رواية حورية وشيطان للكاتبة رحاب إبراهيم الفصل الثامن والأربعون
ياسين
اطرف حاجبيه بثقة عالية واستدار مبتسماً حتى اختفت ابتسامته عندما وقعت عيناه على ساحرته!..
يمد القلب بيمناه خفقة تدري أين الحبيب
والعلم عند القدر من سيصبح غريب
ازهت يراقات الأمل بحلماً مصفد بالقلب حانِ
تلوع النبض على فراقها ويتقبل القلب ساكنه حتى إذا خان.
وقف جامد الملامح قاس النظرات لأمتداد شرس يطل من مقلتيه فأن قررت الانتقام فقد نجحت بذلك، تفحص رداء يشبه تماماً لما اعطاه لها ذات يوم ولكنه محتشم يناسب حجابها، هل أرادت بذلك استفزازه؟!
رمقها بنظرة عنيفة وهو يرحب بصديقه عز الذي لمح بحيرة نظراته لحبيبته، قال عز: -
واحشني يا ياسين، اخبارك ايه؟
رسم ياسين ابتسامة لم تصل لعيناه واجاب: -
الحمد لله...
عرف عز حورية ببعض الرسمية: -.
دي ياسمين اللي كلمتك عنها، عندي مفاجآة ليك النهاردة بس خليها شوية
ضيق ياسين عيناه على حورية بشك ونظرته كأنها تتوعد أن صدق ظنه فقالت حورية بشيء من الارتباك: -
ميرسي لدعوتك ليا
رفع حاجبيه بهدوء الغضب الذي يسكن قبل العاصفة واجاب: -
شرفتي، وشكرا على قبول الدعوة واتمنى أنها تكون مقابلة ما تتنسيش.
دق قلبها بتسارع قلق ثم اشار لهم أن يأتوا معه لغرفة الجلوس حتى يتم اعداد المائدة، تحركت حورية بعدما بادلته نظرة واثقة ولم تغفل عن نظرة الاعجاب بعيناه رغم الغضب...
لمحت بعض تفاصيل المنزل والوانه الهادئة رغم أنها خريفية بعض الشيء ليقف مشيراً مرة أخرى للغرفة فدلف عز بابتسامة وقال: -
علي أساس أني غريب وما اعرفش بيتك؟!
رد ياسين بنظرة جانبية لحورية التي كانت اجمل من كل مرة رأها وبشعور خفي تخيل أنها ملكه وبمفرده معها بهذا الوقت، تنهد بنيران تنهش قلبه ولو استطاع لأخذها بعيداً وعلمها كيف تعشقه...
جلست حورية على أريكة بقملش مخملي باللون الرمادي حيث يتخللها بعض الزهور الصغيرة بلون الروز وسجادة يغوص بها القدم بلون زهور الاريكة، اثاث يريح الاعصاب كثيراً فاثر ذلك على توترها بعض الشيء، رمقها عز بابتسامة وقال: -.
شكلك بتحبي الألوان الهادية يا ياسمين، يمكن عشان ده عكس طبيعتك؟
اجفلت حورية من جملته فابتسم ياسين بنظرة ساخرة وقال: -
اتعلم تغازل صح يا عز، لو أنا منك كنت هقولها، الهدوء يناسب وجودك لأنك قربك ثورة من نار قايدة، وعنيكي وحدها كفاية أنها تخليني احتلك واحارب لأمتلاكك...
شردت حورية بعينه بحب وودت لو تبتسم وتركض اليه ليقابلها بنظرة اشد عشقاً ولكنه تمالك نفسه وعاد لغضبه الهادئ...
قال عز بتذمر: -.
أنا مش بعرف اتكلم زيك بس تعرف، ياسمين بحس لما بتتكلم كأنك أنت اللي بتتكلم! حتى انا قولتلها كدا
ارتبكت حورية بخجل وهربت لنظرة عيناها من نظرته المتسلية لها وقال ياسين بخبث: -
يعني شخصيتك شبه شخصيتي وحتى اسمك شبه اسمي الا بحرف واحد، كأنك أنا؟!
اتسعت عيناها بقلق ورمقت عز الذي تظهر بعض الحيرة بعيناه من حديث ياسين، ثم رمت نظرة غاضبة لياسين وكأنها تأمره بالصمت، اجابت: -
صدفة، مش اكتر.
لوى فمه بسخرية حتى دلفت ذات الرداء الأحمر الناري بخطوط سوداء من الذيل وترتدي فوقه معطف يحجب الرؤية عن كتفيها التي خمنت حورية بأنها عارية بهذا الرداء، يبدو محتشما لا عري فيه ولكن إذا خلعت هذا المعطف فسيبدو عكس ذلك، رمقتها حورية في بادئ الأمر بدهشة لتقترب ناريمان بغنج الى ياسين ليقف لها هو بابتسامة متعمدة وقال: -
وااو...
اتسعت ابتسامة ناريمان بسعادة حتى اقتربت له وقبلته بشكل مفاجئ في خده قبلة طويلة بعض الشيء، يكره منها هذا الشيء وكان دائما يعنفها لأنها اصبحت بعد الطلاق غريبة عنه ولكنها لم تنفك بإغوائه، لم يستطع أن يعنفها أمام صديقه عز وامام حبيبته الحقيقية ولكن اكتفى بابتسامة...
ابتسم عز بدهشة وقال: -
يارب يكون اللي في بالي حصل.
ضيقت حورية عيناها بخوف من أن يحدث من مر بذهنها منذ أن رأت تلك الحسناء الذي رأتها من قبل وعلمت أنها طليقته، وأخذ ياسين نظرة متشفية لحورية لتقل ناريمان وهي ترحب بعز: -
اه، بأذن الله هنرجع لبعض
تفاجئ ياسين من جملتها فهو لم يقل لها شيء عن هذا الأمر لترمقه حورية بنظرة متألمة وعاتبة، فتابع عز قائلا بمرح: -
كدا بقى اقول مفاجأتي أنا كمان، أنا وياسمين هنتجوز قريب...
التفتت ناريمان لحورية فابتسامة ورحبت بها بلطف كبير وباركتها حتى قالت حورية بتيهة: -
الله يبارك فيكي
اسودت عين ياسين من الغضب وهو ينظر لها بصدمة لترمقه وكأنها تقل له، تألم مثلي
في حين انشغل عز بنظرته الهائمة بحورية وهي تتحدث مع ناريمان، هتف ياسين قائلا بصوت ثائر: -
الف مبروك
اجابته بثبات ولكنه تريد الصراخ بأعلى صوتها: -
الله يبارك فيك...
ربت عز على كتف ياسين بود وقال: -.
الحمد لله رجعت لمراتك، كنت حاسس والله
اجابه ياسين بنبرة حادة مع ابتسامة تخفي الغضب بداخله: -
محدش يستاهل اكتر منها...
اشارت ناريمان بابتسامة: -
طب اتفضلوا بقى السفرة جاهزة ويارب ذوقي في الأكل يعجبكم
جلس الرباعي حول المائدة بغرفة الطعام الذي يكسوها اللون الموف الفاتح وتسليط ضوء أزرق كالسحر على انحائها، تقترب الغرفة من شرفة كبيرة مطلة على الحديقة...
كانت تلوك قطعة صغيرة من الطعام بفمها لمدة كبيرة وبنظرة ضائعة، لم ترد النظر اليه الآن بينما هو كان يخطف النظرات الحادة اليها وكم أراد أن يصفعها بعنف على ما فعلته بقلبه...
بعد الانتهاء جلسوا جميعاً بغرفة جانبية بها مدفأة مركزية بكامل المنزل نظرت حورية لزهور الأوركيد التي رأتها بالحديقة وهي تدلف لهنا كما تراها الآن بعدة ازات فلمحت ناريمان ذلك وقالت بمحبة: -
ياسين طول عمره بيحب الأوركيد.
نمت نبرته عن الم يحاربه: -
غيرت رأيي
تحدثت حورية بتحدي وهي تفهم نفيه: -
طب لما أنت غيرت رأيك، ليه زارعه حواليك؟
صمت لبرهة لينظر لأعماق عيناها بتسائل والم فقال بغموض: -
دي جذور قديمة، ميعادها مع الخريف
غضبت ولكنها سيطرت على غضبها فقالت: -
الخريف!، الخريف بيوقع ورق الشجر مش الجذور، بتفضل النبته موجودة لحد ما الربيع يجي عليها تاني ويروي عمرها...
ياسين بتحدي: -.
لما تكون في الاصل زهور طبيعية، لكن النبته الشيطاني تستحق العطش...
رمقته بألم وعتاب: -
رحمة ربنا هتنزل بالمطر، ترويها وتحمي وجودها من قسوة الراعي
تطلع اليها بغضب: -
الراعي ما بيقساش غير لما يطلع للورد شوك...
التمعت عيناها بدموع وقالت: -
لو الورد ما طلعلوش شوك مش هيحمي نفسه، الراعي مش بيسمع صوت بكا الورد، ربك اللي سامعه وبس وربك اللي هيرجع للورد ضحكته قبل ما يدبل...
لم تلاحظ ناريمان عنق الحديث فقد كانت تنظر لياسين بسعادة وتاه فكرها نعه لنستقبلها الذي تجدد معه
انتقلت عين عز من حورية لياسين فقال: -
ايه كلام الجناين ده يا جماعة؟ مش نخلينا في في مناسبتنا احسن!
صمتت حورية بألم لتشرد لدقائق حتى قال عز بتسائل: -
سرحتي في ايه؟
خرجت من شرودها لتجد أن ياسين غارق بشرود في وجهها فقالت: -.
سرحت لثواني بخيالي، رسم خيالي حياة تانية. فيها ادوار مختلفة، الثانيتين دول لخصوا كل الأماني، ياريت كنا نعرف لأحلامنا طريق صريح نمشي فيه...
عز: شوفتي مين في الثواني دي؟
حورية: شوفت عيون حنيتها في الغضب اعظم من حنيتها في الرحمه، بس عتبي عليها كبير، اتمنى ما انساش كرامتي قدام قلبي. واتمنى ما انساش قلبي مع قرار العقل...
نهضت حورية وقالت وهي تخفي دموعها بقدر استطاعتها: -
هعمل مكالمة مهمة بعد اذنكم.
أشارت لها ناريمان بابتسامة الى الممر المؤدي للشرفة المطلة على الحديقة وقالت: -
اتفضلي على راحتك
اخذت خورية حقيبتها وتوجهت للشرفة واسرعت بخطواتها وهي تضع يدها على فمها وتكتم دموعها...
يبدو أن صوت المطر الصارخ لم يصل بالغرف الداخلية فكان المساء قد حل بهبوب رياح قوية قاربت على الاعصار، استندت بظهرها لأحد الاعمدة واجهشت بالبكاء فاصبحت لم تحد تتحمل هذا الالم وكل شيء يبعدها عنه أكثر ليستمر بكائها بعض الشيء حتى ظهر امامها الصغير الذي نسخة مطابقة لوالده فابتسمت رغما عنها وأشارت له أن يأتي حتى اقترب منها على مهل وهو يحمل قطته الصغيرة ويبدو أنه للتو استيقظ من نومه، اقترب الصغير منها فأنحنت له بابتسامة حنونة ومسحت عيناها وقالت: -.
اسمك ايه؟
اطرف الصغير بعيناه عدة مرات ثم رفع انامله الصغيرة ومسح عيناها قائلا: -
ما تعيطيش
ضمته بقوة واجهشت بالبكاء مع ابتسامات محبة لهذا الصغير ثم كررت سؤالها مرة أخرى ليجيب: -
يزيد
مررت يدها على شعره بابتسامة وقالت: -
اسمك جميل زيك
ابتسم الصغير وقال: -
وانتي اسمك ايه؟
تجمدت لهذا السؤال فبو اخبرته بأسمها وصدف ان قاله أمام عز ستكون بمأزق حتى قال صوت آخر كان يتأملهم بابتسامة عاشقة ارتسمت بعيناه رغما ليخفيها بألم وهتف: -
يزيد؟
نظرت له حورية بدهشة ونظر له الصغير بابتسامة وقال: -
بابي
ركض اليه حتى حمله ياسين وضمه بقوة مثل ما ضمته حورية قبل ثوانِ حتى وضعه على الارض مرة أخرى وقال: -
روح اوضتك دلوقتي.
هز الصغير رأسه وتقبل الامر بأدب وذهب حاملا قطته مرة أخرى ثم تطلع لوجه حورية التي يظهر عليها ملامح البكاء، اقترب منها ببطء حتى هربت بعيناها لجهة الشرفة واسندت كتفيها على العمود الرخامي ليقترب اليها بنظرة حاملة بألم والقسوة: -
بتعيطي ليه؟، مش قولتلك تعيشي الوجع بضحكة!
حورية بدموع: - مابعرفش اضحك على وجعي، وبعدين أنت جي ورايا ليه؟، أنت اخترت أنك تخرجني من حياتك، بس تعرف يا ياسين، ابنك نسخة منك، أول ما شوفته حسيت أني كان لازم اكون أنا امه، حتى بيتك، فيه روحك، احساس الراحة اللي فيه للأسف. ماطمنش قلبي، أنت كسبت، ووجعتني بالتمام، ممكن بقى تسيبني ارجع لحياتي تاني؟ ننهي كل شيء دلوقتي
ثارت عيناه بجنون الغضب ليقل بعنف: -.
أنتي شايفة أنك انتي اللي اتوجعتي؟! شايفة أني مبسوط! ولا أنتي ما بتشوفيش ابعد من ظنك!، ونهاية ايه اللي بتتكلمي عنها؟!..
احتدت نظرتها وقالت: -
الكلام انتهى خلاص بعد قرارك
ضيق عيناه بشراسة وقال: -
انا اللي اقرر النهاية
بكت قائلة: -
ما أنت اللي قررت النهاية
ركضت من أمامه وذهبت للداخل مرة أخرى وعاد هو أيضاً بعد دقائق فقابلته بنظرة قاسية وقالت: -
بعد اذنكم عشان ما اتأخرش على البيت
عز بإعتراض: -.
طب خلينا شوية كمان
وافقت ناريمان وقالت: -
انتي اول مرة تزورينا يا ياسمين خليكي شوية انا عايزة اتكلم معاكي
جذبتها ناريمان من يدها للشرفة وتركت الرجال بالغرفة...
استغلت ناريمان بعدها عن انظار عز وخلعت المعطف لتشهق حورية من عري ردائها فقد كان المعطف يواري كل هذا، ابتسمت ناريمان وقالت: -
شكلك مستغربة اني لابسة كدا في الشتا بس انا متعودة على كدا وكمان ياسين هو اللي جابهولي امبارح.
ابتلعت حورية ريقها بألم وشعرت انه اعتاد أن يعطي هدايا مميزة لنسائه فقد اهداها سابقاً برداء يماثل هذا الرداء جمالاً، لتقل: -
الفستان جميل أوي مشاء الله
ابتسمت ناريمان بشرود: -
أنا فرحانة اوي اننا خلاص هنرجع لبعض، أنا ما ندمتش في حياتي على شيء اد ما ندمت أني اطلقت منه، كانت لحظة عناد لأنه جد جداً وانا كنت مدلعة بس دلوقتي مش هضيع ثانية غير وهو جانبي، هرجع لحضنه تاني
وقفت غصة مريرة بحلق حورية لتقل: -.
ماينفعش اتأخر عن كدا للاسف، أشوفك مرة تانية بأذن الله
ارتدت ناريمان المعطف مرة أخرى وقالت: -
تشرفيني يا جميلة وهستناكي في اي وقت واديكي عرفتي العنوان
تظاهرت حورية بابتسامة حتى عادت معها للداخل...
صلِ على النبي
قالت فجأة لعز الذي صمم أن يصلها لمنزلها: -
نزلني هنا لو سمحت
وقف عز بسيارته وقال بتعجب: -
بيتك هنا؟
ابعدت عيناها بإتجاه آخر وقالت: -
لأ، هزور واحدة صاحبتي هنا، تعبانة شوية
عز: - اوك.
ترجلت حورية من السيارة وانتظرت عز حتى ابتعدت بسيارته لتسير بالطريق باكية مع المطرة التي تزداد قسوة حتى جذبتها يد من معصمها، يد كانت قاسية بقدر قسوة عيناه.