رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والثلاثون
قلبي يُناجيكِ في منتصف الليل أن تأتيني، وروحي تُرسِل لروحك عُناقًا لتُواسيني، عينايّ لا ترى في الأرضِ سَواكِ، وعبيرك يُحيطُ جسدي ويَرويني، يا عسلية العين رفقًا بمعشوقك، فقد أرهقته الحياة وأحيته دروبك، فهل لي بعناقٍ يُخفف ألم الطريق؟ أم أني سأظل أُعاني من عذابِ الحبِ العتيق؟
يُدافع ويُقاتل لأجلها، رغم الندوب ورغم الصدمات فهو سيُرد اعتبارها، وقف يعقوب أمام فادي الذي تحامل على ذاته لرفع رأسه لمن يقف أمامه، فاتسعت عيناه هلعًا عندما أبصر يعقوب يُطالعه بعينين كالجمرِ المحموم، اندفع الخوف لكل ذرة في أوردته حينما لمح تلك النظرة المُتوعدة تلتمع بوضوح داخل مقلتيه، فابتلع ريقه بصعوبة وتحدث بصوتٍ يملؤه الوجل: أنت. أنت جايبني هنا ليه؟
لم يجد جوابًا سوى صمتًا يُصيب أرودة فؤاده بالتوتر والقلق، استغل صمته فيما تابع فادي حديثه ببعضٍ من القوة الواهية: أكيد بسبب اللي حكتهولك، بس متجيش ترمي الذنب عليا و ذكرى هي اللي ضحكت علي، آاااه.
كذبه لم يتوقف، لذلك قرر يعقوب إخراسه بضربة أخرى من عصاه الغليظة، جز فادي على أسنانه بألمٍ فاقَ قوة تحمله وبذور الغضب بدأت بالنمو رغم ضعف موقفه، حدجه بنظراتٍ نارية لم يُبالي بها يعقوب الذي جلس أمامه على المقعد بطريقة مُعاكسة وتحدث بنبرة ظهر عليها الاستمتاع جليًا وهو يُقلِّب عصاه بين يده:
المرة اللي فاتت سمعتك بالزوق حصل؟ المرادي لو كدبت مش هتلاقي غير العصاية دي اللي هتكسر عضم جسمك.
تنفس فادي بعنفٍ وهو يشعر بالخوف يكاد أن يخنقه ومن ثَم قال: أنا مكدبتش عليك، أنا قولتلك كل الحقيقة وقتها، جاي دلوقتي بعد شهرين وزيادة وتشك في كلامي؟
معلش أصلي مكنتش فاضي، لكن أنا دلوقتي صايع ومواريش غيرك يابن خيري.
الإصرار على معرفة الحقيقة كان يتراقص داخل مقلتيه الحادتان، وبالرغم من بروده إلا أن هُناك حُممًا من النيران المُستعرة تتأجج داخل صدره الآن، وهذا أخطر إن علمتم! فما كان على يعقوب سوى أنه انتفض من مكانه بمُباغتة دافعًا المقعد بقدمه في عنفٍ ووجهه لا يُنذِر سوى بالشر، رفع فادي عيناه المُمتزجة بالهلع عقب فعلته وتحدث بتلعثم شديد كتهديدٍ غير مُجدي له:
صدقني لو عملت فيا أي حاجة هتندم يا يعقوب، مش هسيبك.
رفع يعقوب العصى الخشبية أمام عين كليهما وقال بصياح: استعنا على الشقا بالله، الله أكبر.
وعقب قوله كان يهبط بما في يده على قدم فادي بكل قوته وكأنه يُصرُ على كسرها، ثم انتقل إلى ذراعيه يضرب عليهما كما الحطب، وبالطبع معدته لم تسلم من الضربات المُتفرقة التي طالتها، وكل هذا كان تزامنًا مع صرخات فادي التي تشق سكون الليل ووحشته، لم يدري بأنه حرر الوحش الكامن داخل يعقوب سوى الآن، جنونه كان خير دليل على ذلك وكأنه يثأر لألم فؤاده ولوعة روحه، وللحق. فالأخير يستحق هذا وبجدارة!
انتهى يعقوب من دس كل الطاقة السلبية الموجودة داخله في الماكث أمامه والذي كان على شفا حُفرة من فقدانه للوعي، رمقه يعقوب بتشفي واقترب منه حتى همس أمامه وجهه بفحيح: الحقيقة أنا هوصلها بنفسي.
رمى عصاه بعيدًا ونفَّض كفيه ببعضهما البعض ثم قال بمسكنة زائفة: لولا إني مبحبش العنف أنت كنت هتتأذي مني جامد أوي!
كان فادي قد سافر بعيدًا عنه حينها، فانطلقت ضحكات يعقوب عاليًا أثناء تعديله لثيابه المُشعثة بسبب المجهود الذي بذله، ثم ألقى عليه نظرة أخيرة قبل أن يتركه مكانه ويرحل من المكان بأكمله!
الرعب، الخوف، والهلع، ثلاث كلمات بمعنى واحد لكن بمشاعر مُختلفة، عادت سارة بخطواتها للخلف عقب رؤيتها لزوج والدتها أمامها بعد أن ظنت بأنها تخلصت منه للأبد، ارتسم على ثُغره ابتسامة مليئة بالكُرهِ والوعيد، لكن ما جعل الرعشة تُصيب جسدها هي تلك النظرة الراغبة التي رأتها في عينه، نظرت حولها باستنجاد علها تلمح أحدًا لكن الشارع كان فارغًا تمامًا إلا من أربعة محلات يوجد في كلٍ منهم عامل واحد فقط، لكنها رأت أن هذا مُناسبًا ليتم إنقاذها، وما كادت أن تفتح فاهها لتصرخ، حتى شعرت بالأخير يُكمم فاهها بيده الغليظة وهو يهمس:.
أنتِ مفكرة إني مش عامل حسابي؟ دا أنا بخطط للحظة دي بقالي شهور يا حلوة.
تلوت بين يديه بقوة لكن كل محاولاتها كانت فاشلة، هي الآن مُحاصرة وجسدها الهزيل لا يُساعدها على المُقاومة، رأتها شقيقتها التي كانت تتحدث في الهاتف أثناء خروجها من محل الزينة الذي دخلته، فصرخت بعلو صوتها وهي ترمي ما بيدها أرضًا، ثم اتجهت لها مُهرولة حتى وصلت إليهم، وبكل استمتاتة حاولت دفعه عنها وهي تصرخ به باهتياج أثناء تسديدها للضربات إلى ظهره:
سيبها يا حيوان وابعد عنها، حد يحلقنا.
صرخت بكلمتها الأخيرة بكل قوتها حتى شعرت بأن أحبالها الصوتية قد جُرحت، نظرت حولها بهستيريا علها تجد أي شيء يمنع أخذ ذلك القذر لشقيقتها التي تتلوى تحت أيديه عُنوة، فلم تجد سوى بضعة أحجار صغيرة للغاية أمسكتها ثم قذفتها تجاهه، استدار لها زوج والدتها الراحلة أكرم يرمقها بنارية، وبعدها أكمل سحبه ل سارة ومازال مُحافظًا على تكميمة فمها.
خرج العاملون من المحلات وللأسف الشديد كان جميعهن فتيات خافوا التدخل فيُصيبهم الأذى، لكن إحداهن بادرت بمهاتفة الشرطة على الفور، ولم تمر سوى ثواني أخرى وكانت إحدى السيارات تقف بمُباغتة ويهبط منها بادر الذي انطلق بسرعة البرق نحو سارة لتحريرها من براثن ذلك المُختال.
جحظت عيني سارة ورفعت يدها بعد أن حررتها ثم غرزتها في وجه زوج والدتها الذي كانت عيناه مشغولة بتقدم بادر نحوه، فكَّر في أخذ سارة كدرع له، لكنها باغتته بغرز أظافرها في وجهها بعنفوان مما جعل يده ترتخي من حولها قليلًا، وصل إليهما بادر الذي أمسك الأخير من تلابيبه بعنف ثم صرخ به بسوقية:
تعالى بقى يا روح أمك دا أنا هخلي ليلتك طين النهاردة.
وفي ثوانٍ كان يدفع سارة بعيدًا ويُسدد لكمة عرفت طريقها جيدًا نحو وجهه، تزامنًا مع قوله الشرس: المرة اللي فاتت كانت قرصة وِدن بس، المرادي هقطعالك خالص.
قد تظنون تعبيره مجازيًا بعض الشيء، لكن ما فعله بعد ذلك جعل الجميع ينكمش على ذاته رُعبًا من ذلك الوحش الذي ظهر من خلف شخصيته الوديعة، وذلك حينما أبرحه ضربًا في البداية قبل أن يلكمه الآخر بعنفٍ على حين بغتة، غزا الإحمرار عين بادر الذي ثارت ثائرته، فلمح على بُعدٍ ليس بالكبير بعضٍ من الزجاج المكسور، فانطلق إليها مُهرولًا وحمل واحدة منهم، ثم سدد نظرة أخيرة نحو الذي يُطالعه برعب وعلى ثُغره ابتسامة شامتة!
اقترب بادر بخُطى وئيدة و أكرم يُطالعه برعبٍ جَلي وهو يعود للخلف، وما كاد أن يُهرول بعيدًا؛ حتى شعر ب بادر يُمسِك به من تلابيبه ورفع يده على آخرها ثم هبط بها على أُذنه وشق أطرافها حتى قُطِعت بالمعنى الحرفي، تعالت صرخات أكرم الهستيرية وهو يضع يده على أذنه ليمنع نزيفها، فيما هبط بادر على أذنه يهمس بفحيح:
دي بقى اسمها قَطعة وِدن، عشان تفكر مليون مرة قبل ما تمس شعرها منها تاني.
ابتعد عنه تاركًا إياه يصرخ من شدة الألم، وبعد لحظاتٍ جاءت قوات الشُرطة وتعرَّف الضابط فورًا على هوية بادر كَوُنه شقيق كُلًا من حمزة ومُصعب، ألقوا القبض على أكرم وطلب الضابط من بادر القدوم غدًا هو و سارة لإكمال الإجراءات والأخذ بشهادتيهما، وعده بادر بالذهاب غدًا وراقب إنصرافهم وهُم يأخذون ذلك الحقير معهم بأعيُن حارقة مُشمئزة.
استمع لصراخ مي باسم شقيقتها بكل فزع، فاستدار بسرعة ليجد سارة مُنكمشة على الأرض تكادُ تُصارع لالتقاط أنفاسها، اتجه إليه جزعًا وجلس بركبتيه أمامها وهو يسأل شقيقتها بصراخٍ ناتج عن خوفه: مالها فيها إيه؟
تساقطت دموع مي بقوة وهي تُجيبه بنحيب: البخاخ. عندها أزمة ربو.
جحظت عيونه بصدمة لكنه داراها مُسرعًا ومن ثَم اتجه إلى سيارته وعاد بعدها بلحظاتٍ ومعه بخاخه الخاصة، ثم وضعها على فمها وضغط السائل الذي دخل إلى رئتيها على الفور ليُنظم تنفسها، وبعد لحظات كانت أنفاس سارة قد عادت لصورتها الطبيعية لكن وللمرة الألف شعرت بشيءٍ ما داخلها قد كُسِر، لذلك لم تدخر مجهودًا لإخفاء انهيارها.
نظر إليها بادر بعجزٍ أمام موجة بكاؤها تلك، اقتربت شقيقتها مي لمُعانقتها أثناء جلوسها على الأرض غير آبيين بتلوث ثيابهم، جلس بجانبهم بادر وحافظ على مسافة مناسبة بينهما ونظر ل سارة بقلق أثناء توجيهه لحديثه نحو مي:
طبطي عليها كويس.
لم تكن مي تنتظر حديثه حتى تُهدهد شقيقتها بالفعل، بل كانت تشعر نحوها بالأسى ودموع اليأس ترتسم داخل مقلتيها، فتمتم بادر بقوله: نفضي ليها هدومها.
نفضت مي الغبار عن ثياب شقيقتها، فعاد بادر ليقول بقلق: احضنيها أوي.
أحاطت مي جسد شقيقتها بحماية وضمتها إلى صدرها بقوة، وفي تلك الأثناء كانت سارة بدأت تستعيد هدوئها، فيما عاد بادر يقول: بوسي راسها.
تأففت مي بسخط فرفعت رأسها نحو بادر ترمقه باستنكار وهي تُصيح بتشنج: ما تيجي تبوس وتحضن أنت وحِلوا عن دماغي بقى!
زجرها بادر بعينيه، فيما تصبغت شفتي سارة بضحكة خافتة عقب حديث شقيقتها الحانق والممزوج بالوقاحة، ضربتها بخفة قبل أن تقول بصوتٍ مبحوح من أثر البكاء: بس يا مي عيب كدا.
مصمصت مي بشفتيها وهي ترمقها بسخطٍ جَلي، ثم هبت من مكانها وابتعدت عنهما قليلًا بعد أن قالت: هروح أجيب الزينة اللي رميتها هناك دي وجاية تاني.
خسئتِ، متجيش.
قالها بادر ناقمًا، وبعدها استدار ل سارة التي تُجفف دموعها العالقة على قشور وجهها وأهدابها، ثم مدَّ يده لها بالبخاخ دون أن يتفوه بكلمة واحدة، مما جعلها تقطب حاجبيها بتعجب وهي تسأله بعدم فهم: إيه؟
امتزجت شفتاه بابتسامة آسرة عانقتها، قبل أن يقول عارضًا التقرُّب منها بطريقة جعلت مقلتاها تتسع في ذهول: تقبلي تشاركيني بخاختي وأزمات ضيق النفس وتكوني مراتي؟
رمشت عدة مراتٍ وهي تكاد تُقاوم لتنظيم أنفاسها، هو الآن عرض عليها الزواج بطريقة مُباشرة رغم جنونها وغرابتها، لكن يكفي أن تسمعها منه هو دون وجود أي رسول ينقلها عنه، بل وقالها بصوته الآخسر وعيناه المُلتمعة، والتي كانت تُقاوم بصعوبة حتى لا تكسر وعدها وتنظر إليها، بادر أرادها حلالًا فليأخذها حلالًا، ولن يتراجع عن قراراه مهما حدث!
قاطعهما قدوم مي حاملة للأشياء بين أيديها، ثم وجهت الحديث لهما وهي تقول بنبرة مُتعجلة: يلا نمشي بقى عشان منتأخرش على العيد ميلاد.
زوى بادر ما بين حاجبيه وهو يسألها بتعجب: عيد ميلاد مين؟
أجابته سارة بدلًا عنها بعد أن وقفت بمساعدة شقيقتها: عيد ميلاد تسنيم، بنحاول نعملها أي حاجة تفرحها يمكن تنسى همها شوية، ولو إنه صعب.
هتفت الأخيرة بمرارة واضحة تجرعت كؤوسها مِرارًا، فأومأ لها بادر صامتًا دون حديث بعد أن استشف ما يدور داخل عقلها من صراعات وحروب، ثم أشار لهما بإتباعه حيث سيارته ليصعدوا بها جميعًا، وقبل أن تنطلق قفز سؤال داخل عقل سارة فتسائلت به بتعجب: آه صحيح أنت عرفت كلامنا إزاي؟
أجابها بعد أن أدار مُحرك سيارته وانطلق بها مُسرعًا: مي أختك كانت كلمتني وقالتلي انتوا فين وأنا كنت قريب منكم، بس ملحقتش أعرف منها كانت عايزاني ليه!
تحولت أنظار كلاهما إلى مي التي ظهر التوتر والقلق على وجهها واضحًا، ثم بررت بتلعثم: وأنا هعوز إيه يعني! كنت بتطمن على جوز أختي يا جدع!
لم يُصدقها كلاهما وظل يرمقانها بعدم اقتناع لعدة لحظات، قبل أن تتصنع تجاهلهما وهي تعود ببصرها نحو الطريق العاتم والسماء المُظلمة الذي يشوبه بعض النجوم وقرص القمر، وهُنا تردد سؤالًا ما بعقلها، هل ستظل حياتها حالكة دومًا كالسماء، أم سيأتي القمر ليُنيرها يومًا؟
جالسٌ أنتَ، لا تعلم مِماذا تهرب أو لِمَ تركض، أتهرب من ماضٍ حوَّل جناحيك إلى قصاصات؟ أم تركض من حاضرٍ يُزيدُ من عُمق الجروح؟
اليوم هو ذكرى مولدها، في مثل ذلك اليوم من كلِ عامٍ كانت تحتفل به مع أسرتها، والتي كانت تتكون من ياسمين، أسمهان، حسن، حسن الذي قضى عليها للأبد وتركها تتلوى بمكواة أفعاله التي شوهتها، كان أخًا ورفيقًا ذات مرة، وتلك المرة لم يكن سوى عدوًا تتمنى موته!
كعادتها في الفترة الأخيرة كانت تلوذ بغرفتها لتحميها، جالسة على سجادة صلاتها تشكو للمولى بلاءها، تدعوه أن يُخفف عنها ألمها ويأتي إليها بحقها، رفعت أناملها تمسح دموعها ورغمًا عنها تأخذها ذاكرتها لِمَ حدث صبيحة اليوم وسبب شجارها الناري مع بدير، كانت تتوقع غدرًا من الجميع إلا منه، لكنه وكالجميع طعنها!
صوَّر لها عقلها المشاهد وكأنها لقطات من سينما حزينة، حينما كانت تُقدِم قدمًا وتؤخر الأخرى أثناء إقترابها من البوابة الخارجية للمنزل، لقد مر قرابة الأسبوع على حادثها المشين وحتى الآن لم تختلط بالمجتمع الخارجي، لكن وكالعادة أعطتها الفتيات جُرعة تحفيزية للتأقلم، وكذلك سارة التي ظلت ترمي على مسامعها قصصٍ عن ابتلاءات الرسول والأنبياء وكيف تعاملوا مع البلاء، لذلك قررت أن تخرج لشراء حاجيات المنزل وحدها تلك المرة.
أصاب جسدها القشعريرة حينما واجهت المارة، لا تعلم لِمَ تشعر بالجميع يُصوبون أنظارهم نحوها كسهامٍ قاتلة، وكأنهم يلومونها على ذنبٍ لم تقترفه، تنفست بعنفٍ وأخرجت تلك التراهات من عقلها وهي تُشدد من قبضتها على يدها، ثم أكملت سيرها بكلِ ثقة بعيدًا عن روحها الكسيرة وعِزتها التي خُدِشَت، لكن ما جعلها تتصنم مكانها هي رؤيتها ل بدير واقفًا ما إحداهن والتي تبتسم له برقة شديدة، تُرى هل نساها بتلك السرعة!
ابتلعت علقم المرارة الذي وقف بحنجرتها وتقدمت بأقدامٍ مُرتعشة حتى باتت على مسافة مُناسبة منهما، لتخترق مسامعها تلك الكلمات التي انتقتها ريناد بعناية وهي تقول برقة ونظراتٍ تعكس عشقها المُتفاقم تجاه بدير:
تسلم أوي يا معلم بدير، صدقني أنا ملقتش أحسن منك عشان أحكيله.
رد عليها بدير بقوله: ولا شُكر ولا حاجة يا آنسة ريناد.
استأذنت منه للذهاب، لكن قبلها أردفت بثقة مُغلفة بالود: ربنا يخليك، سلام. بس أكيد هشوفك تاني.
تمتمت بكلماتها ثم تركته ورحلت تحت أنظاره وأنظار تسنيم التي كانت ترمقهما بقهرٍ يشوبه الإنكسار، استدار بدير للذهاب إلى جامعته وهو يزفر بثقل، ليتفاجئ بوقوف تسنيم أمامه فقال بتلقائية: أنتِ إيه اللي خرجك؟
لقد فهمت حديثه بمنظورٍ خاطيء وظنت بأنه لربما خَجِل من وجودها، فما كان عليها سوى أن تُجيبه بغضب غير آبيه بالنظرات التي توجهت نحوها: ملكش دعوة.
لم تستطع أن تُسيطر على دموعها أكثر فهبطت على وجنتها بقسوة تحرقها ثم هرولت إلى الداخل مُجددًا، بينما هو تفاجئ من هجومها وصراخها المُباغت عليه، لذلك سار خلفها مُسرعًا حتى قاطع طريقها في مدخل البناية بعيدًا عن الأنظار ثم سألها بضيق:.
إيه الجنان اللي أنتِ بتعمليه دا؟ وبعدين أنتِ لسه تعبانة خارجة دلوقتي ليه؟
إلتوى جانب شفتيها بابتسامة قاسية امتزجت مع عبراتها التي تساقطت تباعًا دون أن تدخر مجهودًا لكتمها، ثم قالت: وخايف عليا بجد ولا مكسوف مني؟
صُدِمَ من تصريحها اللاذع وحديثها المصبوغ بالمرارة، عن أي خجل تتحدث عنه؟ هل يخجل منها هي؟ أم أنها أصبحت عمياء صماء لا ترى الألم في عينه ولا تسمع صوت دقاته الهادرة؟ هو فقط تحوَّل إلى شخصٍ حزين اقتحم اليأس حصونه فبات فؤاده مُهددًا على الإنهدام، شعر بأنه عاجز بعد أن فشل في حمايتها، ظنَّ بأنه لم يكن جديرًا بالثقة لأخذها بعد، وعقب كل هذا تأتي لتتهمه بإتهامٍ بشعٍ كهذا؟
سِكت ليه؟ ولا شايف إني معايا حق في كلامي؟
سحب بدير نفسًا عميقًا من داخل رئتيه ثم زفره على مهلٍ، وبعدها رفع أنظاره يرمقها بهدوءٍ مُعاكس لصخب روحه قائلًا: أكيد مش مكسوف منك يا تسنيم، الحكاية كلها إن اللي حصل الأيام اللي فاتت كان صعب علينا كلنا وأنا أعصابي باظت ومبقتش متحمل ضغط أكتر من كدا.
كل كلمة كان ينطق بها كانت تُترجمها بطريقة خاطئة فتُزيد من قهرها أكثر، هي الآن فتاة مجروحة وليس عليها حرج في أفعالها أو أفكارها، لذلك نطقت بكلماتٍ أبى فؤادها الإعتراف بها:
أنا عارفة إن أي راجل مكانك صعب يتقبَّل اللي حصل، علشان كدا أنا بعفيك من كل مسؤولياتك، روح شوف حياتك بعيد عني وعيشها بالطريقة اللي تحبها، أنت مش مُجبر تصلَّح غلطة ملكش أي ذنب فيها، عن إذنك.
تهدج صوتها في النهاية بينما هو كان يُطالعها مذهولًا من حديثها الأحمق من وجهة نظره، حاول اللحاق بها لإيقافها لكنها التهمت السلالم ركضًا وتركته بروحٍ نازفة وفؤادٍ مُتعلق برغم البُعد الواضح، وبالرغم لم تستطع الإستماع إلى زفرته الذي تلاها قوله اليائس:
ياريت كان بإيدي أبعد، بس أنتِ احتلتيني!
فاقت تسنيم من شرودها بعيونٍ مُمتلئة بالدموع التي لم تهبط، كفاها دموعًا على أشياءٍ تتركها وترحل، كفاها ندمًا وبكاءًا، انتفضت من مكانها بفزع على انقطاع الكهرباء فجأة، جحظت عيناها برعبٍ ومشاهد تلك الليلة المشؤومة تُهاجمها بضراوة، نفس العتمة، نفس الصمت، نفس صوت تنفسها العالي، كل شيء يُعاد مُجددًا، تُرى هل حسن موجود هُنا لينتقم منها بطريقته مُجددًا؟
ارتعشت أوصالها عِند الهاجس الأخير وفتحت فاهها لتُنادي على شقيقتها بجزع: ي. يا. ياسمين؟
أتاها صوت ياسمين من الخارج تردف بهدوء: تعالي يا تسنيم كلنا قاعدين هنا.
التقطت تسنيم هاتفها من جيب بجامتها بسرعة ثم فتحت مصباحه وأنارت أمامها، تنفست بعنف كأنها تعدو ركضًا وهي تنظر لجميع أرجاء الغرفة وكل ركن فيها، هدأت حينما شعرت بأنها وحدها، ثم سارت بخُطى وئيدة نحو باب الغرفة ثم خرجت إليهم، وللعجب لم تجد أيًا منهم بالخارج، لذلك أعادت ندائها بوجل:
ياسمين؟ سارة؟ مي؟
وبعد لحظاتٍ لا تُعَد، عادت المصابيح تُنير وظهرت جميع الفتيات وهي تهتف بسعادة وَسط حملهم لهداياهم والكعكة المُزينة: Surprise!
طالعتهم في إندهاش ثوانٍ ما تحول إلى ابتسامة سعيدة رغم إنهاكها، اتجهت إليها شقيقتها لتُعانقها بحنو وهي تقول: كل سنة وأنتِ طيبة يا نيمو.
ردت عليها وعيناها تطوفان المكان المُزين بانبهار وفرحة وجدت صداها في قلب، وبعدها اقتربت منها ذكرى هي الأخرى لتُعانقها، ومن ثَم دعت لها بتمني: ربنا يجعلها سنة سعيدة عليكِ يا حبيبتي.
دمعت عيناها فرحًا من كم ذلك الحب وتلك المشاعر الصادقة التي استشعرتها منهم، وكذلك اقتربت زهراء التي مدت يدها إليها بالهدية وقالت بعد أن شاكستها: هدية مكلفاني كل الفلوس اللي سرقاها من أبويا، بس متغلاش عليكِ.
أخذت منها تسنيم الهدية بعد أن عانقتها ووضعتها جانبًا، فيما اقتربت رحمة بهديتها هي الأخرى ثم قالت بمرح: عايزاكِ في الليلة المفترجة دي تتدعيلي أتجوز الحلوف اللي بحبه.
انطلقت الضحكات تملأ الأرجاء، وبعدها بلحظاتٍ اقتربت كُلًا من سارة ومي حاملين قطعة الكيك الكبيرة ثم وضعوها على الطاولة بالمنتصف وقالا معًا: هابي بيرث داي لأحلى تسنيم في الدنيا.
عانقتهما تسنيم بامتنان، ثم ابتعدت أثناء قول ذكرى الآسف: طبعًا رضوى وبدور معرفوش ييجوا، و جنة تعبانة ومش بتقدر تقف، بس هما باعتين ليكِ الهدايا بتاعتهم.
تشدقت بجُملتها الأخيرة ثم اتجهت مسرعة نحو الطاولة وأمسكت بثلاثة صناديق كرتونية ثم أعطتها لها في يدها وهي تقول: خُدي يا ستي، يلا بقى عشان نطفي الشمع.
تجمعت الفتيات حول الطاولة وأغلقوا جميع الأنوار بعد أن أشعلوا الشموع، وبالرغم من تلك الرجفة التي احتلت جسد تسنيم عقب إغلاقهم للمصابيح، لكنها تجاهلت ذلك الشعور المُستفز ثم طالعتهم بأعين سعيدة وهُم يُغنون لها الأغنية الخاصة بأعياد الميلاد، حتى أتى دورها لإطفاء الشموع، رمقتهم بنظراتٍ ممتنة عكست حبها الشديد لهم، قبل أن تبدأ رحمة بتقطيع قطع الكيك للجميع، وهكذا انتهت الليلة بسعادة عارمة بعد أن بدأ اليوم بشجارٍ عنيف!
وأخيرًا. ذهب الليلُ، طلعَ الصُبحُ، والعصفور صَو صَو.
الجميع بمنزل هارون كانوا متجمعين حول طاولة الطعام لتناول فطورهم والذهاب بعدها إلى حمزة في المشفى، باتت معه حنان الليلة الماضية، بينما بدور هي مَن جهزت لهم الطعام، ارتمت على المقعد تتأوه بغيظ:
فينك يامّا تيجي تلحقيني من ولادك اللي ناقص ياكلوني.
نظر إليها جميع أشقائها بتحذير، فزجرهم أبيهم بقوله العنيف: عينك يالا أنت وهو من عليها.
وبالفعل عاد الجميع ينظرون إلى أطباقهم مُجددًا وَسط نظرات شقيقتهم الشامتة، والتي مالت على أبيها تُقبِّل وجنته بقوة وهي تقول: بابا روح قلبي، هات بوسة.
أعطته قُبلته فأعطاها هو المثل وهو يضحك عاليًا، فيما همس بدران من بين أسنانه: ماشي يا غلطة، ماشي.
تبادلوا الأحاديث القصيرة أثناء تناولهم الطعام، حتى تحدث هارون قائلًا بعد أن تجرع المياه: مروان ابن عمكم اتقدم ل رحمة وطلب إيدها من أبوها إمبارح؟
طالعه الجميع بدهشة فيما هتفت بدور بسعادة: الله بجد؟ دي رحمة زمانها بترقص دلوقتي.
ضحك هارون بخفة قبل أن يهز رأسه بالنفي قائلًا: لأ أبوها أجَّل الحوار لحد ما حمزة يفوق من الغيبوبة، دا غير إن فيه مصالح كتير متأجلة وواقفة على صحيان أخوكِ.
هزت بدور رأسها بفهمِ، في حين نظر هارون إلى جميع أبنائه اللذين يُطالعون أباهم بانتباه، فبالفعل جميع زيجاتهم متوقفة على إستفاقة حمزة، والذي سيلي استيقاظه عقد قرانهم على الفور، لا داعي لإطالة الخِطبة للبعض، أو للخِطبة من الأساس للبعض الآخر، فليكن عقد قران!
حوَّل هارون أنظاره نحو بدير اللامُبالي أثناء تناوله لطعامه بشرودٍ ووجهٍ مُنطفيء، ثم تحدث له وقال مُنتقيًا كلماته التي يفهمها الجميع جيدًا: وأنت نويت تعمل إيه؟
لم ينتبه له بدير من الأساس، فنكزه بادر لينتبه لأبيه وبعدها أعاد هارون سؤاله مُجددًا وهو يدرس انفعالات وجه ابنه الذي أجابه بيأسٍ يتخلله الإحباط: مش عارف.
تلك المرة تدخلت بدور في الحديث تقول بعدم رضا: لو سيبتها يا بدير هتبقى غبي، أنا عارفة إنه صعب عليك تتقبل حاجة زي دي بس حُطني بدالها، ولو بعد الشر حصلي اللي حصلها كنت هتتبرى مني مثلًا ولا هتفضل جنبي ومعايا لحد ما أتخطى محنتي؟ وكُلنا هنا عارفين أخلاق تسنيم كويس وعارفين إن أنت كمان بتحبها مهما أنكرت دا، فكَّر كويس ومتتسرعش عشان متندمش بعدين.
ظهرت التيهة واضحة على تقاسيم وجه بدير، فوقف أبيه وتقدم منه حتى بات جواره، ثم ربت على كتفه بقوة قائلًا: محدش هيلومك لو بعدت عنها، أنت الوحيد اللي هتلوم نفسك، المجتمع قُليل لما بيقبل بضحية مُغتصبة زي تسنيم وقعت تحت إيد كلب مسعور، ودايمًا بيلوموا الضحية مش بيلوموا الكلب! وبالنسبة للي حصلها دا فعارفين إنه غصب عنها ومش هنرجمها يعني على حاجة ملهاش ذنب فيها! اللي يتعاقب هو صاحب الذنب نفسه، ياريت تكون فاهم كلامي كويس.
فاهم يا حج.
تمتم بها بدير بهدوء قبل أن يترك مكانه ويتجه نحو الخارج بعد أن استأذن أباه للذهاب إلى الجامعة، لقد قضى ليلة أمس تائهًا بين دروب أفكاره وصراعاته المُتتالية، فلم يجد مفرًا سوى أن يتجه نحو المرحاض ويتوضأ ليؤدي قيام الليل ككلِ يوم، حينها لم يشعر بدموعه التي تساقطت وهو يدعو المولى أن يضعه على الطريق الصحيح، واليوم وجد في حديث أبيه الخلاص من آلامه!
قانونًا مُثبتًا في حياة رائف سعيد المحمدي ألقاه ذات مرة على مسامع رائف والذي كان نصه:
يسطا ضايقوك؛ اعذرهم، فكم من كلبٍ حاول جلب الأنظار إذا نبح!
واليوم رائف يعذرهم ويعمل بمقولته، هو يعزرهم بالفعل، لكنه لن يصمت ويشاهد بصمت، بل سيُذيقهم من نيران الموت كما أذاقوه اليُتم مرتين، مرةٌ حينما مات والديه، والمرة الثانية حينما علم بأنهم قُتِلوا، هبط على درجات السلم يُصفر باستمتاع وعلى مرمى بصره تجلس بُثينة التي انتفخت عيناه من البكاء، وبجانبها يجلس زوجها صبري واجم الوجه وكأنه يحمل هموم العالم بأكمله فوق كاهله، لكنه تجاهله وتجاهل رصاص نظراتهم التي تخترقه، ثم نادَ على خادمة المنزل بعلو صوته طالبًا منها بمزاجٍ رائق:.
يا هنية؟ أنا مزاجي رايق النهاردة وعايز منك صنية محاشي من اللي قلبك يحبها، ويا حبذا لو جنبها بطتين كدا ولا حاجة!
نظرت إليه هنية بذهولٍ مما يطلبه، أي طعامٍ هذا الذي يطلبه وابن العائلة مُتوفي منذ عدة أيام؟ وما كادت أن ترد عليه بتردد، حتى سبقتها بثينة التي هبت من مكانها واتجهت إليه بخطوات سريعة رغم تعثرها وهي تُصيح به في غضبٍ عارم:
طفح إيه اللي أنت عايز تاكله في الوقت دا؟ أنت معندكش دم؟
لأ.
كانت تلك إجابته الباردة قبل أن يتخطاها ويتجه نحو إحدى المقاعد تحت أنظارهم التي تكاد أن تحرقه حيًا، جلس واضعًا قدمًا فوق الأخرى ثم نظر ل صبري الذي يرمقه بغلٍ لم يكترث لإخفائه وقال: منور الدنيا كلها يا عمي!
ظن منه أن يثور لكنه ظل على موقفه وتحدث بشرٍ يمكن أن يبتلعه: صدقني يا رائف هتندم أوي، هتندم صدقني ووقتها هتبكي بدل الدموع دم.
اختفى المرح من على وجه رائف الذي طالعه بحقدٍ بالغ بان واضحًا داخل عيناه، ثم استند بمرفقه على ذراع المقعد الوثير وهتف بوعيدٍ صريح: هنشوف مين اللي هيبكي بدل الدموع دم لما الهالومة دي كلها تبقى ليا أنا، وأنت ومراتك هتترموا في السجن زي الكلاب، وطبعًا ابنك مات وبركة إنه مات، سهَّل عليا حاجات كتير كنت بخططلها.
كان يعلم أن نقطة ضعفه هو وزوجته هو الأموال، وبالفعل ظهر هذا جليًا على محياهم عقب حديثه وخطته التي لم يبذل العناء لإخفائها، اقتربت منه بثينة خطوتين وهي تسأله بعينين تتقد اشتعالًا: أنت شمتان في موت ابني؟
احتل ثُغره ابتسامة قاسية مُجيبًا إياها وهو يهز رأسه بالإيجاب: شمتان جدًا، لدرجة لا تتخيليها.
انفرجت شفتاها لتُجيبه، لكنها أطبقتهما مُجددًا حينما استمعت إلى صوت زغرودة عالية تأتي من أحد الأماكن، استدارت بحدة حيث الصوت لتوبيخ ذلك الوقح الذي لا يحترم ظروف المنزل العصيبة التي يمر بها، فوجدت صاحبتها نرجس التي تتقدم منهم حاملة صينية مليئة بالطعام الذي طلبه رائف منذ قليل، وتحدثت بابتسامة واسعة تشق وجهها وهي تضع الطعام أمام الطاولة العريضة الموضوعة أمامه:.
خُد يا حبيبي كُل ورُم عضمك، أصل بقالك كام يوم حالك مش عاجبني كدا وأكلك مش ولا بُد.
أمسك رائف بكفها ثم قبله بحالمية أمام جميع الحضور وبعدها قال بحب: تسلم إيدك يا نرجوستي، تعالي اقعدي وكُلي معايا بقى!
تصنعت نرجس الخجل وهي تُغطي وجهها بيدها ومن ثَم قالت: يوه متكسفنيش بقى يا سي رائف!
تشنج وجه الجميع بمزيجٍ من الغضب والإستنكار، فتركهم صبري غاضبًا واتبعته بثينة التي لاحقته بعد أن سددت لهم نظرة نارية معبقة بالتوعد، راقباهم بشماتة وبعد أن اختفيا تصاعدت ضحكاتهما بانطلاق من نجاح خطتهم لإذاقهم المرارة كما كانوا يُخططون، والآن يُمكننا القول بأن السِحر قد انقلب على الساحر!
مال رائف على وجنة زوجته يُقبله بقوة وبعدها همس قائلًا: بحبك يا صفرا.
نظرت إليه مُبتسمة بعشقٍ سيطر على جميع أوردتها قبل أن تُجيبه بحب: وأنا بموت فيك يا عسلية.
إن المرء ليُقابل شبيه روحه في مرحلةٍ يظن بها أن الجميع قد جافاه، فلا تبتئس!
استيقظت ياسمين على صوت رنين هاتفها في تمام الساعة العاشرة صباحًا، تثائبت بضيقٍ وهي تنظر للرقم المجهول الذي يظهر على شاشته وهي تتأفف ساخطة، توقف عن الرنين فمالت على وسادتها لتُكمل نومها لكنها لم تهنأ سوى بضعة لحظات حينما عاد الهاتف للرنين مُجددًا، وضعت على أذنها وهي تُجيب بكسل:
آلو!
سامية معايا؟
ضيقت ياسمين ما بين حاجبيها وهي تستشعر بأنها قد استمعت إلى ذلك الصوت مُسبقًا، لكنها لم تُفكر كثيرًا وهي تهز رأسها بالنفي قائلة: لأ الرقم غلط.
وما كادت أن تغلق، حتى استمعت إلى اقتراحه الآخر قائلًا: طيب يمشي حسنات؟
أفندم؟
تفوهت بها بسخط، فعاد ليقول مرة ثالثة: نبوية ينفع طيب؟
استندت ياسمين بجسدها على مرفقها وهي تعتدل جالسة على الفراش وأجابته بحدة: أنت بتستظرف يا أستاذ؟ ما قولتلك الرقم غلط!
استمعت إلى صوت ضحكاته العالية يأتي من الجانب الآخر مما أدى إلى تفاقم غيظها أكثر، لكن كل ذلك الضيق ذهب هباءًا حينما استمعت إلى صوته وهو يقول بود: طيب خلاص يا شرس بهزر معاكِ، على العموم يا ستي أنا رأفت أكيد فاكراني؟
ابتسم ثغرها تلقائيًا بعد أن عرَّف عن ذاته، لا تُنكر أنها اشتاقت لمشاكسته حديثه الذي يُداعب روح الطفلة داخلها، تشعر بعبثه وطيبته في نفسِ الوقت، وازداد إعجابها به حينما كان يُهاتفها سابقًا من رقمه الأصلي، لكن لِمَ يُهاتفها من ذلك الرقم الغريب! تصنعت عدم تذكره وقالت بجهلٍ زائف:
لأ مش فاكراك، رأفت مين؟
تغضن وجهه بسخط وقال مُغتاظًا: وهو أنتِ لحقتي نسيتيني؟
كتمت ضحكتها بصعوبة، فيما قال هو مُكملًا: خلينا في المهم، وحشتيني!
استفز حديثه مشاعرها فاعتدلت في مكانها وأجابته بحدة رغم شعورها بالاضطراب الداخلي: وحشك قطر ما تحترم نفسك، إيه وحشتك دي!
عبث بخصلات شعره وهو يعود بظهره ليستند على ظهر الفراش من خلفه وهو يقول: خلاص أتجوزك وأقولك وحشتيني براحتي، أنا طول عمري أصلًا نفسي أتجوز واحدة لون عينيها لون خضار المحشي.
كان ردها على جزئه الأول أن شعرت بالخجل يغزو كل ذرة في أوردتها ولم تُعلق عليه، وردها على الجزء الثاني أن قالت فيما يُشبه السخرية: وهو مفيش غيري اللي لون عيني شبه خضار المحشي؟
فيه بس أنتِ أحلاهم وأغلاهم.
كان رده هادئًا في ظاهره وصاخبًا في باطنه، وكلاهما انتفض فؤاديهما بين ضلوعهما لأسبابٍ مُختلفة، فؤادٌ ينتظر ردة الفعل، وفؤادٌ يطرق بصخبٍ من أثر الكلمات، وفي كلتا الحالتين فهناك مشاعر مُشتركة نمت بين كليهما ولا مفر من ذلك!
حمحمت بتوتر لتستعيد ثباتها وسألته بخجلٍ واضح ظهر في رعشة صوتها تأثرًا بحديثه: كنت متصل عايز حاجة؟
استمعت إلى صوته الآجش الذي وصلها كسحرٍ خالص تتذوقه في لحظاتٍ فريدة: هو دا اللي كنت عايزه، أسمع صوتك.
طال صمتها فضحك هو بخفة وهو يُودعها: سلام يا شَرِس.
شعرت بضربات قلبها الهادرة تضرب بين ضلوعها فأغلقت الهاتف بوجهه وهي تعض على شفتيها بقوة، شعرت بتخضب وجنتبها باحمرارٍ كثيف عقب سخونتها فهمست لذاتها قائلة:
دا باينه دوامة هتسحبني! 7.
تظن بأنك قد تهرب من ذنبٍ قد اقترفته، والحقيقة بأن الأقدار تُخطط للإيقاع بك!
تجهَّز حسن ليُسافر في إحدى المراكب التي الخاصة بالبترول والمُتجهة إلى دولة أجنبية بعيدة، اتفق مع صاحبها بعد أن أعطى له أموالًا طائلة ليسمح بتهريبه، وها هو الآن على متن السفينة التي انطلقت ينظر للأرض اليابسة بنظراتٍ شاردة وظلامٍ يُحيط بعينه.
لم يكن ليظن بأن ينتهي به المطاف هُنا، هاربٌ من العدالة وخاسرٌ لكل شيء في حياته، شردت عيناه في أمواج البحر الزرقاء وللعجب قد رأى ذاته يغرق فيه، أمواجه وكأنها تُناديه لتلتقفه بين أحضانها، عميقة؟ نعم، هائجة؟ بالطبع، مُخيفة؟ بالتأكيد، وكأنها تعكس صفاته هو، عميق، هائج، ومُخيف!
وبالرغم من كل تلك المشاعر المُتأججة في صدره إلا أنه مُستريح أخيرًا بعد أن أخذ بثأره من قاتلة والدته، طريقته كانت مختلة لكنه عزم على كسرها مدى الحياة، لذلك اعتدى عليها قِصرًا ومع صراخها كان يتذكر صراخ والده عليه بعد رفضه للعمل معه في الأعمال الغير مشروعة، استغل موت والدته وأجبره ليكون معه في نفس الطريق حتى بات بالطريقة التي عليها الآن! لذلك انتقم من والده هو الآخر وتركه في سجنه بلا محامٍ لينال عقاب ويُعدَم!
كان أكثر شيء يشغل عقله حقًا هو أخيه لقمان، بالطبع علم عن حقيقته وكَرِهه الآن، وهذا أكثر ما يؤلمه، مَن كان يراه كمثل أعلى بات يراه نقمة الآن ويشمئز منه، بل، انقطعت أفكاره حينما شعر بحركة السفينة العنيفة والهرج الذي عَمَّ المكان فجأة، استدار ليسأل أحدهم بقلق: فيه إيه؟ إيه اللي حصل؟
أجابه الآخر بهلع: ماتور السفينة شكله فيه عُطل وهنروح كُلنا في داهية دلوقتي.
اخترقت الكلمات مسامعه كرصاصٍ طائش، هل ستغرق السفينة حقًا؟ هل هرب من الموت إلى الموت بكامل إرادته؟ أم أنه مجرد عُطل بسيط وسيقومون بإصلاحه؟ والإجابة أتته على هيئة إنفجار مدوٍ ارتفع صداه في عرض البحر العتيق حينما اشتعلت أنابيب البترول ووصل حريقها إلى مُعدات السفينة فلم تتحمل كل تلك الحرارة؛ فتنفجر، وانتهى كل شيءٍ في غمضة عين، كل مَن على متن السفينة قد احترق وزُهِقَت أرواحهم بأبشع طريقة قد تراها عين، ومَن لم يحترق بسبب الحريق فإنه غَرقَ في عُمق البحر قارص البرودة!
ذهبت جميع عائلة هارون إلى المشفى للإطمئنان على حمزة، فأخبرهم الطبيب بأن مؤشراته الحيوية تتحسن كثيرًا مع مرور الوقت، جلسوا جميعًا في مقهى المشفى الكبيرة على طاولة عريضة تجمعهم جميعًا، تبادلوا الأحاديث حتى قطع خلوتهم قدوم حازم الذي حياهم مُبتسمًا بوداعة:
بونجور يا حضرات!
رفع الجميع أنظارهم حيث مصدر الصوت، فقطبوا جبينهم بضيق حينما وقعت أبصارهم على حازم المبتسم باستفزاز كما ظنوا، ضيق جفناه معًا ثم تسائل بحذر: اوعوا يكون وجودي غير مرغوب فيه؟ والله أزعل!
وعقب سؤاله استمع إلى إجابة عمران الذي كانت كل ذرة به تنضب بغضب وهو يتذكر كلمات جنة عن حازم وما جعلها تصل إليه من سوء الحالة النفسية بسبب عدم ثقتها بذاتها: الحقيقة إن فعلًا وجودك غير مرغوب فيه، ياريت تورينا عرض كتافك بقى!
عدَّل حازم من وضعية ياقة ثيابه بترفُع مُجيبًا إياه بلامُبالاة: على العموم أنا مش جايلك أنت أصلًا، بس بعدين لينا كلام تاني سوا.
كل ذلك و يعقوب كان يرمقه ببرودٍ مُستفز وهو يُربع ساعديه أمام صدره، يُرسِل إليه نظراتٍ حادة شعر بأثرها حازم رغم صمته، فتوجه الأخير بأنظاره نحو يعقوب طالبًا منه الإختلاء به بمفردهم:
عايزك في كلمتين.
تصنَّع يعقوب الجهل وهو ينظر حوله باندهاشٍ مُبتذل، ثم عاد ليُثبت عيناه عليه قائلًا وهو يُشير بإصبع سبابته نحو ذاته: بتكلمني أنا؟
أخرج صوتًا ساخرًا من بين شفتيه وهو يُجيبه: لأ لأمي.
الله يرحمها.
نطق بها يعقوب ببرودٍ صقيعي، قبل أن يعاود حازم طلبه بنفاذ صبر: هما خمس دقايق عايزك فيهم وبعد كدا هروح أشوف بقيت مصايبي اللي نيلتها، ياريت تيجي.
نظر يعقوب لأبيه وكأنه يستشيره، فأومأ له هارون بالإيجاب، تبعه يعقوب حتى ابتعدا عن الجميع وظلا يتجاذبا حديثًا لا يعلم أحد عنه شيء ظل يدور قرابة الخمسة عشر دقيقة، وبعد انتهاء المُدة زفر حازم قائلًا:.
أنا كدا عملت اللي عليا وزيادة رغم إنه مش من مصلحتي، لكن زي ما قولتلك أنا ناوي على بداية جديدة بعيدًا عن العك اللي كان في حياتي قبل كدا.
انفرجت شفتي يعقوب وما كاد أن يُجيبه، لكنه أطبقهما مُجددًا حينما استشعر اهتزاز هاتفه في يده، نظر لشاشته فوجده مُزين باسم بدير، قطب جبينه بتعجب ثم نظر حيث تجلس عائلته فلم يجد أحدًا منهم مما زاد من شعور القلق داخله، لذلك فتح الهاتف مُسرعًا وما كاد أن يُجيبه، حتى أتاه صوت بدير المُهلل:
حمزة فاق يا يعقوب.