفيده.
نظرت فوزية ل إبراهيم بعدم تصديق وهي تهز ذراعه ليستجيب لها: يعني إيه الكلام دا يا إبراهيم! بنتنا ضاعت خلاص!
تحدث طه يحاول تهدأة الجميع: اهدي يا أم غزل إن شاء الله كل حاجة هتبقي كويسة ومفيش تعقيد.
لم تُجبه بل ظلت تنتحب بصمت وجوارها ميران التي شاركت والدتها في البماء خوفًا على شقيقتها من بطش من لا يرحم، خرج الجد أبو زيد من غرفته مُتخليًا عن مضجعه وهو يستند على عكازه، متشدقًا بنبرة حاسمة قوية: من هنا ورايح مش عايز أسمع كلام في الموضوع دا، حفيدتي هترجع سليمة ويا ويل اللي هسمعه بيولول، احنا مش في جنازة.
نظر ل ميران آمرًا إياها: خدي أمك وادخلي جوه يا ميران
ثم نظر لزوجات أولاده وبناتهم: وانتوا كمان ادخلوا جوه، أنا عايز الرجالة يكونوا هنا بس.
خدعوا لأمره ودلفوا للغرفة الكبيرة، تاركين الاجواء متوترة بين الابناء والحزن يُخيم على الجميع، بادر خليل بالتحدث مع والده وهو يسأل بتعجب: عايزنا ليه يابا!
حام بنظره على وجوههم جميعًا، ثم رمي جملته التي جعلتهم يتصنمون مكانهم في صدمة: تعالوا ورايا لبيت عيلة النويهي...
اللهم أوتد قلوبنا على ما تحب وترضى.
لا نعلم متي ستنتهي تلك المشكلات، ما يهم ألا ينتهي الطعام
كانت تجلس وتغرز العديد والعديد من أصناف الطعام المختلفة وهي تشعر بمعدتها تضور جوعًا، فهي منذُ الأمس وهي لم تأكل ولو بضعة لقيمات، خجلها منه يجعلها تتمني لو تختفي في مكانها، هذا ال بدر يُثير مشاعرها كأنثي، وهي ضعيفة، تخفت مقوامتها عندما يعاملها أحد بحنان.
نوال ضحية الإهمال، باتت تفكر في بدر وفي حنانه، مشاكسته الدائمة لها، وكلمات الغزل التي يرميها بها أمام الجميع دون خجل، كانت تُفكر وتأكل معًا، لترفع عيناها منتوية أخذ زجاجة العصير من أمامها، ليقع نظرها على ذلك الذي يُحدجها بصدمة مُضحكة.
ابتلعت نوال ما بفمها وهي تنظر له بغباء، ثم أشارت له تجاه الطعام المُنتهي كُليًا مُردفة ببسمة بلهاء تُشبه مظهرها الآن: كنت مستنياك عشان ناكل.
رفع حاجبيه بإستنكار وكأنه يقول لها حقًا تنتظريني! ليتجه إليها بخطوات بطيئة وهو يُشير إلى فمها والطعام معًا: نهارك مطين إيه دي ده! عتخلصي على محصول البلد كلياتها إياك!
وضعت قطعة كبيرة من الدجاج وكأنها تُطفي به غضبها، ثم جعدت جبينها بحزن وهي تنظر له بحدة، فكان مظهرها مُضحكًا للغاية خاصةً مع إنتفاخ خديها بسبب الطعام المتكوم بها.
قهقه بمرح ثم وقف قبالتها وهو يُمسك خديها قارصًا إياه بخفة: حتى وانت بتاكلي بتبجي كيف العيال الصَغيرة. بحسك بنتي مش مرتي لاااع.
كان حديثه كفيلًا لتلتمع عيناها بمشاعر متضاربة لم تجد لها تفسير، جسدها يُحثها على إحتضانه إمتنانًا له، وكأن قرأ أفكارها ليحتضنها بحنان، ويده تَمر صعودًا وهبوطًا على ظهرها، متشدقًا بما جعلها تبكي: بجالك كام يوم حزينة يا بت عمي، جوليلي إيه مضايجك يمكن أعرف أساعدك!
ولا إراديًا منها لفت يدها حول خصره لتحتضنه، دفنت وجهها في صدره العريض، لتشعر بالألم الذي حاولت نسيانه يجتاح خلاياها مرة أخري: بابا من ساعة ما اتجوزت مسألش عليا خالص، كأنه ما صدق يخلص مني!
وضع كفه على شعرها يمرر اصابعه به، ثم رفع وجهها بهدوء يمسح دمعاتها وهو يقول مُفترضًا: مش يمكن مشغول علشان إجده مكلمكيش عاد!
هزت رأسها بالنفي وهي تستمر بالبكاء: لأ. هو طول عمره مبيحبنيش أصلًا. عمره ما سأل عليا ولا حتى اهتم بيا. أنا دايمًا آخر إهتماماته. على طول شتيمة وإهانة وصوت عالي وأنا مكنتش ببطل عياط. طول عمره قلبه قاسي عليا كل ده لأني مطلعتش الولد اللي عاش طول عمره يتمناه.
وأخيرًا علم سبب حزنها وإنطفائها منذ أن رآها، لكن حينما طلب منه والدها ان يتزوجها كان خوفه يظهر بشدة للعِيان في صوته، لذلك تحدث مُبررًا: مش يمكن بيعمل إجده عشان مصلحتك!
ابتعدت عنه لتصرخ هي في المقابل بدون وعي: متدافعش عنه. ليه دايمًا عايزين تطلعوني وحشة وغلطانة! ليه أنا اللي تحطوا الذنب عليا! ليه أنا اللي أتعذب لمجرد إني بنت مش ولد!
ورغم عصبيته المفرطة من إرتفاع صوتها وهذا اكثر ما يغضبه وبشدة، قرر أن يتحدث بهدوء وهو يقترب منها مجددًا: دا أبوكِ، وأبوكِ مش هيكون عايز يئذيكِ صُح!
جلست على المقعد بوهن، متحدثة بضعف تغلغل لخلاياها: مش أي راجل ينفع يكون أب، ولا أي راجل ينفع يبني أسرة.
أمسك كفها بحنان ثم أوقفها أمامه وهو يُقبل يدها: انسي عشان تعرفي تعيشي حياتك يا نوال. انسي يابت عمي.
نظرت لعيناه مُباشرة، ولأول مرة تُحدثه بتلك النبرة التي اخترقت حصون قلبه: خليك جنبي ومسبنيش يا بدر، انت الوحيد اللي بحس معاه بالأمان.
احتضنها بدر متأوهًا بخفوت وهو يُحيط خصرها بقوها، وفي النقابل أحاطت هي عنقه: مش هسيبك يا نوال، انتِ خلاص بجيتي حِتة مني ومن جلبي، بجيتي روحي يا نوال.
إيه اللي بيُحصل إهني!
وكانُوا يتواصَون في الشدائد: إنما هي أيامٌ تمضي والموعدُ الجنة، فأبشر.
طوال اليوم وهو يهرول من إمتحان للآخر، كان شهاب في طريقه للعودة للمنزل، إلا أنه لاحظ نظرات الجميع التي تُلاحقه بطريقة غريبة أثارت ريبته، وبينما هو يُفكر في سبب تلك النظرات، سمع صوت جارته وهي تُناديه، ليذهب لها وهو يقول بإبتسامة بشوشة: خير يا أم عماد!
وضعت المرأة يدها أسفل زقنها في حركة شعبية مشهورة، ثم سألته وهي تُمصمص شفتيها: صحيح اللي سمعته دا يا واد يا شهاب!
قطب جبينه بتعجب وهو يسألها: سمعتي إيه يا حَجة!
اقتربت بوجهها منه لتسأله بفضول يتآكلها: انت فعلًا سقطت في المدرسة بتاعتك.
كرمش وجهه بتشنج وهو يُردد خلفها: مدرسة!
أيوا المدرسة. مش الأستاذ بتاعك قالك هتشيل المادة وتجيب مُلحق فيها!
فتح عيناه على آخرهما، كيف عرفت تلك العجوز سره! هو لم يخبر به أي أحد سوا والدته! وصل تفكيره لتلك النقطة ليجز على أسنانه بسخط ثم ذهب من أمامها منتويًا الذهاب لوالدته، أوقفه تلك المرة صوت عم عبده البقال وهو يُناديه، ليُصيح بصوت عالي: صحيح يا شهاب يابني جبت مُلحق!
اتبع حديثه ضحكات مستفزة أثارت غضبه ليصرخ به وهو ينظر حوله ليتأكد من عدم إستماع أحد إليه، ولحظه العثر وجد جميع المارة يحدقون به وكأنه برأسين: أسكت يا عم عبده.
ذهب من أمامه مسرعًا وقد. طفح الكيلُ به، ليهمس عم عبده بسخط وهو ينظر لأثره: الساقط ابو ملحق بيزعقلي! دا انا كنت بطلع من الأوائل.
وصل لعتبة منزله ليجد عمته تهبط الدرج وهي تنظر له نظرات مشمئزة تعجب منها، فقالت وهي تتخطاه: هيحط راسنا في الوحل الفاشل ابو ملحق.
فتح شهاب عيناه بصدمة باتت جلية على وجهه، حط أول خطواته للداخل، ليجد مجموعة من الصغار تحوطه في حلقة وهم يسألونه بفضول: عمو شهاب هو الأستاذ ضربك على رجلك لما سقطت!
لطم شهاب على وجهه وهو لا يُصدق ما يحدث له، فضيحته باتت على كل الألسن وهو الآن عاجز حتى عن الدفاع عن نفسه، توعد لوالدته في سره، ليصعد الدرج بسرعة شديدة غاضبة، فاتحًا الباب بقوة ليجد والدته تقف بجانب والده منتظرًا إياه وملامحه لا تُبشر بالخير أبدًا.