رواية عازف بنيران قلبي للكاتبة سيلا وليد الفصل الأول
ماتت حروف الحبِّ من دفترِ الكلمات فقد ظُلمت مثلما ظُلِمت، كما حكمَ الجميع على قلبي وحالي من بعيد، دون أن يسمعَ أحدٌ أو يرى في عيني انكسارات قلبي السابقة، حكموا على مشاعري دون أن يلمسوها في العلن، حكموا على إحساسي دون أن تدخلَ قلوبهم لقلبي، أصبحت قلوبُ الجميع قاسيةٌ لا تعرف عن الحبِّ شيئ، إلا استغلال الفرص إن كانت لصالحهِ أو لا، مات الحبُّ كما قتلوا قلبي أمام عيني، ثم تركوني أبكي وحدي في جنازتي...
ملحوظة: الرواية بدايتها فلاش باك.
في إحدى الأحياءِ الراقية في مدينة القاهرة، خاصةً في ذاك القصرِ المقام على مساحةٍ شاسعة؛ يحاوطهُ الحرسُ من كافة الاتجاهاتِ وهو قصرٌ مبني على الطرازِ الكلاسيكي الضخم. ورغم اتساعهِ إلا أنَّه يفتقدُ الدفء حيث تغلّّفُ جدرانه ببرودةِ سكانه. رغم غناهم الفاحش ومظاهرَ الترفِ والرفاهيةِ الظاهرة من أثاثهِ ومفروشاتهِ على أحدثِ طراز.
ورغم أنُّه يضجُّ بسكانهِ ولكن لم نجد الدفءَ سوى في هاتين الغرفتين. إحداهما لفتاةٍ تبلغ من العمر إثنينِ وعشرين عامًا والأخرى لزوجةِ ابنهم الراحل، تجلسُ بشرفة غرفتها مع بداية شروق الشمس التي تسلَّلَ شعاعها لتسطعَ على سطح الأرضِ، لينعم به الناس من دفءِ طبيعة الخالق.
انتهت ليلى من صلاة الفجر وجلست كعادتها تتلو وردها اليومي بعد قراءتها للأذكارِ الصباحية، ثم نهضت تتنفسُ بهدوءٍ جمال الطبيعة حولها.
كان المنظرُ الربانيُّ حقًا رائعًا للقلب قبل العين. قطراتُ الندى التي تغطي أوراق الشجر وتبدأ بالتلاشي بشعاع الشمس. وقفت بعد الانتهاء تنظر للزروع التي تحاوطُ القصر من كلِّ مكان. تتنفسُ نسيم الصباح بنداها الطيب. لم تحبّ في هذا القصر سوى المساحاتِ الخضراء الكثيرة التي تحاوطه.
أمسكت دفترها وبدأت تدوِّن به بعض الجمل التي تشعر بها:.
- لا بأس أيها العاصي. مرحبًا بحياة. نلتقي فيها، كلَّ يومٍ ألف مرَّة. دون لقاء.
- حقًا لا شَيء أسهَل من الكراهيّة...
أما الحبّ فهو يحتَاج نفوسًا عظِيمة.
قطع إندماجها بالكتابة.
إشعارُ رسالة وصلت لهاتفها. أمسكت الهاتف تنظر للَّذي راسلها بهذا الوقت المبكِّر. نهضت كالملدوغةِ وأحسَّت بغصةٍ بحلقها تمنع تنفسها عندما وجدت بها: ليلى لو مش عايزة راكان يعرف إنك حامل وممكن يقتلك لازم نقعد مع بعض و نتكلم؛ وعلى ماأعتقد إنتي مؤمنة وعمرك ماتفكَّري تنزلي البيبي،
لوَّنت الصدمة وجهها ونظرت حولها كالذي يُسحبُ على المشنقة.
جلست وعينيها تحجَّرت بالدموع عند ذكرها لذاك الرجل التي اعتقدت أنها تستمدُّ قوتها وحمايتها منه، اعتقدت أنَّه ملاذها الأول. ولكنهُ صفعها بشدة كما صفعها القدر. سواءً من زوجها الراحل أو من زوجها الحالي، ليظهر وجههِ كذئبٍ بشريٍّ أودى بها لغياهبِ الجبّ.
مسحت عبراتها التي انسدلت على وجنتيها تحرقها كما تحرق النارَ سنابل القمح. أمسكت هاتفها وجسدها يرتجف، تلعن اليوم الذي فعل بها ذلك ثمَّ هاتفتهُ صارخةً به: - إنتَ عايز مني إيه؟ مش كفاية اللي حصلي بسبك. بتهدِّدني براكان الله ياخدك إنتَ وهوَّ في لحظة واحدة. ربنا ينتقم منكم. وهنزِّل الولد. يارب تكون مرتاح قالتها بقهرٍ وعجزٍ في آنٍ واحد. لم تعطيه فرصةً للردِّ وأغلقت الهاتف ثمَّ وضعت يدها على أحشائها وهي تبكي بنشيح:.
- أعمل إيه يا ربِّي في المصيبة دي. قالتها عندما شعرت بعجزها. فلقد فعل بها القدر وأسقطها في بئرٍ مظلمٍ لا نجاة منه وهي مكبَّلةُ الأيدي.
ظلَّت على حالتها لبعضِ الوقت إلى أن استمعت لطرقاتٍ خفيفةٍ على باب غرفتها. وإن دلت خفَّتها فتدلُّ على صاحبتها بحيويتها وجمالِ روحها وابتسامتها الخلابة، سمحت بالدخولِ بعدما أزالت عبراتها.
دلفت سيلين بمرحها كالفراشةِ وابتسامتها العذبة تُزيِّنُ ثغرها: - صباح الخير يالولة. أنا قولت أكيد صاحية. رسمت ابتسامةً على وجهها لم تصل لعيونها بعدما شعرت بإنهيارِ قواها الداخلية فأجابتها: - صباح الخير ياسيلي. طالعتها سيلين بتقييم فتساءلت: - إنتِ كنتِ بتعيَّطي ياليلى؟ هزت رأسها بالنفي وهي تتَّجهُ لابنها بعدما استيقظ وأجابتها: - مش العياط اللي في دماغك. أنا بس بابا وماما وحشوني أوي وطبعًا أخوكي اللي معرفشِ مستحملينه إزاي. محاوطني بسجن من حديد، كانت إجابةً واهيةً كاذبةً علَّها تهربُ من تساؤلات سيلين.
ربتت سيلين على ظهرها فهي تشاطرها أحزانها فتعثَّرت الكلماتُ عند شفتيها ولا تعلم كيف تخفِّفُ عنها. فتنهَّدت وهي تنظر لذاك الطفل.
ظلَّتا الاثنتين صامتتينِ لبعض اللحظات. أخرجهما من صمتهما أمير الطفل الذي يبلغُ من العمر سنةٌ ونصف السنة وهو يتحدَّثُ بكلماتٍ طفولية: - ماما. ماما. سين. سين. اتَّجهت سيلين إليه تحملهُ وتقبِّلهُ من وجنتيه: - قولي أعمل فيك إيه عايزة أكلك ياولا ياأمير. اتَّجهت بنظرها تطالعُ ليلى فتحدَّثت علَّها تخرجها من حالتها الحزينة فناغشتها: - معرفشِ ليه حاسة أمير قلب لعمه راكان. حتى شوفي عيونه بقت تهبل وتجذب زي عمه.
برَّقت ليلى عينيها وهي توزِّعُ نظراتها بين سيلين وأمير، وشعرت وكأنها اسقطت دلوًا من الماء المثلجِ فوق رأسها بليلٍ شديدِ البرودة.
جذبت أمير تحدِّقُ نظراتها به وداخلها رجفةً تسري بجسدها لا تعلم ماهيتها، ثمَّ دفعت سيلين بيدها بوهنٍ وهي تتمتمُ بلسانٍ ثقيلٍ كأنها تتعلمُ الحديث: - إنتِ بتفرسيني ياسيلين. وعايزاني أكره الولد، بتشبَّهي ابني بالتنين المجنح دا؟
قهقهت سيلين عليها وأمالت بجسدها تحدقها بغموض: - بقى راكان اللي سيدات مصر كلها يتمنُّوا منه نظرة واحدة تشبِّهيه بالتنين يالولة. واللهِ قلبك قاسي أوي أوي.
اشتعلَ غضبها من حديث سيلين فرمقتها بنظرةٍ تحذيرية: - بالله عليكِ مش عايزة صباحي ينتزع على الصبح. في سيرة اسم الله عليه أخوكي دا. وبلاش تجيبي سيرته مع إنه مسافر ومرتاحة منه. بس ممكن تلاقيه ناططلي هنا بيجي على السيرة زي الشيطان لما بيجي على المزمار كدا.
ضحكةٌ صاخبةٌ أفلتتها سيلين من فمها حين استمعت لحديث ليلى. فجلست تمسكُ بطنها من كثرة ضحكاتها.
أخرجت ليلى زفرةً حادةً وهي ترمقُ سيلين. بطَّلي ضحك يابنتي. واحمدي ربنا إنِّ الغضنفر مش هنا. مش بقولك ياجمال الحياة وهدوئها. طيب تصدَّقي بالله أنا بشعر بالراحة زي صفاء المية في البحر الأحمر كدا، وإنتي بتشوفي فيه جميع الشعاب المرجانية. وأخوكي غضنفر دا مش هنا. يالهوي دا عليه تناكة إلهي يعدمها ياشيخة.
وضعت سيلين يديها على فمها حينما شعرت بتوقُّفِ قلبها من كثرة ضحكاتها.
نهضت سيلين وهي تراقصُ حاجبيها مردفةً مماجعلها كالكتكوت المبلول:
- لولة. راكان تحت وعايز يشوف أمير، ثمَّ أخذت الطفل من يديها وهي تطالعها بشقاوتها:
- هاخد أمير لراكان صحي من النوم وبيسأل عليه، وإنتي اجهزي وانزلي يازوجة راكان البنداري اللي هتجنن بسببكوا إن شاء الله.
صاعقةٌ قويةٌ ضربت قلبها فبعثرته لأشلاء.
وبعينينِ زائغتينِ وقلبٍ فتَّتهُ الوجع من شدة قساوة ما رأته بذلك المنزل، وخاصة ذاك الراكان طالعتهاو همست بتقطُّع:
- هوَّ جه؟ أشفقت سيلين على حالتها كثيرا فهزَّت سيلين رأسها ترأفُ بها فتحدثت سريعا:
- ليلى واللهِ راكان طيب معرفش ليه بتقنعي نفسك إنُّه عدوِّك. عايزة أقولِّك حاولي تقرَّبي منه وبلاش أسلوبك القاسي دا.
ورغم كلمات سيلين البسيطة التي قالتها إلَّا أنها نجحت بإخراجِ نيرانها فأردفت: - لا طيب ولا وحش خليه بعيد عنِّي ياسيلين، وبعدين هوَّ اللي خلاني كدا. يوم مادفني بالحياة في البيت دا. ربتت على كتفِ سيلين وأردفت:
- سيلين متزعليش منِّي بس أنا بجد بموت ومعدتش متحملة البيت والناس اللي فيه. دول مش بني أدمين دول شياطين وخصوصًا ولاد عمك، ونصيحة مني خليكي بعيدة عن يونس زي ماإنتي برافو عليكي.
أشفقت عليها حينما وجدت عبرات متكورة بعينيها. فأمسكت كفيها وضمتهما: - إنتي جميلة أوي ونفسك عزيزة أوي أوي واللي زي يونس وراكان دول مش وش بنات زيك. دول فعلا عايزين بنات من أشكال اللي بيسهروا معاهم.
تراجعت سيلين خطوةً للخلفِ وهي تهزُّ رأسها: - عندك حق ياليلى. علشان كدا أنا بعدت عن الكل. بس راكان غير يونس ياليلى صدَّقيني. راكان ظروفه هي.
وضعت كفَّها أمام سيلين: - لو سمحتِ بلاش سيرته على الصبح. كفاية إنُّه رجع. عايزة أتنفس قبل ماأقابله وينزع حياتي، قاطعهم عندما
دفعَ الباب بقوةٍ فدخل بهيبتهِ وهيئتهِ الجذابة وعطرهِ الذي تسلَّلَ لرئتيها مما أشعرها بالغثيان.
ثارت زعابيبُ غضبها فأردفت تطالعهُ بعينينٍ تطلقُ شررًا: - هتفضل لحدِّ إمتى تدخل بالطريقة الهمجية دي. رمقها بنظراتٍ نارية لو تحرقُ لأحرقتها بالكامل. أمالَ بنظرهِ لأختهِ وتحدَّث بهدوءٍ مميت: - ساعتين عشان تجيبي الولد ياسيلين ولَّا المدام رفضت.
هزَّت سيلين رأسها وهي تطالعُ ثوران ليلى وغضبها فتحدثت: - لا ياأبيه دا كان نايم وبنصحيه. أشارَ بيديهِ وتحدث:
- سيلين انزلي بأمير. قالها من بين أسنانه.
خطت سيلن وهي تحملُ الطفل بين يديها ولكنهُ أوقفها وتلقفهُ بين يديه يقبله:
- حبيب عمُّه عامل إيه، وحشتني ياأميري. أمسكَ أمير لحيتهِ الكثيفة وهو يتمتم: - بابا. بابا. طبع قُبلةً مطولةً وعينيهِ على التي تطلق شررًا والغضب يتملكها. ناوله لأختهِ وأشار بعينيه للخروج.
غادرت سيلين الغرفة بينما تسمَّرت ليلى بمكانها، تستجدي طريقة تحاولُ التملُّصَ من قبضته ورائحتهِ التي لم تعد تتحمَّلها.
أوشكت على الالتفات، فوجدت قبضتهِ القوية التي أوقفتها بمكانها وعينيهِ تبحر فوق ملامحها وهو يزمجر:
- أنا مش مليون مرَّة أقولك ماتتكلميش معايا بالطريقة دي. نسيتي إنِّك مراتي وأدخل في أي وقت. إيه، عايزاني أستأذن قبل ماأدخل أوضتي. ليه دايمًا بتخليني أتعصَّب.
تصاعدَ غضبها للحدِّ الذي جعلها تنفضُ يديه بعيدًا عنها وتقول:
- أنا مش مرات حد. ودي أوضتي أنا. خليك في نزواتك وابعد عني.
برقت عيناه، لقد تجرَّأت على كبريائه. فأشعلت كلماتها جحيمَ غضبه والذي تجلَّى بعينيه، فخطا إلى أن توقفَ أمامها ودنا منها حتى اختلطت أنفاسهما: - لا مراتي ياهانم. وغصب عنك مش برضاكي. ولو كنتِ نسيتي أفكَّرك. ودلوقتي لازم تجاوبيني.
- خرجتي من يومين وكسرتي كلمتي ليه؟
قالها عندما جلس على الأريكة يضع ساقًا فوق الأخرى، وقام باشعالِ تبغه الغالي ونفثهُ وهو يقيِّم حالتها.
-بلَّلت حلقها تُحاول أن تجيبه بردٍّ مقنعٍ حتى لا يشكَّ بها. فهي تعلم أنه سيعلم.
- كنت تعبانة ولازم أشوف دكتور. قالتها وهي تفركُ يديها وتهرب من نظراته.
توقَّف يدور حولها ونظراته مثبتة يحدقها بتمعن؛ لهجتها المتقطعةِ وعيناها الزائغة جعل الشكَّ يتسرَّبُ لِقلبه فتحدث:
- ودكتور النسا دا معرفة آسر برضو؟
-أفلتت شهقة من جوفها. فلقد بلغ الغضبُ ذُروته، فلم تعُد تتحمَّل حديثه المسموم الذي أصاب احترامها، لذا اشتدَّ صوتها وزادت حدتهِ فصرخت:
- احترم نفسك إحنا اتقابلنا صدفة، وعلى ماأعتقد اللي سايبه يراقبني قالك. ألقت كلِماتها بملامحٍ مرتجفةٍ وعينينِ تهتز من ثقل العبرات المحتجزة بها.
- والله! والمفروض أنا الأهبل أصدَّق صح، بداخله نيران تغلب وتحرق أوردته، حينما علم بمقابلتها بذاك الآسر الذي يودُّ لو يخنقه ويلقيهِ صريعًا...
- ماهو مش معقول تقابلي الأستاذ صدفة! وكمان يطلع معاكي لدكتورة نسا. دكتورة نسا مع راجل غريب يامدام، وكمان قريبتكم. ممكن المقابلة دي تكون واجهة. وياعالِم عملتوا إيه؟ قالها عندما تحوَّلت عيناهُ لجحيمٍ من النيران وبدأ يركل كلَّ مايقابله...
رمقها بنظرةٍ حارقة وأردف مسترسلًا.
- أنا مراتي تروح مع راجل غريب لدكتورة نسا! ليه مش متجوزة راجل؟
اتَّجهت إليه، وطالعته بغضبِ أنثى دُعس بكلِ جبروت على شرفها.
- اخرس مفكَّرني واحدة زي نزواتك؟ قالتها وهي تدفعه بكلِّ قوةٍ وتنظر إليه باشمئزاز، فقد كانت كلماتهِ كنصلِ سكينٍ باردٍ تبتر عنقها ليجعلها تموت بالبطيء...
أمسك ذراعيها، يعقُدها خلف ظهرها، ودنا يهمس بجوارِ أُذُنها، فتقابلت عيناهُ التي بلونِ شعاعِ الشمسِ وهي تطلق كُرات ملتهبةٍ لسوادِ ليلها الذي ألقتهُ كتعويذةٍ على قلبهِ. خرج من سحرِ عيناها وناظرها بجمود: -نزواتي! على الأقل دُول ستات معروفين بيعملوا إيه، إنما المدام اللي تروح مع راجل غريب عند دكتورة نسا نقول عليها إيه؟
طالعته بغضب وصرخت: -اطلع بررررة مش عايزة أشوف وشك.
-اقترب يجذبها من رسغها: - بتطرديني من أوضتي، اتجننتي؟
قالها وهو يخطُو إليها، ونظراتُ الرعبِ تملَّكتها عندما وجدت نيرانه التي تخرُج من عينيه، أمال بجسدهِ، وبدأ صدرهِ يعلو ويهبطُ من انفعاله وقُربهِ منها، ورائحتها الشهية التي تسلَّلت لأنفِهِ. رغبةٌ عاتيةٌ في الاقترابِ أكثر واستنشاق خصلاتها التي بلون عيناها فهمس لها: - متنسيش إنك مكتوبة على اسمِ راكان البنداري، ودا جايزة بالنسبالك، تحمدي ربنا على الوصول لاسمه...
ظلّ يطالع حالتها المرتبكة فأكمل: - احمدي ربنا إنك مراتي. وإنِّك ست. دا اللي شفعلك عندي. لأن من قوانيني ممدش إيدي على واحدة ست، فتخيلي بقى مش أي ست، لا دا مراتي. وحطي تحت مراتي دي مليون خط.
دنا حتى لامس شفتيها وأكمل:
- إنتي مغلطيش بس يا لولا، لا دا إنتي اتجاوزتي حدودك، جبتي آخرك معايا يا ليلى راكان البنداري، افتكري اللقب دا كويس لأنه هوَّ اللي بيشفعلك في كلِّ مرة. بس احترسي رصيدك بيخلص.
طالعتهُ بأعينٍ مرتجفة، وجسدٍ هاوٍ، محاولةً استيعاب مدى قسوتهِ وإهانتهِ لها.
ورغم أنها في موقف الضعفِ إلا أنها تحدثت كقطةٍ شرسة: - متخفش، اسمك محفوظ بعيد مش حبًّا فيك يا ديستينجويشنج. لا. بس علشان مش عايزة أفتكر اسمي مرتبط بشخص زيك عايزة أفقد الذاكرة ياسوبر مان...
صمتَ يُطالعها بنظراتٍ كالذئبِ، وكأنه لم يستمع لما قالته، أو كأنه ادَّعى ذلك. كانت عيناهُ على شفتيها التي تشبهَ حبة الكريز وهي تُحرِّكهم بحديثها، ودَّ لو تذوقهم بتلك الأثناء حتى لو بها سُمًّا. فالسُمُّ لديها كترياقٍ له.
دنا مرةً أُخرى إلى أن اقترب من شفتيها يهمس: - متخلنيش أوريكي المميز والسوبر مان يعمل فيكي إيه. هنفذ كلامي اللي قولته قبل كدا، وخصوصا بحالتك دي. قالها ويُودُّ أن تعطيهِ فقط إشارةً من عينيها الجميلة...
شعورٌ مقيتٌ يجعلُ دقاتها تتقاذف بين ضلوعها من قربِ أنفاسه التي تحرق رئتيها دون رحمة. تقابلت نظراتهما هو بتمنِّيه قُربها، وهي بنفورها من نفسها، بسبب سيطرتهِ الطّاغيةِ لروحها...
لحظاتٌ فقط كفيلةٌ لتُغرق كلَّ واحدٍ بجبروتِ عِنادِه. أكملَ وعيناهُ مثبتةً بعينيها، ثمَّ سحب نفسًا وطردهُ حتى لفحت أنفاسُه وجهها واستطرد: - خليني بعيد عنك ياليلى لو سمحتِ مش عايز أأذيكي وترجعي تكرهيني تاني. لو سمحتي متخرِّجيش الوحش اللي جوايا ناحيتك.
اللعنة على صوتهِ الذي ذبذب جسدها بالكامل، وهمسهِ الهادئ باسمها، ارتجفت شفتيها تُحاول الحديث، ولكن حروفها قد هربت بالكامل. انتشلها من سيطرته الطاغية، وأنفاسِه القريبة، ونظراته التي خدَّرتها بالكامل طرقات الباب.
اعتدل تاركًا إيّاها. محاولًا السيطرة على نفسهِ فخرج صوتهِ متزنًا بعض الشئ: - ادخل. دلفت العاملة وهي تتحدثُ بوقارٍ لشخصهِ: - توفيق باشا والعيلة كلَّها وصلت يافندم. والستِّ زينب بعتتني عشان أعرَّف الستِّ ليلى تنزل. أشار بكفيهِ بانصرافها. فتحرَّكت العاملة سريعًا، وعيناها تُلازم الأرض. ثمَّ استدار لِلتي جلست على الفراش تهربُ بنظراتها في كافة الاتجاهات.
مسمعتيش؟ قومي اجهزي، عشر دقايق وألاقيكي تحت وإيّاكي تتأخري. وقتها هطلعلك، وبلاش أكمِّلك...
تحرَّكَ خطوتين فتوقَّف عندما تذكَّر شيئًا: - آه بلاش تحتكِّي بِسارة وسلمى نهائيا. قالها وهو يُغادر بخطواتهِ المهرولة، كأنَّهُ يهربُ بعيدًا عن عينيها.
أخيرًا استطاعت التنفس، الذي سحبهُ بالكامل من حولها. وقفت تضع يدها على صدرها، وهي تُحادثُ نفسها: - وبعدهالك ياليلى هتفضلي لحدِّ إمتى كدا؟ لازم تخلصي منه ومن كلِّ اللي يُربطك بيه. وضعت يديها على أحشائها: - وإنتَ كمان هخلص منَّ إزاي، يارب ساعدني. قالتها بقلبٍ يأنُّ وجعًا.
-بعد قليل هبطت إلى غرفةِ الطعام التي تضُّم العائلة بأكملها، بهيئتها الخاطفةِ للقلوب، وفستانها الأبيض الذي يصل لِكاحِلها بنقوشهِ الزرقاء التي بلون السماء، رمقها الجميع بنظراتٍ. منها الحنونة، ومنها نظراتُ كرهٍ وغيرة.
كان الجدُّ توفيق يترأسُ الطاولة، وبالمقابل أسعد وبجوارهِ إخوتهِ وزوجاتهم وأولادهم.
- صباح الخير، قالتها ليلى بهدوء.
- صباح النّور حبيبتي تعالي اقعدي جنب جوزك. هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت جسدها، عندما خصَّتها زينب بزوجته. رمقها الجدُّ بسخرية وأردف: - تعالي اقعدي شوية قبل ما مراته الجديدة تستحوذ على المكان؛ مع أنه مش ملكك من الأول. أخذت جرعةً كبيرةً من الهواء تحبسهُ بداخلها، علّها تُهدئ من نيران الغضب الممزوج بالحزنِ الذي ظهر على ملامح وجهها؛ وعيناها التي رمقته وهو يتناول طعامه بهدوء وكأنهُ لم يستمع لحديث جده.
ابتسمت سلمى بحبورٍ وهي تُطالع ليلى التي مازالت واقفة وأجابت جدها: - قولَّها ياجدو. وعرَّفها إن نورسين مبتحبش اللي يقرَّب من ممتلكاتها. جذبت ليلى المقعد بعنف، عندما شعرت بانهيارها وجلست بجوار سيلين وتحدثت: - لا نورسين ولا غيرها، خليها تيجي وتاخد القصر كلُّه، أنا هنا عشان ابني وبس. أومأ الجدُّ برأسه وطالعها بغموض: - برافو عليكي خليكي دايمًا متذكِّرة كدا. إنتي هنا عشان أمير ولَّا إيه ياراكان؟
استدار راكان لجده: - عارفين الموضوع دا وحفظينه، ليه دايمًا بتحسِّسنا إننا في حصة وبتسمَّع لنا الدرس؟
-غيره ياتوفيق بيه. قولي إيه سبب الجَمعة الحلوة دي، مش هو كان يوم الجُمعة، ولَّا أنا غايب بقالي سنين وغيَّرت النظام؟
-ازداد غضب توفيق واستشاطَ داخله فرمقه قائلا:
- هشام النمساوي اتصل وقال نحدِّد فرحكم قبل اجتماع مجلس الادارة. وطبعًا إنتَ عارف يقصد إيه. إحنا عايزينه شريك للمشروع الكبير.
أنهى طعامه واتَّجه ليُونس وتساءل: - هو نوح مش بيحضر الاجتماعات ولا إيه؟ مال النمساوي باجتماعاتِ الشركات وبعدين حضرتك دخلت يحيى الكومي قبل كدا ودلوقتي النمساوي. إيه ياباشا عايز تاخد اقتصاد البلد كلها؟
قوَّس فمُّه وأكمل: على فكرة تفكير غبي؛ لأنك كل ما الحاجة تبقى بتاعتك لوحدك أحسن من الشركاء.
أظلمت أعين توفيق وارتسمت عيناهُ بنظرةٍ قاسية: - أنا اللي هوطَّد العلاقات بينا. وكدا كدا إنتَ هتتجوّز بنته فعادي أنه يحضر. غبي ولا غيره. إنتَ مش عندك شركاتك، مالك ومال شُغل العيلة، ولا عشان نصيبك الأكبر هتتفرعن على جدَّك يا حضرة النايب زي كلِّ مرة؟
زفرَ بهدوء، محاولًا السيطرة على غضبه، عندما حثّتهُ والدته بعينيها بعدم الغضب.
- تمام ياتوفيق باشا، اعمل اللي حضرتك عايزه، شُغلكم ماليش دعوة بيه، والفرح حدِّده معنديش مانع. قالها وهو يرمُق تلك التي جلست تتلاعبُ بطعامها بعينينِ تقطرُ ألمًا، وملامحَ يكسوها الحزن الذي تغلغلَ لروحها.
قاطعهم دلوفُ نورسين.
- جود مورننج جدو. جود مورننج للجميع.
اتَّجهت لراكان: - حبيبي حمدًلله على سلامتك، وحشتني أوي. قالتها عندما قبَّلتهُ على وجنتيه.
أشارَ توفيق على المقعد الذي يُجاور راكان:
- صباح الخير ياحبيبتي. اقعدي، بنت حلال كنا لسة بنجيب في سيرتك.
طالعت راكان وأردفت: - إيه ياراكي. أوعى تكون كنت بتقول لجدو إنِّي وحشتك؟
-ابتسم بجانب فمهِ بسخرية. فأجابها دون النظر إليها وتحدَّث: -أيوه طبعًا يا حبيبي كنت بقول له نورسين دي مفيش زيَّها وحشتني لدرجة هنعمل الفرح بعد أسبوع...
هنا رفعت ليلى عيناها سريعًا إليه، فتلاقت بعينيه. شيّعها بنظرةٍ خبيثة وأكمل: - كفاية تأجيل. إحنا كنا هنتجوز من فترة لولا موت سليم الله يرحمه.
رمقت نورسين ليلى فاستطردت قائلة: - وياترى ليلى هتفضل معانا فوق؟ سوري لكن من حقي ياجدو. مش كدا ولَّا إيه؟
حمحمَ راكان وطالع ليلى مُردفًا: - مدام ليلى أصلًا مش هتكون موجودة في إسبوع الفرح، معنديش مانع لو عايزة تقضي أسبوع الفرح في بيت المزرعة، وأكيد مش هعرَّفها الجو هناك بيكون عامل إزاي الأيام دي.
كان وقعُ كلِماته على مسامعها كصدى صوتِ رعدٍ بليالي الشتاء القاسية وزوابع عواصفها. لم يرحم قلبها فأكمل: - مش عايز الناس يفهموا علاقتنا غلط، وجودك هيسبب الشك. ودا عكس شخصيتي أبيِّن حاجة وأعمل حاجة تانية.
استقرَّت كلماته القاسية وسط قلبها، فمزقتهُ لأشلاء حتى شعرت بآلامٍ شديدةٍ بأنحاء جسدها، مما جعلها تتشبَّثُ بيد سيلين بجوارها.
طالعتها سيلين وهمست إليها
- إنتِ كويسة؟، هزَّت رأسها، وغشاوةٌ من دموعها احتُجزت بعينيها منعتها من التحرر، ولكن أكمل ما هشَّمَ الباقي من كرامتها حينما أردف: - ماما ممكن تنقلي ليلى وأمير للجناح التاني، عشان حضرتك عارفة نورسين وغيرتها، وأنا مش عايز دوشة حريم...
قبَّلتهُ نورسين مرةً أخرى على وجنتيه أمام الجميع، وهمست له: - راكي خلَّص فطارك بسرعة عندنا فسحة هتغيَّر مود الشغل اللي خطفك منِّي بقاله أسبوعين...
-رفعت نظرها، وعبرةٌ غائرةٌ انسدلت عبر وجنتيها مسحتها سريعًا، حتى لايرى ضعفها فأجابتهُ وهي توزِّعُ نظراتها عليه وعلى نورسين: - أنا اتكلِّمت مع طنط زينب من فترة كبيرة من بعد موت سليم، وحضرتك رفضت. يعني أنا اللي طلبت من الأوَّل. ودلوقتي مستحيل أخرج من جناحي، دا بتاع جوزي واللي مش عاجبه ممكن ينقل في مكان تاني. ووقت مايجيلي مزاج ياحضرة النايب أنقل هنقل مش هستنى حد يتأمَّر عليا...
ذُهل الجميع من شراسة حديثها، شعر راكان بصفعةٍ مدويةٍ فاتجهَ بنظره لوالدته: - كلامي يتنفذ ياماما. سليم مات ومش موجود بينا ودلوقتي مينفعش.
-قاطعته عندما هبَّت كالملسوعة تُوزعُ نظراتها بين الجميع: - سليم مات عندكم بس، لكنُّه لسه عايش جوّايا، عايش في ابنه دا. مش من حق حدِّ فيكم يجبرني على حاجة مش عايزاها، أنا اتجبرت مرتين ياحضرة المستشار، المرة دي لا. دا حق ابني إحنا هنا اللي لينا الحق الأكبر.
وقفَ أسعد محاولًا تهدئتها: - ليلى حبيبتي اقعدي يابنتي هنعمل اللي إنتي عايزاه...
-إزاي ياأسعد؟
أردفَ بها توفيق بقوة. هتسمع كلام أرملة ابنك. ثمَّ رمقها وأردف: - إنتِ بأيِّ حق تتكلِّمي كدا. نسيتي نفسك؟
-عايزة تحطِّي نفسك بنورسين؟
إلى هنا وقد طفح الكيل. وصرخت كالذي مسَّها مسًّا جِنيًّا، وضربت على طاولة الطعام: - أنا فعلًا مش زي حد، وعشان كدا خلي حفيدك المغرور دا يطلقني ويتجوّز سليلة الشرف والنسب، أنا مش عايزة أعيش هنا أدُّوني ابني خلوني أمشي.
هبَّ كالملسوع ورفع سبّابتهِ أمام وجهها قائلًا بنبرة آمرة: - مفيش خروج من البيت دا بأمير إلا بأمر مني، ومتنسيش حضانة الولد معايا. عايزة تمشي اتفضلي الباب مفتوح، غير كدا مسمعش صوتك...
تساقطت دموعها بقوة عبر وجنتيها، وهي ترمُقه بنظراتٍ احتقارية ثمَّ تحدَّثت بصوتٍ مرتجف: - إن شاء الله تتعذِّب في حياتك يا راكان وتتوّجع زي ما وجعتني كدا. ضربَ الجدُّ بعصاهِ الأبنوسية على الأرضية: - احترمي نفسك يا بنتِ المحجوب متنسيش نفسك، واعرفي إن اللي بتغلطي فيهم دول يبقوا إيه.
ظلّت مسلطةً بصرها، تنظر إليه ببُغضٍ شديد. استدار لجدهِ والغضبُ استحوذَ عليه كليًّا وصاح: - متنساش إن دي مراتي يا توفيق باشا، ومش معنى إني ساكت يبقى تهينها، اللي يغلط فيها كأنُّه بيغلط فيا...
صفقت ليلى بيديها، فلقد فقدت السيطرة بالكامل حينما دعسوا على كبريائها: - لا برافو. زادني شرف والله ياحضرة النايب. اتجهت إليه تدفعه بيديها: - أنا مش مرات حد. وأعرف آخد حقِّي كويس. اتجهت بنظراتها لنورسين: - هوَّ على بعضه مايلزمنيش ياحبيبتي. ولو فعلًا شايفاه راجل ويستحقِّك خليه يطلَّقني...
-توقَّف مجرى الدم بعروقهِ وتثلَّجت أوصاله، حينما ألقت سهامها ودعست على رجولته بكلِّ جبروتها.
استدارَ إليها وجذبها من رسغها: - اقعدي واسمعي آخر الكلام يا بنتِ الناس. أنا بحاول أتغاضى عن كلامك مش عشان أنا مش راجل. أبدًا.
تنهدَ وأخذَ نفسًا فأكمل: - علشان أخويا المرحوم أولًا؛ وعشان إنتِ مراتي. فبحاول مغضبشِ عليكي ياليلى، مطّلعيش الغضب اللي جوايا. صدَّقيني هكرَّهك في نفسك.
إيه يا راكان مش إنتَ من شوية كنت بتقولها هعمل وأسوي ما ترسي على حل يابني! قالتها فريال وهي تنظرُ إليه بسُخرية.
نهضت ليلى من مقعدها سريعًا؛ تحتضنُ ابنها الذي بكى من أصواتهم المرتفعة.
صاح راكان بِغضبٍ على مربيته: - خدي أمير. ضمَّته ليلى لأحضانها: - لا محدش هياخده منّي. سحب الطفل منها بقوةٍ وصرخ: - خدي الولد أوضته، وبعد كدا ممنوع يبات مع والدته. نفَّذت المربية أمره سريعًا، فانتفضت ذُعرًا تقول بفزعٍ: - متبعدش الولد عنِّي يا راكان لو سمحت.
جلس وكأنهُ لم يستمع لتوسلاتها.
اتَّجهت بعينيها تُراقب ابنها، الذي صدح بكائه بالمكان حتى اختفى، ثمَّ استدارت تسلِّطُ نظرها عليهِ تستجديه علَّها تجدُ بهما رأفةً لحالها، ولكن كيف وهوَ الذي أوجع وأبكى قلبها وأدماه منذ لقائهما الأول...
سحب كفَّ نورسين التي جلست تُطالع الجميع بصمتٍ مُريب وتحرَّك بعض الخطوات.
شعرت بآلامٍ تنخُر بجسدها وشيئًا ما يسقُط من بين ساقيها. ضغطت بقوةٍ على يدِ سيلين التي تساءلت: - ليلى مالك. فانتبه الجميع لحديثِ سيلين.
اتجهت لتحرُّكهِ تُطالعهُ بنظراتٍ متألمة. رمقها سريعًا وتحرَّكَ خطوةً وهو يردف:
- ماما متعملوش حسابي النهاردة مش هرجع.
هنا شعرت بآلامٍ أشدُّ قوةً فخَارَ جسدها وضعُفَ حتى هوت جالسةً تأنُّ وجعًا وتصرُخ.
دنا يُونس منها عندما وجد تعرُّقها وأنينها، وجلس بمقابلتها وأردفَ متسائلًا:
مالك يا مدام ليلى؟ قالها عندما تغيرت ملامح وجهُها وتحوَّلَ لشُحوبٍ كشُحوبِ الموتى، أمسك كفَّها ليرى نبضها، ولكن جحظت عينيهِ واستدار يُطالع راكان الذي وقف متصنِّمًا بمكانهِ من صرخاتها فسألها: مدام ليلى إنتي حامل؟ تساقطت دموعها بغزارةٍ تُحرِق وجنتيها كلهيبٍ يقضي عليها.
فهمست عندما فاق الألم تحمُّلها: - الحقني يا يُونس أنا بنزف.
رجفةٌ قويةٌ أصابت جسده فعَقَد حاجبيهِ ليفهمَ تساؤل يُونس ومعنى حديثها: - أنا حامل. همست بها ليلى، ودموعها أغرقت وجنتيها بالكامل.
-صدماتٌ وشهقاتٌ وهمهماتٌ من الجميع عندما استمعوا لحديثها؛ بينما ذاك الذي تصنَّم جسدهِ وكأنَّ أحدُهما سكب عليه دلوًا من الماء المغلي جعلت جسده كحِمَمٍ بُركانية.
اتجهَ ليُونس كالضائع بغيباتِ الجبِّ، واستمع لسؤاله عندما ازدادت حالتها سوءًا وبدأت قُواها تتهاوى بفقدانها للوعي...
- ليلى إنتي حامل في الشهر الكام؟ تساءل بها يونس الذي بدأ يقيس ضغطها ونبضها.
أطبقت على جفنيها متألمة؛ وكأنَّ روحها تُسحبُ منها وغمامةَ سوداء تطاردها فهمست: - التالت. لم تُكمل كلِمتها فسقطت بين ذراعيِّ يُونس فاقدةً للوعي.
نظر يونس تحتها وجحظت عيناه من آثار الدماء، التي لطَّخت فستانها الأبيض، فصاح بأختهِ وهو يحملُها متجهًا لغرفتها: - سلمى هاتي لي شنطتي بسرعة، بينما سيلين التي وقفت كالمتصنِّمة تبكي على وضعها.
الكل بدأ ينظر لراكان، هناك نظراتُ شفقة وهناك نظرات شماتة، ولكن هو، لقد هوى قلبهِ وزُهقت روحه، تمنَّى لو صرخ من أعماقِ قلبه حتى ينقطع نفسه. حرَّك رأسهِ رافضًا حديثها بقوة، شعرَ بفقدانِ وعيه، نظر بضياعٍ حينما أردفت فريال: - إيه ياراكان أرملة أخوك اللي ميِّت بقاله سنة ونص حامل إزاي؟ وإحنا كلِّنا عارفين طبيعة جوازكم! هنا لم يجد كلمات تُعبِّرُ عمّا يجيش بصدره من آهاتٍ صارخةٍ.
-تحرك يُونس خطوتين وهو يحملها بين ذراعيه متَّجهًا لغرفتها.
-هبَّ فَزِعًا وكأنَّ صراخ سيلين باسمها أيقظه من صدمتهِ فهرول يلتقطُها من بين ذراعيهِ وصاح بِغضبٍ: - رايح فين؟ أنا هودِّيها المستشفى. قالها وشعور الاختناقِ يعيق تنفُّسه. كيف يتنفسُ وصفعاتُ القدر المتوالية لم ترحمه؟
-خطا يُونس بها للخلف وهو يضمُّها، حينما وجد الغضبَ ونيرانُ عينيه ووجعه بآنٍ واحد. فتحدَّث بهدوءٍ: - راكان ليلى ممكن تموت. ننقذها الأول. ممكن يكون الطفل مات. وممكن يكون عايش. أرجوك ابعد غضبك دلوقتي وخليني أنقذها. وبعد كدا حاسبها زي ما إنتَ عايز.
تلقَّفها منه بقوةٍ وغضب، وهو يدفعه بجسده: - ابعد عني عشان غضبي مايولعشِ فيك يا يُونس. إيَّاك تقرَّب منِّي.
-توقفت والدته وعمَّتهِ سميحة، حينما وجدا حالته فاتجهت زينب لأسعد والده: - هتسبوه ياخدها؟
-تحدثت سميحة: بابا، رمقها الجدُّ بنظرةٍ غاضبةٍ وأشار بسبَّابته: - مش عايز أسمع صوت حدِّ فيكم.
اتجهَ بنظره لأسعد: - شوفت مجايب ولادك. أهو شرفهم بقى في الطين.
هبَّت زينب وصاحت بغضب: -إيه مالكم خلاص حكمتوا إنِّ البنت خطيت. إيه أنتوا ناسيين إنها متجوزة؟
طالعتها فريال بسُخرية: -أه وعارفين كمان إن ابنك مش طايقها، ومفيش حاجة حصلت بينهم، واللي يثبت كلامي حالته المجنونة دي. بينما جلست نورسين وهي تضع ساقًا فوق الأخرى: - لا دي مش أشكال راكان، دا مبيكرهش في حياته أدَّها. وبعدين ياأنطي متنسيش إنَّها السبب في موت سليم. مش كدا ياسلمى، فاكرة موت سليم.؟ قالتها نورسين بمغذى وهي تنظرُ لأظافرها.
بالخارج عند السيارة.
تحرَّكَ بها يُحاول إخفاءَ مزيج المشاعر؛ التي اجتاحت كيانه ممَّا استمع إليه. يحاول أن يحرِقَ الأخضر واليابس وكلَّ مايقابله.
خرج سريعًا وهو ينادي على سيلين: - إلحقيني بسرعة للعربية، بينما بالداخل هناك حرب شعواء بين الجميع.
تحدثت يارا ابنة عمَّته: - معقول ليلى تكون غلطت مع حد؟ لا أنا مش مصدقة، بينما هزَّ الجدُّ رأسه وهو يردف: - وآدي الأشكال اللي ضحكو على ولادك يا زينب؛ قبل كدا بنت صياد والتاني جايبلي بنتِ محاسب، لا، وواقفة تجادلي وتقولي إنَّها متجوزة. طالعها بسخرية: -هيَّ تربيتك هتجيب إيه غير كدا؟ قالها ساخرًا ثمَّ أكمل: - ادعي ربنا إنِّ ابنك مايموتهاش ويدخل السجن في حاجة ماتستهلش...
تحركَ يُونس سريعًا يستقلُّ سيارته علّه يُحاول السيطرةَ على راكان.
أمَّا بالسيارة. جلست سيلين بالخلف تبكي وجسدها يرتعشُ؛ عندما وجدت تغيُرِ ملامح ليلى ليُصبح شاحبًا كالأموات فاهتزَّت شفتيها وحدَّثت أخاها: - راكان بسُرعة. ليلى هتموت.
أنهت كلِماتها المتألِّمة وأنفاسها المتقطعة بالبكاء.
هل شعر أحدُكم كيف يكون حالُ العاشق حينما يرى موت معشوقه أمامهِ وهو عاجز. هذا ما شعر به راكان عندما شقَّ طريقهِ بسرعةٍ جنونية، ودَّ لو يحرقها ويحرق نفسه معها. كوَّر قبضته يضربُ على السيارة؛ ونيرانُ صدرهِ تشتعل بداخلهِ تحرقه بالكامل وهو يصيح بغضب: - ليه؟ ليه ياليلى ليه؟ صرخ بها بغضب.
-نظرت سيلين إليه بالمرآة فلا تعلم كيف تُهدِّئُ من روعهِ وهو محقًّا في غضبهِ، ولكن إلى أيِّ حدٍّ سيودي به غضبه جِراء نيرانَ قلبه النّازفة، هل حقًا ليلى دهست على رجولته، وخانته بهذه الطريقة الشنعاء؟
مسحت عيناها وهي تهزُّ رأسها رافضةً حديثها مع نفسها.
انسدلت دمعةٌ حارقةٌ على وجنتيه وهو يتذكَّرُ الماضي.
فلاش باك قبل ثلاثِ سنوات
داخل هذا القصر المريب، في إحدى الغرف تدخلُ سيدةً في أواخرِ عِقدها الخامس إلى غرفةٍ ذات الطابع الأنثوي الرقيق.
جلست بجوارها السيدة التي تدعى زينب، تملِّس على شعرها بحنانٍ أمومي، ظلّت لبعض الدقائق تنظر لابنتها تتمنى من الله أن يرزقها حياةً هادئةً مِثلها.
- سيلين حبيبتي، ياله اصحي إخواتك صحيوا يا قلبي. قومي علشان متتأخريش على جامعتك.
فتحت الجميلة عينيها التي تشبه لونُ البحر بأمواجه، اعتدلت الفتاة واتَّجهت لوالدتها مقبِّلةً جبينها.
- صباح الخير مامي الحلوة: قبَّلتها والدتها، صباح الياسمين على ياسمينة قلبي حبيبتي. ياله قومي بسرعة خدي شاور وغيَّري وانزلي بِسرعة. جدِّك عامل اجتماع عائلي وعمِّك وولاده موجودين تحت.
مطَّت شفتيها الكنزة بتذمر: - أُووف هو كلِّ شوية اجتماعات عائلية. هو جدُّو دا مبيملش؟
رمقتها والدتها بتحذير: - سيلي مينفعش نقول كدا على جدِّك، بابا لو سمع هيزعل جدًا منِّك. ياله بلاش كسل قومي لمَّا أشوف سليم صحي ولَّا لا.
-هوَّ أبيه راكان مرجعش من اسكندرية؟
أردفت بها سيلين باستفهام.
- رجع بس متأخَّر وصحي من بدري بيعمل تدريباته...
- نهار إسوح، هتهزَّأ يامامي كنتي عرّفيني. بقالك ساعة بتكلِّميني وساكتة!
قهقهت عليها والدتها: - يعني راكان بس اللي بتعمليله حساب والباقي لا ياسيلين. تمام.
قفزت من مخدعها متَّجهةً إليها سريعًا تضمُّها بمشاكسة: - إنتي الحبِّ كله يازوزو.
ضمَّتها لصدرها، وربتت على ظهرها: - ربنا يهديكي يابنتي، رفعت ذقنها تنظر لمقلتيها: - إنتي كبرتي ياسيلين معدتيش البنوتة أم عشر سنين، عايزاكي ياحبيبتي تخلِّي بالك من تصرفاتك، وبلاش الحفلات اللي مابتنتهيش دي! راكان لو عرف مش هيرحمك وممكن يقعَّدك من الجامعة.
نفخت وجنتيها بتذمر: - يامامي كلِّ صحباتي بيعملوا حفلات ويسهروا وحضرتك لسه بتقولي أهو أنا كبرت، معرفش ليه أبيه راكان بيخنقني بتصرفاته دي؟ ثمَّ أكملت مفسرة: عندك يُونس أهو ابن عمُّو بس غيره خالص، إخواته بيروحو حفلات وبيفضلوا للصبح وهو كمان بيحبِّ يضحك ويسهر أمّا دا معرفش ماله؟
قاطعتها بحزمٍ: - أخوكي خايف عليكي، مش معنى كدا أنه بيتحكِّم فيكي، وبعدين ماهو بيعامل سليم الراجل كدا مش هيعاملك إنتي يابنت! وبعدين تعالي شوفي يارا بنت عمّتك أهي بتعمله حساب. ياريت تاخدي بالك من أسلوبك في اللبس كمان وبلاها البناطيل المقطعة دي! قال موضة.
دي موضة زفت على دماغكم!، قالتها زينب وخرجت متأففةً من أسلوب ابنتها.
-اتَّجهت إلى غرفة ابنها.
طرقت الباب عدَّة طرقات، دخلت بعدما سمح لها بالدخول.
صباح الخير ياحبيبي.
- صباح الورد ياستِّ الكل. قالها مقبلًا جبينها.
جلست على فراشه.
-كان واقفاً أمام مرآته يُهندمُ ملابسه، نظر لها من خلال المرآة وتساءل: - فيه حاجة ياماما؟
ابتسمت له وأردفت: - سلامتك ياحبيبي. اتَّجه لها ناظرًا باستفهام: - لا شكلك مضايقة من حاجة.
هزَّت رأسها بالنفي، ثمَّ زفرت وتنهدت: - جدّك عامل اجتماع، وربنا يستر مايتخانقش مع راكان زي كل مرة.
-قطبَ جبينه متسائلا: - إنتي خايفة على راكان ياماما من جدو؟
أخذت شهيقًا وزفرته بهدوء: - راكان عصبي وجدَّك كمان، أنا كلِّ مرة بحطِّ إيدي على قلبي، متنساش مرات عمَّك بتحبِّ تصطاد في المية العكرة يابني.
-ضحك سليم بصوته الرجولي: - مين دي ياماما؟ إيه يازوزو نسيتي إنتي مين وولادك مين ولَّا إيه؟ خايفة من فراويلة بنت سلطح ملطح؟ دي منفوخة على الفاضي!
-اغروقت عيناها فجأةً من ذكرياتٍ أليمةٍ مرَّت بها بتلك العائلة، كم كانت تكره ضعفها الذي انتابها حين تذكَّرت مأساتها مع والد زوجها الطاغي. هذا الضعف تحوَّل لحزنٍ تسرَّب إلى قلبها فأدماه حتى شعرت بعدم تنفسها.
-نظر سليم لصمتها ثمَّ احتضن يديها بين راحتيه: - ماما مالك ياحبيبتي، ليه شكلك اتغيَّر كدا؟
هزَّت رأسها وربتت على يديه: -مفيش ياحبيبي، بس افتكرت حاجة. المهم ياسليم كلِّم راكان وخليه يهدى وبلاش كل شوية تصادم مع جدُّه يابني.
قبَّل رأسها وطالعها بنظرةٍ حنونةٍ مؤكدًا: - حاضر ياستِّ الكل أنا هعدِّي عليه قبل ماأنزل.
وقفت متجهةً للخارج: - ربنا يكمِّلك بعقلك ياحبيبي.
-على الجانبِ الآخر.
في منزلٍ ليس بالرقي الفاحش ولا بالمتوسط، يُقال عليه من الطبقة فوق المتوسطة، يتكون من ثلاثة غرف كل غرفة بحمامها وبه صالون على الطراز الحديث.
صاحبُ هذا المنزل للأستاذ عاصم المحجوب الذي لديه ابنتان وولد.
ليلى التي تبلغ من العمر ستةٍ وعشرين عامًا، وابنته الأخرى درة التي تبلغ من العمر ثلاثةٍ وعشرين وهي بالفرقة الرابعة لكلية الهندسة، أمَّا الابنِ الأصغر كريم الذي يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا؟ وهو بالصفِّ الثالث الثانوي. بداخل هذا المنزل الذي تحتوي جدرانه على الدفء والحبِّ والتعاون، تستيقظ تلك الجميلة من نومها.
فتاةٌ في منتصف عِقدها الثالث تمتلك من جمالها مايميزها عن غيرها، عيونًا سوداءَ اللون متوسطةُ الاتساع برموشها الكثيفة، وأنفها بطولهِ قليلًا، ودقَّة أرنبة أنفها وشفتيها التي تشبه حبة الكريز، وشعرها الأسود بسواد الليل يصل لمنتصف ظهرها.
-وقفت متَّجهةً إلى حمامها، لتؤدي فرضها.
بعد قليلٍ تقوم بارتداء ملابسها العملية، التي كانت عبارة عن بدلةٍ نسائيةٍ من اللون الأبيض وحجابٍ باللون القُرمزي.
دلفت والدتها مبتسمةً لها: - صباح الجمال على جميلة ماما.
- صباح الورد ياوردة.
دقَّقت النظر في ملابسها، ثمَّ قطبت جبينها متسائلة: - رايحة تدوَّري على شغل برضه زي كلِّ يوم؟
ابتسمت بهدوء: - لقيت شغل وعندي انترفيو النهاردة، دعواتك ياسمسم.
-اتَّخذت نفسًا طويلًا تملأ رئتيها بأوكسجين الأمل، وأردفت داعية: - دعيالك ياقلبي بكلِّ وقت وحين، ربنا يوفقك ويكتبلك الخير، يارب يابنتي تتقبلي؛ مش هخبِّي عليكي حبيبتي.
الحمل تِقل على باباكي أوي وخصوصًا مصاريف الثانوية العامة بتاعت كريم أخوكي.
ربتت على يديها بحنان: - أنا حاسة المرادي هتقبل ياماما، بس يارب ميكنشِ كتير متقدِّم، لأن الشركة دي كبيرة أوي، وبيقولوا ليها فرع في كلِّ محافظة ورغم كدا آسر إدَّاني أمل إنِّي هتقبل.
- تمتمت أمَّها بدعواتها وخطت متحرِّكةً تجاه المطبخ قائلة: - هروح أحضَّر الفطار علشان تفطري مع إخواتك وباباكي قبل ماتنزلي.
-تمام ياستِّ الكل بس عالسريع علشان زحمة المواصلات إنتي عارفة زحمة الشوارع في الوقت دا.
بالغرفة المجاورة: -كانت جالسةً تدرُس محاضراتها فهي بالفرقة الرابعة بكلية الهندسة، دلفت إليها ليلى: - صباح الورد ياوردة.
- صباح الورد يالولة عاملة إيه حبيبتي؟
دقَّقت النظر بها: -إنتي خارجة ولَّا إي؟
أجابتها وهي تردُّ بتمني قبولها: - في مقابلة عمل في شركة البنداري، جروب تسمعي عنها؟
ظلت تردُّد الاسم وهي تدقُّ بقلمها على سطح مكتبها في محاولةٍ للتذكُّر فأجابتها: - حاسة سمعت الاسم دا قبل كدا، المهم بالتوفيق ياحبيبتي إن شاء الله وربنا يكتبلك الخير.
قبَّلت خصلاتها الحريرية: - خدي بالك عايزين امتياز زي كلِّ سنة.
أومأت درة برأسها وابتسمت بحنانٍ لأختها.
إن شاءلله ياحبيبتي.
خرجت من غرفة أختها وهي تؤمِّنُ على دعواتها. بعد قليل يجلس الجميع على مائدة الطعام: -أاامم بيض بالبسطرمة تسلم إيدك ياستِّ الكل. قالتها درة بابتسامة.
ربتت سمية على كتفها مردفة:
-بالهنا على قلبك ياحبيبتي، رمقها زوجها بنظرةٍ حنونة: -تسلم إيدك ياسمية دايمًا بطلَّعي أجمل نكهة مع أقلِّ تكلفة.
بالهنا ياحبيبي على قلبك.
-حبيب مين ياسمسم نحن هنا، أردفت بها ليلى بمشاكسة.
ابتسمت بخجلٍ لابنتها. قاطعها والدها: -مالك ومال سمسمتي ياليلى.
رفعت حاجبها وهي تلوك الطعام بسرعة وتحدثت: -واللهِ، سمسمتك وأنا إيه ياسي بابا اعترف حالًا.
قهقه والدها عليها وأجابها: -إنتي روح بابا وقلبه ياحبيبة بابا.
وقفت ضمَّته بجلسته مقبلةً خديه: -ربنا يخليك لينا ياحبيبي يارب. ياله أنا لازم أنزل.
ربت والدها على يديها: -ربنا يوفقك يابنتي يارب. ومش عايزك تشيلي هم ياحبيبتي يعني لو ملقتيش النهاردة تلاقي بكرة إن شاء الله؛ حتى لو مفيش خالص مش عايز العيون الجميلة دي تحزن أبدًا.
ابتسمت لوالدها بعرفانٍ وقبَّلت جبينه: -ربنا مايحرمنا منَّك ياحبيبي يارب، قاطعهم كريم أخيها: -دا إيه العشق الممنوع دا على الصبح.
ابتسمت له قائلة: -صباح الخير ياحبيبي. عامل إيه في دراستك ماشفتكش إمبارح؟
-تمام ياحضرة المهندسة النشيطة. وإن شاءلله هيكون ليكي وريث هندسي.
إن شاء الله ياحبيبي، شد حيلك بس ياكريم عايزة مجموع مايقلش عن هندسة هزعل منَّك بجد. ابتسم لها وأردف مؤكدًا: إن شاءالله يالولة متخافيش أخوكي أدها.
أرسلت له قبلةً في الهواء وتحدثت: أنا نازلة ياستِّ الكل محتاجة حاجة؟
-سلامتك ياعمري وربنا يوفقك يابنتي يارب.
في مكانٍ آخر بأحد المنازل العريقة التي تشبه القصور وهو قصر الدكتور يحيى الكومي.
كان يواجه والده بهدوءٍ ظاهريٍّ ونبرةٍ عميقة، ونظراتُ عينيهِ تبحر فوق ملامحه بغموض. أردف والده بغضب: -وبعدهالك يانوح هتفضل منشِّف دماغك لحدِّ إمتى! أنا خلاص إديت كلمة للناس وآخر الأسبوع دا هتروح تشوف العروسة.
حبس نوح أنفاسه داخل صدره ضاغطًا على كل عصبٍ بجسده ألا ينفلت وبنبرةٍ عميقةٍ تحدث: -هو ليه حضرتك محسِّسني إني بنت ولازم أمشي ورا طوعك، أنا كبرت ياحضرة الدكتور مبقتش العيل اللي لازم يسمع الكلام ويقول آمين.
اغتاظ يحيى من حديث ابنه وغروره اللامتناهي، وتعجرفهِ مع كل بنت يختارها له. جلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى نافثًا تبغه الغالي الذي يشعل صدره كنيرانِ ابنه المستعرة له: -المرادي أمر ياحضرة الدكتور العظيم، هنروح يوم الجمعة علشان تشوف البنت ودا آخر كلام عندي...
اسودت عينا نوح وازداد عبوس ملامحه الخشنة تزامنًا مع أنفاسه الحارة، ثم خرج كالإعصار وكأنهُ شيطانًا مستعدًّا للمواجهة، ولكنه اصطدم بجسدٍ ضعيفٍ أثناء خروجه.
وقف يناظرها بهدوءٍ رغم بركانه الثائر، ارتجف جسدها من نظراته التي أربكتها، إنها أسما المهندسة الزراعية التي تبلغ من العمر خمسةٌ وعشرين عامًل وتعمل بمزرعتهم. قطعت نظراته لها وهي تردف مرتبكة: -أنا كنت جاية أشوف دكتور يحيى عشان المزرعة. أفسح لها الطريق دون حديث، اشتبكت عيناهُ بعينيها التي أشعرته بدقاتهِ ولكنه أبعد هذا الشعور وتحرك مغادرًا.
تنهدت بحزنٍ من عدم مبالاته لها، وانسدلت دمعةً شريدةً من عينيها، أزالتها سريعًا بأناملها متجهةً لغرفة الدكتور يحيى. دلفت وألقت تحية الصباح: - صباح الخير يادكتور.
أشار بيديه وأردف: -تعالي ياأسما. فيه حاجة؟
أمسكت بعض الاوراق ووضعتها أمامه: - دي أنواع سلالات جديدة لبعض الخيل. وكمان بذور جيدة لأنواع الفواكه والمحاصيل.
أمسك الأوراق يطالعها ثم نطق: -تمام سبيهم هشوفهم وبعد كدا هقولِّك تمام. أومأت برأسها مغادرةً تبحث عن الذي جفاها النوم من حالته الأخيرة.
علي الجانب الاخر: بقصر جلال البنداري وهو عمِّ راكان؛
بإحدى الغرف ينام شابًا عاري الصدر ورائحة الغرفة المظلمة متشبِّعة برائحة تبغه. ظلَّت العاملة تطرقُ على باب غرفته بعضًا من الوقت، فتح عينيهِ وصاح بصوته النائم: -فيه إيه على الصبح؟
-أنا اسفة يادكتور، بس الستِّ فريال بتقول لحضرتك لازم تنزل حالًا علشان الحجِّ توفيق عامل اجتماع على الفطار في قصر البشمهندس أسعد البنداري.
- تمام. روحي إنتي وأنا شوية ونازل.
استلقى على ظهره يزفر بضيقٍ ثم وضع كفَّي يديه على شعره أرجعه للخلف بضيقٍ في حركةٍ تنمُّ عن مدى غضبه من تحكُّمات جده، رفع هاتفه.
علي الجانب الآخر: في غرفةٍ شاسعةٍ ذات الطابع الرجولي. جدرانها باللون الرمادي الداكن مع اللون الأبيض. يقف أمام المرآة منتصبَ العود.
صاحب ملامح حادةٍ قويةٍ مع صلابة عظامه وفتول ذراعيه وعضلاته البارزة من قميصه الاسود الذي يرتديه، ذو بشرةٍ قمحاويةٍ مع عيونٍ بلون أشعة الشمس، وقف يغلق أزرارِ قميصه الكلاسيك، قاطعه رنين هاتفه: -صباح الخير يايونس.
-أيوة بيقول فيه اجتماع الساعة تسعة، أنا عندي جلسة الساعة عشرة، مش فاضي لجدَّك. وكمان فيه اجتماع في الشركة معرفش إيه اللي حصل في فرع إسكندرية، كويس المشاكل دي حصلت بعد ماجيت.
علي الجانب الآخر أردف يونس ابنِ عمه متسائلًا: -تفتكر جدك عامل اجتماع الصبح ليه؟ وياترى عمَّك خالد هيكون موجود هو وسميحة ولَّا؟
قاطعه مردفًا: -دلوقتى نعرف ياله أنا نازل وإنتَ فوق كدا وبطَّل سرمحة ياجيمس بوند.
قهقه على الجانب الاخر: -تلميذك ياإمبراطور. و بطَّل تراقبني ياراكي، أنا مش مسرمح يابني أنا محبوب بس، أعمل إيه الستات بيموتوا في جمالي.
شعر بمدى حماقة ابن عمه فزفر بغضب: -قدامك عشر دقايق وتكون هنا ياأما فيديوهاتك هتكون على الصفحة الإخبارية.
قفز من فوق مخدعه: - وعلى إيه الطيب أحسن دا أنا تحت بس إنتَ مش واخد بالك، قالها مقهقًها عندما أغلق راكان الهاتف بوجهه.
بالأسفل بغرفة الطعام: دخل بهيئته الجذابة وقامته المديدة، كان الجميع يجلس في غرفة الطعام، سوى فريال مرات عمه وابنها يونس. دلف ملقيًا تحية الصباح بهدوءٍ على غير شخصيته العصبية.
علي رأس طاولة الطعام يجلس توفيق البنداري الجدَّ الصارم الذي يبلغ من العمر سبعةٍ وسبعين عامًا.
في مقابل الطاولة يجلس ابنه الأكبر أسعد. على جانبه ولديه راكان بجانبه سليم وسيلين، كانت الطاولة تضمُّ خالد وزوجته وتوأمهم سارة وفرح، اللتان تبلغان من العمر أربعة وعشرين عامًا، يجلس بجانب الجدِّ ابنه الأصغر جلال بمقابله ابنه يونس الذي وصل للتو. وعدي الذي يبلغ خمسةٌ وعشرين عامًا. وابنته سلمى التي تبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا.
بجوارهم تجلس سميحة وزوجها وابنتهما الوحيدة يارا.
رمق الجدُّ الجميع بنظراته الصقرية: طبعًا أنتوا متعرفوش أنا مجمَّعكم هنا ليه دلوقتى على غير عادتنا...
أولاد أسعد: راكان-سليم-سيلين وهو الأكبر لتوفيق
الابن الثاني: خالد ولديه ابنتان توأم سارة وفرح
الابن الثالث: جلال ولدية ابنان وبنت
يونس وعدي وسلمى
وابنته الوحيدة سميحة ولديها ابنة وحيدة وهي يارا.
رفع الجميع أنظارهم إلى الجد إلَّا ذاك الذي يجلس يتفحص الجريدة وكأنه لا يعنيه حديث جدِّه.
استشاط الجدُّ من أسلوبه البارد والغير المحبب لديه لعدم احترامه له.
صاح بصوته قائلًا: أنا بتكلِّم ياراكان إيه مفيش إحترام لجدك؟
-أنا سامعك ياجدي...
قالها وهو مازال ينظر للجريدة دون حتى أن يرفع نظره لجده.
ضرب بعصاه الأبنوسية بجواره وتحدث بغضب: -من الإحترام لمَّا جدَّك يتكلم تبصله يابن زينب. هنا رفع نظره لجده وظهرت علامات الغضب عليهِ قائلًا بفظاظة: - إيه ابن زينب دي، محدش قال لحضرتك إننا بنسمع بودانا. بقالك ساعة عمَّال تتكلِّم في مقدمات وأنا عندي شغل. وأكمل بإبانة: - كلِّنا متعطلين علشان وصايا حضرتك اللي مبتخلصش، وفي الآخر تقولي يابن زينب.
نصب عوده ووقف وهو يلقي الجريدة من يديه، مالها أمي؟ كلِّ شوية إهانات ليه.
نظر لأخيه الذي يرمقه بنظراته أن يهدأ وصاح به بغضب: - إيه بتبصلي ليه؟ اتَّجه مرةً أخرى لجده: -زينب اللي مش عجباك ولادها همَّا اللي رافعين اسم عيلة البنداري. بص حواليك وشوف مين هيَّ زينب اللي دايمًا بتقلِّ منها.
رفع سبابته أمامه: -لوحضرتك شايف إنِّ سكوتي على إهانة أمِّي دا يعتبر احترام، فأحبِّ أقولك ياجدِّي العزيز إنِّ حفيدك.
مترباش صح.
قام بجمع أشيائه الخاصة وأردف: -أنا عندي شغل وقررات حضرتك يونس او سليم يبقى هيبلغهالي، بعد إذنك.
جحظت أعين الجد من تمرد حفيده الأكبر عليه، فهو رجل ذو هيبة يستمع إليه الكبير قبل الصغير، وأوامره تُطاع على الجميع إلَّا من ذلك المتمرد.
اتجهت والدته إليه وعيناها تترجاه: -حبيبي علشان خاطري أقعد ماينفعش تسيب العيلة كلها متجمَّعة وتمشي وإنت أكبر حفيد.
قاطعها عندما لملم أشيائه: - عندي محكمة ياماما بعد نصِّ ساعة، مش فاضي لطقوس العيلة اللي مبتخلصش.
صاح أسعد بولده: - اقعد ياراكان عشر دقايق ونمشي...
اتجه بنظره ليونس وهو يكزُّ على شفته السفلى. أومأ له يونس بعينيه أن يهدأ.
- هقعد بس يكون في معلومك ياجدِّي أي غلط في أمِّي تاني مش هسمح بيه، وكمان أنا ابن أسعد مش ابنِ زينب، أردف بها وهو ينظر داخل مقلتيه، تحدَّت النظرات بين الجدِّ وحفيده. قطب الجد جبينه بسخرية: - والله عرفتي تربِّي يازينب الحمد لله إنك ممعكيش بنات، قاطعته وهي تردف سريعًا تنظر إلى سيلين تترجَّاه بعينيها: - ولا يهمَّك ياعمي، راكان عصبي لما بيكون عنده مرافعة في قضية.
رمقها راكان بنظراتٍ حزينةٍ لضعفها أمام جده. بدأ الجد حديثه: - أنا جمعتكم علشان ناوي أخليكم دايمًا متماسكين وإيد واحدة.
قاطعه أسعد متسائلًا: -مش فاهم حضرتك يابابا تقصد إيه؟، هوَّ إحنا مش متماسكين؟
رمقه الجد توفيق: - لا فيه الأقوى يابني. النهاردة ناوي أجوز الولاد لبنات عمُّهم.
تناول راكان شريحة توست وبدأ يلوكها بهدوء حتى يخرج غضبه ثمَّ التوى فمه بابتسامةٍ ساخرة: كان الجدُّ يراقب حركات وجهه مما جعله يستشيط غيظًا.
زفر بحنقٍ وأكمل حديثه: - يونس هيكتب على سارة بنت خالد، اتجهت نظرات يونس سريعًا إلى سيلين التي تتلاعب بصحنها دون مسه، في حين أكمل الجد حديثه: وراكان هيكتب على سلمى بنت جلال.
وسليم هيكتب على يارا بنتِ عمِّته.
صمت الجميع لبرهة، فيهما من أعجبه هذا القرار كثيرًا وفيهما من استشاط داخله.
طيب وسيلين ياعمِّي نسيت سيلين؟
رمقها بنظرةٍ تحذيريةٍ وأردف بغلاظة: - هنشوفلها واحد من برة العيلة دي مالهاش حدِّ من عمرها.
أشفق راكان كثيرًا على والدته وأخته فتحدَّث قائلًا: زي بالضبط كدا ياماما مفيش حد على أدِّي من العيلة...
-إيه اللي بتقوله دا ياولد؟ كلامي هيتنفِّذ كلُّه.
قهقه راكان مما جعل حالةً من التوتر تصيب والدته. أرجع بجسده يتكئُ على مقعده ورفع بصره لجده وتحدث: -وحضرتك نسيت تسمِّي العيال إيه ياتوفيق باشا.
وضع إبهامه على ذقنه مصطنعًا التفكير: - أيوة. أنا لو جبت ولد هسميه توفيق البنداري. مطَّ شفتيه وتحدث: ماهو لازم نخلِّد ذكرى كبير العيلة مش كدا ولَّا إيه يايونس؟ ابتسم بسخريةٍ وأكمل يوزِّع نظراته على الجميع: - شوف ياتوفيق باشا. بص حواليك كدا. شوف الدكتور يونس بقى إزاي من قراراتك التحكمية بتعتك. ثمَّ اتجه إلى سليم: ولَّا الباشمهندس سليم اللي كلِّ حاجة لازم جدو يعرف ياراكان. هوَّ برضو كبير العيلة.
أوف توفيق باشا نسِّتني أهمِّ شخص انفلاتي بالعيلة. أمال برأسه لمرات عمه ونظر بخبث: - الكونتيسة سارة البنداري. رفع يديه لابنة عمِّه الأخرى: أوه برنسس فرح. آسف سموِّك، أصلكم كتير الصراحة مش عارف أبدأ بيونس ولَّا عدي ولَّا سليم، توقف ونظر لسيلين.
وأومأ بنظرةٍ حنونةٍ إليها وأردف قائلا: -والله كان نفسي أحقَّق لك أمنيتك دي ياجدِّي العزيز بس للأسف ماليش نفس للجواز أو ممكن تقول كدا. جرَّبت حظي مرة ومش هتتكرَّر تاني والبركة فيك، قالها ثم وقف مغادرًا بخطواتٍ نارية. كالنيران التي أشعلها جده بجسده...
بينما يونس نظر لصحنه ووجع قلبه الدامي لا يعلم كيف الجراح به، على الجانبِ الآخر نظر سليم إلى فرح ثم رفع نظره الى جده: - انا آسف ياجدي مش هقدر أحقق طلبك انا كمان. فرح أخت ليا ومستحيل أشوفها غير كدا.
رمقته والدته بنظراتِ التعاطف علَّها تحثُّه على عدم التحدث حاليًا.
كانت سيلين تجلس ودموعها تنذرف على وجنتيها عندما استمعت لحديث جدِّها القاسي.
رمقها يونس بنظراته الحزينة. نزلت دموعها على صدره كقطع زجاجٍ تقطع جلده لطبقاتٍ متألمة.
وقفت متجهة للأعلى. غادر المائدة خلفها بعدما وجد الأحاديث الجانبية بعد خروج راكان: -سيلين أردفَ بها بصوتٍ هادئ: أطرقت رأسها للأسفل تقاوم رغبةً قويةً بالبكاء، لماذا تصفعها الحياة بهذه القسوة.
سحبها من يديها متجهًا إلى الخارج في غفلةٍ من الجميع، سوى فريال والدته التي همست لزينب: - لمِّي بنت الإيه دي بعيد عن ابني بدل ماتنطردي يازوزو، قالتها بشماتة.
في جامعة القاهرة بكلية الهندسة.
تجلس تتابع شرح أستاذ المادة بكلِّ تركيز، فهي من الطالبات المتفوقة ودائمًا من أوائل دفعتها.
كان يناظرها من حينٍ لآخر. براءتها وجمالها الهادي يخطف السلام النفسي لروحه.
رفعت نظرها عن دفترها التي تدوِّن به بعض المعلومات المهمة، وجدته يصوِّب نظراته اتجاهها وحدها، لكمتها صديقتها أروى: - الدكتور نور ماله مش منزِّل عيونه من عليك ياجميل؟ اتجهت بنظرها إليها: -إيه اللي بتقوليه دا ياأروى؟، إنتي عارفة أنا مش بتاعة الحاجات دي.
قاطعهم زميلًت لهما: - درة ممكن أشوف كشكولك فيه حاجة معرفتش أدوّنها.
ناولته دفترها بكلِّ هدوء. إلا أن ذاك الغاضب الذي كان يتابعها بعينيهِ الصقرية: - ممكن المهندسين اللي ورا يركِّزوا معايا.
نفخت وجنتيها بغضبٍ من صديقتها: -جبتينا الكلام ياحضرة المهندسة.
بعد فترة من انتهاء المحاضرة أثناء خروجها أوقفها صوته: - باشمهندسة درة، استدارت له وتساءلت: - فيه حاجة يادكتور؟
أومأ لها برأسه، اتجهت له ووقفت بمقابلته: - فيه حاجة يادكتور ولَّا إيه؟
رمقها بنظرة إعجاب ثم تحدَّث: - لو فيه حاجة مش فاهماها ممكن أشرحهالك.
شكرته متعجِّبة من أمره: - شكرًا لحضرتك. كله تمام بعد إذنك، تحرَّكت مغادرة. ظلت نظراته متشابكة بها إلى أن اختفت من أمامه.
بمكانٍ آخر: يجلس بمكتبه يراجع قضيته قاطعته مديرة مكتبه: - فيه واحد برة عايز يقابل حضرتك. بيقول عنده قضية.
رفع نظره من على الأوراق: - خلي سماح تشوف قضيته إيه أنا خارج دلوقتي عندي ميعاد ضروري. وميت مرة أقولك يانرمين مدخليش حدِّ بدون ميعاد.
والله ياأستاذ حمزة حاولت بس هو مُصر.
نفخ بضيقٍ ثم جلس مرَّة أخرى: - دخليه وقوليله عشر دقايق بس.
أومات برأسها وتحرَّكت للخارج.
-بعد قليل دخل المدعو راجح: إزي حضرك ياأستاذ حمزة، سمعت عنَّك كتير. وعرفت أدِّ إيه إنَّك محامي شاطر.
عندي قضية عايزك تترافع فيها.
أشار حمزة بيديه وتحدَّث بلباقة عمله: -والله ياأستاذ أنا مشغول جدًا. ممكن تشوف حد تاني.
طالعه الرجل بنظراتٍ توسُّلية: - لو سمحت أنا عرفت عنك إنك شاطر في القواضي اللي زي دي. وخصوصًا إن المنافس راجل متجبِّر ومبيعرفش الرحمة.
أشار بيديه وتحدث، سامعاك ياحج راجح: - جلس يستمع له باهتمام.
بدأ الرجل يحدِّثه بحيثياتِ القضية فأردف قائلًا: - فيه عيلة أخدوا مني قطعة أرض غصب، وعايز أرجَّعها.
خرجت الكلمات من فمه غاضبًا. وأكمل
أنا معايا اللي يثبت إن الأرض ملكي.
عايز ترفع القضية على مين؟ سؤال أردف بها حمزة.
- جلال البنداري
حجظت عين حمزة لتجتاحه الصدمة. ظلَّ يستمع له باهتمام إلى أن انتهى.
- تمام سبني أشوف أوراق القضية وأبلغك رأيي.
بعد قليلٍ في إحدى المحاكم دخل بقامته المهيبة: حضرة المستشار راكان موجود؟
أومأ العامل بالإيجاب، فأردف إليه: قوله حمزة العمري.
دخل المسؤول عن مكتب راكان: - فيه واحد برَّه اسمه حمزة العمري عايز يقابلك ياباشا.
- دخَّله حالًا، بعد لحظاتٍ دخل حمزة بابتسامته: - حضرة وكيل النيابة اللي محدش بقى يشوفه.
ضمَّه راكان بمحبة: - وحشني ياحمزة، إيه يابني مختفي ليه؟
رفع حاجبه بسخرية: - أنا برضو اللي مختفي، ليه نوح ويونس مش بوصلولك أخباري ولَّا إيه؟
قطب جبينه وتساءل: - نوح مشفتوش بقالي أسبوع، أما الدكتور الفاشل دا مبعرفش اتلايم عليه من كتر مصايبه.
قهقه حمزة وأردف بشقاوته المحبوبة لقلب راكان: - لسة زي ماإنت، يونس بصاوريخه وإنت بغضبك وعصبيتك. وبعدين مش عليا ياراكي. أخبارك عندي يابتاع شطِّ بحر الهوى والستات الحلويات. أنا بسمع إنهم ناوين يلمُّوك.
قوَّس راكان فمه: - أيوة جينا بقى للنق يانص متر. أنا باخد توفيق باشا على أدِّ عقله. بدل مانقلب على بعض، المهم سيبك من توفيق البنداري وتخطيطاته. وتعال عايزك في موضوع ومفيش غيرك.
- ليه يونس راح فين؟
يونس دا هاخده أرميه في البحر للحوت ياكله. فيه بنت واكلة عقله والمشكلة إنها متجوزة. ودماغه طايرة على الستات.
مطَّ حمزة شفتيه لا، إلا المتجوزين مش سكِّتنا.
لكزه راكان: ماتتلم إنت كمان ياحلوف. هلاقيها منك ولا من جيمس بوند.
رفع حمزة حاجبه وتحدَّث مدافعًا عن يونس: - والله يونس أحسن منك على الأقل بعرف ألمُّه. منكرش مغامراته تدوخ بس يستاهل والله بيجيب ستات صاروخ أرض جو.
دفعه راكان بقلمه: - ماتتلم ياحمار. شايفنا قاعدين في ديسكو. دي محكمة ولازم تحترم نفسك. أصل وربِّ الكعبة أخليهم ياخدوك تحرش.
قهقه حمزة عليه: - اهدى ياحضرة النايب اللي يسمعك يقول مقطَّع حُصر الجامع، دا إحنا طبيخينه سوا.
رفع حاجبه بسخرية وأكمل: - فينك يايونس والله إنت اللي في عيلة البنداري..
اغتاظ من أسلوبه المغلَّف المدافع عن ابن عمه، ولكن سرعان ماتحول لقهقة عندما تذكَّر بعض مناوشاته مع يونس.
سيبك من يونس ومغامرته: - أخبارك إيه وإيه اللي رماك عليَّا النهاردة، أجابه حمزة: - ياسيدي أنا كان عندي مرافعة في المحكمة دي وعرفت حضرتك موجود هنا، فقولت أسلِّم، وكمان فيه موضوع يخصِّ عمَّك جلال.
في فيلا خالد البنداري: -جلست تتآكل من الغيظ. شوفتي ياماما
يونس عمل إيه، سابني وطلع يجري ورا السنيورة.
ناظرتها عايدة بهدوء وهي تقلم أظافرها ثمَّ نفختهم بضيق: -اهدي ياحبيبتي، مش مهم بيعمل إيه، المهم أنه هيرجع لمين ويتجوزها.
اتجهت فرح إلى والدتها: -ماما إزاي سكتي إن سليم يتجوز يارا، حتة البتِّ المفعوصة دي عايزة تاخد مني حبِّ عمري.
وقفت عايدة متجهةً للنافذة وهي تتحدث بحقد: -كلِّ حاجه معمول حسابها متخافوش، وسليم هيكتب عليكي يافرح، ثمَّ اتجهت بنظرها لسارة: -أوعي تقلِّي بنفسك قدام يونس فهمتي ياسارة، خليكي ملكة قدامه. علشان يعرف مين بنت الحسب والنسب من بنت الشوارع.
جحظت أعين ابنتها وأردفت متسائلة: -قصدك مين ياماما بكلامك دا؟
ضحكت بسخرية وهي تجلس تضع ساقًا فوق الأخرى: -سيلين هانم هيَّ مش بنت أسعد وزينب زي ماهم مقرطسينا كدا، دي بنت لاقيِّنها في الشارع وكانوا مخبيين على جدكو وعلينا، بس إحنا عرفنا وأخيراً جت زينب تحت ضرسي...
قاطعتها فرح وتساءلت: -علشان كدا جدو رفض يجوِّزها من العيلة، طيب ماكدا عارف.
تهكَّمت عايدة وأجابتها: -لا عشان سيلين نقطة ضعف راكان فهوَّ عايز يضغط على راكان بسلين. واللي عرفته إن راكان خيَّره بين جوازه وبين أنه يبعد عن سيلين. ولحدِّ دلوقتي هو بحافظ على سيلين على إنها بنت ابنه.
هزَّت فرح رأسها بنفي وتحدَّثت: - لا ياماما، فيه حاجه غلط، جدو عارف بدليل قالها احمدي ربك إن خلفتك ولاد. أنا إزاي ماأخدتش بالي.
قطبت عايدة حاجبيها وتساءلت: -قصدك إيه؟