رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والثلاثون
اليوم؛ عاد قلبي يطرق بحيوية من جديد، لم أكن لأتخيل أن ترتبط روحي بأحدهم في مثلِ هذا الرباط الوتيد، عانقتُ عيني وعانقتُ روحي وجسدك العزيز بعيد، عِشتُ أيامي في بُعادك كاليتيم الفقير، يا مُعذب هواي ألم يكفيك قسوةً لتُضاف لأيامي؟ ألم تشعر بحُزن قلبي المقهور لآهاتي؟ لكني أُسامحك اليوم وغَد لا مانع، ليس لي سواك في هذا العالم الشاسع.
جلست رضوى بجانب حمزة تبكي بصوتٍ مسموع وكل مَن في الغرفة صامت، وهو ينظر إليها بحنينٍ تملَّكه واشتياقٌ بلغ كل الحدود فيما تابعت هي تمتمتها لا تُبالي: أنا قولتلك استقيل من الشغل دا بس أنت مسمعتش كلامي، أنت أصلًا بتروح الشغل تفضل تاكل طول الأسبوع وملكش لازمة فيه، تعالى نتجوز ونقعد أنا وأنت في بيتنا وأبوك هو اللي يصرف علينا.
كتم الجميع ضحكاتهم بصعوبة لم تراها لكثافة الدموع في عينيها وانشغالها به هو فقط، فيما ضحك هو بإنهاكٍ وقرر مُشاكستها بقوله الساخر: مش عايزاني أنا اللي أحمل وأرضَّع بالمرة؟
توقفت عن البكاء وهي تُطالعه بعتابٍ صريح ودموعها فقط هي الهادرة، فابتسم بحبٍ وهو يقول بصوتٍ مُشبع بالاشتياق: خلاص بقى يا رضوى كفاية عياط! وبعدين يا ستي أنا بقيت كويس أهو، أعملك إيه تاني عشان تسكتي؟
رفعت أناملها تُجفف بها عبراتها، ومن ثَم قالت بحسمٍ لا يقبل النقاش: نتجوز، أنا شاكة إن الحظ الفقر اللي أنت فيه دا عشان أنا مش في حياتك، علشان كدا لازم نتجوز في أسرع وقت.
إلتوى جانب فمه بابتسامة متهكمة وهو يسألها فيما يُشبه السخرية: يعني مش أنتِ اللي حظك فقر؟
هزت رأسها نفيًا سريعًا وهي تُجيبه بثقة: لأ طبعًا، علشان أنا مش في حياتك.
اتجه إلياس إلى شقيقته وضربها على مؤخرة رأسها بخفة قائلًا باستنكار وهو يرمقها بنظرة ضائقة: هو أنتِ يا بت دايمًا رامية نفسك عليه كدا؟ وبعدين مفيش جواز دلوقتي.
تلك المرة أتاه الرد من حمزة الذي زجره بعينيه وقال له بتهديدٍ صريح وواضح: لأ فيه جواز وهيبقى آخر الأسبوع دا كمان، وكلمة كمان والله العظيم تلاتة ما أنت متجوز أختي ولو لفيت السبع لفات.
خجلت بدور من حديث شقيقها، فيما طالعه الجميع بشماتة التمعت في أعينهم، فرفع إلياس بصره نحو هارون ليستنجد به، فهز هارون كتفه بلامبالاة وهو يقول بشماتة ضاحكًا: اللي عملته فيهم طول المدة اللي فاتت هيردوه فيك بس اتقل.
يعني بتبيعني يا حج هارون علشان خاطر ولادك؟
تمتم بها إلياس ببعض الغباء، أو ربما الكثير من الغباء وهو يُجعد وجهه بضيق، فضحك هارون بلمئ فاهه وبعدها أجابه باستسلام: أنا كنت سايبك تعمل اللي أنت عايزه عشان حقك، ودلوقتي أنا هسيبهم يعملوا اللي هما عايزينه عشان حقهم.
ربَّع إلياس ذراعيه أمام صدره وطالع الجميع بحنقٍ واضح، فتحدث مصعب بسعادة واضحة: وأنا برضه كنت مستني حمزة يفوق علشان أكتب كتابي أنا كمان.
استدارت له جميع الأعيُن فنطقت حنان بتساؤل: طب مش ناخد رأي العروسة وأهلها الأول يابني؟
طمأنتها روان من تلك الناحية قائلة بابتسامة مُتسعة شقت وجهها البشوش الذي ازداد حيويته من بعد حديثه: لأ يا طنط أنا موافقة عادي، وأكيد بابا وماما موافقين، وبما إننا كلنا موافقين فليه التأجيل؟
زجرها إسماعيل بعينيه للهفتها الواضحة، فتعالت ضحكات الموجودين بانطلاقٍ على ذلك الثُنائي المُضحك كما يُطلقون دائمًا، هز إسماعيل رأسه بيأسٍ عندما أعاد هارون مطلب ابنه بطريقة أكثر احترامًا ومن ثَم قال مُستسلمًا:
وهقول إيه يا حج هارون؟ إذا كان العيال قرروا من الأساس!
علي خيرة الله.
قالها هارون برضا، فتعالت الصيحات المُهللة والسعيدة التي قاطعها بادر قائلًا بحنق: طب وأنا يا حج مش هتجوز أنا كمان؟
انتقل هارون ببصره نحو ابنه الذي يُطالعه بعدم رضا، فضحك هارون عاليًا وقال يُرضيه بقوله: وهي جت عليك يعني، اكتب كتابك معاهم أنت كمان.
أطلق بادر زفرة مُرتاحة بينما تشدقت حنان بنبرة مُمازحة وحديثٍ مقصود: كدا خلصنا من الجوازات، ندخل في الخطوبات بقى!
ضحكوا جميعًا ظنًا منها بأنها تمزح، لكن عوض قاطعهم ضحكاتهم قائلًا بابتسامة هادئة: وبالمناسبة السعيدة دي ف مروان متقدم ل رحمة، و بدران متقدم ل زهراء.
عمَّ الصمت المُفاجيء على جميع الأطراف ما عدا كبار العائلة اللذين كان لديهم علم بمثل تلك المواضيع، فاستغل إلياس صمتهم وقال على بغتة: وأنا هتقدم ل بدور.
تبادل الجميع النظرات المُذهبلة، الجميع سيتزوج، الجميع وجد شريك حياته، الجميع وجد نصفه الآخر، الجميع بلا استثناء!
قاطع صمتهم صوت طرق خفيف على الباب، تلاه دخول زكرى مُمسكة بباقة كبيرة من الزهور صُنع يدها ومن خلفها دلفت جميع الفتيات تباعًا، حيّت الجميع بأحاديث طبيعية ومن ثم تقدمت من حمزة وقدَّمت له باقة الزهور وهي تقول له بابتسامة هادئة ودودة:
حمدالله على سلامتك، ألف سلامة عليك.
رد عليها حمزة مُبادلًا إياها بسمتها بود أخوي صادق: الله يسلمك يا ذكرى، تسلمي يارب.
استدارت ذكرى برأسها نحو رضوى وقالت بغيظٍ قاصدة به المزاح: ياريت تهدي بقى عشان أنتِ مصدعاني بقالك عشر أيام وهاتك يا عياط.
رفعت رضوى أنظارها إليه تَرمقها بغيظٍ قبل أن تنكزها في جانبها بخفة: والله يا ست ذكرى؟ يعني لحقتي زهقتي مني؟
تدخل إلياس في الحديث ضاربًا إياها على مؤخرة عنقها: دا إحنا مش زهقنا منك بس، دا إحنا طهقنا وجِبنا أخرنا، بس بركة جِه اللي هيحمَّل ويشيل، عقبال الباقي.
طالعه يعقوب بطرف عينه، هو تارةً وشقيقته تارةً، ثم همس لذاته بتوعد: آه طبعًا عايز تخلص منهم عشان تفوق لنفسك مع الغلطة، بس ابقى قابلني لو هنيتك عليها!
مر يومان استعاد فيهما حمزة عافيته وصحته قليلًا وعاد إلى المنزل مع عائلته، فيما بدأت تجهيزات العائلة لعقد قِران شباب العائلة في نهاية الأسبوع كما اتفقوا.
بينما تسنيم تُحاول التأقلم والإعتياد على وضعها الجديد رغم صعوبته، تحاول بقدر الإمكان إخراج بدير من عقلها لكن كل محاولاتها تلك بائت بالفشل، ذلك الرجُل وكأنه ألقى عليها تعويذة تجعلها تشتاق له أكثر! رغم عدم مُحاولته للتحدث معها ولو مرة واحدة، وهذا أكثر ما يُنغص عليها معيشتها.
جنة تتعذب كل يوم عن الذي قبله بسبب أدويتها وجلسات الكيماوي التي آكلت جسدها نهبًا حتى باتت عبارة عن هيكل عظمي مُغطى بالجلد الخفيف، لكن عمران لم يتركها ولو للحظة واحدة، يظل معها معظم اليوم تقريبًا ليُلهيها عن ألمها ولو قليلًا، وكذلك جنة لم تستسلم بعد لأوجاعها، بل بداخلها حيوية رهيبة هي ما تجعلها مُصرة على الحياة، كما أن الطبيب أخبرهما بأن رحلة علاجها قد تمتد لسنوات!
في حين أن ياسمين مُنشغلة بذلك ال رأفت الذي يُزعجها مساء كل ليلة ليستمع إلى صوتها فقط كما يقول، وللعجب وجدت ذاتها تتعلق به وبمشاكسته كل يوم عن ذي قبل!
و رحمة مازالت غارقة في صدمتها من طلب مروان للزواج بها، لقد أخبرها والدها منذ يومين حينما كانا وحدهما في شرفة المنزل، حينها توقفت أنفاسها وتخشب جسدها ولم تقدر على إجابته إلا بعد مرور لحظات، وبالطبع كانت الموافقة تحظى بالنصيب الأكبر.
وعلاقة يعقوب وذكرى لم تتقدم ولو إنشًا واحدًا، بل يزدادوا بُعدًا كل يوم عن ذي قبل، وما يُزيد وجعها هو استماعها عن استعداده لخِطبة فتاة أخرى من الجوار، لذلك هو يُعيد تهيئة المنزل وتغيير دهانه وأثاثه من جديد!
العروسات الثلاث يتجهزن بحماسٍ كبير استعدادًا لعقد قِرانهم، رضوى التي ينتفض فؤادها بين أضلعها بسعادة، تتخيل نفسها كأميرة تُزَف إلى فارسها المغوار الذي سيهرب بها بعيدًا عن هذا العالم بحصانه.
و روان التي كانت متوترة رغم فرحتها العارمة وتهديدها لمن بالمنزل أن يُعاملوها بطريقة حسنة حتى تأتي إليهم بعد الزواج باستمرار، لكن والدها رمقها باستنكار وطلب منها ألا تأتي بتاتًا قائلًا: إحنا أصلًا مش عايزين نشوف وشك تاني.
بينما سارة وبرغم ابتسامتها الواضحة للجميع، إلا أنها تحمل همًا كبيرًا فوق كاهلها، جميع الفتيات يفتخرن بعائلتهم، وهي وحيدة بلا عائلة وبلا موطن، ستظل وحدها يوم زفافها وعِند تشاجرها مع بادر في منزل الزوجية لن تجد مَن يُدافع عنها ويأخذ بصفها! تنهدت باختناق وحاولت بقدر الإمكان أن تُخرِج تلك الأفكار الشيطانية من عقلها وإكمال ما تفعل.
بينما بدير مازال مُشتتًا تائهًا في أمره، لا يعلم أيُكمل طريقه مع تسنيم أم يتزوج فتاة كاملة بزواجٍ تقليدي أفضل؟ وما يُزيد الصراع برأسه أكثر هي تلك الأصوات في عقله التي تُخبره بأنها فعلت ذلك بإرادتها، لو كانت تريد المقاومة لقاومت وحافظت على شرفها، وأضاف فوق الطين بَلة هي تلك الخيالات التي يراها في كل مكان وأينما ذهب، أشخاصٌ غير مرئية تُخبره بتركها وانتقاء المُناسبة له بدلًا منها!
وعلى بُعدٍ آخر. كان حازم يجلس في المسجد مُستندًا بظهره على حائطه، يشرد في سقفه وأمام ناظريه يمر شريط حياته الطويل، ما بين ظالم ومظلوم، حزين وسعيد، قاهر ومقهور، لقد عاش حياته يُجدّف في بحرٍ لا صيد فيه ولا ماء، بحرٌ فارغ لكنه مليء بخطاياه، وذنوبه تثقب سفينة حياته كعقاب، لكنه كان ضحية هو الآخر، عانَ من التشتت ووالده على قيد الحياة، ماتت روحه مع وفاة والدته، فبات يتخبط بين دروب الحياة حتى أصبح بهذا الشكل الذي عليه الآن.
خانته دمعة تسللت من طرف عينه وهبطت تشق طريقها على صفحة وجهه، قد يشعر الرائي بسخافة وجعه من مُجرد دمعة واحدة، لكنه لا يعلم أن تلك الدمعة تحمل من القهرِ والحُزن ما يهد الجبال!
شعر حازم بمن يجلس بجانبه على بغتة، فرفع كفه سريعًا ومسح به وجهه ليخفي أثار ضعفه، ثم حوَّل أبصاره نحو الجالس بجانبه فلم يجده سوى بادر، والذي أردف بدوره بلا مناسبة:.
الشهادة لله يا حازم أنا ماكنتش طايقك ومازلت مش طايقك بس أنت صعبان عليا، فعشان كدا هتفضل عليك وأسمعك، إحكيلي مالك؟
رمقه حازم بتهكم لاذع وهو يدفعه من كتفه ليبعده قائلًا: لأ والله كتّر خيرك يا شيخ بادر، اتكل على الله أنت بس وأنا هكون كويس.
رفع له بادر حاجبيه بتشنج كدلالة على الإستنكار، لكنه في الأخير رفض تركه وحده بعد أن شعر بألمه الواضح والصريح، تغيره ظاهر للجميع وبانَ في النهاية بأنه كان ضحية لإهمال أدى إلى إنحراف طريقه، ولحُسن حظه استفاق قبل أن يهلك وقرر الصلاح.
اقترب منه بادر وجاوره في مجلسه حتى جلس بجانبه واستند بظهره على الحائط وظل صامتًا لبضعة دقائق، قبل أن يُقرر قطع ذلك السكوت القاتل بسؤاله الضاحك: عمران لسه بيضربك كل ما بيشوفك؟
وتلقائيًا ارتفعت يد حازم إلى وجهه حيث وجود كدمة خفيفة أسفل عينه اليُسرى، ولاإراديًا عادت ذاكرته لذلك اليوم الذي حاول فيه رؤية جنة رغم رفضها القاطع حتى لا تراه، لكنه تصميمه جاوز الثلاث ساعات يُحاول بهم إقناع إلياس من ردعها عن قرارها المُعاند ذلك، وبالرغم من رفض إلياس لطلبه هو الآخر لكنه قرأ في عينيه ندمًا واضحًا جعله يوافق على مُقابلتها على مضض، وما كادت قدمه أن تخطو للغرفة الماكثة فيها جنة، حتى شعر بلكمة قوية التصقت بوجهه كان مصدرها عمران بالطبع! ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أن غيظ عمران يبلغ مبلغه لديه وكُلما يراه يلكمه لكن بلكمة خفيفة عن ذي قبل، يالرقته!
فاق حازم من شروده على صوت ضحكات بادر المُتقطعة، فحدجه بغيظ وهو يهمس: أخوك دا غشيم وعهد الله، دا أنا زي ما يكون قاتله قتيل!
ابتسم بادر بهدوء وشردت عيناه بعيدًا على نقطةٍ ما في الفراغ وهو يقول: أخويا مش غشيم، بس هو بيحب، واللي بيحب بيكون معمي وعينيه مش شايفة غير حبيبه.
واللي بيحب بيكون معمي وعينيه مش شايفة غير حبيبه، جُملة ترددت صداها داخل أذن حازم عدة مراتٍ كانت ثقيلة على مشاعره المُرهقة، متى سيكون أعمى هو الآخر؟ إلى متى سيظل وحيدًا في ذلك العالم الشاسع الذي آلمه ملايين المرات؟ يُريد أن يشعر بأنه أساس السطور في صحيفة حياة أحدهم لا هامشًا لا قيمة له، هو اعتاد أن يكون البديل لا الأساسي، فهل سيأتي اليوم الذي سيعمي حُبه عين أحدهم، أم سيظل يُجدف في أمواج الحياة بلا هوية مُحددة؟
خرج من شروده على سؤال بادر الذي قال بتوئدة: بتفكر في إيه؟
ولا إراديًا وجد ذاته يتسائل بجدية وأبصاره مُعلقة على عين بادر بحسم: الإنسان محتاج وقت قد إيه علشان يتوب؟
اعتدل الأخير بدوره مُتربعًا في جلسته وعلى ثُغره ابتسامة واسعة ومن ثَم أجابه:.
تفكيرك في التوبة فهو في حد ذاته توبة، لكن الأهم من دا كله التوبة دي تكون خالصة لله سبحانه وتعالى وقلبك يكون مُقتنع إنه مش هيرجع للذنب من تاني، طبيعي نغلط كتير في حياتنا لكن ربنا موجود دايمًا علشان يغفرلنا، إحنا عباده وهو مولانا، نخشع ونخضع ليه وهو هيغفر لينا كل الذنوب، زي ما قال في كتابة العزيز: قُل يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسرَفوا عَلى أَنفُسِهِم لا تَقنَطوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ.
حديثه كالماء الذي ارتوى به ظمئانٍ مُتعطش قضى حياته يعدو عطشانًا! تسللت الراحة كالشلالات تتدفق بين أوردة حازم الذي شعر بالاطمئنان، وكم كان مُمتنًا لوجود بادر معه في تلك الأثناء لتخفيف شعوره بالذنب ولو قليلًا! بينما بادر رفع كفه ليُربت على كتف حازم وقال مُشجعًا:
إنوي النية للتوبة ومتشلش هَم، والحمد لله إن ربنا لسه مديك الصحة إنك تتوب قبل فوات الآوان!
الحمد لله.
تمتم بها حازم من أعماق قلبه وهو يشكر المولى على منحه الفرصة ليعود إليه من جديد، فشعر بعدها بنكزة بادر الذي قال له مُشاكسًا: بس دا ميمنعش برضه إني لسه مش طايقك!
صعدت ضحكاتهما بخفة وصوتٍ لا يكاد أن يُسمع حتى لا يُزعجا الجالسون في المسجد وقد شعر كل واحدٍ منهم بالصفاء والسكينة، غريبة هي تلك الحياة التي تصفعنا على وجهنا حتى نستعيد وعينا! رُغم مقتنا في البداية على ابتلاءاتٍ قد غزت المعيشة، لكننا نُدرِك في النهاية بأن تلك ما هي سوى أشواك يضعها الله في طريقنا لنعود للصلاح من جديد! فما علينا حينها سوى أن ننطق بكل رضا الحمد لله.
يأتي تيار المياه مُحملًا بالقروش، فإما أن تواجه وإما أن تستعد للخدوش.
تركت ذكرى المنزل بوجهٍ واجم بعد أن أتى فادي للمنزل، فاستغلت الفرصة قائلة بأن لديها الكثير من العمل وذهبت إلى محلها حيث ملاذها وأمانها، استقبلتها العاملة بترحاب وبعدها اتجهت إلى عصافيرها حتى تراهم، وبعد أن انتهت ذهبت إلى ورودها للإطمئنان عليها.
طالعت ألوانهم بأعيُن لامعة ونظرها مُثبتًا على زهرة بُنية اللون خلابة، ابتسمت بصفاء وهي تلتقطها بين يديها، وتلقائيًا وجدت ذاتها تُمسك ورقًا مُقوًا من اللون الكريمي المائل للون القهوة، ثم بدأت بانتقاء الزهور البُنية، ومن ثَم الزهور الكريمية، ولون الكافيه المُمتزج بالأصفر، جمعتهم معًا وبعدها وضعتهم داخل الغطاء المُقوى وربطتهم بشريطة بُنية لامعة، مظهرها رائع وخاطفة للأنفاس!
ابتسمت بفخرٍ لصُنع يدها ثم وضعت باقة الزهور جانبًا، واتجهت إلى الزهور الحمراء بعدها، وآه من لونها الخاطف ومظهرها السالب ورونقها المُنعش! وكما فعلت سابقًا. أمسكت بغلافٍ مُقوى من اللون النبيذي الداكن وبدأت بانتقاء أنواع الورود النادرة من اللون الأحمر، اختطفت عدة وردات حمراوات أوراقها تنضم على بعضها البعض وكأنها تخشى لمس أحدٍ لها، ثم التطقطت عدة ورودًا أخرى نبيذية اللون مُتفتحة الأوراق، وأدخلت بينهما زهورًا بيضاء صغيرة للغاية أعطت لباقة الزهور رونقًا خاص وآخاذ، ثم جمعتهم معًا واضعة إياهم بالورق المُقوى ولفتهم بشريطة من السيتان من اللون الأحمر كذلك.
تداخل سواد عينها بشرارات الأحمر الخاص بالورود، قرَّبت الباقة من أنفها واشتمت عبق الزهور بعمقٍ أدخلت الراحة لأوردتها، هُنا ملجأها اللذيذ من شرور العالم، حيث تختلي بذاتها بعيدًا عن الجموع عن طريق الاعتناء بالزهور وصُنع المخبوزات، هُنا أمانها الدافيء واللطيف!
وعلى ذِكر سيرة المخبوزات. فلقد وضعت باقة الزهور تلك جانبًا بجانب الأخرى واتجهت حيث فُرنها الصغير، اشتعلت الحماسة بأوداجها وشمرت عن ساعديها ومن ثم ارتدت مريول المطبخ الخاص بها، وبدأت بصُنع المخبوزات، وتلك المرة بدأت بصُنع الكرواسون المحشو بصوص الكراميل والشيكولاه معًا، بالإضافة إلى فطيرة التفاح التي تعلمتها مؤخرًا، والتي تمنت لو يتذوقها محبوب الفؤاد ولو لمرة واحدة!
وضعت محتويات الصينية داخل الفرن بعد أن رصت المخبوزات داخل ال اترينة الزجاجية لتُحافظ على هشاشتها، واتجهت لتغسل يدها من العجين المُلتصق بها، كانت الابتسامة تشق وجهها لكنها اختفت ما إن استدارت ووجدت فادي أمامها، تهجم وجهها بغضب وسألته بغلظة دون أن تُعطيه الفرصة لإلقاء حديثه السمج على مسامعها:
إيه اللي جابك هنا؟
مطَّ فادي شفتيه باستياء وقال مُعاتبًا إياها برقة لا تُناسبه: فيه واحدة محترمة تكلم خطيبها وزوجها المستقبلي كدا؟
نظرت ذكرى لحالته المشوهة بازدراء، وقالت ساخرة وهي تُربِّع ساعديها أمام صدرها: ويا ترى يا زوجي المستقبلي هتعرف تِحمِيني وأنت مش عارف تحمي نفسك؟
كانت تقصد بحديثها معالم وجهه المُشوهة وذراعه الأيمن المربوط بجبيرة بيضاء ثقيلة، ناهيك عن الكدمات التي تركت أثرها بكلتا قدميه، وبالتأكيد السبب كان يعقوب! بينما تغضن جبين فادي بسخط وقال بحدة ناتجة عن وقاحتها قبل أن يتركها ويذهب عارجًا:
أبوكِ مستنيكِ في البيت متتأخريش، وكل كلمة بتقوليها دلوقتي صدقيني هتتحاسبي عليها والتمن هيكون غالي أوي.
راقبت ظهره وخطواته المُتعرجة وقالت بتهكم لاذع وهي تخلع المريول عن جسدها لتتبعه: ماشي يا أعرج.
وصلت ذكرى إلى منزلها فوجدت وجه الجميع مُتهجم وأفراد عائلتها تنظر جهة أبيها بغضبٍ صريح وأعيُن تطلق كُره نبع رغمًا عنهم داخل أفئدتهم، زوت ما بين حاجبيها بتعجب قبل أن تنظر ل فادي نظرة مُشتعلة، بالطبع هو سبب ذلك العراك، هي تركتهم طبيعيين قبل ساعة من الآن فقط، بمَ أخبرهم ليُوجهوا إليه سهام أعينهم الحادة؟
اقتربت أكثر حتى توقفت بجانب والدتها وتسائلت بتعجب: مالكم واقفين كدا ليه؟
وكان الباديء هو رؤوف الذي قال بحسم: يلا يا ذكرى ادخلي لِمي هدومك هنمشي من هنا.
ازداد استغرابها أضعافًا وهي تسأله بعدم فهم: هنمشي من هنا؟ هنمشي من هنا هنروح فين؟
هنرجع لمكاننا في ال يلا من تاني، كل حاجة رِجعتلي والبركة في ابن عمك طبعًا، وهنسيب هنا.
هل ستعود لتلك اللعنة مُجددًا؟ هل ستترك دفئ هذا المكان لتعود حيث البرودة القارصة لتحتضنها كيفما تشاء؟ ذكرياتها، أصدقائها، أوقاتها السعيدة، وهو! هل ستترك كل هذا وتذهب حقًا؟ إن رحلت ستترك حُلمها الذي حققته بعد عناء، إن رحلت ستعود وحيدة بلا أصدقاء، ستظل بلا أمان، إن رحلت ستفقد الطمأنينة ويحل محلها العذاب، إن رحلت ستترك روحها هُنا مع يعقوب، يكفيها وجوده حولها فقط، هل ستتركه هو الآخر!
وأول ما طرأ على ذهنها نطقه لسانها بحسم: مستحيل، مستحيل أمشي من هنا.
يعني إيه الكلام دا؟ اللي أقوله يتنفذ من غير ولا كلمة.
تفوه رؤوف بتلك الكلمات بغضبٍ أعمى تحت أنظار فادي المُستمتعة، فيما نفذ صبر إلياس الذي صاح به بغضبٍ مماثل: هو أنت مفكرنا عبيد هنروح ونيجي على مزاجك؟ بيت إيه دا اللي عايزنا نسيبه ونِرجع لل يلا اللي كنا فيها؟ هي مش ال يلا دي اللي أخوك طردك منها بعد ما ضحك عليك وخَد فلوسك؟ هو إحنا مش بنصعب عليك؟ مشيلنا ذنبك ومدمر حياتنا ليه أنا نفسي أفهم؟
اشتعلت شرارات الغضب بعينيّ رؤوف الذي تقدم منه بسرعة حتى توقف أمامه، ثم رفع كفه على آخر وكاد أن يهبط به على وجه إلياس الذي يُطالعه بجمود، لكن يده قد تجمدت في اللحظة الأخيرة حينما رفعت صفاء يدها وأمسكت به مرفقه ثم دفعته للخلف بعنف تزامنًا مع صراخها الذي يعكس نفاذ صبرها:.
كفاية لحد كدا بقى كفاية، أنا لحد دلوقتي مستحملة علشان خاطر ولادي، لكن مش هسمحلك تاني تدمرهم بأنانيتك وجشعك يا رؤوف، جوازي منك كان غلطة لحد دلوقتي بندم عليها، وهفضل طول عمري ندمانة عليها وأنا شايفة ولادي بيبصولي بنظرة لوم إني اخترت ليهم الأب الغلط، فشلت إني أختار ليهم أب حنين ويخاف عليهم، وعشان كدا مش هسمحلك تأذيهم تاني، ولو هما ميقدروش يقفوا ليك عشان للأسف أنت أبوهم، فأنا اللي هقف ليك.
انتهت تزامنًا مع صعود وهبوط صدرها بنهيجٍ أثر صراخها، وبسبب إهمالها في طعامها الفترة الأخيرة نتيجة للضغط الذي وُضعت به، شعرت بالدوار يعصف برأسها لكنها حاولت جاهدة أن تتحمل، وبالمقابل كان رؤوف يرمقها ببرودٍ مُعاكس لحالتها، مما أدى إلى تأجج النيران بصدر رضوى التي كانت على وشك الإنفجار به، لذلك انسحبت من بين الجميع واتجهت لغرفتها تحت أنظارهم دون أن تضيف شيئًا، ليس ضعفًا منها، لكن حتى تحفظ الجزء المُتبقي من احترامها لأبيها!
وبالخارج. كان عمران صامتًا طيلة الحوار والذي كان جالسًا بجانب جنة التي تهبط دموعها بصمت، رقَّ قلبه لها وود لو يأخذها الآن لمنزله وتكون تحت مسؤوليته هو، اقترب أكثر حتى توقف أمام رؤوف مُباشرةً وتسائل: ممكن أفهم يا عم رؤوف إيه السبب اللي مخليك تجبر ولادك يعيشوا في مكان مش عايزين يعيشوا فيه؟
وهُنا قرر رؤوف تفجير مُفاجئته في وجوههم جميعًا وقال بحسم: أنا بِعت البيت دا.
صمت. صمت. صمت. كل ما حلَّ عليهم هو الصمت، يتبادلون النظرات المصدومة والمُستنكرة، غافلين عن زوج العيون الشامتة التي تُتابع الموقف بأكمله، ابتلعت صفاء ريقها بصعوبة تشعر به كالجمر في حلقها، حتى تسائلت بعدم تصديق: بِعت بيت أبوك؟
أكدَّ على قولها مُضيفًا دون رحمة: آه بِيعته، والمشتري هيجي بكرة علشان يسكن فيه، يعني مرواحنا من هنا مش برضاكم وهيكون غصب عنكم.
قنوط، كُره، حقد، أسى، استنكار، خزي، سخط، نفور، يأس، وأخيرًا اشمئزاز، جميعها مشاعر سلبية لكنها تجمعت في قلوب الجميع تجاه رؤوف، لقد تجاوز كل الحدود والخطوط الحمراء، يظن نفسه الآمر والناهي وكأن الجميع تحت حضرته، ولا يُعطي بالًا للساكنين معه، استدار عمران جهة إلياس ثم جذبه بعيدًا في إحدى الأركان وهمس له بعدم رضا:
أبوك شكله بيخطط للي بيعمله من زمان أوي، وباين كمان إن ابن عمك مشاركه في اللي بيعمله.
برز فك إلياس نتيجة ضغطه على أسنانه بقوة وحوًل أنظاره جهة فادي الذي يُطالعهما بين اللحظة والأخرى، عاد ببصره نحو عمران وهتف بغِل يشوبه الغضب: يعني أعمل إيه دلوقتي؟ أروح أكسر دماغهم وأروح فيهم في داهية وأخلص؟
كان عمران يعلم بأن حديثه ناتج عن غضبه، لذلك ضغط على كتفه بقوة وهو يهمس قائلًا بتخطيط: بُص، أنا عارف إن اللي هقولهولك دا صعب تتقبله بس صدقني دا هيكون لمصلحتك أنت وأمك وإخواتك.
حل إيه؟
نطق بها إلياس بتعجب، فبدأ عمران يُلقي على مسامعه خطته التي قد تُنقذهم جميعًا من بطش والده وجشع فادي.
الساعة قد دقت الثالثة عصرًا و بدير يقف مُتأففًا بعد أن اختفت سيارات الميكروباص التي تنقل الطُلاب إلى بيوتهم، وهُنا. يقف هو وعدد ضئيل للغاية من الطُلاب المُتجهون إلى نفس وجهته، وبعد ما يقرب من مرور خمسة عشر دقيقة جاءت السيارة أخيرًا، وصعد بها الرُكاب فلم يتبقى سوى مقعد واحد لم يشغره أحد بعد.
ولحظه العثر قد توقفت السيارة لمدة عشر دقائق أخرى، كان حينها بدير يقف بالخارج حتى يأتي الراكب ويصعد هو حتى يجلس هو على الطرف الخارجي للسيارة، شعر بالضجر حينما طال الإنتظار أكثر، لكنه شعر بالأمل حينما لمح بعينه إحداهن تأتي باتجاهه، وحينما اقتربت سألها عن وجهتها ولحُسن الحظ أكدت له بالإيجاب، حينها تهللت أساريره ونادى على السائق بعلو صوته والذي كان يقف مع مجموعة من أصدقائه السائقين:
الناقصة جَت يسطا.
استدارت له الفتاة بحدة وسددت له نظرة نارية تُعبر عن سخطها حِيال وقاحته المقصودة من وجهة نظرها، انتفخت أدواخها ثم صاخت به بعصبية وهي تُشيح بيدها أمام وجهه: هي مين دي اللي ناقصة يا قليل الأدب؟ تصدق إنك بني آدم مش محترم وأنا مش هعدي كلمتك دي بالساهل.
رفع بدير طرف شفتيه بسخطٍ كحركة شعبية رائجة، ثم قال أمامها بسوقية تُشبهها: أنتِ بتتكلمي كدا ليه يا ست أنتِ؟ وبعدين أيوا أنتِ الناقصة اللي فاضلة في العربية، جِبت الكلام من عند أمي أنا؟
اشتعلت عيناها بغضب وودت لو تنقض عليه بأظافرها لتُهمش وجهه، لكنها وجدت طريقة أفضل من تلك للأخذ بثأرها، صعدت للسيارة لتأخذ مكانها، وما كاد بدير أن يصعد خلفها ليجلس مكانه، لكن جسده قد تخشب حينما أغلقت الفتاة جرّار الباب مانعة إياه من الصعود وصاحت بعلو صوتها للسائق الذي أتى:
اطلع يسطا وأنا هدفع حق نفرين.
وبالفعل انطلق السائق بالسيارة غير مُباليًا لمن قد أتى أولًا أو بذلك النزاع من الأساس، رحل تاركًا بدير ينظر لأثر السيارة بذهولٍ جلي، مُتصنمًا وكأن على رأسه الطير كما يُقال، وبعد لحظاتٍ من الذهول نظر حوله للجراچ الفارغ من السيارات، فصاح باهتياج غير مُباليًا للمارة: يا عالم يا و.
صعد صدره صعودًا وهبوطًا بغضب ونظر حوله عله يلمح أي سيارة أجرة تقله إلى منزله، لكنه ولسوء حظه لم يجد، وإنما وجد شيئًا آخر جعله يُضيق عيناه بشكٍ وهو يلمح ابنة عمه فاطمة شقيقة مروان تقف مع أحد الرجال!
تقدم بهدوءٍ وبهوينهة حتى بات على مقربة منهما، وحينما وصل وجد الشاب يُمسك بكفِ فاطمة وسحبها معه أثناء قوله الغير مُريح: تعالي نركب العربية ونروح مكان مفيهوش ناس كتير.
ظهر التردد جليًا على وجهها لكن الأخير قد أذابه ببضعة كلمات خبيثة ظنتهم المُغفلة حُبًا! في حين اتسعت عيني بدير بذهول من وقع ما يراه ويسمعه من ابنة عمه المصون! ومن حُسن حظه وجد سيارة أُجرة تسير أمامه فأوقفها ثم صعد إليها طالبًا منه بسرعة: اطلع ورا العربية دي بسرعة يسطا.
نظر له السائق بعدم رضا وقال: أنا مش عايز مشاكل يا بيه الله يكرمك، دا أنا بجري على قُطط عُمي.
طمأنه بدير بقوله المُتسرع: متقلقش يا حج ربنا ما يجيب مشاكل، بس اطلع ورا العربية دي بسرعة وخَلي بينك وبينها مسافة كبيرة.
وبالفعل انطلق السائق خلف السيارة التي تستقيلها فاطمة مع ذلك الغريب ونظرات بدير تتبعهم بشك، وبعد ما يقرب من النصف ساعة؛ توقفت السيارة في منطقة نائية لا يمر بها المارة إلا من وقتٍ للآخر، لم يرَ بدير أي شيءٍ خلال تلك المسافة الكبيرة فقرر الهبوط والذهاب إليها لرؤية ماذا يفعلان، وقبل أن يبتعد استدار للسائق طالبًا منه على عجالة:
خليك هنا يسطا لحد ما أجيلك تاني.
تفوه بها ولم يُعطي فرصة للأخير بالاعتراض، ثم تسلل بخطواتٍ بطيئة ومن الحين للآخر يختبيء خلف إحدى السيارات الواقفة في الجوانب حتى وصل إليهم أخيرًا وبات واقفًا بالخلف، اتسعت عيناه بصدمة وتخشب جسده في محله وهو يراهما يتبادلان القُبل الفاحشة، كان يرى اعتراضًا مبدأيًا من فاطمة قبل أن تستسلم لذلك الشاب في النهاية!
تصاعدت الدماء إلى وجه بدير غضبًا وشعر بفوران أوردته حتى كادت أن تنفجر، ولم ينتظر لثانية أخرى قبل أن يتجه إلى الجانب الذي تجلس ناحيته ابنة عمه وفتح باب السيارة ثم جذبها من مرفقها بعنف، وذلك قبل أن يستقر كفه على صفحة وجهها بعنفٍ كاد أن يُفقدها توازنها لولا يده التي تُمسِك بها من ذراعها، ارتعدت أوصال فاطمة فور أن وقعت عيناها على بدير، فانفرجت شفتاها لتُبرر له موقفها بهلع، لكنه أخرسها حينما هتف بعصبية مُفرطة لم تراها منه من قبل:.
اخرسي خالص مش عايز أسمع ولا نَفَس.
بينما خرج ذلك الشاب من السيارة من الناحية الأخرى وتقدم منه وهو يُصيح به غاضبًا: أنت مين يابن ال أنت وبتعمل إيه هنا.
وصل إليه مع انتهاء جُملته وتزامنًا مع اللكمة القوية التي احتضنت وجهه بعنفوان من بدير، دفع بدير ابنة عمه جانبًا واستدار لذلك الحقير ليُلقنه درسًا قاسيًا بالفعل، ألقاه أرضًا ثم اعتلاه وظل يضرب في وجهه بغِل وتلك الصورة التي رأى بها فاطمة معه لا تذهب عن باله ولو للحظة، مظهر مُثير للاشمئزاز خاصةً من فتيات العائلة الوقورة!
وعلى الجانب الآخر وقفت فاطمة مصدومة وهي ترتعش بهلع، لقد كشفها بدير، بالطبع سيُخبر أخاها وجميع أفراد العائلة اللذين سيقتلونها لا محالة إن علموا الأمر! تصاعدت أنفاسها بصعوبة وأطلقت صرخة عنيفة حينما هب بدير من مكانه ثم اتجه إليها مُمسكًا إياها من ذراعها وأظافره تنغرز في لحمها، وبعدها سحبها خلفه تجاه سيارة الأجرة التي انطلقت بهم بعيدًا عن هذا المكان على الفور، تاركين شخصًا خلفهم مرميًا على أرضية الشارع ويتأوه بعنف.
أشدُ الرحال بقلبٍ مُمزقٍ متلوف، وعيني تحتضن الأماكن كشخصٍ ملهوف!
اتجهت جميع عائلة رؤوف إلى ال يلا حيث مكانهم الأساسي من قبل، وصلوا وخلفهم سيارة فادي الذي اتبعهم وابتسامته ترفض ترك ثغر، ليست سعيدة، وإنما شامتة ماكرة! لقد نال ما يتمناه ووسل لمبغاه، رؤوف حقًا فريسة سهلة يسيل لُعابه على الأموال ما إن يراه، لذلك يَسهُل تشكيله كما يريد!
وصلوا إلى ال يلا واستقبلهم خيري بعدم رضا وهو ينظر لابنه بعتابٍ واضح مُصطبغ بالغضب، لم تترك لهم ذكرى فرصة للحديث، وإنما سحبت حقيبة ثيابها خلفها بعنف وصعدت الدرج لتتجه نحو غُرفتها دون أن تُعيرهم أي إهتمام، تكبت دموعها بصعوبة بالغة وتُخفي هشاشتها خلف قناع الجمود الواهي، فيما حمل إلياس شقيقته جنة وصعد بها نحو غُرفتها ليُبعدها عن أي ضغوطات نفسية قد تحدث أمامها الآن!
بينما صفاء حاولت سحب رضوى لتصعد إلى غُرفتها لكن الأخيرة رفضت بعنفوان وتحدثت بصوتٍ عالٍ مُتبجح وصل إلى آذان الجميع: لأ يا ماما مش هطلع لحد ما أشوف المهزلة دي هتوصل لحد فين.
توجهت الأنظار إليها فيما امتلأ فؤاد صفاء بالقلق خوفًا على ابنتها من بطش تلك العائلة الجشعة، اقتربت رضوى أكثر من عمها حتى وقفت قبالته وتحدثت بقوة ليست جديدة على شخصيتها المُهيمنة:.
يا ترى يا عمي إيه اللي غيَّر رأيك فجأة وخلاك ترجَّع لينا حقنا في البيت من تاني؟ دي خطة زبالة جديدة مثلًا عشان توقعونا في مشاكل إحنا جاهلين عنها؟ ولا اكتشفت إنك بجح ومفتري وظالم فقررت تتوب ودا شيء استبعده الحقيقة! ولا يا ترى ابنك هو اللي ضغط عليك لسبب إحنا منعرفوش؟
كلماتها أردفت بها تباعًا تحت أنظارهم المصعوقة، وبعد أن انتهت صرخ بها خيري بقوة وهو يُشير لها بسبابته: اخرسي يا قليلة الأدب يا إما قسمًا بالله ه...
قاطعته صارخة في المقابل: يا إما إيه؟ ولا هتقدر تعمل حاجة لا ليا ولا لأمي ولا لحد من إخواتي، إحنا هنا لينا حق في البيت زيك وأكتر، لولا إنك بِجح وماشي في الشمال أنت ماكنش هيبقى ليك طوبة في البيت دا، واسمع بقى إما أقولك! لو مفكر إن أمي وإخواتي البنات ملهمش ضهر فأنت غلطان أوي، أخويا وجوزي يعرفوا يجيبوا حقنا كويس أوي ومن عين التخين، واللي يبصلهم بعينه بصة متعجبنيش أخرقهاله، سامع ولا لأ؟
اخترقت كلماتها أذان كل مَن استمع إليها من كبيرهم إلى صغيرهم، ولم تُمهلهم فرصة للرد، بل سحبت يد والدتها ثم صعدت بها الدرج، لتقع عيناها على إلياس الواقف في بداية الدرج يُتابع ما يحدث بأعيُن مُستمتعة، وما إن وصلت إليه حتى غمزها بمشاكسة قائلًا: حبيبة أخوكِ.
ابتسمت رغم عصبيتها الظاهرة، فيما توسطهما إلياس وأحاط بكتف كل واحدة منهم وهو يقول بمكرٍ عابث: وبما إن جينا هنا من غير رضانا، فهنطهقهم في عيشتهم برضانا.
وصل بدير مع فاطمة إلى الشارع الرئيسي الموجود في المنزل وتوقفا بعد أن حاسب الأول السائق على أجرته، نظرت فاطمة إلى بدير بخوف وتحدثت ببكاءٍ عنيف وسألته: هتقول ل مروان؟
طالعها بدير بغضب بعد محاولات كثيرة للسيطرة على نفسه، ثم تحدث بصوتٍ مكتوم مليء بعصبية تكاد أن تُفجِّر أوردته: أنتِ تخرسي خالص مش عايز أسمع صوتك، وبطّلي عياط الناس عمالة تبص علينا.
رفعت فاطمة أناملها لتُجفف دموعها لكنها لم تستطيع السيطرة على ارتجافتها، استغفر بدير ربه في سِره ولا يعلم كيفية التصرف في تلك المُعضلة، يكاد عقله أن يتشتت من كثرة التفكير، ناهيك عن تلك الصراعات التي تدور داخله والخيالات المُريبة التي تحوم حوله طيلة الوقت، لكنها تذهب عِند صلاته عادةً.
وصلا إلى المنزل وتوقفا أمام البوابة الرئيسية، فأمرها بوجهٍ واجم: اطلعي بيتكوا ومش عايز أشوف وشك في الشارع نهائي.
عادت تسأله برعبٍ من جديد: هتقول ل مروان؟
مش عارف.
قالها بجمودٍ جعلها تستشعر حجم الكارثة التي وقعت بها بخضم إرادتها، فلم تجد بُدًا من الهرب واللجوء إلى غرفتها حيث تشكو آلام حُزنها ووحدتها إلى جدران غرفتها.
نفخ بدير بأسى وللحقيقة قد شعر بالحزن أكثر من الغضب، فاطمة شقيقته حتى لو لم تجمعه بها مواقف كثيرة، لكن الذنب ليس ذنبه، لكنه ذنب والدتها التي أبعدتها عنهم فجأة وكأنهم داء مُمرض سهل الإنتشار! رفع رأسه إلى المنزل المُقابل وتحديدًا حيث شُرفتها، تسنيم. الذي يتعذب كلما رآه حُزنًا وقهرةً، لكن الكُرة في ملعبه الآن وعليه التحديد إن كان يُريد الإكمال معها حقًا أو تركها لحال سبيلها!
زفر بتعب ثم اتجه إلى المسجد، عادة علمها له والده هو وأخواته، إن تعبت من ملاهي الحياة فالجأ إلى الرحم ن.
جلست زهراء على فراشها تُمسِك بذاك المظروف الذي أعطاها له بدران منذ يومين، قد تكون تلك المرة العشرة ألاف التي تقرأ فيها رسالته، تسير الكلمات على عين قلبها قبل عين وجهها فتُوشمها بنصلٍ مصنوع من نيران الحب وشرارات الإهتمام:.
تستحقين ما يستحقه نساء كل الأرض من الحبِ لكِ وحِدك، أنتِ التي تربعت على عرش فؤادي واستوطنت دهاليز عقلي!
قبَّلت المظروف بقوة وحُمرة الخجل قد صبغت وجهها، تتخيله أمامها يرمي على مسامعها تلك الكلمات المُشبعة بالحنان، كيف كانت غافلة عنه كل تلك السنوات؟ هي التي حرمت ذاتها من النعيم تحت ستار حب مهموم!
وعلى الجانب الآخر. جلست رحمة في غرفتها تُتابع غروب شمس اليوم من نافذتها، تنهدت بتيهة وهي تُفكر إن أخذ مروان لمثل الخطوة بكامل إرادته أم هو مُجرد تهور رأفةً بها، وأثناء شرودها جائتها رسالة على هاتفها وكان هو صاحبها، وما مُدون بها جعلها تبتسم رغم بساطة الكلمات:
أجيبلك أكل من برا ونتعشى سوا؟
ابتسمت بخفة وهي تكتب له: عايزة آكل جمبري.
لأ ما أنا مش وارث، بس هتكرم وأجيبلك حاضر، أقابلك بالليل يا رحاريحو، سلام.
قرأت كلماته وهي تضحك، ثم مالت على ظهرها للخلف لتنام ومن ثَم همست بدعاء: اللهم وكلتك أمري فيسره لي يارب العالمين.
مرَّ يومان. وجاء اليوم المُنتظر للجميع، عقد قِران الأحباب وربط قلوبهم إلى الأبد، والفرحة الكُبرى كانت من نصيب ثلاثة من أبناء العائلة، حمزة الذي سيُعقد قرانه على رضوى، مصعب الذي سيظل مربوطًا للأبد ب روان، وأخيرًا بادر الذي سيتخذ سارة رفيقة في قيام ليله!
وها هو المأذون جالس في المنتصف، الأول. فالثاني. فالثالث. وتعالت صوت الزغاريد عاليًا من جميع الفتيات والنساء، لقد تجمعوا في منزل هارون الكبير بعد أن طلب منهم هو بنفسه ذلك، ولم يُمانع أو يعترض أحد بالطبع، هذا المنزل سيظل يشهد إنجازات لن تُمحى مع مرور الأعوام والعقود، هُنا أثر وذكريات بُنيَت بعد عناء، وأخيرًا يشهد انتصارًا ضخمًا مثل هذا!
وأخيرًا يا شمامة!
هتف بها حمزة بانهاكٍ وهو يضمها لصدره بحنوٍ بالغ حذرًا بإصابته التي لم تُماثل التعافي بعد، استمع إلى زفرتها المُرتاحة بين أحضانه، وكأنها وجدت ملاذها بعد سنون قضتها تائهة تضربها الشوارع والطُرقات، آه لو يعلم بأنها اتخذته ملجئًا من شرورِ العالم! آه لو يعلم بأنها تعشقه فوق عشقه عشقًا مُضاعفًا، وكيف لا وهي وجدت به الأمان؟ وتلقائيًا وجدت لسانها ينطق بوجل:
هتطمني يا حمزة؟
مال على جبينها يلثمه برقة ثم همس بعشقٍ استشعرت به صدق كلماته: لو هعيش عمري كله في سبيل إني أطمنك مش هتردد لثانية.
وعلى بُعدٍ قريبٍ منهم، ابتعدت روان عن مصعب الذي تقدم منها في نية لاحتضانها ثم تحدثت بحذر: أنت عايز تعمل إيه؟
قطب مصعب جبينه بتعجب أثناء قوله المُتشنج: وهو أنا هعوز منك إيه؟ ما تقربي عشان أحضنك!
هزت رأسها بنفيٍ قوي وهي تقول برفض: لأ طبعًا مينفعش، أنا بنت محترمة ومقبلش إن أي راجل غريب يلمسني، حتى لو كان جوزي!
لأ والله كتر خيرك. و.
قاطعت حديثه حينما اقتربت منه هي وبادرت باحتضانه وهي تضحك بشدة، فضمها إلى صدره بدوره في قوة وكأنه يُطمئن فؤاده بوجودها جانبه، ثم نبس مُعترفًا بعشقٍ خالص:
بحبك.
شعر بارتجافتها بين يديه فضمها إليه أكثر خوفًا من رحيلها، فقاطعت هي الصمت بسؤالها الذي ظهر به تردده وهي تقول: أنا عايزة أسألك سؤال مهم جدًا بالنسبالي.
استشعر أهمية الحديث فابتعد عنها وسألها بقلق: سؤال إيه قولي متخافيش؟
فباغتته بسؤالها المهم للغاية: إحساسك إيه وأنت عريس؟
دا أنتِ بومة!
نبس بها ثم تركها وغادر مُتجهًا نحو الشُرفة بعد أن استغل انشغال الجميع عنهما، بينما روان نظرت لأثره ببعضٍ من الندم وهي تهمس؛
هو زعل مني ولا إيه؟
وهُنا. في تلك النقطة من المنزل وتحديدًا فوق سَطح المنزل، أخذ بادر زوجته وصعد بها نحو بالأعلى، تستند هي على السور وهو خلفها يضم ظهرها لصدره وذراعيه تُحيطان خصرها بتملك واضح، بينما ذقنه تستند على كتفها، هي كانت تُتابع النجوم الكثيفة بأعيُن لامعة، وهو يُتابع نجمته الوحيدة بأعيُن عاشقة!
لاحظت تحديقه بها فنظرت إليه بطرف عينيها وقالت ضاحكة: بتبصلي كدا ليه؟
أجابها بجدية: بفكر إزاي ممكن حد يكون حلو أوي كدا في كل حالاته!
اتسعت ابتسامتها حتى كادت أن تشق وجهها وقالت: من إمتى وأنت رومانسي كدا؟
دي مش رومانسية بس دي الحقيقة، أنتِ جميلة أوي ومش مصدق لحد دلوقتي إنك ليا وبقيتِ فعلًا مراتي!
عادت بأنظارها نحو السماء الحالكة مُجددًا، ثم همست بشرودٍ استحكمت عليه غصتها رغمًا عنها: طيب لما أنا جميلة زي ما أنت بتقول ليه بيحصل في حياتي كدا؟
لفها إليه حتى باتت في مُقابلة لعينيه دون وجود مفر، ثم قال بنفسٍ راضية وكلماته الهادئة قد وجدت صداها في نفسها الجريحة: عشان توصلي لحد هنا وتكوني ليا.
سرقت شفتاها ابتسامة صغيرة ازدادت اتساعًا حينما مال على وجنتها يُقبلها بعمقٍ قبل أن يهمس بصوتٍ مُتيم: هتفضلي زي أُمنية صعبة طلبتها من ربنا في قيام الليل لحد ما اتحققت.
عقبالك يا حِلو!
هتف بها يعقوب بجانب أذن ذكرى أثناء رصها للأطباق في المطبخ، طالعته باندهاش خاصةً مع ذِكره للقبها الخاص بها وحدها ويُناديه لها، ابتلعت ريقها بصعوبة فيما ألجمت الصدمة لسانها لمُدة من الوقت، وكادت أن تتحدث بعد كثير من الصمت، لكنه تركها في حيرتها وحدها وغادر وعلى شفتيه ابتسامة واسعة!
وبالعودة إلى الأسفل مُجددًا. وقف إلياس بجانب بدور التي لم تنتبه له في البداية ثم همس بمشاكسة: عقبالنا يا ست حلويات.
نظرت إليه بدور بذهول، وما كادت أن تُجيبه حتى قاطعها يعقوب الذي أتى وأمسك ب إلياس من ياقة ثيابه ليُبعده عن شقيقته وتمتم قائلًا: كلَّم الحاجة أمك بتناديلك.
نظر إليه إلياس بحنق قائلًا: بس أنا مسمعتهاش بتنادي!
رد عليه يعقوب باستفزاز: لأ نادت إيش عرفك أنت؟ روح أنت بس وشوفها هي عايزة إيه.
رمقه إلياس بغيظ وذهب من أمامه وهو يُتمتم بكلماتٍ غير مفهومة، فيما نظر يعقوب لشقيقته ودفعها بيده بخفة قائلًا: روحي يا بت اعمليلي كوباية شاي!
نفخت بدور بضيق وتركته هي الأخرى وذهبت، بينما هو شعر بانتشاءٍ غريب وازداد أكثر حينما لمح فادي بتقدم نحوه بخُطى متعرجة حتى توقف بجانبه، مما جعل يعقوب يهتف بذهولٍ زائف: لا حول ولا قوة بالله، دا مين المُتوحش اللي عمل فيك كدا؟
تجاهل فادي حديثه رغم شعوره بالحقد العنيف تجاهه وهو يقول: هنعمل ديل بيني أنا وأنت، أنا هساعدك في اللي أنت عايز توصله وأنت هتساعدني في اللي أنا عايزه.
ارتسمت ابتسامة ماكرة على ثُغر يعقوب الذي تشدق بعدها قائلًا: هيلب يور سيلف يا روح أمك.