قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون

هبط عابد درجات سلم المشفى ولا يعلم لما كل هذا الغضب، أغاضبٌ من معتصم، أم من التفكير ب وصال طيلة اليوم رغم كل ما فعلته به! عقله مُشوش ولأول مرة بحياته يشعر بالتيهة، يشعر بالشفقة على حاله، وهو الذي لم يرفع عيناه في أي أنثى قط، تأتي تلك التي نبض قلبه لأجلها وتقوم بخداعه!

وصل لمقهى المشفى فلم يرى أمامه ذلك المقعد الخشبي الصغير الموضوع جانبًا، تعرقلت قدماه به وكاد أن يسقط على وجهه؛ لتنتشله يد صلبه مُسنِدة إياه قبل أن يصل للأسفل، رفع عيناه ليجد أن صاحب تلك اليد ما هو سوى معتصم، والذي عقَّب ساخرًا: اسمالله عليك، ما يُقع غير الشاطر يا عبود.
سحب عابد ذراعه بحدة ثم وجَّه إصبعه أمام عيناه، مُردفًا بتحذير: ابعد عني أحسنلك بدل ما تندم، أنا مش ناقصك.

مط معتصم فمه وكأنه يُفكر، ثم تحدث بهدوء يُنافي عصبيته تمامًا: مالك بس يا عبود إيه اللي مضايقك! يا أخي اعتبرني صحبتك واحكيلي.
التوى فم عابد بإبتسامة ساخرة، مُردفًا بكلمات ذات مغذى ماكرة قبل أن يذهب من أمامه: صحبتك! والله انت أدرى بنفسك يا، يا عصوم.

أنهى حديثه ثم تركه وذهب يُفكر في حديثه، ثوانٍ معدودة ثم فتح عيناه على أخرهما عندما وصل له معنى حديثه، ليجز على أسنانه بغيظ هاتفًا بضجر: غلبني المرادي ابن طه، بس على مين! دا أنا كياد ومش هسيبه النهاردة.

ارتسمت معالم الحُسن على محياكِ، لكِ مني السلام لعيناكِ، يا مالكة القلب والوجدان، يا مولاتي.
هكذا همس ريان لذاته عند رؤيتها نائمة بسلام، أهدابها القليلة تُغطي على عيناها، وجهها الملائكي يُدخِل على قلبه السرور والسعادة، مشاكستها تروقه بل تُطربه، ضحكاتها. وآه من ضحكاتها التي تقتله، وقع بها دون إرادته، لفت حول قلبه خيوط عشقها ليُصبِح مُتَيْمَ بها.

لامس بكفه وجهها وعلى محياه إبتسامة صافية، يمرر يده على ملامحها وكأنه يحفظها، خفتت سعادته المؤقتة عند تذكره لمهمة غدًا، لن يستطيع أن يُفرِط بها حتى وإن كان الثمن حياته، لن يستطيع خسارتها، فهي أصبحت حاضره ومستقبله، والدته الأخرى! نعم والدته، تجذبه بحنانها، وكم يحتاج للحنان الذي افتقده.

هبط على جبينها يُقبله بعاطفة شديدة، هامسًا بصوت منخفض وكأنها تسمعه: مش هقدر أخسرك، مش هقدر بعد ما روحي رجعتلي تروحي من إيدي.

ارتدى موسى وشاحه وعلى ثغره ترتسم إبتسامة عابثة، كان الوقت قد تعدى منتصف الليل، والصمت يعم الأرجاء، رجاله نائمون وهو هنا هائم، تلك الصغيرة الحمقاء شغلت جُزءًا من تفكيره، أحيانًا يُوبخ ذاته لتعلقه بها هكذا، هو لم يراه سوى مرة واحدة! ومن بعدها بدأ عقله بتذكر موقفها الساذج، وإن أردتم الحقيقة؛ هو ذهب عدة مرات مُتخفيًا لمنزلها ليراها، ليلمحها مرة أو مرتان تسير مع والدتها.

وصل إلى الطريق الرئيسي ناظرًا بعيناه الماكرة حوله، ليُطلق صفيرًا عاليًا يتبعه صهيل حصان أسود ضخم يأتي ركضًا مُهللًا بقدوم صاحبه، ضحك موسى بصخب ماسحًا على خصلاته الطويلة، مُردفًا بإشتياق: وحشتني يا رعد.
مسح الحصان بملابسه وكأنه يحتضنه؛ ليبتسم موسى بخفة وهو يتذكر أمره لأحد رجاله ليلة أمس بالذهاب لمنزله والإتيان بحصانه الوفي، ترجل عليه ثم انطلق بعدها بسرعة عالية لمنزل تلك الصغيرة لرؤيتها.

بعد نصف ساعة من الركض السريع، وصل موسى لمقدمة الشارع ثم ربط حصانه بأحد الأعمدة مُربتًا على رأسه بلطف، سار عدة خطوات حتى وصل إلى العمارة التي تقطن بها، نظر لشرفة غُرفتها والتي علم موقعها عند رؤيته لها بإحدى المرات تقف بها، وضع يده على جيب بنطاله يتأكد من وجود هاتفه قديم الطراز به، أمسك بأحد الأحجار ثم قذفها تجاه شرفتها بقوة لتستيقظ إن كانت نائمة.

كانت تسبيح في تلك الأثناء تستذكر مُحاضراتها المُؤجلة، فلقد إقترب موعد إمتحانات العام الدراسي ويجب أن تفعل كل ما بوسعها لتحصل على تقدير جيد، انتفضت بفزع عند اصتدام أحد الأشياء بنافذة غرفتها، في البداية ظنت بأنه أحد الأطفال الذين يلعبون في وقت مُتأخر، لكن عندما تكرر الطرق مرة أخرى ابتلعت ريقها بقلق واتجهت ناحية النافذة، لم تستطيع رؤية شئ من الفواصل؛ لذلك حسمت أمرها بفتحها.

شهقت بألم عندما اصطدمت أحد الأحجار بجبهتها، وضع موسى يده على فمه بذهول، ورغم صعوبة الموقف كتم ضحكته التي كادت أن تصدح عاليًا، ناداها بصوت هادئ حتى لا يستيقظ الجيران وتُصبح الفضيحة علانية: بت يا تسبيح!

قطبت تسبيح جبينها بتعجب من ذلك الوقح الذي يُناديها هكذا، رفعت أنظارها للخارج ومازالت يدها على جبينها تضغطها بألم، وما هي إلا ثوانٍ وشهقت بهلع عند رؤيتها لذلك الوقح يقف أمامها وتلك الإبتسامة العابثة مُرتسمة على شفتيه، رفع يده مُلوحًا بأصابعه متشدقًا بعبث: هاي.
وكأنها لم تستوعب وجوده حتى الآن، حتى ثيابها المنزلية التي ترتديها لم تنتبه إليها، غمز لها بعينيه هاتفًا بوقاحة: بس جامدة البيچامة.

وتلقائيًا نظرت إلى ما ترتدي لتشهق مرة ثالثة بفزع من إلتصاق ملابسها بجسدها رغم حشمتها، وما زاد الطين بلة هو غطاء رأسها الذي لم تضعه حتى، نظرت له بغضب قائلة بصوت حاد خافت: انت وقح على فكرة.
استند على عمود الإنارة من خلفه ومازال مُحتفظًا بإبتسامته المُستفزة بالنسبة لها، ثم أجابها بعبث: عارف على فكرة.

لم تُعطي له أي فرصة أخرى للحديث، فأغلقت النافذة بسرعة وهي تُتمتم ببعض الكلمات أدرك بأنها تسبُه، تقدمت عدة خطوات ثم استندت على الحائط من خلفها، واضعة يدها موضع قلبها الذي يطرق بشدة، توترت ملامحها عندما عاد الطرق على النافذة لكنها لم تُبالي، توقف كُل شئ من حولها وعاد الصمت يعم المكان مرة أخرى، ورغم تيقنها من ذهابه؛ إلا أنها خافت أن تنظر من الشرفة مُجددًا، ليست بلهاء هي لتُعيد خطأها ثانيةً.

ذهبت لفراشها بخطوات بطيئة ثم جلست عليه بخفة تُفكر في هذا الغامض الوقح وما يُريده منه، تنبهت حواسها لصوت هاتفها الذي أعلن عن رسالة نصية، فتحته بهدوء، وما هي إلا ثوانٍ حتى غزا الإحمرار وجهها وبدأ قلبها بالنبض بشدة:
«ومالي أراكِ في كُلِّ الوجوه؟
أغزوتِ عيني أم غزتكِ الأماكِن!
لماذا أراكِ في كُل شئ؟
كأنِك في الأرض كُل البشر.

خضع قلبها لتلك الكلمات، استهلكت كل طاقة جسدها، أغمضت عيناها بقوة تُحاول ضبط أنفاسها الهاربة، مشاعرها الآن مُبعثرة، ذلك المُخادع لعب على وترها الحساس، ابتلعت ريقها الجاف بتوتر بالغ وهي تُفكر، هل يُحبها!
هزت رأسها وكأنها تنفي سؤالها، وكما تعلمت منذ عدة سنوات قليلة، عند الشعور بالتيهة؛ تتوضأ ثم تُصلي ركعتين لله، استغفرت داخلها مُتمنية من الله أن يغفر ذنبها الذي فعلته الآن، لكن تُقسم بأنه ليس بيدها.

وعلى بُعدٍ آخر.
سار موسى مُفكرًا بها وعلى ثغره إبتسامة حالمة، تلك الفتاة تخجل سريعًا ولن تتحمل وقاحته حقًا، ل ربما تنصهر من الخجل!
هز رأسه بيأس على أفكاره الوقحة مُتخيلًا إياها أمامه، هو لم يحبها بَعد، لكنه يشعر بالإنجذاب ناحيتها، وجهها يُدخِل لقلبه السرور والراحة، ولا يعلم كيف!
امتطى حصانه الذي أصدر صهيلًا عاليًا ثم إنطلق به سريعًا كيفما جاء.

سطعت شمس يوم جديد ملئ بالمفاجئات السارَّة والغير سارَّة، استيقظ معتصم بكسل فاردًا ذراعيه بنعاس، نظر لساعة الحائط فوجدها قد تخطت العاشرة صباحًا، تذكر مجيئه متأخرًا ليلة أمس ونظرات والده الحادة تتبعه، حينها هتف والده بسخط وصوت حاد: لما تقوم بكرا هيبقالي كلام تاني معاك.

قطب جبينه بضجر وهو يعلم الأمر الذي يُريد والده أن يتحدث به، بالطبع علم بذهابة للمشفى طيلة الأسبوع الماضي، وهو الذي كان يُحاول جاهدًا إخفاء الأمر عن عائلته، خاصةً والده و فارس، تنغص جبينه عندما تذكر ضرورة الحديث مع فارس بأمر والدته، لم يمر هذا اليوم مرور الكِرام كما يتضح.

ارتدى ثيابه والتي كانت عبارة عن بنطال من الچينز الأزرق وقميص من اللون الأبيض، خرج من غرفته ليجد والدته جالسة بوجه مُتهجم على الأريكة، وبمجرد ما إن رأته؛ حتى صاحت ساخطة: انت مش هتجيبها لبَر يا معتصم! أبوك نِزل الصُبح ومستحلفلك لما يرجع.
جلس معتصم جانبها ثم تحدث بهدوء يشوبه بعض السخط: وأنا عملت إيه لدا كله يا ماما!

اعتدلت في جلستها ثم استدارت له ضاربة إياه على كتفه وهي تُصيح بحدة: متلِفش وتدور عليا يا ولا، إيه اللي وداك تزور بنت عيلة النويهي!
حدجها بهدوء، فيبدو أن والدها روى لها ما حدث، وكما توقع تمامًا هو علم بذهابه للمشفى، لذلك كان غاضب منه ليلة أمس، أجابها بهدوء وهو يلمح قدوم شقيقته التي أتت من الداخل: بحبها يا ماما، بحبها وهتجوزها.

لطمت سميحة على ظهرها قائلة بصدمة: يا مصيبتي. بتحبها! وملقتش غير بنت النويهي وتحبها!
غمز لها معتصم بمزاح: القلب وما يهوى يا سوسو، وانتِ عارفة قصدي إيه بكلامي كويس.
إحمرَ وجهها خجلًا، فقالت بغضب لتُداري حرجها: احترم نفسك يا حيوان، انت نسيت إنك بتكلم أمك ولا إيه!
وقفت إهداء أم أخيها مُتحدثة بحماس: بتحب أي واحدة فيهم يا معتصم.

أحاطها معتصم من كتفها ثم قبَّل وجنتها، ثم أردف مُغيظًا والدته التي تنظر لهم بسخط: انتِ اللي ليا يا بت يا دودو. بحب يا ستي سجود بنت طه أبو زيد.
قطبت جبينها بتفكير مُتحدثة بجهل: أي واحدة فيهم! البيضة ولا السمرا!
أجابها غامزًا لها ثم تحدث بوقاحة: السمرا القمر اللي واخدة قلبي دي، عايزة تتاكل أكل.
واد يا معتصم.
ابتلع ريقه بتوتر تلك المرة على صراخ والدته، ليُودع شقيقته بقلق وبلاهة: طب أستأذن أنا بقا.

صدح صوت ضحكات إهداء عاليًا، لتصرخ بألم عند قذف والدتها لنعلها بوجهها، ثم اتجهت للمطبخ وهو تولول مُتحسرة على أبنائها: يا خسارتي على ولادي وتربيتي، تربية تسد النِفس.

جيبي الخيارة بتاعتي.
هكذا صرخ علي والد وصال في زوجته التي تُحارب معه لأخذ ثمرة الخيار، ثم هتفت صارخة: دي آخر واحدة وأنا اللي لحقتها، يا حرامي.
انتِ بتقولي إيه يا ولية يا خرفانة انتِ، وسعي بدل ما أطلقك النهاردة.
ضربت على صدرها بفزع بعد أن تركت الخيارة قائلة بحزن: يا مصيبتي! هتطلقني يا علي عشان خيارة!

لم يُجيبها بل ظل ينظر لها بحدة، بينما هي جلست على الأريكة ضرب على فخذها مُرددة بنواح وحزن: بقا دي أخرتها يا علي، هتطلق حب عمرك ومرات عيالك عشان بطنك، أنا بجد مصدومة، مصدومة، مصدومة.
صفق لها علي ثم ذهب ليجلس جانبها هاتفًا بفرحة: كدا نروح نقدم في المسرح الدولي واحنا متطمنين.
مسحت دموعها الواهية قائلة بسعادة: بجد يا علي! يعني خلاص هنمثل ونتشهر ونطلع في الطلافزيون!

نظر داخل عيناها بوله ثم تشدق بحب: بجد يا عيون علي، يلا بقا نقوم نلبس عشان نلحق اليوم من أوله.
وافقته في الحديث؛ لتقف مُسرعة ذاهبة ناحية غرفتهم ليبدأوا في إرتداء ملابسهم، وعلى جانبهم كانت تقف وصال بوجهٍ ناعث مُمتعض وشعر مُشعث، ناظرة لأثرهم بحرقة وغل شديدان، لقد سئمت من الأمر، كُل صباح تستيقظ باكرًا بسبب مشاجرتهم، أو إدعائهم للشِجار، كادت أن تنفجر حقًا وتذهب لتُمزقهم إربًا.

ذهبت ناحية الفراش مرة أخرى أملًا في النوم؛ لكنها استمعت لصوت رنين هاتفها واسم عابد يُزين شاشته، أجابته بخمول: آلو.
أتاها صوته الجامد آمرًا إياها بصوت مُبهم: ربع ساعة وألاقيكِ قدامي يا إما اعتبري نفسك مرفودة.
لم تكد أن تُجيبه بغلظة حتى أغلق الهاتف بوجهها دون أن يستمع لبقية حديثها، نفخت بضجر وظلت تُتمتم ببعض الشتائم حتى اتجهت إلى خزانتها لتنتقي الملابس التي ستذهب بها إليه.

تُقابلنا الحياة بمآساتها، لندخل نحن في حرب لا نعلم عنها شيئًا، تستقبلنا الجروح بعفوية، وما علينا سوى الإكمال والتحمل.
اتجه معتصم للأعلى حيث منزل فارس طارقًا على بابه، انتظر عدة لحظات حتى انفتح الباب وتظهر من خلفه تلك الوقحة لوچي والتي ترتدي تنورة قصيرة للغاية، وتوب لا يكاد يصل لمنتصف بطنها، استندت على الباب بإغراء مُتحدثة برقة: هاي عمو معتصم.

قهقه معتصم بصوت عالي عليها ثم حملها مُقبلًا وجنتها المنتفخة بقوة متشدقًا بمزاح: لو مدثر شافك كدا مش بعيد يتحرش بيكِ.
اتسعت عيناها بسعادة مُشيرة لملابسها: بجد هيعجبه يا عمو! أنا أصلًا لبساه ليه.
فتح عيناه بصدمة مُرددًا بعدم تصديق: لبساه ليه!
أكدت له بحديثها: أيوا طبعًا، أومال أخليه يبص برا!
تشنج وجهه بإستنكار مُتسائلًا بهمس عالي نسبيًا: أبوكِ كان فين وهو بيربيكِ.
أنا ذات نفسي معرفش أنا كنت فين والله.

هكذا تحدث فارس الذي أتى من الداخل مُمسكًا بالمنشفة بيده، نظر ل لوچي بحدة ثم أمرها بصرامة: ادخلي أقلعي المسخرة اللي انتِ لبساها دي بدل ما اتبرى منك وأخلص.
أنزل معتصم الصغيرة التي تخصرت محلها قائلة بغضب وحديث لا يتماشى مع سنواتها الخمس: اتبرى مني و مدثر كدا كدا هيتجوزني، أنا مش عارفة هفضل عايشة في الهم دا لحد إمتى!

أنهت حديثها ثم اتجهت نحو غرفة والدتها لتشكي لها من أفعال والدها الظالمة، تاركة أبيها وعمها ينظران لأثرها ببلاهة، وكأنهما هما الأحمقان لا هي.
أعاد فارس النظر ل معتصم المصدوم ثم أردف بسخط: سيبك من الخِلفة العاق دي وتعالى أقعد.
جلس معتصم وهو يضحك بشدة على أفعال لوچي والتي تكبر سنها كثيرًا، فأفعالها تليق على فتيات الليل أكثر لا على طفلة في سن الخامسة.

تنهد معتصم مطولًا لا يعلم كيف يبدأ حديثه، يشعر بالتوتر والخوف في آن واحد، يعلم مدى حساسية إبن عمه تجاه ذلك الموضوع تحديدًا، لكن يجب عليه التكلم، يجب عليه المواجهة، ستتم آجلًا أم عاجلًا، وهو لا يستطيع التأجيل الآن.
قرأ فارس حيرته، فوضع يده على قدمه مُشجعًا إياه على الحديث: قول كل اللي عندك ومتخافش.

صمت معتصم يشعر بتأنيب ضميره، ف فارس لم يكن إبن عمه فقط، بل كان كأخًا للجميع، والجميع يُحبه بلا إستثناء، إلا والدته!
حمحم معتصم قبل أن يبدأ حديثه قائلًا بتوتر: عايز اتكلم معاك في موضوع مهم، عارف إنه ممكن يضايقك بس لازم تعرف.
قطب فارس جبينه من مقدماته التي ليس لها أي معنى، مردفًا بهدوء: احكي يا معتصم في إيه!

وبتوتر وقلق بالغ بدأ بسرد ما سمعه من كُلًا من ماجدة وطه وبالطبع لم يَقُم بذكر أسمائهم، وتلك الحقائق المخفية التي تخص والدته المتوفاه، والتي كانت صادمة له بشدة، كان يستمع له وعقله الصغير لا يستطيع إستيعاب حجم ما يرويه، كل ما يأتي بباله الآن هو مشهد والدته وهي غارقة بدمائها وبجانبها ذلك الحقير مُنتحرًا جوارها.

شحب وجهه وسُحبت أنفاسه عِند ذِكر معتصم لخيانتها لزوجها الثاني وهذا سبب قتله لها، وانتهى بقوله القلِق على تعابير فارس التي تحولت من الصدمة إلى القسوة: و. وعمي شاكر. عارف الحقيقة كلها.
وقف فارس مكانه فجأة مُمسكًا به من تلابيبه وهو يصرخ بغضب عارم: انت بتقول إيه! انت اتجننت! جبت الكلام دا كله منين! انطق!

خرجت زهر على صوت صراخ زوجها، أصابها الفزع عندما رأت المُشاحنة بينه وبين معتصم الهادئ والتي كادت أن تتحول لعِراك كبير لا يُمكن السيطرة عليه، هرولت إليه مُسرعة لتُمسك به من ذراعه قائلة برجاء: فارس عشان خاطري سيبه، انت بتعمل إيه!
دفعها فارس بعيدًا ثم التفت ل معتصم لاكمًا إياه بوجهه: لو سمعتك بتجيب سيرة أمي تاني اعتبر إن ملكش إبن عم اسمه فارس.

وضع معتصم يده على وجهه متأوهًا بألم، استمع لحديث فارس المُعادي له فتحدث بتبرير: يا فارس اسمعني، أنا والله مش قصدي حاجة، أنا جيت أقولك عشان...
قاطعه بصراخ وهو يستعد للهجوم عليه مرة أخرى: عشان لما تيجي تتقدم لبنت أبو زيد يبقى عندك حِجة مُقنعة، هما اللي طيبين وأمي أنا اللي خاينة صح!

فتح معتصم عينيه بصدمة من تحليله للموقف بهذا الشكل، هزَّ رأسه نافيًا وكاد أن يتحدث، فقاطعه فارس قائلًا بقسوة: اطلع برا يا معتصم، اطلع برا ومتطلعش هنا تاني.
أنهي حديثه ثم ولج لغرفته، صافقًا بابها بعنف تاركًا الآخر ينظر لأثره بحزن، استدار ل زهر التي تحُك جبينها بتعب ثم أردف: والله يا زهر أنا ما قصدي حاجة من اللي هو قالها، أنا بس.

قاطعته بلطف مبتسمة له بشحوب: فهماك يا معتصم وعارفة انت عايز تقول إيه، وأنا هفهمه دا بس لما يهدى شوية، انت عارف إنه أد إيه الموضوع دا حساس بالنسباله، فمتزعلش منه.
طالعها بإمتنان قائلًا بحزن: مش زعلان منه، فارس أخويا قبل ما يكون إبن عمي، استأذن أنا بقا.

ودعته بود مُغلقة الباب خلفه، ثم استدارت موجهة نظرها نحو غرفتهم بشرود، أخذت نفسًا عميقًا مُستعدة للدخول له، هي الآن ستُقابل عاصفته الهوجاء والتي من الممكن أن تُسبب الدمار للجميع، وهي الوحيدة التي تستطيع إيقافها، لكن هل ستقدر تلك المرة؟

اجتمع موسى ب ريان بعيدًا قليلًا ثم أخرج هاتفه ينظر لشاشته بتدقيق يبحث عن رقمٍ ما، قطب ريان جبينه مُتسائلًا بتعجب: انت معاك تليفون! مش كدا ممكن نتقفش!
وضع موسى الهاتف على أذنه بعد أن اختار أحد الأرقام، ثم أجابه نافيًا: لأ. أنا التليفون دا جايبه إمبارح ومحدش يعرف عنه حاجة و...
قطع حديثه عندما أجاب الطرف الآخر، ليردف موسى بسعادة: ألو! عمر باشا!

علي الطرف الآخر. كان عمر يجلس بجانب يزن الراوي و مراد يتناقشون في أمرٍ هام، ليصدح هاتفه برنين مزعج لأحد المهرجانات الشعبية، تأفف يزن ناظرًا له بحدة: انت مش هتعقل ابدًا! رُد على الزفت دا أو اقفله خالص.
نظر عمر للهاتف ليجده رقم مجهول، ليُحدج يزن بغرور قائلًا بتكبر: رقم غريب، معجبيني كتير وأنا عارف.

استند يزن على المقعد الوثير من خلفه متشدقًا بجمود: مراتك قاعدة برا، وبكلمة واحدة مني هخلي ليلتك طين النهاردة.
ابتلع عمر ريقه بتوتر هاتفًا بتلعثم: رزان! و. وأنا عملت إيه دلوقتي يعني!
كتم مراد ضحكته على تعابير عمر المتوترة، لم يستطيع التحمل إلا أن صدح صوت ضحكاته العالية، تلاه تعقيبه الساخر: ظابط هفأ.
حدجهم عمر بغيظ ثم نظر لهاتفه الذي يلح على الإتصال مُجيبًا بهدوء: ألو! السلام عليكم.

إلتوى ثغر يزن بإبتسامة خفيفة تكاد تكون ساخرة، بينما عاد مراد للضحك مرة أخرى ولا يعلم ما به عمر اليوم حقًا، يبدو أنه دخل الإسلام مجددًا، طالعهم عمر بحقد ثم أخذ هاتفه وخرج للتحدث به في الخارج.
أجابه موسى بسعادة: ألو! عمر باشا!
رد عليه عمر بجدية مُستفهمًا: أيوا أنا مين معايا.
ا. أنا موسى يا باشا اللي قابلته يوم الكمين الإرهابي، وأنا اللي بلغت عن سليم المنشاوي بس للأسف اتقبض عليا.

تذكره عمر على الفور، ليفتح عيناه متحدثًا بدهشة: أيوا موسى. أنا افتكرتك، بس انت هربت مش كدا!
ضيق في سؤاله الأخير عيناه وكأنه أمامه ليرى تعابيره، ليُحمحم موسى بحرج: أه. ولسه هربان. لو سمحت كنت عايز حضرتك في خدمة مهمة، وعندي إستعداد بعدها أسلِّم نفسي والله.

ورغم علم عمر بخطورة الأمر الذي سينجرف فيه، إلا أنه سيُساعده، ليس فقط لمساعدة موسى له من قبل، بل لأن يعلم قذارة سليم المنشاوي وجميع أتباعه، ولم يستطيع أي أحد حتى الآن إثبات أي تُهمة عليه، وبالطبع موسى هو أحد ضحاياه، لذلك أردف بهدوء: خدمة إيه!

تشجع موسى أكثر على الحديث، ليبدأ بسرد ما يعلمه عن سليم المنشاوي وقذارته، وقتله لعمه منير المنشاوي، بالإضافة إلى تلك الأدلة التي تركها قبل موته بلغة عربية معكوسة وحلهم للغز تلك الأوراق، وعلمهم للأماكن التي يحتفظ بها سليم بالأدلة التي من الممكن أن تُثبت برائته هو و ريان وغزل بالإستناد إلى الكاميرا الموضوعة بغرفة مكتبه حيث تتم الإتفاقات والخدع، ثم بدأ بسرد حكاية ريان وغزل له، حتى انتهى من حديثه متشدقًا بترقب: فكنت عايز من حضرتك تأمني وتأمن اللي معايا لحد ما نثبت برائتنا، وهسلم ليك مواعيد الشُحنات والورق كله اللي فيه بلاويه كلها.

صمت عمر قليلًا وشرد يُفكر في أبعاد مُختلفة، إن علم يزن سيكون هذا ضربة الحظ له، سيعود الشيطان مع عودة المافيا مجددًا، لكن يجب أن يعلم بذلك فهو الأكثر علمًا بألاعيبهم، تنهد عمر مُطولًا ثم أدرف بإنجاز: تمام يا موسى، هكلمك بليل أعرف منك تفاصيل أكتر، واعتبر الموضوع دا عندي.

تهلل وجه موسى بشدة وكذلك ريان الذي إستمع للمحادثة بأكملها شاكرًا إياه بإمتنان: شكرًا ليك بجد، مش عارف أشكرك إزاي والله، هتقدملي خدمة مش هنساها العمر كله.
رد عليه عمر بود: العفو يا موسى، وأنا عارف إنك برئ عشان كدا ساعدتك.
كاد موسى أن يُجيبه، فقاطعه ريان بصوت مُتذمر ضاربًا بضربات خفيفة على ذراعه: قوله يجيب أكل وهو جاي، بقالي يومين على لحم بطني.

زجره موسى مُحذرًا إياه حتى لا يسمعه عمر على الناحية الأخرى، لكن كان الآوان قد فات، ليسمع قهقهته العالية ثم أردف: حاضر هجيب أكل وأنا جاي، مش هتغشى وناكل كلنا سوا.
اتسعت إبتسامة ريان فأردف بسذاجة: الله يسترك والله.
أغلق عمر الهاتف بعد تبادل السلام ثم دلف للغرفة مُجددًا بوجه مَرِح غامزًا ل يزن وهو ينظر له بنظرات ذات مغذى: عندي ليك مهمة من اللي قلبك يحبها.
تسائل مراد بتعجب: مهمة إيه!

بدأ عمر بسرد ما رواه له موسى ومعرفته بكل المعلومات التي قد تمس المافيا التي يتعامل معها سليم المنشاوي وأعمالهم المشينة ولم يغفل عن تفصيلة واحدة، وبإنتهاء حديثه؛ برزت أسنان يزن البيضاء بغل واسودت عيناه بشدة، وها هو مع عودتهم؛ عاد الشيطان مرةً أخرى.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة