قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع عشر

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع عشر

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع عشر

تصلبت أجسادهم من نبرة الطبيب التي لا تدل على خير، صمت الطبيب قليلًا ثم أردف بصوت مجهد وآسف: للأسف المريضة دخلت في غيبوبة، لحقناها بالعافية ودا لأنها نزفت دم كتير، من حُسن حظها إن الآلة الحادة اللي استعملتها مغرزتش في الوريد، وإلا لقدر الله كان ممكن تتوفى، ومن الواضح إن حصلها حالة تذبذب وهي بتقدم على الإنتحار، ودا كان شئ في صالحنا، بس حالتها مازالت صعبة، ادعولها الساعات الجاية تمر على خير ومنفقدش المريضة، عن إذنكم.

لم يشعروا بذهاب الطبيب من أمامهم، بل كانت عباراته تتردد داخل عقولهم ادعولها الساعات الجاية تمر على خير ومنفقدش المريضة، جملة صداها كان في عقول الجميع، وخاصةً ذلك الذي جلس أرضًا وبكى!
استندت أميرة على حائط المشفى قائلة بعدم تصديق: يعني إيه! يعني أنا بنتي كدا راحت!

ساندتها فوزية التي كانت تبكي بشدة هي الأخرى قائلة بمؤاذرة: اهدي يا أميرة. الدكتور قال لحقوها أهو. تعالي. تعالي نروح نصلي ركعتين وندعيلها تفوق وترجعلنا بالسلامة.
شهقت بعنف وهي تضع يدها على فمها بعدم تصديق وخوف، ثم ذهبت معها وهي تُردد جملة واحدة بإنهيار: متختبرنيش في بنتي يارب، متختبرنيش في بنتي يارب.

نظر لها طه بعجز وهي تبتعد مع زوجة أخيه، قلبه يكاد أن ينشق من الألم على فلذة كبده، ظل يؤنب نفسه ويجلد بها بشدة، فهو من أوصلها لتلك الحالة، هو من أقدمها على الإنتحار، جلس على المقعد بإنهاك غير قادر على التنفس، يشعر بأنفاسه وكأنها نصل حاد تخترق عنقه، ليكون أول من ينتبه له هو معتصم الذي كان يبكي في زاوية الطرقة، ليهرول تجاهه جالسًا جانبه قبل أن يتحدث بهلع جذب إنتباه الجميع: مالك يا عمي!

نظر له طه بدموع وبدأت الصورة تتشوش أمامه، ذهب إليه عابد مسرعًا متحدثًا بفزع: بابا! مالك يا حبيبي!
ظل يُتمتم ببعض الكلمات وكأنه لا يشعر بوجود الجميع حوله من الأساس، كل ما يأتي أمام عيناه هي صورة ابنته والدماء تُحطيها من كل جانب، إستطاع معتصم أن يتلقط كلمة واضعة من بين همساته الضائعة وهي: بنتي، بنتي.

وللحق كاد معتصم أن يبكي مرة أخرى، لوهلة شعر بأنه السبب الرئيسي في ذلك، وحتى الآن لا يعلم ما حدث، لذلك أردف دون أن يُراعي عواقب الأمور: إيه اللي وصلها لكدا!
وكأن بسؤاله أيقظ الوح الكامن داخلهم، حدجوه جميعًا بنظرات حارقة ما عدا أبيها الماكث بضعف الذي تحدث بوهن: انت. انت السبب...
نظر له معتصم بصدمة وقلبه يطرق بعنف، ليستكمل طه حديثه بوهن مُبكي للجميع: وانا. انا كمان السبب. بنتي بتضيع مني.

إزاي أنا السبب!
هكذا همس بصدمة جليَّة على قسمات وجهه قبل أن يُوقفه عابد بحدة صارخًا به: أيوا انت السبب. اطلع بقى من حياتنا ومن حياتها. مش كفاية اللي وصلتله بسببك، بس الغلط مش عليك لوحدك. الغلط علينا إن احنا مخدناش بالنا عليها من واحد زيك.

اشتلعت النيران بعين الآخر، لكن ليس لسبه أو إهانته، بل من أجل سجود النائمة كالموتى بالداخل، ليُمسكه من تلابيبه يهزه بقوة: أنا معملتش حاجة، انت بتقول إيه! إزاي أنا السبب!

أنزل عابد يد معتصم بقوة متشدقًا بما جعل النيران تضرم داخل جسد الآخر: بسبب مقابلاتك السرية مع أختي، بسببك انت ومش سبب حد تاتي أختي بقت بين الحياة والموت، انتحرت عشان قسينا عليها شوية لما عرفنا عملتها ومقابلتها ليك، ضربانها أيوا بس دا حقنا، عايزنا نعمل إيه لما نعرف إن بنتنا بتنزل تقابل شاب من ورانا! ناخدها بالأحضان ولا نعملها فرح! عيني اتعمت ومبقتش حاسس بحاجة غير وأنا بضربها بالقلم، لكن دا!

قال جملته وهو يُشير لأبيه التي تسقط دموعه وهي يتذكر ما حدث من بدايته، ليستطرد عابد حديثه: دا اللي رباها وكبرها وعلمها وشلها على كفوف الراحة وراحت هي بكل أنانية وكسرتش بخاطره وثقته، كسرته من غير ما تفكر اللي بتعمله دا غلط ولا صح. كسرته وكانت بتقابلك من ورا أهلها ويا عالم إيه اللي حصل غير المقابلات! مش مهم احنا حاسين بإيه. الراجل المسكين دا حَس بإيه لما يشوف صورة بنته واقفة مع واحد تاني وقريبة منه لدرجة تخلي اللي يشوف الصور دي يظن بيها ظن مش كويس. أختي سمعتها هتتمس بسبب واحد حقير زيك. أختي انتحرت بسببك مش بسببنا زي ما بابا قال. بسببك انت فاهم!

قاطعه معتصم بصراخ ودموعه تسقط بلا رحمة: مش بسببي. أنا و سجود مبنعملش حاجة غلط، كنا مجرد صحاب من صغرنا. لحد ما حصل المشاكل اللي بين العيلتين ومنعونا عن بعض، بس مكناش بنرتاح مع حد غير لبعض. تعرف انت إيه عن أختك ها! تعرف إيه عنها قولي! تعرف إنها حاولت الإنتحار قبل كدا كذا مرة! طيب تعرف هي بتفضل تعيط بليل لوحدها لحد ما تنام من الوجع! تعرف حاجة عن ألمها النفسي! تعرف إنها معندهاش ثقة في نفسها وشايفة نفسها مش حلوة لمجرد إنها مش لاقية الإهتمام من اللي حواليها! كام مرة كانت بتضحك قدامكم ومن جواها بتموت من الألم النفسي اللي مسيطر عليها! عارف حاجة عنها قولي انت!

كان عابد يستمع إليه بصدمة ودون تصديق، وكأن بحديثه قد عراه أمام ذاته، هو كان يرى شقيقته سعيدة ومشاكسة دائمًا، لم يكن يعلم بألامها النفسية تلك، كان حنون وعطوف معها يُقسم، لكن عمله كان يسرقه منهم! ومع ذلك لم يُقصِر في إغداق إخوته بالحنان والحب، وهم يشهدون على ذلك، تمتم بعدم تصديق ودون وعي: يعني إيه حاولت تنتحر قبل كدا!

لوى معتصم شفتيه بتهكم وهو يمسح سيل الدموع المتساقطة على وجهه مُكملًا: آه حاولت 3 مرات، وأنا بصعوبة كنت بحاول على أد ما أقدر أفضل معاها وأقابلها عشان أحسَّن من نفسيتها، كنت بحاول أرجعها عن اللي في راسها وأقولها إن الكل بيحبها وحتى أهلها، لكن باللي عملتوه النهاردة؛ رسختوا في دماغها فكرة الإنتحار أكتر لحد ما عملتها، وأنا مش مسامحكم. وهي كمان مش هتسامحكم و...
معتصم!

قطع حديثه صوت نداء حاد جاء من خلفه ولم يكن سوى أبيه، طالعه بجمود تلبسه وما هي إلا ثواني واتسعت عيناه بصدمة كصدمة الجميع عندما صفعه بكر صفعة قوية دوت صداها في الأرجاء...

استندت على أريكة غرفتها وداخلها نشوة الإنتصار بما فعلته، ارتشفت من كأس المثلجات الذي أمامها مُبتسمة بخبث وهي تُكافئ ذاتها على نجاح خطتها الدنيئة، وقفت ني ين محلها ضاحكة بإستمتاع بعدما أرسلت مغلف الصور إلى منزل غريمتها، وعلمت ما حدث مِن مَن يُراقب الوضع أسفل منزلها، لتهمس بشئ من الحقد والكره: عسان تبقى تعرف بتلعب على مين يا معتصم. مش أنا اللي تستغفلني مع واحدة زي دي وأسكت.

دارت حول الطاولة الزجاجية ناظرة لهاتفها بمتعة غريبة عندما استمعت للخبر الصادم والسعيد بنفس الوقت، لم تكن تتوقع أن تقدم سجود على خطوة الإنتحار تلك، لكن كل شئ أتى لصالحها.
عادت لذاكرتها للخلف عندما تذكرت ما حدث وإكتشافها لمقابلتهم لتُقسم على الإنتقام منهما بطرق شيطانية مختلفة، لكنها وجدت أن تلك الطريقة هي الأفضل.
.

عودة لذلك اليوم الذي ذهبت فيه نيفين لرؤية زهر وكأنها تريد أن تساعدها في حياتها، وهي في الحقيقة كالثعبان يبث سمه في الدماء دون أن تشعر، وصلت للبناية الخاصة ب عائلة النويهي وكادت أن تصعد حتى وجدت معتصم الذي كان يُدندن بسعادة لذهابه ورؤية صديقته المقربة سجود، وقفت أمامه لتقاطع طريقه متحدثة بدلال وهي تقترب منه: إزيك يا عصومي!

زفر من طريقتها المقرفة بالحديث، فلطالما كانت وقحة في أفعالها، فحتى لو كانت خطيبته، لا يصح لها فعل تلك الأمور الشنيعة!
أنزل يدها من على طرف قميصه ثم تحدث يإستعجال وهو ينظر لساعة معصمه: بعدين يا ني ين، ورايا مشوار مهم دلوقتي.

ضيقت عيناها وهي ترى ثيابه المهندمة وإستعجاله للذهاب، وبحثها الأنثوي علمت أن خلف كل هذا فتاة، استشاطت عندما توصلت لتلك النقطة وسمحت له بالذهاب لتتبعه، ظنت بأنه سيستقل سيارة أبيه وسيذهب، لكنه ذهب سيرًا، تتبعته خفية وهي تحاول بقدر الإمكان على عدم رؤيته لها، وبالفعل نجحت في ذلك.

لم يمر خمس دقائق إلا وهو ينزوي خلف الحائط الكبير لشارعهم، قطبت جبينها بتعجب لتتبعه، وجدته يستند على حائط كبير خلفه وشارد بإبتسامة غريبة، زاد تعجبها وهي تنظر حولها، أيأتي لذلك المكان وحده ليسترخي! لكن لما عليه أن يكون بكل تلك الأناقة!

وما كادت أن تستكمل تفكيرها إلا أن استمعت لصوت وقع أقدام قريبة منها، اختبأت خلف صخرة كبيرة وهي تتنفس بعنف خوفًا من كشف أمرها، هل يُدير معتصم أفعال غير مشروعة في تلك المنطقة!
توقف تفكيرها، واشتعلت النيران بجسدها عندما وجدتها فتاة، وتحولت غيرتها إلى صدمة عندما علمت هويتها جيدًا، هل تلك سجود أبو زيد! هل يقوم معتصم بخيانتها مع تلك!

هكذا همست داخلها وهي تُتابع تحدثهم بدهشة، فمازالت الصدمة مؤثرة عليها، لم تستمع إلى حرفٍ مما يقولوه لكنها تُشاهد نظراتهم، كانت نظرات والهة، أو ربما عاشقة!

أخرجت هاتفها من جيب بنطالها ثم قامت بتصوريهم عدة صور، ومازاد الطين بلة هو تعرقل سجود بأحد الأحجار؛ ليُمسك بها معتصم من خصرها مانعًا إياها من السقوط، وتلك كانت اللقطة الأخيرة والمدمرة كما أسمتها، نظرت للصور بإبتسامة منتصرة مُتمتمة بخبث وحقد: إما نشوف طه أبو زيد هيكون مبسوط وهو شايف بنته في حضن معتصم النويهي ولا لأ!

عادت من تذكرها وهي تضحك بشدة مُعلنة إنتصارها، وتوقفت فجأة وكأن لديها حالة نفسية قبل أن تهمس بشر: دا عقاب خيانتك ليا. مش أنا اللي أتخان وأسكت. مش كل ما أحب حاجة الكل ياخدها مني. أنا بكرهكوا. بكرهكوا كلكوا.
همست الأخيرة بغل تزامنًا مع تساقط دموعها بحسرة وألم، شعورها بالظلم من كل من حولها جعل قلبها قاسٍ كالحجارة، وذلك نتاج أفعالهم لا أكثر!

توقف الوقت والزمان من حولهم ليظل صوت صفعة بكر يتردد في الأذان، وضع معتصم يده على وجهه ناظرًا أرضًا بثبات وكأنه لم يشعر بها من الأساس، فألم قلبه فاق ألم الصفعة بكثير، رفع نظره على صوت والده الهاتف بغلظة: سبق وقولتلك تقطع علاقتك بالعيلة دي ومتدخلش بأي حاجة تخصهم، وبدل ما تسمع كلامي رايح تصاحب بنتهم! معملتش خاطر لحُرمة بيتك وحطيت أختك مكانها! مفكرتش للحظة إن ربنا ممكن يعاقبك بأهل بيتك! نسيت تربيتك وتربية أهلك ورايح تصاحب بنات الناس! بعيدًا على إنها بنت مين ومن عيلة إيه بس غلطك إنك لعبت بيها.

هز معتصم ريقه بصعوبة ودموعه تهبط متمتمًا بألم: ملعبتش بيها. والله ملعبتش بيها. كنت بعتبرها كصديقة قريبة ليا. وغصب. غصب عني حبيتها. بس وقسمًا بالله معملتش حاجة تأذيها أو تقلل منها. أنا حبيت سجود بجد يا بابا. عشان خاطري صدقني.
طالعه والده بعتاب وداخله يعلم أن إبنه قد أحب بصدق، ودموعه خير دليل على ذلك، خوفه عليها يؤكد الحقيقة، لكن لا يُمكن، لن يُجازف بولده من أجل الحب، لن يستطيع حقًا.

جاءهم إبراهيم الذي ترك أخيه الهزيل بجانب خليل ثم وقف أمامهم مردفًا بهدوء: لو سمحت امشوا من هنا، مينفعش نعمل مشاكل في المستشفى كمان.
التفت له معتصم مسرعًا قائلًا بحسم: مش همشي غير ما اطمن عليها، مستحيل أسيبها.
في هذه الأثناء تدخل عابد الذي كان يحترق عند سماعه لكلمات معتصم بحبه الشديد لشقيقته متشدقًا بحدة: مش هتشوفها ولا هتقابلها تاني، ولسه حسابنا مخلصش يابن النويهي.

طالعه بجمود ثم أردف: اللي عندي قولته، ورأيك خليه لنفسك.
اشتدت المحادثة بينهم إلا أن قرر بكر أخذ إبنه معه، وبالفعل وافقه بصعوبة شديدة وداخله يُصر على رؤيتها واليوم! حتى إن انتهى الأمر بدفع رشوة لإحدى الممرضات والدلوف ليُطفئ لهيب إشتياقه إليها.

عاد عابد للجلوس جانب والده بعد ذهابهم وهو يفكر في حديث معتصم، هو رجل؛ والرجال لا يُخطئون في معرفة صِدق مشاعر الرجال أمثالهم، وهو رأى صِدق حبه الشديد ل سجود، ابتسم بمرارة؛ فلو كانت الأوضاع بين العائلتين أفضل لكان كل شئ تحت سيطرتهم، لكن الشئ المجهول المخفي عن الجميع حتى الآن مازال ينبش النيران بين الجميع.

التفت شهاب حوله يُؤَمِن المكان من حوله، ليدلف إلى غرفته سريعًا دون أن يلحظه أحد، وبمجرد ما دلف للداخل؛ حتى تحولت ملامح وجهه القلقة إلى أخرى متأسفة عندما وجدها جالسة على الفراش لا تنظر تجاهه حتى.
علم بأنها حزينة بشدة بسبب إهماله لها كليًا الفترة الأخيرة، وها هو جلبها لتقضي معه بعض الوقت ويبث شوقه إليها، جلس جانبها على الفراش قائلًا ببسمة سعيدة وهي يُقبلها من وجهها: إزيك يا توتا!

ابتعدت عنه للخلف قليلًا دون أن تُبدي أي ردة فعل، ليُمسك بها مُقبلًا كل إنش بوجهها مُتمتمًا بإعتذار: أسف يا حبيبتي، عارف إني مأثر معاكِ الفترة دي، وعارفة كمان إني بحبك، متزعليش مني.
ومع كل جملة كان يُقبل مكان مختلف بوجهها، توقف ثم أردف متحمسًا وهو يُجلسها على قدمه: جبتلك الأكل اللي بتحبيه.

أنهى حديثه وهو يضع أمامها صحن من الأسماك التي تعشقها بشدة، وأخيرًا قررت مسامحته قبل أن تُبدي عن فرحتها قائلة: مياو!
اتسعت إبتسامة شهاب وهو يُقبل قطته الأليفة مرة أخرى من وجهها متحدثًا بسعادة: أخيرًا نولت الرضا منك يا ست توتا! كان لازم أرشيكي يعني!

هزت القطة زيلها وكأنها تؤكد على حديثه مُطلقة مواء آخر وكأنها سعيدة به، وضع شهاب سبابته يده على فمه وهو يهمس: بس متعمليش صوت، أبويا لو عِرف إني جبتك تاني هيخرجنا سوا المرادي.
وكأنها فهمت حديثه لتقول بصوت خفيض للغاية: مياو!
مسح على فروها بحنان متشدقًا بحب: محدش غيرك بيفهمني، حتى الحلوفة اللي أنا بحبها مش حاسة بيا، بس على مين والله لهسمع كلام الواد مدثر وهوقعها فيا تاني.

أنهت القطة طعامها ثم قفزت عليه في دعوة صريحة لإحتضانها، ولم يؤخر ذلك بل ظل يحتضنها تارة، ويُقبلها تارةً أخرى، إلا أن انتفض وهو يستمع لصوت الصراخ في الخارج،!

أمر الطبيب الجميع بالذهاب، فليس بأي حاجة لوجودهم، كما أن إدارة المشفى لا تسمح سوى بوجود مُرافق واحد جانب المريضة، لذلك ذهب الجميع ولم يظل سوى طه الذي أصرَّ إصرارًا شديدًا على المبيت معها، اقترحت عليه الممرضة أن يأخذ غرفة من منفصلة عن غرفة العناية المشددة، لكن ظل يترجاها أن يراها ولو خمس دقائق فقط، ومع رجائه وافقت على مضض قبل أن تقول بتوتر: بس الله يخليك يا حج هما خمس دقايق بس عشان ميحصليش مشكلة.

مسح دمعاته قبل أن يومأ مسرعًا بموافقة، التفتت حولها تَؤَمِن الممر حولها قبل أن تُدخله بسرعة، دلف لها بعد أن ارتدى الزي المناسب ليتصنم محله من مظهر إبنته، فقد كانت موصلة بالأسلاك من يدها وصدرها، غير ذلك الخرطوم الموصل بأنفها، انتقلت نظراته لجرح رقبتها المُقطب وعليه الكثير من الشاش الأبيض المُلتف حوله.

اقترب منها ببطئ وهو يجلد ذاته على ما وصل إليها الحال، شهق ولم يستطيع منع ذاته من البكاء، لكم كان الأمر مؤلم عند رؤية فلذة كبده تُصارع الحياة والموت، جلس على المقعد القريب من فراشها، أمسك بيدها الباردة ثم قبلها برقة وكأنها قطعة أثرية يخشى خدشها، ثم تمتم بهمس وهو يعتذر لها كثيرًا: أسف يا حبيبتي، أسف يا نور عيني، انتِ عارفة غلاوتك عندي أد إيه، انتِ روحي يا سجود مش بنتي، عشان خاطري قومي، قومي عشان خاطر ابوكي.

مر الكثير وهو يُحدثها وكأنها تسمعه، لكن لم يكن لديه أي خيار آخر، دخلت عليه الممرضة آمرة إياه بهدوء قَلِق: بعد إذنك يا حاج أخرج كفايا كدا.
مسح عبراته ممتثلًا لحديثها ثم خرج من عندها دالفًا لغرفة أخرى جانبها، ظل طوال الليل يُصلي ويُناجي الله لسلامة إبنته، ثم أمسك بمصحفه وظل يتلو بعض الآيات بصوت خاشع.

ومع كل تلك الأحداث تعدت الساعة الثالثة صباحًا، ليتوقف ريان موجهًا حديثه ل غزل المُندمجة يالحديث مع والدتها التي أتت منذ قليل، وتجاورها شقيقتها وكذلك أبيها: يلا يا غزل نمشي قبل ما النهار يطلع.
نظرت له فوزية قائللة برجاء: ليه ما لسه بدري يابني! خليكوا شوية أصلها وحشاني أوي.
نظر لها ريان بحنان لكن الشمس كادت أن تسطع حقًا: واللهِ يا ست الكل ما ينفع، النهار لو طلع علينا ممكن بنسبة كبيرة نتكشف.

طب نص ساعة بس والله أشبع منها.
وعندما رأت إعتراضه الواضح، أغرته قائلة: ددا أنا هقوم أعملكم شوية رز بلبن تاكلوا صوابعكم وراها.
ابتلع ريان ريقه وهو يستمع لعرضها المغري، فكم يعشق الأرز باللبن حقًا، واستطردت حديثها مردفة: وهعملكم حِتة اللحمة المفرومة اللي جوا ومش هتاخد مني ربع ساعة سِوا.
جلس محله وعلى ملامحه ترتسم سعادة طفولية غريبة: لا خلاص نستني ساعة مش نص ساعة.

تهللت أساريرها بشدة ثم وقفت جاذبة معها غزل لتبدأ بتحضير الطعام، وجلس هو مع إبراهيم و ميران المتفحصين له، تشكلت إبتسامة متوترة على ثغره مردفًا ببلاهة: منورين يا جماعة واللهِ.
استند إبراهيم بظهره على الأريكة جانب إبنته، ثم سأل ريان مباشرة: انت كنت شغال إيه يا ريان قبل كدا؟
شاغبه ريان متسائلًا بعبث مُضحك: إيه عندك عروسة يا عمي؟

ضحك إبراهيم بخفة وهو يهز رأسه نافيًا ليقول: لأ بس كنت عايز أعرف إيه اللي وقعك الوقعة دي؟
جعد وجهه مجيبًا إياه: متفكرنيش يا عمي أصل بيجيلي حموضة، سليم المنشاوي منه لله هو السبب.

ثم تربع حاكيًا له بحماس وكأنه يروي قصةً ما وليس سبب تعاسته: أنا أصلًا كنت مهندس كمبيوتر، بشتغل في شركة كدا مع شاكر النويهي، كنت طيب وغلبان وفي حالي ومليش دعوة بحد، وإكمني طيب حليت في عينهم وقالوا إيه ياخدوني طُعم، لأني غصب عني هكرت نظام لشركة كبيرة وكانت شركة سليم المنشاوي اللي بيتعاون مع الما يا، ويشهد ربنا إنه غصب عني.

قال الأخيرة ببرائة ليرفع إبراهيم حاجبه بإستنكار حقيقي، ثم ضحك عاليًا غير مصدقًا ما يرويه: مصدقك يا ضنايا إنه غصب عنك.
تتأثرت ميران بحكايته كثيرًا وأدمعت عيناها بشدة، سحبت منديلًا من الطاولة تُجفف به دموعها مردفة بتأثر: انت اتظلمت زي أختي أوي.
إدعى ريان الإنكسار متشدقًا بحزن: يلا بقا. وهما هيروحوا من ربنا فين الظلمة دول!

وبالداخل، جهزت غزل الأرز باللبن وقامت فوزية بتجهيز اللحم من أجل ريان، لتُثرثر فوزية مع إبنتها قائلة: بس ريان دا باين عليه ابن حلال.
ومع ذِكر إسمه تشكلت إبتسامة لا إرادية على وجه الآخرى مردفة بتأكيد: فعلًا يا ماما معاكِ حق، طيب وحنين أوي.
لم تُلاحظ فوزية نبرة إبنتها الوالهة بل كانت مُنشغلة بما تقوم بتجهيزه، لتُردد بحُسن نية: ربنا يكتبله كل الطيب والكويس يارب.

خرجا من المطبخ بعد تجهيزهم للمأكولات، لتجد غزل والدها وشقيقتها مندمجان بالحديث الشيق مع ريان الذي أخذ قلوبهم بسرعة، مثلما أخذ قلبها هي!
أردفت غزل بمشاكسة وهي تحمل الأطباق مع والدتها: الله الله يا عم بابا. نسيتني بالسهولة دي والكلام خَدك مع الأستاذ ريان!
قهقه والدها بمرح ثم جذبها لتجلس جانبه مُقبلًا وجنتها بحنان: وحد ينسى روحه يعني! متتصوريش الأيام اللي بنتجمع فيها وحشاني إزاي!

لفت يدها حول خصره ثم أردفت بحب: كل حاجة قربت تنتهي وهرجع وسطكم من تاني يا بابا، وبإذن الله وقتها سجود بنت عمي رجعتلنا بالسلامة.
آمن الجميع على دعائها، بينما ريان يُتابعهم بإبتسامة حزينة، لكم يتمنى وجود دعم والده ودعاء والدته في تلك الأثناء، يشتاق لهم وبشدة خاصةً عند رؤيته ل غزل ووالدها.

لاحظته غزل ولا تعلم كيف باتت تشعر بما يختلج صدره، يعلم أنه يشتاق لعائلته كثيرًا، طالعته بحنان ليُحدجها بود ونظرات لامعة، ولم يكن إبراهيم بالطفل الصغير حتى لا يُلاحظ نظراتهم، من المؤكد بأن هناك مشاعر مُخزنة داخل قلب كليهما، ربت على ذراع ريان قبل أن يردف بحنان: وريان كمان هيبقى من العيلة، طلعت طيب وابن ناس وأنا اللي كنت خايف على بنتي منك!

التمعت عينه بسعادة حقيقية، فها هو يحصل على قلب عائلة أخرى بتلقائيته وعفويته المُجذبة، نظر له بإضطراب قبل أن يتسائل: والعداوة اللي بين العيلتين!
وقف إبراهيم جاذبًا إياه تجاه سفرة الطعام، ليردف قبل أن يجلسوا جميعًا: مش معنى إن انت عايش معاهم يبقى ليك ذنب، انت من طينة وهما من طينة تانية، وأنا واثق فيك، وإلا مكنتش قدرت تحافظ على بنتي لحد دلوقتي، واحد غيرك كان قال نفسي وهرب لوحده بدل ما يتمسك.

اتسعت إبتسامة ريان أكثر قبل أن يُمسك بالخبر قائلًا بحماس وسعادة مفرطة: أهو دا الكلام اللي يفتح النفس بحق.

ضحك الجميع على حديثه، وتلك الجلسة لم تخلو من أحاديث ريان التافهة والتي كان يأخذها على محمل الجد فتُثير ضحكهم أكثر، أنهوا طعامهم ليقف متثائبًا وهو ينادي على غزل التي دلفت مع والدتها المطبخ لنقل الطعام، ليردف وهو ينظر لساعة الحائط: هنزل ل فارس، وخمس دقايق بالظبط انزلي عشان نلحق نمشي قبل ما الشمس تطلع، اتفقنا!

أومأت له موافقة ووقفت تتابع خروجه بأعين لامعة، ولم تُلاحظ نظرات والدها المصوبة تجاهها، ولا بحدقتي شقيقتها المشاكسة لها، لتقترب منها ميران هامسة بأذنها بمكر: متبحلقيش أوي كدا كلها خمساية وهتمشي معاه.
فزعت غزل في البداية من صوتها، لكن تعابيرها تحولت للضجر وهي تدفعها بعيدًا مردفة بغيظ: ابعدي عني دلوقتي يا بتاعة محمود مش نقصاكِ.

قهقهت ميران عاليًا وتركت شقيقتها تدلف لغرفتها لتُغير ملابسها التي بقيت بها منذ فترة طويلة، دخلت غزل غرفتها ثم انتقت بعض الثياب القليلة لها، وارتدت واحدًا آخر من اللون الأسود يعلوه حجاب من اللون النبيتي الذي لاق مع لون بشرتها الخمرية، ثم خرجت لتحتضن أبيها بشدة والدموع تتلألأ في عيناها، لتسمع همسه الخافت: خلي بالك من نفسكيا نور عيني.

أومأت له ببكاء، ثم ذهبت لوالدتها التي بكت محتضنة إياها بشدة: كفايا عياط يا ماما بدل ما اقعد هنا واتمسك. أنا بقولك أهو.
مسحت فوزية دموعها مسرعة لتتشكل إبتسامة خافتة على وجه الأخرى والتي احتضنت شقيقتها بحنان مرددة: خلي بالك من نفسك يا بتاعة محمود.
ضربتها ميران بخفة على ذراعها متشدقة وهي تمسح الدموع العالقة بأهدابها: سيبي حمودي في حاله وخليكِ في نفسك.

ودعتها غزل بسخرية قبل أن تذهب من أمامهم سريعًا: طيب ياختي، ابقي سلميلي عليه.
وذهبت. وليتها تعود كما ذهبت!
قبل قليل،!
هبط ريان من البناية مستعدًا للذهاب لشقة فارس، ليجده واقفًا متهجم الوجه أمام سيارته، أنظاره تُحدق بعيدًا وكأنه شارد في ملكوت آخر، ذهب إليه ريان بخطوات بطيئة يشهر بالذنب لإحزانه، ناداه بصوت خافت: فارس!

فاق من شروده على صوته المُنادي لينظر تجاهه، وثوانٍ وكان يَحول بنظراته عنه، «مازال حزينا»، هذا ما فكر به ريان مؤنبًا ذاته، وقف قبالته مباشرة وبدلًا من أن يتحدث؛ احتضنه!
وكأن وسيلة الإعتذار الوحيدة له هي العناق، شدد من إحتضانه وهو يقول بإعتذار: متزعلش مني، مش هقدر أمشي وانت زعلان، حقك عليا بس انت عارف الحب مش بإدينا، وأنا واللهِ ما كان بإيدي، مش همشي، مش هيهون عليا زعلك.

أغمض فارس عيناه بشدة، غاضب منه لكن لا يستطيع لومه، ليس ذنبه، لا يُمكن إدخاله بدائرة كرهه لعائلة أبو زيد، وبتردد رفع ذراعه ليُبادله العناق.
تنهد ريان براحة وها هو همه قد إنزاح قليلًا عن صدره، ليستمع لقول فارس الغاضب: دا مش معناه إني سامحتك يابن الطحاوي. يلا طريقك صحراوي يابا.
ابتعد عنه ريان بضحك ناكًزا إياه في صدره: ميبقاش قلبك أسود يا جدع، أنا طالع أشوف مدثر قبل ما أمشي، أكيد نا.

وما كاد أن يُكمل حديثه حتى استمع كلاهما إلى صوت لوچي والتي تهبط الدرج بضحكات خليعة جعلت عين والدها تتسع بصدمة، خاصةً عندما قالت: هيهيهي خلاص يا مدثر بقا،!
التفت فارس ل ريان يحدجه بنظرات نارية: ابنك دا تربيته وسخة.
قطب جبينه بضيق من عصبيته غير المُبررة قائلًا بسخط: ما تسيبهم يا فارس متبقاش عصبي كدا، دول أطفال!
هيهيهيهي.
صدحت صوت ضحكات لوچي مرة أخرى ليؤكد له ريان ببرائة: حتى شوفت!

كانت غزل تهبط من بنايتها متجهة إليهم، وعندما وصلت لهم إستمعت لصوت الضحكات لتقول بصدمة دون أن تعرفة هوية المتحدثة عنها: هي البت دي ملهاش أهل يسألوا عليها!
جز فارس على أسنانه بقوة ذاهبًا للطفلان وقد ازداد غضبًا بعد كلمات غزل الغير مقصودة: بت يا لوچي!
فزع مدثر والذي كان يريد تقبيل الأخرى من صوت فارس، ليلتفت الطفلان له قبل أن تقول لوچي بتساؤل برئ: نعم يا بابي!

وبعيدًا عنهم، أخرج ذلك الرجل المُلثم هاتفه من جيب بنطاله قبل أن يضعه على أذنه منتظرًا الإجابة: أيوا يا سليم بيه، الإتنين قدامي أهو زي ما حضرتك توقعت بالظبط.
أتاه صوت سليم الهادئ آمرًا إياه بشر: صفيهم.
أوامرك يا ريس. عن إذنك.
أشار الرجل الملثم لصديق له بإشارة يعلم معناها جيدًا، وخلال دقائق كانت صوت الطلقات تنطلق في الأرجاء، والتي اندمجت مع صوت الصرخات، منها الخائف، ومنها المذعور، ومنها المتألم،!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة