قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والعشرون

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والعشرون

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والعشرون

خرجت غزل من الكهف وهي تنظر حولها تبحث عن الأوراق، أرادت وبشدة أن تعود للداخل وتُمزق وجهه بين أظافرها من شدة غيظها، سحبت نفسًا عميقًا للسيطرة على ذاتها ثم بدأت بالبحث في كل مكان، نظرت للرمال الصفراء بتدقيق شديد، وبعد ما يقرب من الربع ساعة؛ كانت قد وجدت ثلاثة أوراق، هناك صفحة مفقودة إذًا، ظلت تبحث عدة دقائق أخرى لكنها فشلت في ذلك، استسلمت لأمرها ثم دلفت للداخل وستبحث عنها في وقت لاحق إن لزم الأمر، نظرت للكلمات الغريبة بتعجب ومن ثَم رفعت نظرها عنها ناظرة ل ريان الذي يُحدجها بسخط.

لوت شفتها بإستنكار وهي تُجاوره في جلسته متشدقة بسخرية: متحسسنيش إني ظالمة وواكلة مال اليتيم.

طالعها بطرف عيناه بإشمئزاز ولم يُجيبها، هزت غزل رأسها بيأس من أفعاله التي لا تليق بعمره حقًا، وكادت أن تنفلت منها ضحكة عالية؛ لكنها أخفتها بصعوبة، مدت يدها لتأخذ المرآة التي بجانبه؛ لينتشلها منها مسرعًا مُتحدثًا بسخط: دي مرايتي و موسى اللي جابهالي، وبعد كدا لما تيجي تاخدي حاجة أبقي استأذني الأول، بطلوا تسول بقا.

تشنج وجهها وهي تستمع لحديثه، من يراه يُقسم بأنه جلب المرآة من ماله الخاص وليس من موسى، سحبت نفسًا عميقًا وهي تعلم بأن بأفعاله تلك يُوضح بأنه حزين من صراخها عليه.
جلست أمامه ثم تحدثت له بلطف وكأنها تُحادث طفلٌ صغير في سن الثلاثين: يعني ينفع اللي انت عملته دا!

توترت عيناه ولم ينظر لها، يعلم أنه مُخطئ لكن لا يُريدها أن تحزن منه، وللعجب هو من حزن! ارتسم على ثغرها ابتسامة لطيفة أجبرته على النظر لها، ثم أكملت مُعاتبة: مش انت عارف إن الورق دا مهم!
أومأ ب نعم ومازال مُقطب الجبين، لتستطرد حديثها بود: طيب ليه عملت فيه كدا!
رَبَّع عن ساعديه زافرًا بقوة: كنت زهقان فعملته مراكب وطيرتها.
يبقى انت اللي غلطان أهو، يعني انت اللي لازم تعتذر مش أنا.

وكأنها تتحدث إلى طفل صغير، لم يسمعها، ولم ينتبه لحديثها، بل ظل مُحدجًا إياها بضيق وعيناه الرمادية تلتمع بالحزن، شعرت بالضيق يحتلها وهي تجد نظرته المعاتبة لها، لذلك تحدثت بحب واضح: طيب خلاص متزعلش، عايز إيه وانا أعملهولك وتضحك تاني.
حاول أن يثبت على موقفه وألا يُغريه عرضها ورسم على ملامح وجهه الضيق الزائف، لتُصر فوق أذنه وهي تُكرر: ريان! عايز إيه وانا اعملهولك.

وأمام نبرة صوتها الحنونة دَق قلبه بعنف، سرت القشعريرة في جسده من نطقها لإسمه، ارتسم الحماس على وجهه، ناظرًا لها مُبتسمًا بسعادة قبل أن يردف بفرحة: عايز بوسة.
تحولت نظراتها من اللُطف إلى الشراسة، زاجرة إياه بعنف: ريان!
ابتلع ريقه بتوتر قبل أن يبتسم ببلاهة مُبررًا بسذاجة: ك. كنت بختبرك.
رفعت حاجبيها بإستنكار وكأنها تقول له حقًا، ليُلهيها مُشيرًا للأوراق التي بيدها: تعالي نشوف الورق دا بيقول إيه!

كتمت ضحكتها بصعوبة ثم جاورته مُمسكة بالأوراق وهو يُمسك لها المرآة، ومن ثَم بدأت هي بقراءة ما تحتويه تلك الأوراق، لتتشكل ملامح الصدمة والنفور على وجه كليهما،!

أحيانًا علينا السير في طُرقٍ لا نرغبها، لكن قد تكون تلك الطُرق هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى غايتك، وهي فعلت ذلك عندما ظنت بأنها ستسطيع خداعه، بل والهرب بأمواله أيضًا.
اِحمرت عين عابد بغضب ساحق، شدد على قبضته حتى ابيضت مفاصله، شعر بالألم ينخر عظام يده؛ لكن ذلك الألم الذي في قلبه أكبر بكثير، هي جاءت لتخدعه، وهو كالأبله وقع في فخها بل وأحبها!

ابتلع ريقه بألم وهو يتذكر تلك الرسالة على هاتفه، والتي كان مضمونها البنت اللي شغالة معاك نصابة، هتسرق فلوسك وهتهرب بعدها، ولو مش مصدقني هبعتلك دلوقتي تسجيل بصوتها.

في البداية لم يهتم، لكن ما جعله يتصنم محله هو سماعه لصوتها وهي تتفق مع أحدهم لإستغلاله وسرقة نقوده، نظر حوله بتيهة ومازال غير مصدق، تلك البريئة تخدعه! وضع يده على قلبه يُدلك مكانه بلُطف علَّه يُقلل من حِدة الألم، لكن الألم كان بالداخل، داخل مُضغته الحمقاء التي نبضت من أجلها.

نعم أحبها وكان يُظهر عكس ذلك حتى لا تقود مشاعره، غض بصره ورعاها، وهي فعلت به العكس، جز على أسنانه بحقد وهو يتذكر أفعالها الأفعوانية لإيقاعه، لا يعلم بأنها طبيعتها حقًا، همس بكره لذاته وهو يتوعد لها، بينما تسللت بعض الدمعات المُتحسرة لعيناه: أنا هندمك يا وصال، وهتشوفي أخرة اللعب معايا إيه.

أفكارٌ مُشوشة، وعقلٌ مُرهق، وجهٌ شاحب، وجسدٌ ضئيل، هكذا أنا تلك الفترة، جلس أمام المرآة ينظر لنفسه بتشوش، حياته أصبحت على المحك، لم يكن هادئ تلك الأيام الماضية، بل كان يبحث ويبحث عن سبب مقتل والدته، ألقى فارس هاتفه وهو يزفر بإختناق، يشعر بالهواء يطبق على أنفاسه، يشتاق لتلك اليد الحنون التي تُزيل همومه، لكنها ذهبت. ذهبت وتركته يُعاني من مزلات الطريق.

حكَّ رأسه بيده يُخفف من حِدة الصداع، المعلومات التي توصل إليها لم تكن كافية، لم تُفيده بشئ، تأوه بخفوة تزامنًا مع دخول زهر للغرفة، حاملة كوب العصير الطازج بين يدها وهي تُعاتبه برقة: كدا يا فارس! مش قولنا كفاية شغل لحد كدا!
جلست جانبه على الفراش، واضعة يدها على جبينه لتقيس حرارته؛ فوجدتها طبيعية، مدت يدها بالكوب ليُبعده برفق: مليش نِفس لحاجة يا زهر، أنا تعبان ومش قادر.

وضعت الكوب بجانبها، ثم نظرت له لعدة ثواني بصمت وكأنها تقرأه، اقتربت منه بغتةً جاذبة رأسه بحنان تضمها بين ذراعيه، تفاجئ من فعلتها، ورغم ذلك أحاط بخصرها مُغمضًا عينه بألم، وغصة البكاء تتزايد شيئًا فشيئًا، مسدت على خصلاته برفق مُردفة بصوت هامس: ابكي يا فارس، ابكي يمكن ترتاح!

استمع لحديثها بصمت ولم يصدر منه أي ردة فعل، ظنت في البداية بأنه ذهب للنوم، لكن إهتزاز جسده المُفاجئ أوحى لها بأنه يبكي حقًا! أجهش في البكاء وشهقاته تعلو رويدًا بين أحضانها، وجد في عناقها الراحة، ليبدأ بالتنفيس عنه ألمه.

ارتعشت شفتيها ببكاء وهي تستمع لصوته الباكي المُتألم، لم تراه بمثل ذلك الضعف من قبل، كان يظهر بالقوة دائمًا ويكون أول الداعمين إليها، لكن الإنسان أحيانًا يحتاج إلى الإنفجار، وهو انفجر مع أول كلمات المواساة، قبَّلَت زهر خصلاته بحنان مُمسدة على ظهره، صَمَتَ وصمت بكاؤه، لتسمعه يُكمل بصوت مهزوم: أمي وحشتني أوي يا زهر، وحشني حضنها ووحشني كلامها أوي.

ابتلع شهقته ثم أكمل بما يُخفيه: بقالي اكتر من اسبوعين بدور على السبب اللي دبحوها عشانه، دبحوها يا زهر وانا مكنتش معاها، كانت لوحدها وبتتوجع وأنا بعيد، آخر مرة شوفتها وهي بتنزف دم من رقبتها كتير، كانت بتطلع في الروح قدام عيوني وأنا مقدرتش أعملها حاجة.

جعلته يتحدث بما يجيش به صدره ودموعها تهبط بصمت وألم، لتسمعه يستطرد حديثه بألم: أنا أمي كانت طيبة، عمرها ما أذت حد، ليه كدا يدبحها ويحرق قلبي عليها! ليه أمي ليه!

أصدرت همهمات من فمها لتهدأته، ظلوا هكذا لبضعة دقائق حتى رفع رأسه لها، صُدمت بقوة عندما وجدت عيناه حمراء كالدماء من شدة البكاء، لتنفجر هي الأخرى بدون وعي، وبدلًا من أن كانت هي من تُهدأه، بات هو من يُهدهدها كالطفلة الصغيرة، ربت على ظهرها ثم تحدث بصوت متحشرج: شششش خلاص اهدي يا حبيبتي.

لم تكن تعلم ما تقوله سوى أنها أحاطت عنقه بيدها قائلة بأسفة: أنا أسفة، أسفة عن كل اللي حصلك في حياتك، أسفة إني مكنتش موجودة عشان أخفف عنك.
ابتلع ريقه بصعوبة، تسللت الدموع مرة أخرى بقوة لعيناه، وبدلًا من أن تبكي وحدها، بكى معها، فكانت الغرفة خالية من الأصوات إلا من صوت بكاؤهم، بكاء يُمزق نياط القلب، بكاء خافت لكن ضجيجه عالي وكأنه صراخ.

انفتح باب الغرفة فجأة لتدخل عليهم لوچي تحمل طلاء أظافرها القاتم، نظرت لبكاؤهم بتعجب، فلأول مرة ترى والدها يبكي، بل ووالدتها أيضًا، ولم تمر سوى ثوانٍ وانفجرت هي الأخرى ببكاء.

خرج فارس من أحضان زهر لينظر لإبنته التي ما إن رأت دموعه حتى هرولت لأحضانه باكية، إلتقطها بين ذراعيه مُشددًا من إحتضانها وهو يُهدهدها بحنان، فمهما فعلت ستظل هي إبنته الوحيدة والتي يعشقها بشدة، مسد بيده على ظهرها، وباليد الأخرى مسح دمعاته الشاردة، نظر جانبه ليجد زهر تُطالعهم بحنان، ليجذبها له لتجاوره مُحيطًا بخصرها، طبع قُبلة حنونة على جبينها ثم وضع رأسها على كتفه لترتاح قليلًا.

رفعت لوچي عيناها الباكية لوالدها، لتمسح بيدها الصغيرة على وجهه سائلة إياه بحزن مُغَلف بالحنان: كنت بتعيط ليه يا بابي!
رسم فارس على ثغره إبتسامة طفيفة قائلًا: افتكرت حاجة زعلتني يا روح قلب بابي، وبقيت كويس أهو عشان بنوتي الحلوة حضنتني حضن جميل خالص.
ابتسمت بسعادة ثم طبعت قُبلة كبيرة على خده الأيمن: أنا بحبك أوي يا بابي.

ابتسم لها بحنان جاذبًا إياها لتنام جانبه على الجانب الآخر: وبابي بيحبك أوي يا روح قلب وعيون بابي.
ارتاح ثلاثتهم على الفراش، ولم يمر سوى دقائق معدودة حتى وذهب جميعهم في ثبات عميق.
وفي النهاية اتضح أن الحزن يتبدد بوجود عائلة تُحبك وتحميك.

وأسوأ أنواع الألم هو الحب، ابتلع معتصم ريقه بألم وهو يُشاهدها من خلف الزجاج، نحل جسدها بشدة وازداد وجهها شحوبًا لكن مهما حدث فهو يُحبها كما هي، يُحبها لأنها سجود، نظر ل طه الذي يُحدجه بنظرات غامضة مُبهمة، حمحم بحرج فلقد نسى وجوده نهائيًا، خطى ناحيته عدة خطوات قبل أن يسأله: أنا هنزل اجيب حاجة ناكلها يا عمي، حضرتك مكلتش من إمبارح.
هز طه رأسه بالنفي قائلًا: مليش نِفس، روح كُل انت.

أومأ له دون الإيجاب، لينظر له طه بتشنج من وقاحته، فكان يجب أن يُصِر عليه أكثر من ذلك! لا يعلم لِما هو غاضب منه الآن، هو يغار على ابنته، فمن المحتمل أن يكون هذا السبب الأساسي.

تنهد بتعب جالسًا على المقعد الحديدي مرة أخرى مُفكرًا في حالة ابنته، تفاقم لديه الأمل عند إخبار الطبيب لهم ليلة أمس بأنهم مؤشراتها الحيوية تُبشر بالخير، تذكر وقوف معتصم معهم طيلة الأسبوع الماضي، رغم حدوث العديد من المشاحنات بينه وبين عابد وبقية العائلة؛ إلا أنه لم يُبالي.

فاق من شروده على جلوس معتصم جانبه وبيده عدة حقائب تحتوي على الطعام، ابتسم معتصم إبتسامة طفيفة ماددًا يده بشطيرة من اللحم إبتاعها منذ قليل له خصيصًا لتمده بالطاقة، لمح في عيني طه الإمتنان الذي حاول إخفاؤه، لكن فشل في ذلك عند تذكره لأفضاله الكثيرة معه، تصنَّع طه الصرامة نافيًا برأسه: لأ مش عايز، كُل إنت.

ابتسم معتصم بخفوت ثم أمسك بكفه رغمًا واضعًا بها شطيرة ليأكلها، نظر له طه بصمت قبل أن يبدأ بتناول طعامه بهدوء، وللحقيقة كان يتجور جوعًا، بدأ معتصم هو الآخر بتناول طعامه بصمت، ليعم الهدوء عدة دقائق قبل أن يقطعه طه مُتسائلًا بلامبالاة مصطنعة: سألت مرات عمك!
توقف معتصم عن مضغ طعامه عدة ثواني، قبل أن يومئ بالإيجاب ولم يُعقب، عاد الصمت يعم مجددًا قبل أن يتسائل بتعجب: بس الذنب محطوط على عيلتكم أكتر.

رفع طه حاجبيه وكأنه يقول له حقًا، لتتحول نظراته إلى الصرامة والقسوة عكس ما كان به منذ قليل وهو يُجيبه: عايز أخويا يعرف إن مراته بتخونه ويفصل ساكت!
اتسعت عيني معتصم بصدمة ناظرًا له بوجه مشدوه، هاتفًا بعدم تصديق: بتقول إيه! تخونه!
أصدر همهمة مستنكرة وهو يؤكد حديثه: اه كانت بتخونه، نجدت أخويا قال ل خليل أخويا قبل ما يموت وينتحر، وعمك شاكر عارف دا.

كان معتصم يحدجه بغرابة وكأنه إنسان برأسين، عقله لا يستوعب كَم الحقائق التي يستمع لها، هز رأسه وكأنه يُخرِج ما استمع له للتو، ليهمس بصدمة: عمي شاكر يعرف!

هز طه رأسه بالإيجاب وهو صامت، ظهر الألم في صوته وهو يُتابع بحزن: عارف إن أخويا غلطه كان كبير لما قتلها، بس هو كان بيحب مراته أوي، كان بيموت في التراب اللي بتمشي عليه، أول مرة أشوفه ملهوف على واحدة كدا، حتى مراته الأولانية اللي سابته عشان كان عقيم، مكنش بيحبها للدرجادي.

شعر معتصم بالصداع يفتك برأسه، فلو علم فارس ما يُقال الآن سيُقيم القيامة وسيهدم الجميع، هو لا يتذكر ميادة كثيرًا، لكن سيرتها الطيبة المتنقلة بين سكان حارتهم تُكذِب كل هذا الحديث، تحدث أخيرًا بعد أن استعاد عقله الشارد: بس طنط ميادة الله يرحمها الكل كان بيحبها وبيحترمها، مستحيل تعمل حاجة زي دي، أكيد فيه حاجة غلط.

سحب طه شهيقًا حارًا ثم زفره على مهل مُتحدثًا بتيهة: مش عارف بقا، أديك عِرفت العداوة بين العيلتين سببها إيه، أظن أسباب تخليهم في طار عمرهم كله، وجيت انت كملت على الباقي.
قال جملته الأخيرة وهو ينظر له بإستنكار، لينظر معتصم أرضًا بحرج قبل أن يُجيبه بتبرير: واللهِ يا عمي أنا و سجود كُنا زي الأخوات وأكتر، عمرنا ما عملنا حاجة غلط، اا. أنا بس حبيتها من شهرين بالظبط وهي حتى والله العظيم ما تعرف بدا.

سدد له طه ضربة قوية على صدره قائلًا بسخط: اتلم يلا وانت بتتكلم على بنتي، قال بحبها قال. حبك برص.
قهقه معتصم عاليًا شاعرًا بالأُلفة تجاه ذلك الرجل، شاركه طه الضحك بخفوت، لتُقاطعهم الممرضة التي خرجت من غرفة سجود متشدقة بسعادة: المريضة فاقت.

البشر مرعبون للغاية. هكذا همس ريان لنفسه عند رؤية محتويات تلك الأوراق، اهتزت يد غزل بخوف ولم تستطيع السيطرة على رعشتها، تمتمت بدون تصديق ودمعاتها تسيل بدون إرداة منها: يالهوي. يالهوي.

لم تتكن حالة ريان تقل عنها، بل نظر أمامه بنظرات خاوية خالية من الحياة، الكون يصلح لعيش جميع الكائنات إلا الإنسان، وضع يده على قلبه وكأنه يُهدئ من روعه، استمع لصوت شهقات غزل التي صعدت دون إرادة منها، ما علموه أكبر بكثير ليستوعبه عقلهم الصغير.

نظرت له ببكاء وصوتها يعلو شيئًا فشيئًا، نظراتها روت الكثير دون الحديث، همست بإسمه بصوت لا يُسمع لكنه قرأه من تحرك شفتيها، عادت لتهمس لكن بصوت مسموع قليلًا: ليه! ليه بيعمل في أطفال بريئة كدا!
تسللت الدموع لعينه لا يجد رد مناسب لسؤالها، طرق قلبه بعنف عندما احتضنته طالبة منه برجاء ودون وعي: متسبنيش. متسبنيس ليهم. أنا خايفة.

أحاطها وعقله مازال شارد، خائف، لكن ليس عليه، بل عليها، لن يستطيع خسارتها ولو كلفه هذا حياته بأكملها، لن يتركها لهم مهما حدث، مسح على حجابها عندما ازدات حدة بكاؤها، مُهمهًا ببعض الكلمات المُهدئة: عمري ما هسيبك والله العظيم، لو طلبوا حياتي مقابل حياتك هدفعها وأنا مبسوط، انتِ بقيتي روحي يا غزل مش مجرد واحدة كدا وخلاص، اهدي والله ما هيحصلك حاجة.

تضخم قلبها عند سماعها لكلماته، وتوقفت عن البكاء كُليًا، رفعت أنظارها إليه لتستقر على عيناه الرمادية الآسِرة، متشدقة بعشق: أنا. أنا بحبك أوي يا ريان.
وبدلًا من الوجوم الذي كان يُسطِر ملامحه؛ ارتسم على وجهه علامات السعادة الشديدة، ليُجيبها بعشق مماثل لها: و ريان بيموت فيكِ يا قلب وروح ريان.

اِحمرَّ ووجهها بخجل شديد عندما لاحظت إقترابهم المبالغ به، كادت أن تبتعد فشعرت بذراعيه تُحيطانها أكثر، نظرت له؛ فوجدت نظرات الخبث والمكر تحومان في عينه العابثة، تلاها قوله الوقح تمامًا: ما تجيبي بوسة!
دفعته غزل بيدها ناظرة له بحاجبان مرفوعان، ثم تحدثت بسخط: هو انت كل ما تشوف خلقتي تقولي جيبي بوسة!
استند بيده أمامها، ليُصبح وجهه قريب من وجهها للغاية، ثم أردف بعبث: طيب بذمتك عمرك ما فكرتي تبوسيني!

تلك المرة ازدادت وقاحته حقًا وهي لن تصمت له، أمسكت بالمرآه التي كانت تُجاورها ثم قذفتها في وجهه، لتجرح حاجبه الأيمن مطولًا، وضع يده على عينه صارخًا بألم، نظر لها بغيظ ثم تحدث ناهرًا إياها: انتِ اتجننتي!
حدجته بشماتة جليَّة وإبتسامة مُنتصرة تتشكل على ثغرها، ثم أردفت بغرور: عشان تبقى تتلم وتتكلم بإحترام.
نفخ في وجهها بغضب ثم أخذ الأوراق وخرج من الكهف بحدة بدت لها مضحكة للغاية.

ألف سلامة عليكِ يا روح قلب أبوكِ.
ردت عليه سجود بصوت واهن ومتعب للغاية بعد أن دامت غيبوبتها لأسبوعٍ كامل مرَّ عليهم كالدهر: الله يسلمك يا بابا.
كاد والدها أن يُجيبه، فقاطعه معتصم الصامت منذ دخوله، ينظر لملامحها التي اشتاق لها حد اللعنة: سلامتك يا سوچي.

لم تُصدق سجود في البداية بأنه هنا، ففرصة وجوده مع والدها تكادُ تكون مستحيلة، ومع ذلك نظرت لمصدر الصوت لتجده واقف وعلى تغره إبتسامة مُشتاقة، همست بإسمه بتعجب وخوف عندما تأكدت ظنونها، لكن صوتها كان ضعيف للغاية لم يُسمع.

اقترب منها معتصم ممسكًا بيدها وكاد أن يبكي حقًا لا يُصدق وجودها أمامه، تأوه بألم عندما شعر بكف طه الذي هبط على ذراعه بقسوة، تبعه هتافه الصارخ به: ابعد إيدك عنها يلا، أنا مش مالي عينك ولا إيه!
ابتسم معتصم بإستفزاز، ثم استقام مُعتدلًا في جلسته، قبل أن يهتف بما جعل الدماء تسري في جسد طه: حاضر يا عمي هبعد عنها، أهي كلها أسبوعين على ما تخرج بالسلامة وهتبقى مراتي.

ورغم التعب المُسيطر عليها؛ فتحت سجود عيناها بفزع على حديث معتصم، ليس فقط بما قاله، بل وتفوهه بهذا الهراء أمام والدها، ازداد تعجبها عندما أجابه طه بهدوء حارق: إن شاء الله، روح صلي ركعتين وادعي إن العداوة تنتهي وبعدها هي ليك.

قطع حرب النظرات. بينهم هو دخول العائلة، وأولهم عابد الذي هرول مُسرعًا تجاه شقيقته يحتضنها بقوة وندم، أحاطها بشدة ثم تمتم بعتاب: كدا يا سجود تعملي في نفسك كدا! حتى لو كنا قسينا عليكِ فإحنا في الأول والآخر عايزين مصلحتك.
تشكلت الدموع في مقلتيها ثم تحدثت بصوت واهن: أسفة والله يا عابد، أنا محستش بنفسي والله العظيم غير لما سمعت صويتكم.

لم يُجيبها، بل ظل محتضنًا إياه بسعادة وإشتياق، مما زاد شعور الندم داخلها، رفعت أنظارها؛ لتجد معتصم يُحدجها بنظرات عاشقة، وعلى ثغره تتشكل إبتسامة صغيرة لطالما طمئنتها، بادلته الإبتسام ناظرة له بإمتنان، وكأن بفعلتها تلك أعطت الإذن لنبضه بالطرق دون إستئذان، ظل ينظر لعيناها الخضراء التي تأسره دائمًا، وعشقها، وعشق صاحبة تلك العينان أيضًا.

لاحظ طه نظراتهم الملحوظة، ليتنهد بحيرة ويأس ولا يعلم ما يفعل، فقد شُل عقله عن التفكير في علاقتهم المُعقدة، معتصم عشق إبنته وهذا ما تيقن منه طيلة الأسبوع الماضي، لم يتركه ولو للحظة، لم يغفل عنها دقيقة، كان يفعل كل ما بوسعه للدخول والإطمئنان عليها، رأى اللهفة في عيناه والحب مُسطر على وجهه، وما أحزنه أكثر هو حب إبنته له، حتى لو لم تعترف بذلك حتى الآن.

دخلت أميرة الباكية لغرفة إبنتها، ثم أبعدت عابد عنها لتحتضنها هامسة لها: وحشتيني يا عين أمك، وحشتيني يا ضنايا.
ذهب إليها طه ليقف جانبها شاددًا من أزرها: اهدي يا أميرة هي بقت كويسة وزي الفل، بس الدكتور قال لازم ترتاح شوية.

أومأت له بهدوء لتستند على طه بعدما جاء الطبيب وأمر بخروجهم لفحص المريضة، والتي نامت فجأة من الإجهاد، احتضنتها تسبيح أولًا وهي تشعر بألم في قلبها، فهي تُعتبر جزء من روحها ونصفها الآخر، هي شقيقتها التوأم وحياتها الأخرى، قبلت جبينها بحنان ودموعها تنهمر بشدة ثم وقفت بجانب عابد الذي يُحاول التخفيف عنها، خرج الجميع من الغرفة، وهنا فقد لاحظ عابد وجود معتصم، تنغض جبينه بغضب ولم بتفوه بأي كلمة، فقط حذره والده من قبل ألا يتشاجر معه وإلا سيفتعل معه المشاكل.

لاحظ معتصم نظراته والتي قابلها ببرود شديد، قبل أن يستدير ل طه مردفًا بهدوء: أنا هنزل تحت يا عمي هجيب أكل للكل وجاي، أكيد كلكم جعانين.
قاطعه عابد بنفور متحدثًا بحدة: دي عيلتي وأنا اللي هنزل أجيبلهم، خليك في نفسك.
أجابه معتصم بهدوء مستفز أثار حنق الآخر: واللهِ أنا مخدتش رأيك، اللي عايزه أعمله.

كاد الحديث أن يتحول لشجار بسبب تلك المشاحنة التي بينهم، ليُقاطعهم بصرامة: انزلوا انتوا الاتنين جيبوا أكل للكل ومش عايز خناق، وانت يا عابد انزل معاه وجيب أكل لعمامك زمانهم على وصول.
اعترض عابد بضيق: بس يا بابا...
اللي قولته يتنفذ يا عابد مش عايز كلام كتير.

زفر عابد بسخط ناظرًا ل معتصم الهادئ بغل قبل أن يسبقه للأسفل، لحق به معتصم بخطوات رتيبة وهادئة ولا يعلم ما ذلك البرود الذي تلبسه فجأة، قطع طريقه طه الذي تحدث بكلمات ذات مغذى: متحاولش تستفزه، على أد ما عابد عصبي بس حنية الدنيا كلها في قلبه، و سجود واخدة كل صفاته.
اتسعت إبتسامته ثم أجاب بعبث جعل طه يود أن يفتك برأسه: دا احنا عنينا ل سجود وأبو سجود وأخو سجود وأم سجود كمان.

اشتعل الغضب برأسه طه ثم نهره بحدة: إمشي يا حيوان من قدامي بدل ما أخليك تاخد أوضة هنا.
ذهب معتصم من أمامه وهو يُقهقه عاليًا بمرح، فقد عادت الدموية لجسده ووجهه الشاحب بعد تعافي سجود، ومن معاملة عائلة أبو زيد له؛ تيقن بأنهم ليسوا بذلك السوء الذي تُخبره عائلته به، الوضع بات مُتأزم الآن ويجب أن يجد حلًا لتلك الخلافات، ويجب أن يبدأ ب فارس.

سار ريان ذاهبًا ل موسى، مُتمتمًا ببعض الكلمات الحانقة وهو يضع يده على حاجب يده المجروح، وصل إلى حيثُ يجلس موسى ثم جلس جانبه بصمت دون أم يتفوه بكلمة واحدة، نظر له موسى بتعجب وكاد أن يتحدث لكنه انفجر ضاحكًا بدلًا من ذلك عندما لاحظ جُرج حاجبه، حدجه ريان بسخط وتهجم وجهه أكثر عندما أردف موسى دون أن يتوقف عن الضحك: مش قولتلك لو حاجة وقفت معاك ناديلي! أديك خدت على دماغك.

أمسك ريان بصحن الطعام الفارغ جانبًا مُهددًا إياه بتحذير: عارف انت لو مسكتش. أنا هفتح دماغك بالطبق دا.
وضع موسى يده على فمه ليمنع ضحكاته عندما لاحظ الضحر مرتسم على وجهه حقًا، اعتدل ريان في جلسته ثم تحدث بجدية وهو يُقدم الأوراق ل موسى الذي نظر لها بجهل: إيه دا!
تشدق بألم وهو يتذكر محتوى تلك الأوراق: دي فضايح سليم المنشاوي من عمه قبل ما يموت، وأعماله الوسخة.

قطب موسى جبينه بتعجب مردفًا: ما أنا عارف أعماله المشبوهة كلها!
هز ريان رأسه بنفي قبل أن يوضح له قائلًا: اللي انت عارفه دا ميجيش نقطة في بحر أعماله التانية، سليم المنشاوي ليه في تجارة الأعضاء زي ما انت عارف، وأغلبهم بيكونوا أطفال، والغرض من خطف الأطفال تحديدًا هو إنه قبل ما ياخد أعضائهم بيسلخ جلدهم ويشفيه هشان يبيعوا للأجانب اللي بيهتموا بنفسهم وجسمهم.

استمع موسى لحديثه الأخير بأنفاس لاهثة وبدون تصديق، ليُكمل ريان حديثه المتبقي والذي كان بمثابة صدمة له: بيعمل علاقات مقرفة مع جثث الأطفال دي سواء كانوا بنات أو ولاد، بيلعب بالنار مع كبار رجال الما يا وبياخد زوجاتهم في ليالي حمرا ولو اتعرف هيروح في ستين ألف داهية، ليه معارف كتيرة في الداخلية بيساعدوه في دا وكمان بيسهلوا ليه مرور الشحنات.

أغمض عينه وفتحها مرة أخرى بعدم تصديق وعقله لا يستطيع إستيعاب ما يُقال، تحدث بصدمة وشعور الحزن يتقازم داخله على هؤلاء الأطفال المساكين: إزاي إنسان يقدر يعمل كدا في أطفال! دي حتى الحيوانات بترحم الجثث، هو مرحمهمش لا عايشين ولا ميتين!

أدرك ريان صدمته القوية والتي كانت صعبة على كل من علمها، لينتظر قليلًا قبل أن يقول بحيرة: بس لازم دلوقتي نتواصل مع حد من الشرطة سلطته كبيرة وأمين عشان نعرف نثبت دا كله ويكون ورانا ضهر.
انتبه موسى لحديثه مُفكرًا في ذلك الأمر المُتأزم، فهم مطلوبون من العدالة، كيف سيتعاونون معهم، فكرَّ لبُرهة قبل أن يفتح عينه بحماس: عرفت نروح لمين، عمر البدري، كان ليا فضل عليه وأكيد هو هيبقى فاكرني.

قطب ريان جبينه متسائلًا بتعجب: مين عمر البدري.
أجابه موسى مُسرعًا: قريب يزن الرواي صاحب أكبر شركات الحديد في مصر. (بطل رواية خادمة الشيطان).
استرعى ذلك إستحسان ريان وها قد بدأوا بإظهار برائتهم معًا، تسائل موسى بحيرة: بس إزاي هنجيب الأوراق اللي هتثبت برائتنا؟

وضَّح له ريان بهدوء: منير المنشاوي قايل على مداخل ومخارج الشركة وأماكن الورق وباسورد الخازنة وموعد تسليم الشحنتين الجايين، وكأنه كان حاسس إنه هيموت ويتغدر بيه من سليم المنشاوي، وبكرا إن شاء الله هنبدأ بالتنفيذ.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة