قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن عشر

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن عشر

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن عشر

لو كانت النظرات تحرق لحرقها، بل وتفتتت إلى غبار، هي فعلت أكثر الأمور تجاوزًا، ليس فقط بالحديث مع أحد أفراد عائلة النويهي، بل بتواصلها مع رجل!
إلتقط عابد الظرف من أبيه بتعجب عندما لاحظ تصنمه وتحديقه لشقيقته بتلك الطريقة، ليُصدم هو الآخر، فقد كان الظرف يحتوي على صور لشقيقته سجود في أحضان معتصم النويهي!
تعجب الجميع من حالتهم المصدومة والغير مصدقة، فأردفت سجود متعجبة لأخيها: مالك انت كمان متنح ليه!

ويا ليتها لم تتحدث، وكأن بحديثها ذلك أشعلت فتيل الغضب لكليهما ليُحدجاها بنظرات غاضبة مستحقرة، ذهب إليها أبيها بخطوات غاضبة، وما كادت أن تتحدث حتى لطم يده بوجهها بصفعة قوية أدت إلى نزيف شفتها السُفلية.
فزعت أميرة من تصرف زوجها ذاهبة لإبنتها لتخبئتها داخل أحضانها، ووقفت تسبيح أمام والدها تمنع وصوله مرة أخرى لشقيقتها متحدثة بقلق باكٍ: استهدى بالله بس يا بابا في إيه!

وتلك المرة لم يستطيعون منعها عن يد عابد التي طالت بخصلاتها تُمسكهم بشدة، وفي المقابل زادت صرخات كُلًا من تسبيح ووالدتها خوفًا على سجود، ليصدح صوت عابد الصارخ وهو يُريها تلك الصور التي فزعت عند رؤيتها: إيه علاقتك بإبن النويهي! كنتِ بتعملي معاه إيه! بتقابليه من إمتي إنطقي!
تأوهت بقوة وهي تمسك بيده الممسكة بخصلات شعرها: آااه يا عابد سيب شعري.
شدد من إمساكه منه وهو يصرخ بالمقابل: بقولك انطقي!

لم تتحدث ولن تتحدث، بل أغمضت عيناها في إعتقاد منها بأنها ستتحمل الألم، لكن ذهب هذا هباءً عندما هجم عليها والدها مُسددًا إليها الضربات واللكمات وكأن الصدمة قد أعمت بصيرته عنها أو عن صراخها القوي الذي انتشر في الأرجاء.

لم يستوعب عابد غضب والده الشديد، فأحال بينه وبين شقيقته التي كادت أن تموت بين يديه، دافع عنها رغم غضبه الشديد منها، لكن في النهاية تظل هي شقيقته الصغرى وابنته الروحية: خلاص يا بابا كفايا هتموت في إيدك.

لطمت أميرة على صدرها وهي ترى حالة إبنتها المُزرية بين ذراع زوجها الذي انقض عليها كالأسد الذي رأى فريسته، لتأخذها رغمًا عن الجميع بين أحضانها مُبعدة إياها عنهم صارخة بوجوههم: محدش يقرب من بنتي، انتوا سامعين!
بينما جلست تسبيح جانب شقيقتها ووالدتها على الأريكة مُمسدة على خصلاتها ببكاء، لم تتوقع ردة فعل والدها يومًا، خاصةً وأن سجود لها مكانة خاصة لديه، والجميع يعلم بذلك.

لكن لم يكتفي بذلك، بل أخذها رغمًا عنها ممسكًا بها من ذراعها هاززًا إياها بعنف: انطقي، بتقابلي معتصم النويهي من إمتى!
أخذت بعض الوقت لتجميع شتاتها والسيطرة على شهقاتها المرتفعة، فظن والدها بأنها لا تريد التحدث، لذلك صفعها مرة أخرى على وجنتها بصفعة أشد لتفقد على أثرها وعيها.

في نفس الوقت بمنزل عائلة النويهي، جلس ريان مقابلًا ل فارس، ثم تحدث وهو ينظر لتعابير وجهه الحزينة: مالك بقا!

زفر بثُقل على قلبه ومن ثَم بدأ بالتنفيس عن حزنه وغضبه، وها هو صديقه المقرب يجلس أمامه وهو يروي له ما حدث في الأيام السابقة، روى له قدوم عائلة أبو زيد للحديث، وتشاد الحديث إلى أن وصل للمشاجرة، وسيرة والدته التي أتت دون سبب! وعند ذِكر سيرة والدته تحشرج صوته بألم متذكرًا الحديث المُطعن في شرفها وعلى أنها خاطية!

أنهى حديثه تزامنًا مع هبوط دمعة حارقة من عيناه: أمي اللي عاشت طول عمرها بتدور على سعادة الكل قبل سعادتها طعنوا في شرفها قدامي. أنا بكره العيلة دي. بكرهها ومستحيل أنسى إني بسببهم خسرت أغلى حاجة في حياتي. خسرت أمي.

أمسك ريان بيده شاددًا من أزره، قبل أن يُكمل حديثه المُشجع له: والدتك مامتتش. والدتك لسه عايشة جواك. الكل عارف سيرتها الطيبة، وإنها أد إيه هي كانت ست محترمة وبتعامل الكل بما يرضي الله، سيب اللي يتكلم يتكلم، واعرف إنها في مكان أحسن مني ومنك. نسيت لما كنت بتحكيلي! نسيت لما قولتلي إن الكل هنا كان بيدعيلها بالرحمة! نسيت لما قولتلي إن الشارع كله عيط على فراقها! أكيد منسيتش. انت قوي. متخليش حد يأثر عليك بكلامه. طنط ميادة أنا كان أشوفها من كلامك عليها ومن كلام العيلة كلها عليها، ادعيلها بالرحمة. روحلها وزرها في قبرها. طلع صدقة جارية على روحها. هي دلوقتي محتاجة لدا. أكيد مش هتبقى عايزة إنك تفتكر الوحش بس وتسيب كل الحلو اللي عشته. افتكرلها كل دعوة كانت بتدعيهالك وكل الحنان اللي إدتهولك وقول الله يرحمك يا أمي. متقفش عند نقطة الصفر وارجع قوي بذكرياتها. هي محتاجاك زي ما انت محتاجلها. محتاجة دعواتك.

لم يكن يريد سوى لذلك الحديث، إختياره للصديق الصحيح هوَّن عليه الكثير، احتضنه فارس بحب شديد، ثم أردف بإشتياق متألم: أمي وحشتني أوي يا صحبي، وحشني حضنها ودعواتها ليا، وحشني كل حاجة فيها.
أغمض ريان عيناه بحزن مبادلًا عناقه، هو يعلم مدى تعلق صديقه بوالدته الراحلة، ما سرده له من أحداث حدثت بالفترة الأخيرة أعاد له جرح لن يلتألم أبدًا بمرور السنوات، تسللت العبرات لعيني كليهما، والجرح واحد. الفقد!

في نفس الوقت بالخارج، جلست غزل على مقعد بالصالون، و شهاب بالمقابل لها، وعلى الأريكة الكبيرة بالمنتصف جلس كُلًا من مدثر ولوچي، لف مدثر ذراعه حول لوچي المسترخية على كتفه موجهًا حديثه ل غزل المصدومة من أفعال الصغيران: إزيك يا طنط!
تشنج وجه غزل من كلمته تزامنًا مع إرتفاع جانب شفتيها بإستنكار: طنط! طنط إيه يا عنيا!
أومال أقولك إيه!
عدلت من حجابها في حركة وهمية مردفة بغرور: قولي يا غزل.

اعتقد مدثر من طريقتها بالحديث بأنها تتكبر، لذلك مصمص على شفتيع مردفًا بوقاحة: ومالك رافعة مناخيرك للسما كدا! إيش حال ما كنتِ هربانة مع أبويا يا ولية!
فرغت غزل فاهها ناظرة له بعدم تصديق، و لوچي تُطالعها بشماتة طفلة صغيرة تُكِن لها الحقد لمغازلة مدثر لها منذ قليل.
ضرب شهاب الأخر بقدمه ناظرًا له بصرامة بدعوة صريحة للتأدب، لينظر ل غزل المصدومة مُتحدثًا ببلاهة: لمؤأخذة يا أبلة.

جزت على أسنانها بغيظ من تلك العائلة التي تُثير حنقها بحق، لتقول بعصبية ولم ترى هذان القادمان خلفها: لا عادي، ما هو ابن ريان هتوقع منه يكون محترم إزاي!
الله! وأنا عملت إيه دلوقتي!
كان هذا صوت ريان الحانق الذي أتى مع فارس للتو، ليجلس بجانب إبنه سائلًا إياه: عملت إيه فيها يا قلب بابا عشان تتعصب كدا؟

رسم مدثر على ملامحه علامات الإنكسار والحسرة: معملتش حاجة يا بابا. هي اللي مش قابلة مني كلمة. محسساني كأني ضرتها يا خويا تخيل!
نظر ريان ل غزل بعتاب قبل أن يجذب ابنه في عناق دافئ: متزعلش منها يا حبيبي، هي على طول روحها في مناخيرها كدا ومش بتطيق حد، بس هبلة وقلبها أبيض والله.

هز مدثر رأسه بتأثر وهي ينفي متابعًا بألم: لأ يا بابي لأ، دي حتى كانت بتبصلي بقرف عشان كنت بصالح لوچي وببوسها بعد ما دخلتوا انت وعمو فارس، أنا مش عارف هي بتكرهني كدا ليه!
مسح ريان على خصلاته بحنان وكأن الموقف حقيقي ويدعي كل هذا البكاء: خلاص متزعلش. طلعت مش معايا أنا لوحدي اللي بتفهمني غلط، دايمًا عندها سوء ظن بالناس أو ر كدا.

أكدت لوچي على حديثه ناظرة تجاه غزل بغيرة: معاك حق يا عمو. هيروحوا من ربنا فين بس!
كل هذا وتلك المسكينة تُتابعهم بصدمة، هل كل هذا الحديث موجه لها هي! هل هي السيئة الآن! هذه العائلة وقحة بحق، وقحة لدرجة لا توصف.

كان جميعهم منهمكين في الحديث لكن لم ينظروا لذلك الذي يحترق، كان فارس يُطالعها بحقد حقيقي، لقد كَرِه تلك العائلة جميعها، الرجال والأحفاد، الجميع مذنبون، الجميع قتلوا والدته المسكينة، وهو ظل وحيد دونها.
لاحظ ريان نظراته الكارهة تجاهها ليشعر بالضيق منه ومن ذاته، والآن عليه الإعتراف له بشئ شديد الخطورة، شئ من الممكن أن يُنهي صداقتهم للأبد! لكن لن يعد عليه الإخفاء.

زادت صرخات أميرة من مظهر ابنتها الهامد على الأرض، ليستمعوا إلى صوت طرق الباب الشديد، وكانوا هؤلاء أفراد العائلة الذين هبطوا بهلع عند إستماعهم للصرخات القادمة من منزل طه، ذهبت تسبيح مسرعة لفتح الباب دون النظر لما ترتديه، لتجد أمامها إبراهيم وخليل الذي تحدث بفزع: في إيه يا تسبيح يا بنتي!
أمسكت يده برجاء وهي تبكي بشدة: إلحق سجود يا عمي بابا هيموتها.

صُدم كلاهما ثم دخلا ليجدا أن طه سكب الماء فوق وجهها دفعةً واحدة لتستفيق، وبالفعل شقهت بقوة عند اصطدام الماء بوجهها، فأصبحت بين حالة الوعي واللاوعي.
أمسكها والدها مرة أخرى من خصلاتها وهو يسألها بغضب حارق: انطقي يا بنت ال.

دفعه خليل بقوة حتى ابتعد عنها بينما إبراهيم احتضنها مُخبئًا إياها بين أحضانه حتى لا تطالها يد والدها المتحول في هذه الأثناء، بكت بين ذراعي عمها تشهق ببكاء يمزق نياط القلب ووجها ملئ بالبقع الحمراء من ضربات أبيها، غلت الدماء بجسد إبراهيم عند رؤيته لحالتها، لينهره صارخًا: انت اتجننت يا طه! تعمل في بنتك كدا!

حاول طه الإفلات من ذراعي خليل التي تُقيده وهو يُصيح بهم بغضب: سبوني. سبوني أربيها الو اللي دايرة على حل شعرها دي!
صُدم الجميع من إعترافه وحتى هو صُدم من حديثه، تهدلت ذراعيه بأسى بالغ متمتمًا بحسرة: بعد ما كبرتها وشيلتها في حباب عنيا تيجي هي وتهد دا كله!

ثم نظر لها بعينان تصرخ بالعتاب قائلًا: ليه تكسريني بالشكل دا! ليه تهدي كل اللي بنيته ليه! انتي عارفة إنك كنتِ أقرب واحدة ليا، واخواتك كمان عارفين، ليه تكسري كل دا!

أنهى حديثه ودموعه تهبط بحسرة على تربيته التي ضاعت منه، لم يُقصر في تربيتها، لم يُهمل، لكنها خانته، لم تحتمل نظرات أبيها المعاتبة لها، لذلك شهقت ببكاء شديد واضعة يدها على فمها وهي تُشاهد تألمه وحسرته، وقفت بعد مجهود مضني ثم دلفت لغرفتها مسرعة، لتُغلق الباب خلفها جالسة خلفه وهي تبكي بحسرة.

ذهب عابد إلى والده ليُعينه على الوقوف بعدما خانته قدمه هي الأخرى، لم يستطيع التوقف أكثر، لذلك ساعدوه في الجلوس على أقرب مقعد له، جلس إبنه بجانبه مربتًا على صدره: هون على نفسك يا بابا. هون على نفسك يا حبيبي عشان خاطري بدل ما يحصلك حاجة.

هز طه رأسه بيأس وهو يشعر بألام صدره تتضاعف، لكنه صمت لا داعي لأن يُقلق الجميع، جلست فوزية جانب أميرة التي تبكي بشدة، تضرب على فخذها بحسرة مما حدث في منزلهم الجميل في عدة ثواني: إهدي يا أميرة، شِدة وهتزول والله متقلقيش.
أما بالداخل حيث غرفة تلك الباكية، وقفت أمام مرآتها تنظر لنفسها بهدوء مريب، غاب العقل وذهب المنطق ولم يبقى سوا وسوسة الشيطان.

مظهرها سئ، ذو وجه بشع، تكره ذاتها، حياتها مُنقلبة، ليست جميلة، حظها عَثِر، وأخيرًا لا أحد يُحبها، إذن لما عليها العيش!

لم تشعر بدموعها التي تسيل، أُعميت بصيرتها، تعالت شقهاتها وتعالى بكائها حتى ارتفع لدرجة الصراخ، تضرب على وجهها بكره لنفسها أحيانًا وتشد على خصلاتها أحيانًا أخرى ولم تستمع لأحد، حتى أنها لم تستمع لطرق الباب ولا لصراخ والدتها الخائفة عليها، أمسكت بزجاجة العطر الخاصة بها ثم دفعتها للمرآة بصراخ هستيري تملك منها، لتلتمع عيناها بشظايا الزجاج المتناثرة حولها، وأمسكتها. أمسكتها ولم تعلم بعواقب ما فعلته بعدها،!

وبالخارج. لطمت أميرة على وجهها مردفة بصراخ: إلحق أختك يا عابد. سجود بتضيع مني يا طه.

بينما طه كاد أن يُصاب بذبحة قلبية من خوفه على فلذة كبده، أبعد عابد الذي يطرق على الباب ويناديها بفزع من صراخها، خفق قلب الجميع من عدم إجابتها، بل ومن السكون الذي أحاطها بالداخل فجأة! طرق بقلب خافق وهو يقول بإرتعاشة خوفًا من أن تكون قد أقدمت على شئ متهور: س. سجود! افتحي يا حبيبتي، افتحي خلاص مش هعملك حاجة والله. افتحي عشان خاطري.

همس الأخيرة بصوت مبحوح وقلب يئن من الخوف والألم، أبعده إبراهيم مسرعًا ويبدو أنه دخل في حالة صدمة، قبل أن يقول موجهًا حديثه ل عابد المتصنم هو الآخر: عابد ركز معايا. دلوقتي هنكسر الباب مقدمناش وقت. لازم نكسره بأسرع وقت.
هز رأسه مؤكدًا بهستيريا وكأنه الآن لاحظ سوء الموقف، ليهمس دون وعي: سجود.
سجود هتبقي كويسة بس ركز انت معايا، هعد تلاتة، ومع تلاتة هنزق كلنا، إتفقنا!

بدأ إبراهيم بالعد والجميع قلوبهم تتآكل من الخوف، ومع الثالثة بدأوا بدفع الباب بقوة، ولكن لم يفلحوا، فقاموا بتجربتها للمرة الثانية وقد انضم لهم أحمد لتُصبح القوة أشد ولُحسن حظهم فُتِح الباب، أو لسوء حظهم،!

تشنج الجميع أماكنهم، تُصلبت أجسادهم ولم يقدروا على الحراك، فقد وجدوها كالجثة الهامدة على الأرض الباردة الصلبة، والدماء متناثر من حولها، توقفت قلوبهم لثانية، أو ربما لثانيتين! لكن، الدماء ليست من يدها! بل من رقبتها وتحديدّا عند عرقها النابض!
ولم يُسمع بعدها سوى صوت صرخات أميرة التي هزت أرجاء الشارع بأكمله تصرخ بإسم إبنتها الراحلة!

فزع الجميع وأولهم غزل التي استمعت للصراخ القادم من منزلها المقابل لمنزل عائلة النويهي، لتتسمر مكانها عندما استمعت للصراخ بإسم إبنة عمها سجود، وكأن عقلها توقف لعدة ثواني متسائلة: إيه اللي حصل!

هبَّ الجميع من مقاعدهم وقلوبهم تطرق بشدة، لم يشعر ريان بذاته وهو يهرول خلف غزل التي لم تنتظر لثانية واحدة واتجهت نحو منزل عائلتها لتتصنم، تصلبت محلها عندما وجدت جميع أفراد عائلتها يبكون وإمارات الفزع بادية على وجوههم.

ولم يشعروا بذلك المتسمر محله، كان يُحدثها منذُ قليل والآن يراها مُحملة على يد أخيها ورقبتها تنزف الكثير من الدماء! وضع معتصم يده على قلبه الذي شعر بتوقفه، لم يستوعب ما حدث حتى الآن، لن تتركه. ليس بعدما أحبها تذهب هكذا!

ابتلع ريقه الجاف ولم يشعر بالدموع التي أغرقت صفحات وجهه، لم يشعر بشئ سوى ذهاب روحه عند إنطلاق السيارات بها! أغمض عينه بقوة علَّه يستيقظ من حلمه هامسًا بصوت مبحوح: يا رب أصحى. يارب سجود مش هتسيبني صح! يارب مش بعد ما لقيت روحي تاخدها مني.

وفتح عيناه يتمنى أن يجد نفسه في غرفته، لكنه وجد ذاته في الشارع وسط الجيران الذين خرجوا من منازلهم لرؤية ما يحدث، وقتها صرخ بقوة أدت لتألم حنجرته: أكيد حلم وهصحى منه. سجود مش هتسيبني.
ذهب إليه ابن عمه شهاب الذي كان يُراقب الوضع من بعيد: في إيه يا معتصم.
نظر إليه بتيهة مشيرًا للسيارة التي أخذوا بها سجود بلا وعي: سجود مش هتموت وتسيبني صح! سجود مسابتنيش، أكيد مش هتعمل فيا كدا لأ.

فتح شهاب عيناه على آخرهما بصدمة، متحدثًا بعدم تصديق: انت. انت ليك علاقة ببنت أبو زيد.
شهق ببكاء وحتى الآن لا يصدق متمتمًا بإنهيار شديد غير واعي بمن يقف خلفه: بحبها، بحبها يا شهاب. هموت لو جرالها حاجة، واللهِ العظيم هموت.

لم ينتظر أن يُجيبه شهاب، لن ينتظر أحد وسيذهب خلفها وليحدث ما يحدث، استلقى سيارة جده المركونة بجانب المنزل بعدما أخذ مفاتيحها من على التلفاز حيث يضعها دائمًا، ثم انطلق خلفهم مسرعًا، وبالطبع سيذهبون لأقرب مشفى هنا، وصل بعد قيادة دامت ربع ساعة تقريبًا وسأل على مكانها، لتُخبره الممرضة بأنها في غرفة العمليات وأتت بحالة حرجة للغاية، وهنا توقف كل شئ، توقف الزمن، الساعات، وحتى أنفاسه توقفت هي الأخرى، وبصعوبة شديدة صعد إلى غرفة العمليات ليستمع للخبر الذي هز بدنه كاملًا.

جلست غزل بمنزل عائلتها بعدما أمرتها والدتها بالمكوث، تذكرت نظراتها حين احتضنتها باكية، لا تعلم أهي حزينة من أجل إبنه عمها أم سعيدة لرؤيتها، وللحقيقة هي لاحظت حيرتها بين السعادة والحزن، لكنها شجعتها على الذهاب خلفهم لطمئنتها على سجود.

جلست تبكي بقهر وجلس ريان جانبها ينظر لبكاؤها بحزن، لا يعلم كيف يهون عليها، حزنها يقتله، أمسكها من يدها بحنان مربتًا عليها قبل أن يُردف: كفاية عياط عشان خاطري، متقلقيش هتبقى كويسة واللهِ.

شهقت بصوت مرتفع ولا تعلم كيف تُجيبه، هي تشعر بأن قلبها يكاد أن ينفجر من شدة الضغوطات التي بها، لتهمس بصوت مبحوح ومتحشرج من شدة البكاء: سجود يا ريان بتضيع. خايفة تموت، مكنتش بعتبرها بنت عمي بس. لا كنت بعتبرها أختي الصغيرة، بريئة ونقية وبتحب الكل، مش عارفة إيه اللي حصل ووصلها لكدا، بس أنا قلبي واجعني أوي.

تألم قلبه بشدة، وتسللت بعض العبرات لعينيه، لا يعلم كيف يُخفف عنها، وهو مَن كان يُخفف عن الجميع، لكن معها الأمر مُختلف! فاحتضنها...
احتضنها بقوة علَّ قلبه يتوقف عن التألم، أحاط خصرها بذراعيه دافنًا إياها بين عضلات صدره القوية، وهي بكت. بكت وشهقت بألم وعناقته هي الأخرى، وكأن بين أحضانه النعيم، لكنه نعيم مُحرَّم!

دقات قلبها الصاخبة في قربه هدأتها. دفئ أحضانه أشعرها بالأمان. وحنانه، وآه من حنانه الذي تعشقه. تعشقه!
قطبت جبينها من تفكيرها وتصنمت لبرهة، بماذا فكرت! ابتلعت ريقها بتوتر شاعرة بربتاته على ظهرها، وهدهدته لها وكأنها طفلة، همساته اللطيفة كلطافته، تمتمته بإسمها لإيقافها عن البكاء، وأخيرًا نبضات قلبه الصاخبة التي شعرت بها تحت كف يدها، وسؤال يدور بين دهاليز عقلها؛ لِما فؤاده يطرق بتلك الشدة!

ابعدت وجهها عن صدره بتوتر وهي تعض على شفتيها بخجل، لتُقابل وجهه وبسمته الساحرة، ناظرة لعيناه الرمادية التي تلتمع بشغف، وكأن بذلك العناق هدأ صخب كلًا منهما، أو ربما زاد!
انتِ كويسة!
سألها بصوت خفيض لتومأ بالإيجاب شاعرة بالسخونة تسري في أوصالها، لتسمعه مُكملًا حديثه بعبث وَقِح كعادته: هتفضلي في حضني كدا كتير! لو عاجبك أبقى أحضنك كل يوم!

خرجت من أحضانه مسرعة مبتعدة عنه بإحراج، لتقول بحدة محاولةً لمداراة خجلها: انت. انت قليل الأدب ومش محترم.
اقترب منها عدة خطوات سريعة ليقف قبالتها مباشرةً، ليتشدق بمكر: قولتيلي كدا من شوية يا «غزالة»
حدقت به بتعجب لتُردد خلفه بإستغراب: غزالة!
أكد لها بالإيجاب ليتمتم بصوت هامس: اه، غزالتي.

وهل لطرق القلب صوت! هكذا سألت ذاتها عندما شعرت بصوت نبضات قلبها تطرق بصخب، ابتلعت ريقها بتوتر وعيناها تدور في جميع الإتجاهات عدا وجهه، بينما هو كان ينظر لها بتمعن، تسحبه لها ببطئ ودون وعي، لا يشعر بالوقت في حضرتها، اقترب لها ببطئ وهي تبتعد للخلف حتى شعرت بالحائط الصلب خلف ظهرها، توترت بشدة من قُربه خاصةً وأنه أصبح أمامها مباشرة، شعرت بنهيج صدره لتشهق بعنف عندما استند بجبهته على جبهتها، وصوته الهامس يتردد في أذانها كأنه صدى صوت ولكن جميل: غزل، أنا، أنا ب...

قطع حديثهم صوت طرق الباب، لتُبعده بيدها عن محيطها وتهرول إلى غرفتها، لكنها تصنمت محلها عندما وجدت شقيقتها ميران تقف فارغة الفم، وكأن على رأسها الطير، سحبتها غزل مسرعة لتُغلق الغرفة خلفهم وصدرها يعلو ويهبط بسرعة شديدة.
وبالخارج. فتح ريان باب المنزل ليجد صديقه فارس يقف أمامه وعلى وجهه معالم الإمتعاض، أفسح له الطريق وكأنه صاحب المنزل قائلًا بترحيب: تعالى يا فارس. واقف ليه البيت بيتك.

طالعه فارس بضجر ثم دلف للداخل بعدما رأى أن جميع أفراد العائلة خارج المنزل، وبالطبع دلف خلفه هذان المُلقبان بطفلان! جلس على الأريكة ولم ينبث ببنت شفة وعلى الجانب الآخر جلس كُلًا من مدثر ولوجي، استغل فارس تلك الفرصة مُردفًا دون مراوغة: حبيتها يا ريان.

كان ريان يعلم حساسية صديقه تجاه تلك العائلة، لذلك لم يُجيب، لا يريد خسارته، لا يريد فقدانه بعدما وجد نصفه الآخر، لكن هو أيضًا لا يريد خسارتها. أأحبها! نعم، ويعترف، ويحب صديقه أيضًا، لذا كان شارد ولم يُجبه.
وضع فارس يده على كتفه متسائلًا: جاوبني يا ريان، حبيت بنت أبو زيد!
تهدلت أكتافه ليُجيبع بأسف: غصب عني يا صحبي، والله العظيم غصب عني.
أنزل فارس يده من عليه ثم هدر عاليًا بإبنته: لوجي، يلا.

كادت ابنته أن تعترض، فذهب إليها وأمسكها من ذراعها قِسرًا وهو يجرها خلفه دون الحديث، نظر له ريان بحزن شديد وداخله يتألم، يشعر بأنه على مقربة من فقد صديقه، وإن انتهى الأمر بنسيانها، للأسف لن يستطيع نسيانها.

نظر حوله بضياع ليجلس على المقعد دافنًا رأسه بين كفيه وهو يُفكر في حل وسط يُرضي الطرفين، ذهب إليه مدثر ببطئ مربتًا على ظهره دون الحديث، ليرفع ريان رأسه له بتعب، وضع مدثر قُبلة خفيفة على وجنته قائلًا بحنان اكتسبه منه: كل حاجة هتعدي يا بابا.
سحبه ريان لأحضانه، وحقًا وجود إبنه في حياته يُهون عليه الكثير، يُمثل كل حياته حرفيًا دون مبالغة، العائلة، الأصدقاء، الأهل، الأب، والجميع.

بداخل الغرفة...
تحدثت ميران بخطر وهي تنظر ل غزل بتحذير من المراوغة: متلفيش وتدوري عليا، عايزة تفهميني إن بعد كل اللي شوفته دا مجرد علاقتكوا صحاب بس.
تلعثمت في الإجابة مبررة: ا. اه. قعدتنا مع بعض كتير خلتنا صحاب واللي انتِ شوفتيه مجرد وهم مش أكتر.
استندت ميران على ظهرها بالفراش قائلة بخبث وهي ترفع لها حاجبها: بس باينه بيحبك يابت، عنيه القمر دي فضحاه.

توترت أكثر مردفة بتلعثم: اي. إيه! حب إيه وزفت إيه، وبعدين دا متجوز ومخلف. اسكتي يا بت انتِ.
هزت لها ميران كِلا حاجبيها وهي تقول بضحك: بكرا نشوف يا غزالة.
تأففت غزل من مراوغة شقيقتها، لذلك أمسكت بالوسادة وألبستها بوجهها كاتمة ضحكاتها كُليًا، وظلت كما هي تُفكر في حديثها، هل يُحبها!

ابن النويهي هو السبب. والله لهدفعه التمن غالي.
هكذا همس طه بحقد ووجه مملوء بالدموع بعدما دخلت ابنته غرفة الطوارئ، وللأسف استمع له معتصم الذي وصل لتوه.
كل ما حدث بسببه هو! سؤال يتقاذف داخل عقله يوقفه عن العمل، اقترب ببطئ حتى وصل إليهم متسائلًا دون وعي: ف. فين سجود!

التفت إليه الجميع، صُدموا ولم يتوقعوا حضوره بالمرة، وأول من تدارك بالأمر هو عابد الذي ذهب إليه مُسرعًا ممسكًا إياه من ياقة قميصه يهزه بقوة تزامنًا مع صراخه الشديد: انت إيه اللي جابك هنا يا! وديني وما أعبد لهسففك التراب. واللهِ لهجيب حق أختي منك يا حقير.

أنهى حديثه لاكمًا إياه في وجهه بقوة أدت إلى ترنحه، تماسك بصعوبة وكل هذا لم يُهمه، ليتسائل مرة أخرى بألم شديد: عايز أشوف سجود بالله عليك. قولي إنها كويسة بس وأنا همشي ومش هتشوفوا وشي والله.
أمسكه عابد مرة أخرى من تلابيه وهو يهزه متشدقًا بألم: أختي بين الحيا والموت بسببك انت. أختي بتموت جوا ومش عارفين هتطلع عايشة ولا لأ.

هبطت دموعه بقوة وهو يهز رأسه نافيًا، حتى شهق بعنف وهو يتحدث: مينفعش، مينفعش تموت وتسيبني، مينفعش.
كان يهزي بها بهستيريا وكأنه لا يحبذ فكرة موتها وتركه وحده، استمع إلى صوت والدتها الباكي ونظر تجاه والدها الذي يجلس بصدمة حتى الآن، قاطعهم خروج الطبيب وعلى وجهه معالم الأسف الشديد، ذهبت إليه أميرة متحدثة برجاء: بنتي. بنتي عاملة إيه يا دكتور.
صمت الطبيب قليلًا ثم أردف بصوت مجهد وآسف: للأسف،!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة