رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والعشرون
سائرٌ أنا بين الطُرقات، مُحطمٌ من كل الاتجاهات، سقطت من جذوعي كل الأوراق، وجراحي لا تُشفى سوى بدواء، ويالسخرية الأقدار، فالدواء بذاته هو الداء! ولسوءِ حظي بأني مُصاب، بسهمٍ من العشقِ اخترق أسوار قلبي المُلتاع!
أرجع حسن رأسه على وسادته وأغمض عيناه بإنهاك، اليوم خرج من المشفى بعد أن قضى بها أيامًا كثيرة، حتى الآن لا يُصدِّق بأن ياسمين هي مَن فعلت به هذا، أهان عليها حقًا؟ هل نسيَت كل الحب في لحظة كتلك؟ أم أنها فعلتها بدون قصد! ضحكة ساخرة مريرة غادرت حلقه وهو يهز رأسه بيأس، الحقيقة واضحة أمامه وضوح العِيان، ورغم ذلك هو مازال يُبرر لها، أي لعنة رمتها عليه هي بحق السماء!
زفر بضيقٍ وكوابيسه مازالت تؤرقه حتى الآن، طوال تلك المُدة التي قضاها بالمشفى كان يرى والدته في أحلامه ومعها بريد صغير، أثار ذلك البريد فضوله، لكن الذي يؤرقه بحق هو نضرة والدته الغاضبة له، نظرة مُحملة بالسخط والعتاب، وكأنها تلومه على حياة نُشيء وترعرع داخلها منذ الصِغر! بات يخشى النوم خوفًا من رؤية والدته مُجددًا بتلك النظرات التي تنغز فؤاده، لطالما كانت امرأة بشوش جميلة وتضحك، لكن المظهر الذي يراه بها بعد وفاتها بعيد كُل البُعد عن شخصيتها الوديعة، تُرى هل كرهته!
وعند الخاطر الأخير، هبطت دمعة حارقة على وجنته وعقله يسترجع ماضيه المُنير بطلتها الباهية، الأميرة أسمهان كما كان يُناديها، بين ليلة وضحاها وجد الأميرة جثة هامدة على الأرضية الصلبة وبجانبها تقف تسنيم مُمسكة بأقراصٍ من الأدوية السامة، وأمامهما ياسمين التي تُطالع شقيقتها بصدمة جلية، ثم تشدقت بعد أن كتمت شهقتها بكفها:
دي. دي ماتت!
تفوهت بكلماتها تلك ثم انطلقت نحو اسمهان لتجلس بجانبها وبعدها نادتها برعب حقيقي: خالتو! خالتو اصحي!
هزت تسنيم رأسها بعدم تصديق أثناء مُطالعتها لخالتها بنظراتٍ زائغة، لا تُصدق بأن هي مَن أعطتها السم! فاقتربت منها بخطواتٍ مُتمهلة وعيناها مُثبتتان على جسدها الهامد، قبل أن تُنادي بصوتٍ غير مسموع بتاتًا: خالتو!
أتبع نداؤها هبوط دموعها على وجنتها ومازالت الصدمة تصعقها، لكن الصدمة الأكبر كانت من نصيبه هو، حسن الذي دلف لتوه بملامح وجه مُتهجمة ثوانٍ ما تحولت برعب حينما رأى والدته تفترش الأرض لا تتحرك، هز جسدها بفزع وهو يُناديها: ماما! مالك يا ماما اصحي!
رفع أنظاره نحو تسنيم المُتصنمة وصرخ بها بعدائية: أنتِ عملتي فيها إيه انطقي!
وتلقائيًا تحولت نظراتها إلى ما تُمسكه بيدها، قبل أن ينتفض من مكانها وينتشله منها بحركة عنيفة ليقرأ ما هو مُدون عليه، وبعدها همس مصدومًا: سم!
نظرت تسنيم لخالتها ومن ثَم له، قبل أن تهتف بتيهة واضحة: مش عارفة.
وقبل أن تُضيف كلمة أخرى، وجدته ينتفض من مكانه ويُحيط عُنقها بكفه الغليظ وهو يصرخ بها باهتياج: هو إيه اللي مش عارفة؟ أنا هوديكِ في ستين داهية يا.
جحظت عيني تسنيم بصدمة، بينما ياسمين استفاقت من دوامة الذهول التي ابتلعتها وهرولت إليهما تُحاول الفكاك بينهما، أصابها الهلع عندما حينما تحول وجه شقيقتها إلى الأحمر الداكن، لقد كادت أن تزهق أنفاسها حقًا! لذلك ضربته بقبضتها على ظهره بقوة وهي تصرخ به بانفعال: ابعد عنها يا حسن هتموتها، سيبها بقولك!
وبالرغم من غضبها وصراخها به لم يهتم، إنما يُزيد ضغطه أكثر على عُنق تسنيم التي كادت أن تفقد حياتها، وعلى مرمى بصره جسد والدته الهامد الذي يُزيد من تأجج النيران بصدره، وبين الثانية والأخرى. وجد جسده يُبعد بقوة تزامنًا مع سقوط جسد تسنيم على الأرض وسعالها القوي الذي يخرج من بين شفتيها، حوَّل حسن نظراته للفاعل، فوجده والده الذي صرخ به بدوره:.
عايز تودي نفسك في داهية بسبب واحدة زبالة زي دي! أنت مبتفهمش؟ ياما حذرتك منهم وقولتلك إنهم طمعانين في حياتنا بس أنت مصدقتنيش، وأديهم قتلوا أمك قدام عينك!
أنهى حديثه صارخًا باهتياج تزامنًا مع هطول دموعه بقوة على وجنته، ثم ركض إلى جسد زوجته يحمله بين ذراعيه واتجه بها إلى المشفى ومعه حسن الذي ظل يتمنى لو أنها حية، لكن القدر جاء مُعاندًا لرجائه ورحلت والدته تاركة إياه وحده بين دروب الحياة القاسية، ومن حينها ظل والده يدس السُم داخل أذنه من ناحية أبناء خالته، حتى امتلأ فؤاده حقدًا من ناحيتهما، وأول خُطوة للإنتقام منهما هو وضع تسنيم في المصحة النفسية للأمراض العقلية وتعذيبها بأقسى الوسائل وأبشع الطُرق، وأبيه الذي أمره بقتل ياسمين لتلحق بوالدته، لكن فؤاده قد ثار وبرر له بأن لا ذنب لها في قتل شقيقتها لوالدته، لذلك فضَّل سجنها تحت سطوته والتعامل معها كيفما يشاء!
استفاق من شروده على صوت طرق الباب، فمسح دموعه مُسرعًا قبل أن يسمح للطارق بصوتٍ مُتحشرج بالدخول، دخل لقمان بوجهٍ جامد وتحدث بنبرة لامبالية أثناء تلاشيه للنظر إليه: أنا عايز أسافر أسبوع دهب مع صحابي.
قطب حسن ما بين حاجبيه باستغراب وهو يُطالعه بأعين مُتسائلة عن سبب حالته تلك، فعادة لقمان أن يدخل ويمزح معه حتى يُوافق على طلبه، لكن تلك المرة فالأمر مُختلف تمامًا! هو حتى يتحاشى النظر إلى وجهه، يهرب بعينيه منه، لذلك سأله بتعجب: مالك فيك إيه!
هز لقمان كتفه بلامبالاة وهو يُجيبه: مفيش حاجة، أنا عايز أسافر مع صحابي بدل الحبسة دي.
مُتأكد إنك كويس؟
عاد ليتسائل بها بريبة، فابتلع لقمان تلك الغصة المؤلمة التي تشكلت في حلقه وهو يُوميء له بالإيجاب، فرجَّح حسن بأن حالته تلك سببها سوء أحواله النفسية، لذلك ابتسم له مُوافقًا طلبه وهو يقول بحنان: ماشي روح اتفسح واتبسط، المهم إنك تكون كويس.
وتلك المرة رفع لقمان أنظاره له يُطالعه بأعيُن عاتبتين، مما زاد انعقاد حاجب حسن الذي خشى حالته تلك، وكما جاء هادئًا، رحل هادئًا أيضًا، حتى لم يُوجِّه إليه أي كلمة بعد موافقته على طلبه، لِمَ يشعر بأن ألاف السدود قد بُنيَت بينه وبين شقيقه؟ لِمَ يشعر بابتعاده المُفاجيء هذا؟ زفرة مُختنقة خرجت من حلقه قبل أن يعود للتمدد على الفراش مرة أخرى، وتلك المرة عقله قد شرد مع تصرفات أخيه الغريبة تلك!
قيل أن الألم يتلاشى بوجود مَن نُحب، وأن الحياة تبتسم بحيوية، وأن النجوم تتراقص بابتهاج، والقمر يُشِعَ نوره أكثر فأكثر!
رفض الطبيب وجود أي شخص مع جنة أثناء تلقيها للعلاج الكيميائي، لكنه سمح بوجود والدتها والطبيب المُعالج فقط معها، وبالخارج وقف عمران، إلياس، ذكرى، ويعقوب، بعد أن أصروا على القدوم معها لمُساندتها، القلق كان يتقاسم بالتساوي بينهم، والخوف ينهش في قلوب أربعتهم، ولأول مرة يمر الجميع باختبارًا صعبًا كهذا، صوت تألمها وبكاؤها يخرج إليهم فيُصيب وجدانهم بالأرق، ذلك الشعور المقيت بالعجز يُصيبهم بالكامل.
غطت ذكرى وجهها لتكتم بكاؤها، وبجانبها وقف يعقوب يُهدهدها بشفقة، يعلم مكانة جنة لديها ولدى إلياس كذلك، ومع ذِكر سيرة إلياس، رفع يعقوب رأسه إليه فوجد وجهه شاحبًا برعب، تنفسه يتزايد وكأنه في أحد السباقات، وعيناه مُعلقتان على زجاج الغرفة التي تتلقى بها شقيقته علاجها، لسانه لم يكف عن الذِكر والدعاء، كما أن فؤاده يدعو بتضرع لمولاه.
ربَّت عمران بيده على كتفه بقوة، فحوَّل إلياس أنظاره التائهة إليه، مما جعل الآخر يقول: متخافش، جنة قوية ومش هتستسلم، ثِق في ربنا وهو مش هيخيب ظنك أبدًا.
لا يعلم أكان يُواسيه أم يُواسي نفسه، فبالرغم من قوته في الحديث، إلا أن فؤاده واهن مُتصدع بخوف، لكن يثق تمام الثقة بمولاه، يثق بأنه لن يخذل دعائه ويعود بيده فارغة، وهذا هو الأمل الوحيد الذي يجعله صامدًا حتى الآن!
ظل هكذا لدقائق لا يعلمون عددها، كل الذي يصل إليهم من الداخل هو صوت جنة الباكي ومُحاولات صفاء المُستميتة لتهدأتها، مدت والدتها كفها لتُمسك بخاصتها وجلست بجانبها تقرأ لها من بعض السور القصيرة، وأحيانًا أخرى تُحدثها حتى تُنسيها ألمها، ومن وَسط تلك الأحاديث قالت صفاء بصوتٍ هامس وهي تضحك:
عارفة أول مرة قابلتي فيها عمران كانت إمتى؟
كانت جنة تُصارع الألم بكل قوتها، لذلك وجدت من أحاديث والدتها مهربًا لنسيانه قليلًا، وعقب سؤالها قطبت جبينها بتعجب وتسائلت بصوتٍ واهن: إمتى؟ مش أول مرة لما نقلنا للبيت التاني؟
هزت صفاء رأسها بالنفي وأخبرتها ضاحكة: لأ دي مش أول مرة، أنتِ روحتي مع جدك هناك قبل كدا وأنتِ صغيرة، كان عندك سنتين تقريبًا، وعيلته وقرايبه كلهم كانوا عايشين في البيت اللي إحنا عايشين فيه دلوقتي دا، وقتها أنتِ سيبتيه وخرجتي برا، يادوب كنتِ لسه بتمشي عشان كنتِ قصيرة، جدك اتجنن لما ملاقكيش جنبه وفِضل يدوَّر عليكِ في كل مكان، لحد ما لقاكِ قاعدة مع عيل صغير جوا في مدخل بيتهم وكان جايبلك فشار وشيكولاتة، وكان كل ما يأكلك واحدة تديله بوسة، أصلك مش متربية من صُغرك.
تعالت ضحكات جنة بانطلاق وهي تُطالع والدتها بعدم تصديق، لأول مرة تستمع إلى تلك الحكاية المُخزية منها، لكن شيء ما دغدغ معدتها بتلذذ عقب تخيلها لما فعلته وهي طفلة، فيما أكملت صفاء ضاحكة بأنفاسٍ مُتقطعة:
كنتِ مايصة على عكس ذكرى خالص، دي بقى كانت كل ما تشوف ولد تقوم ضرباه، وأولهم كان يعقوب اللي كانت بتخليه يلعب معاها غصب عنها، ولو مرضيش تقوم حدفاه بالطوب لحد ما في مرة فتحتله دماغه.
تعالت ضحكات جنة رغمًا عنها وتلك الحكايات أنستها الألم بحق! فلقد أنحته جانبًا وأبدت كل إهتمامها إلى والدتها التي ضحكت لنجاحها في خطتها، نظرت للمحلول المُعلق فوجدت به القليل جدًا لينتهي، لذلك ختمت حديثها بحكايتها الأخيرة عن شقيقتها الثالثة بقولها اليائس:.
و رضوى دي بقى كانت حكايتها حكاية لوحدها، كانت بتلم جدعان الشارع وترقصلهم، لحد ما في مرة جدك رنها علقة بسبب عملتها السودة دي، مكانش بيناديلها غير ب غازية بسبب طموحها وأحلامها في إنها تكون رقاصة.
وبالخارج. وقف الجميع مُتعجبون من صوت الضحكات الذي ظهر فجأة بعد ألم وصرخات طويلة، ليتسائل يعقوب بتعجب: هو الدكتور بيزغزغها جوا ولا إيه؟
دكتور!
كلمة صدحت من فاهِ عمران باستنكار شديد قبل أن يضرب بتعاليم المشفى عرض الحائط ويدخل الغرفة مُسرعًا ليرى ما يحدث، فوجد جلستها قد انتهت لتوها والطبيب يُخرِج إبرة المحلول من كفها وبجانبها والدتها تُساعد ابنتها في الإعتدال، ولسوء حظها بأن الألم عاد يعصف بقدمها بقوة أشد، جزت جنة على أسنانها بقوة وهي تُشدد من الإمساك بكف والدتها، هرع إليها إلياس يُربت على رأسها بحنوٍ بالغ، ومن ثَم جذبها لأحضانه.
مرت الدقائق وانتظر حتى تهدأ تمامًا، بينما عمران ذهب إلى مكتب الطبيب لسؤاله عن حالتها وأدويتها والنظام الغذائي الذي من المفترض أن تسير عليه، وبالفعل علم منه إجابات كل تلك الأسئلة بعد دقائق طويلة قضاها معه ليطمئن على حالتها، والسؤال الأخير الذي خرج منه بقلقٍ بالغ هو:
هي هتبقى كويسة يا دكتور صح؟
ابتسم له الطبيب بوداعة قبل أن يرد باطمئنان: كل حاجة بإيد ربنا ونصيبنا مكتوب، متقلقش.
ونعم بالله.
تمتم بها عمران قبل أن يعود إلى الغرفة مُجددًا، فوجدها تلك المرة داخل أحضان ذكرى، لملموا أشيائهم ثم اتجهوا إلى الأسفل ومن ثَم انطلقوا بسيارتهم نحو المنزل بعد أن قضوا ساعات عصيبة للغاية.
تم نقل بدير إلى المشفى بسرعة بعد فقدانه للوعي بسبب اصتطدام رأسه بالرصيف الأسفلتي، وها هو مُسطَّح على الفراش بعد أن مرت ساعتين من وجوده في المشفى، دخل عليه ذلك الشاب المُتسبب في إصابته وعاود سؤاله للمرة الألف تقريبًا: أنت متأكدإنك كويس؟ فيه حاجة بتوجعك أروح أنادي للدكتور!
قلب بدير عيناه بملل وفتحهما مُجددًا وهو يتسائل بسخط: أنت تعرف أمي!
نعم!
تسائل بها الشاب باستغراب، ليُجيبه بدير بنفس النبرة الضاجرة وهو يضع يده على رأسه بإنهاك: أصل أنت زنان أوي بصراحة، ومن واجبك عليا إنك تخليني أرتاح وتسيبني وتحل عن دماغي بقى عشان أنت صدعتني.
رمقه الشاب باستنكارٍ ساخط وهو يلوي شفتيه بضيق، ثم أردف بقنوط: أنا غلطان، وبعدين أنت المفروض تشكرني عشان مُهتم بيك.
حدجه بدير بتشنج وهو يُعيد جُملته الأخيرة بسخط شديد: أشكرك؟ دا أنت السبب في اللي حصلي!
وأنت اللي كسرتلي إزاز العربية!
ما عشان أنت خابطني!
أنت اللي ظهرت قدامي فجأة!
قصدك أنت اللي كنت سرحان!
كلاهما يُعاند الآخر بقوة شديدة، لا يهتمان بالمكان ولا بالسبب الموجودان من أجله، همهم الكامل في تلفيق التهمة للآخر دون جعل أنفسهم مُخطئين، نفخ الشاب بضيق ومن ثَم أردف بصوتٍ مكتوم: خلاص أنا آسف، أنا فعلًا كنت سرحان ومش مركز.
طالعه بدير بضجر في البداية، لكنه ابتسم بعد ذلك وهو يعتدل في مكانه، ثم مدَّ يده له في نية لمُصافحته وعرَّف عن ذاته قائلًا: ولا يهمك، المهم. أنا بدير هارون رضوان.
ظهرت الصدمة على وجه الآخر بطريقة أثارت استغراب بدير، ليمد الشاب يده إليه هو الآخر وقال بصوتٍ مُتقطع: وأنا لقمان طارق عاشور.
قطب الأخير جبينه بتفكير، يشك بأنه استمع إلى مثل ذلك الإسم لكنه لا يتذكر، ذاكرته خانته في تلك اللحظة ولا تسعفه، لذلك أردف بحيرة: أنا حاسس إني سمعت الاسم دا قبل كدا بس مش فاكر فين!
رفرف لقمان بأهدابه عدة مرات وهو يسترجع مشاهده وهو يدلف لغرفة مكتب أخيه بحذر أثناء وجوده بالمشفى، ظل يُقلِّب بين الأوراق ليبحث عن أي شيء يستطيع أن يُوصله إلى مكان وجود ابنتيّ خالته ويعلم الحقيقة، وبعد دقائق من البحث، وجد ورقة مطوية مُدون عليها بالخط العريض حارة هارون رضوان، لذلك كانت صدمته قوية عندما استمع إلى اسم الماكث أمامه، وكأن القدر وضعه في طريقه خصيصًا!
حاول لقمان استجماع شجاعته الهاربة وتمتم بصوتٍ واهن: أنت. أنت تعرف حاجة عن ياسمين بنت خالتي؟
لم تسعفه ذاكرته ليتذكر ياسمين بسرعة، فعاد ليتسائل بتعجب وهو يُلاحظ حالة الوهن التي تلبسته فجأة: ياسمين مين؟
ياسمين أو تسنيم الاتنين ولاد خالتي، تعرف عنه حاجة!
وعلى الفور علم بدير مقصده، هو يقصد تسنيم الساكنة قلبه قبل منطقته! لذلك هز رأسه مُجيبًا إياه:
أيوا ساكنين عندنا في الحارة، بس. بس أنت.
قطع حديثه شاهقًا بصدمة ومن ثم تحدث بذهول: أنت ابن طارق عاشور وأخو حسن عاشور!
نطق بها بمزيجٍ من عدم التصديق والدهشة، ليضحك لقمان ساخرًا وهو يقول بصوتٍ مُمتليء بالمرارة: ماشاء الله! دا شكل اسمهم أسرع من النار على العلم وأنا آخر مَن يعلم!
تجاهل بدير حديثه وعاد ليسأله مُجددًا: أنت عايز منهم إيه؟ أخوكاللي باعتك مش كدا؟
غامت عيناه بالحزن وهو يهز رأسه بالنفي وقال: محدش عارف إني عرفت مكانهم، أنا بدوَّر عليهم عشان أعرف منهم الحقيقة، عايز أعرف إيه اللي حصل بينهن وصلهم لكدا!
مطَّ بدير شفتيه بضيق مُتمتمًا: اممم شكلك طيب وأنا صدقتك.
يعني هتوديني ليهم!
نطق بها لقمان بلهفة، ليوميء له بدير بالإيجاب قائلًا وهو يُطالعه بنظراتٍ حَذرة: ماشي، بس نخلص ورق المستشفى وبعد كدا نروح، إما نشوف أخرتها معاك يا صغير!
أنا مش صغير!
زمجر بها لُقمان بضيق، ليضحك بدير بخفة ساخرًا: ماشي يا صغير.
أنا مش عايز أسافر، أنا عايز أفضل مع البت أم عيون خُضار المحشي!
تمتم بها رأفت بسخط وهو يَسير بجانب رائف الواجم، ليلتفت له الأخير مُتمتمًا بعصبية: بقولك إيه يا رأفت أنا مش فاضي لسخافة أهلك، أنا فيا اللي مكفيني!
طريقته تلك لم تُعجِب الماكث أمامه، لذلك هتف بدوره بعصبية مُماثلة له: اتكلم عِدل يا رائف أحسنلك! أنا من إمبارح وأنا مقدَّر عصبيتك بسبب اللي حصل مع مراتك، لكن أنت بتسوق فيها وبتقل أدبك أكتر من الأول.
رفع رائف عيناه له يُطالعه بغضب، ليرى عيناي رأفت لا تقل عن غضب خاصته، لذلك هتف بضيقٍ وهو يرحل من أمامه: ماشي يا رأفت اعمل اللي يريحك، أنا رايح أجيب نرجس وهنسافر تاني.
قالها ثم رحل من أمامه تاركًا إياه يُطالع أثره بضيق، جزء منه غاضب من أسلوبه في الحديث معه، والجزء الآخر يعذره، خاصةً وأن ليلة أمس كانت عصيبة عليه بكل ما تعنيه الكلمة، وذلك عندما حاولت فتحية زوجة والد نرجس أن تقتلها، كان الأمر مهولًا على عقليهما ليستوعباه عندما دخلا المنزل ووجدا فتحية تنقض على نرجس في محاولة لقتلها بسكين حادٍ، وأمامه تقف نرجس ويداها تحيلان بينها وبين السكين الذي تُوجهه إليها، وحينما يأست منها الأخرى دفعتها بكل قوتها على الأرض الصلبة حتى اصطدمت بها بعنف، ثم رفعت يدها الحاملة للسكين بكل قوتها وكادت أن تهبط بها لتغرزها في جسدها، حتى شعرت بيدٍ صلبة تضغط على يدها بقوة كادت أن تكسرها، ونظرات رائف الحارقة تُصيبها بسهامٍ سامة.
الأمر الذي لم يستغرق من رائف أقل من ثانية ليعكس الوضع تمامًا، وذلك عندما انتشل منها السكين بقوة ووضعه على رقبتها الظاهرة بسخاء، ثم ضغط به على عنقها وهمس بفحيح: ها بقى قوليلي، تحبي تموتي مدبوحة ولا مغزوزة؟
اتسعت عيني فتحية برعبٍ جَم وهي تُلاحظ نظرات رائف المُرعبة التي يرميها إليها، ومن ثَم همست اسمه بفزع: را. رائف؟
لم تكن تعلم بوجوده، فقد ظنت أن نرجس أتت وحدها للإطمئنان على والدها، لم يأتي بخاطرها بأنه يجلس مع أبناء الحاج هارون من أجل عقد قران ابنه، لذلك قررت انتهاز الفرصة والتخلص منها قبل أن يأتي والدها غير واضعة بحُسبانها عن وجود رائف، ابتلعت ريقها بعدم تصديق عندما همس لها بشر:
آه رائف، رائف يا فتحية اللي هيخلي حياتك سودة من النهاردة.
وبعد جُملته تلك، قام باستدعاء قوات الشرطة والإبلاغ عنها بتهمة قتل زوجته، وساعده في ذلك كُلًا من مصعب وحمزة اللذان شهدا على سوء معمالة فتحية ل نرجس وكرهها لها طيلة حياتها، وشهادة ضابطان ضدها تعني كارثة بالمعنى الحرفي، لذلك هي ستأخذ عقابها الذي تستحقه.
استفاق رأفت من شروده عندما اصطدم بجسد ضئيل أمامه، تأوه بخفة لكن ابتسامته قد اتسعت تدريجيًا عندما وقعت عيناه على خضار المحشي كما يُلقبها! لذلك هتف اسمها بدهشة سعيدة:
محاسن؟
تشنج وجه ياسمين ونفخت بضجر أثناء تعديلها لاسمها الذي شوهه هذا المُغفل: اسمي ياسمين يا بني آدم أنت!
تجاهل حديثها هذا وأردف بسعادة طاغية: على فكرة أنا كنت حاسس إني هشوفك، معرفش إن ربنا بيحبني كدا.
افتر ثُغرها عن ابتسامة مُتهكمة قائلة بسخرية: ألف سلامة عليك يا عسل، إوعى بقى خليني أمشي مش ناقصة عطلة!
وكعادته تجاهل الجزء الذي لا يرغبه في الحديث وركَّز على كلمتها التي وجدت صداها داخل فؤاده: عسل؟ أنا عسل!
طالعته بعدم تصديق قبل أن تضحك ضحكة حقيقية تلك المرة وهي تهز رأسها بيأس: يابني أنت عايز مني إيه؟ من ساعة ما شوفتك وأنت ماشي ورايا في كل حِتة!
دلك رأفت مؤخرة عنقه بحرج وتمتم بكلمات غير مُتناسقة: كنت عايز أشوفك بجد، أنا مسافر البلد النهاردة ويمكن ماجيش هنا تاني، فحبيت أودعك.
ابتسمت بخفة وعادت لتتسائل: إشمعنى أنا؟
كانت تظن بأنه سيتفوه بكلماتٍ تُرضي غرورها كأنثى، لكن كلماته التي صعدت بعد ذلك جعلتها تتجمد في مكانها وإمارات الذهول ارتسمت بجدارة على وجهها: لأ مش أنتِ لوحدك، أنا كمان سلمت على آية، ومريم، ومديحة، وبسمة، وساندي وريهام، كلكم هتوحشوني.
دفعته من صدره بقوة وصرخت به قبل أن تلتهم الأرض سيرًا من شدة غضبها: تصدق وتؤمن بالله أنا غلطانة إني وقفت مع واحد زيك! غور من خِلقتي.
تابع رحيلها بتعجب شديد وبعد أن اختفت من أمامه همس باستغراب: هو أنا قولت حاجة غلط ولا إيه؟
كابوس، أصبح حاضرها عبارة عن كابوسٍ تُعايشه بكل جوارحها، تتمنى لو تنام وتستيقظ فتجده قد انتهى لترتاح، ليلة قررت بها الابتعاد عن ضيق معيشتها فوجدت قدمها تجتز في الرمال أكثر ترفض بطريقة غير مُباشرة رحيلها، لتزداد مُعاناتها أكثر فأكثر، لكن الفارق الوحيد أن تلك المُعاناة تُشاركها بها عائلتها أيضًا!
فتحت بدور عيناها وظلت لفترة لا بأس بها تتطلع لسقف الغُرفة بشرود، وطوال فترة صمتها. يظل سؤال واحد يدور داخل عقلها، هل ستجد جبرًا يُضمد كسرها؟ وهُنا صدح صوت آذان العصر مُنتشرًا في الأرجاء!
اللهُ أكبر على سترنا الذي اكتمل رغم مصابنا، اللهُ أكبر على تخطينا رغم كسرنا، الله أكبر على ندبة موشومة بأفئدتنا، اللهُ أكبر على حُزنٍ بات فرحًا بإذنكَ، الله أكبر على حياة هادئة مُستكينة، اللهُ أكبر على نعمتك السخية الكريمة.
الأذان جاء ليُبدد حُزنًا ليس بفاعله، في كل مرة نغرق بها نجد الرحمن ينجدنا بعطائه، وينقذنا برُحماته، ألا يستحق الشُكر بعد كل هذا؟ قررت بدور أن تُنفض كل الأفكار السلبية جانبًا في تلك الأثناء واتجهت نحو المرحاض لتتوضأ وتُصلي فريضتها، انتهت من أداء صلاتها ورفعت كفيها أمام وجهها في وضع الدعاء، وظلت تدعو مِرارًا وتكرارًا بما يجيش به صدرها، تبكي بلوعة تارةً، وبتضرع وخشوعٍ تارة أخرى، وأمام إلحاحها هذا، وهبها مولاها السكون والطمأنينة.
وقفت في مكانها ووضعت سجادة الصلاة جانبًا، ومن ثَم اتجهت إلى هاتفها لتتفحصه قليلًا، فجذب انتباهها اسم إلياس الذي يطلب منها مُقابلته، لن تُنكر تلك الرعشة الطفيفة التي سرت بين أوردتها جِراء رؤيتها لاسمه مُدون على الشاشة، وبالرغم من ذلك فإنها أجابته بثباتٍ وأرسلت:
هقابلك فين وليه؟
وعلى الجانب الآخر. كان هو قد استقر مُتمددًا على فراشه بعد أن اطمئن على شقيقته وجعلها تجلس مع زوجها قليلًا، أمسك بهاتفه وقرأ ما أرسلته بعينيه التي ابتسمت قبل شفتيه قبل أن يرد عليها بمزاح: أكيد مش هقابلك في ديسكو، أنا راجل محترم ومن عيلة متحفظة.
ماشي يا راجل يا محترم، قول عايز إيه بقى.
لم يرى ابتسامتها على الجانب الآخر، لكنه استشعرها بحدسه وأجابها برسالته الأخيرة: مش هينفع كلام على التليفون، لو فاضية دلوقتي انزلي وهاتي أخوكِ بادر معاكِ لو عايزة، الموضوع ضروري بجد.
وما كادت أن تستفسر أكثر، حتى وجدت اتصاله قد انقطع، مطت شفتيها بحيرة وهي تُفكر بعمق عن سبب طلبه لها وبذلك التعجل، نفضت كل تلك الأفكار جانبًا واتجهت نحو خزانتها لارتداء عبائتها السوداء ووشاح من نفس اللون، اللون المُلائم لمثل تلك الأحداث المُعاصرة لها الآن، اتجهت إلى غرفة أخيها بادر الذي جاء لتوه من المدرسة، طالعها باستغراب ثوانٍ ما تحول لهلع وهو يتسائل عن تلك الكدمة الطبوعة على وجهها:.
إيه اللي على وشك دا؟ مين اللي عمل فيكِ كدا؟
أخفت حزنها ولمعة عيناها المُنكسرة ببراعة، وبعجالة أردفت وهي تجذبه عنوة معها: مش وقته يا بادر، تعالى معايا بسرعة عشان إلياس عايز يقابلنا.
قطب جبينه بتعجب وتسائل وهو يُسايرها: إلياس عايزنا ليه؟ وجاب رقمك منين أصلًا؟
تجاهلت سؤاله الثاني بارتباك وأجابته على أول حديثه: معرفش، هو قالي إنه عايز يقابلني أنا وأنت في موضوع ضروري.
كانا قد وصلا إلى مدخل المنزل الخاص ب إلياس، وجدا البوابة الكبيرة مفتوحة فدخلا معًا ليجدا إلياس في انتظارهما، حياه بادر بعناقٍ قصير ومن ثم تسائل بحذر: موضوع إيه دا اللي عايزنا فيه ضروري كدا؟
نقل إلياس أنظاره بينه وبين بدور ببرودة أعصاب جعلت بادر يُصيح به بحنق: ما تنطق يا إلياس دا أنت تنح!
ضحك إلياس بخفة مُستمتعًا بما يفعل، ثم وضَّح لهم سبب جلبهم إلى هُنا: بعد شهر كامل قضيته وأنا بدور ورا عادل، قدرت اخترق تليفونه وأمسح كل الفيديوهات اللي عنده.
صرخت بدور بعدم تصديق والسعادة تتراقص داخل مقلتيها: بجد؟
ضحك وهو يُوميء لها بابتسامة لم تكن عادية بالمرة: أيوا بجد، أنا أصلًا مسحت الفيديو من عنده بعد يومين لما جيتي واشتكيتي ليا على طول، بس كنت شاكك إنه يكون عنده نسخ تانية، علشان كدا هكرت تليفونه كله وأكونتات فيسبوك وجوجل واكتشفت فعلًا إنه باعت الفيديو لكام واحد من صحابه عشان لو ضاع من عنده، دا غير الأكونتات الكتير جدًا اللي عاملها عشان يحافظ على الفيديو.
حديثه كان صادمًا ومُفرحًا في الوقت ذاته، كيف يتقبل رجل ذو نخوة أن يُرسل مقاطع من علاقته مع زوجته ويُشاركها مع أصدقائه؟ كيف استطاع أن يكون ديوثًا إلى تلك الدرجة؟ هبطت دموع بدور ما بين قهرة وسعادة، هي كانت متزوجة لحيوان حقير وليس رجُل، ذلك الذي تحددت به والدها وأخواتها لتتزوجه، ها هو يضرب بكل تضحياتها عرض الحائط ويُنقص من شرفها، بل ويُهددها به!
شعرت بذراع أخيها بادر يضمها إليه وكأنه يخفيها عن الجميع، بينما نظرات إلياس المُشفقة ظلت مُثبتة عليها، تلك المُضغة الصغيرة الموجودة يسار صدره تطرق لها ومن أجلها فقط، جذبت انتباهه منذ أن رآها، تعلق بها حينما أصبحت صديقة لشقيقاته، أحبها حينما نبض الفؤاد لها، وتألم بعدما علم بزواجها! عدة مشاعر تناقلت في فترة قصيرة لكنه يتذكر أصغرهن، كم ود لو كان محل بادر ليُعانقها عناقًا ستنسى من خلاله الآلام، لكن مهلًا. فالفرصة قادمة له، وهو سيستغلها بشراسة!
ابن ال. وقسمًا بالله ما هسيبه ودمعتك دي ما هتنشف غير لما تسمعي خبر يشفي غليلك منه.
وهُنا تحدث إلياس بتوعد واعدًا إياها بقوة هو الآخر. : حقك هيجي صدقيني، وسُمعته هتبقى على كل لسان وبكرا تشوفي.
خرجت بدور من أحضان شقيقها وهمست بصوتٍ مبحوح: أنا مش عايزة منه حاجة، أنا عايزة أتطلق وأخلص منه بس من غير ما يذلني بحاجة تاني.
نبرتها المقهورة التي كانت تتحدث بها جعلت أعيُن الرجال تقدح شررًا حارقًا، يكاد الاثنان أن يُقسمان بأن يُذيقا زوجها الحقير من نفس كأس القهر والهلع الذي أذاقها إياه، لكن مهلًا! لم يكن إلياس وبادر هما الرجلان الوحيدان اللذان استمعا إلى الحديث، وإنما عمران أيضًا الذي استمع لكامل حديثهم عِند خروجه من المنزل بعد أن نامت جنة لترتاح قليلًا، لذلك تقدم منهم على مهلٍ وتسائل بشر:
إيه الكلام اللي أنا سامعه دا؟
شهقت بدور بفزع وهي تُطالع عمران الذي يُثبت أنظاره عليها، فيما وقف بادر أمامها وتحدث بصوتٍ جعله ثابتًا قدر الإمكان: مش وقته الكلام دا يا عمران، أنا هفهمك كل حاجة بس بعدين.
وبدون أن يرد عليه الأخير، دفعه جانبًا ليقف مُقابلًا لشقيقته التي تُطالعه برعب، وبتلعثم تحدثت وهي على وشك البكاء: والله. والله يا ع. عمران أنا ماكنتش ع...
قاطع إكمالها لحديثها مُمسكًا إياها بعنفٍ من معصمها، ثم تمتم بغضب سافر أمام وجهها قبل أن يسحبها معه نحو المنزل: هتحكيلي كل حاجة. كل حاجة من الأول يا بدور بدل ما أطين عيشتك.
وبالفعل أخذها عنوة إلى منزلهم، فهرول إلياس خلفه حتى يمنعه من أي فعل متهور قد يقوم به أثناء نوبة غضبه، لكن بادر أمسك به من ذراعه يمنعه قائلًا باطمئنان: متخافش عليها من عمران، بس خاف على عادل منه بعد ما تحكيله بقى.
وأنا هخاف على عادل ليه! يا شيخ ربنا ياخده.
ضحك بادر بخفة ومن ثم ابتسم له بامتنان قبل أن يشكره بود حقيقي: أنا مش عارف أشكرك إزاي يا إلياس بجد على اللي أنت عملته معانا!
أحاط به إلياس من كتفه بمرح مُجيبًا إياه بمزاح وكلماتٍ ذات مغزى: ما تقولش كدا يا جدع إحنا أهل، يعني أمك هي أمي، أبوك هو أبويا، إخواتك هما إخواتي، وأختك هي مراتي!
كان بادر يستمع إلى حديثه بابتسامة مُمتنة، حتى جاء عند جُملته الأخيرة وجعد وجهه باستنكار وقال: إيه!
تهرب إلياس من الإجابة بمراوغة وتشدق بصوت عالٍ: أيوا يا ماما جاي. عن إذنك يا بادر هروح أشوف أمي عايزة إيه، وأنت عارف طبعًا إن البيت بيتك، سلام
تفوه بحديثه ثم هرول من أمامه ضاحكًا، تاركًا بادر ينظر لأثره باستغراب شديد!
اللحظة الأصعب بعد الابتعاد هي المواجهة، وهذا ما شعر به لقمان أثناء وقوفه أمام باب المنزل القاطن به ابنتي خالته، طرق بدير جرس المنزل مُجددًا عندما طال الإنتظار، فلم تمر سوى ثوانٍ معدودة وفُتِح الباب لتظهر من خلفه تسنيم التي شهقت بمُفاجئة عقب رؤيتها ل لقمان!
لربما في موقف غير هذا كان سيذهب إليها ليُعانقها باشتياق كما اعتاد معها منذ الصغر، لكن الآن هو يشعر بالخجل من خطايا عائلته، فلم يُبدي أي خطوة تجاهها وكأنه تصنم مكانه! على عكس تسنيم التي تخلت عن صدمتها واتجهت إليه بسرعة لتُعانقه، أخذ منه الأمر ثوانٍ حتى يُبادلها العناق بقوة أشد، ورغم أنه لا يصغرها بالكثير من الأعوام، إلا أنه يشعر تجاهها بمشاعر أمومية صادقة افتقدها بعد وفاة والدته، أخرجته تسنيم من أحضانه وسألته بلهفة أثناء مُحاوطتها لوجهه:.
لقمان؟ عامل إيه يا حبيبي؟ وحشتني أوي.
ليُجيبها هو الآخر بتأثر وهو يُحاول كبح دموعه: وأنتِ كمان وحشتيني أوي، فين ياسمين؟
مسحت دموعها بسرعة ضاحكة وهي تجذبه معها للداخل: ياسمين جوا، هتفرح أوي لما تشوفك.
أنهت حديثها معه مُنادية على شقيقتها بصوتٍ عالٍ جعلها تأتي مُهرولة بتعجب، وما إن رأت مَن يقف أمامها حتى صرخت بعدم تصديق، ولم تنتظر لثانية أخرى قبل أن تنطلق إليه وتُعانقه بقوة شديدة، ضحكت تسنيم بتأثر وهي تُطالعهما بسعادة طاغية، ثلاثتهم نسوا الأماكن والأسباب التي أدت إلى تلك الحالة، وجمعهم الحب فقط.
تركتهم تسنيم معًا واتجهت نحو بدير الذي ظل واقفًا بالخارج احترامًا لخصوصيتهم معًا، وكأنها رأت جُرح رأسها لتوها، فشهقت بجزع وهي تسأله بصراخ أفزعه: يا نهار أبيض! أنت إيه اللي بطحك على دماغك كدا!
طالعها بدير ساخرًا وقال بضحك: بطحك! أنتِ قعدتك في الحارة عكست على ملافظك؟
وكأنها استوعبت ما قالته فردت عليه ضاحكة: آه صحيح إيه اللي أنا بقوله دا! المهم بجد، إيه اللي عمل فيك كدا؟
أجابها مُتصنعًا المسكنة: ابن عمك اللي أنتِ عمالة تحضني فيه ياختي هو اللي خبطني بالعربية.
طالعته بصدمة وهي تسأله بعدم تصديق: لقمان! إزاي؟
قصَّ لها ما حدث بإختصار سريع، فعادت بأنظارها نحو الداخل لتجد شقيقتها ومعها لقمان جالسان على الأريكة ويتسامران بحماس ظهر جليًا على تقاسيم وجه كليهما، وبعدها نظرت لجرح بدير مُجددًا وهي تُردد بأسف: ألف سلامة عليك، طيب أنت عامل إيه دلوقتي!
أنا فُل يا فُل.
قالها بمشاكسة، لتحمر وجنتيها خجلًا واكتفت بخفض رأسها للأسفل لتهرب من نظراته التي تعكس شعورًا لم ينطقه لسانه، حمحم بدير بجدية وأردف قائلًا: أنا مجيبتش ابن خالتك هنا غير لما حسيت إنه أمان مش زي أخوه، مش هجازف بحياتك وأنا عارف حسن في حياتك عبارة عن إيه.
طالعته بامتنان قائلة: لأ متقلقش من ناحية لقمان، هو أصلًا ميعرفش أي حاجة عن عيلته وبعيد عن شغلهم كله، شكرًا يا بدير.
ابتسم بخفوت وهو يُجيبها: العفو، على العموم أنا موجود دايمًا، لو عوزتي أي حاجة متتردديش.
أومأت له وهي تبتسم ابتسامة رائقة أطاحت البقية من إتزان قلبه الذي كاد أن ينخلع من مكانه، لذلك فر من أمامها هاربًا قبل أن تخونه أفعاله، راقبت ابتعاده بشجن وأعين مُلتمعة بصفاء، هي كانت تنزعج من وجوده سابقًا، وفجأةً باتت تهتم بأدق تفاصيله وأفعاله، وكأنه ألقى عليها سحرًا أو شعوذة لعينة جعلتها تتعلق به كالغارقة!
نفضت أفكارها تلك لفترة مؤقتة وعادت حيث تجلس شقيقتها مع ابن خالتها، ثم أردفت بنبرة حاسمة لا تخلو من اللين: ها قولي بقى، عرفت مكاننا هنا إزاي وجيت ليه!
وحين تميل القلوب، تُطوى الأرض وتميل حتى نلتقي.
كان بادر في طريقه للعودة إلى المنزل بعد أن ذهب ليُغلق محلات الجزارة الخاصة بهم بعد انشغال أخواته، فقابل في طريقه كُلًا من سارة ومي يسيران معًا، وجد من الوقاحة تجاهلهما لذلك ذهب ناحيتهم وعرض عليهم بتهذيب:.
كنتوا فين؟ عايزين حاجة أجيبهالكم؟
كادت سارة أن تُجيبه بالنفي شاكرة إياه، لكن سبقتها مي بقولها العفوي قائلة بضيق: بدوَّر من الصبح على اسكتش رسم ومش لاقية هنا.
نكزتها سارة في جانبها بغيظ، فيما ابتسم بادر بخفة وهو يدور بأنظاره في أرجاء الحارة وقال بأسف: مش هتلاقي طلبك هنا في المنطقة، بس أنا ممكن أخرج كمان ساعتين ولا حاجة وهجيبهالك وأنا جاي.
تعالت صيحة مي المُتحمسة قائلة: بجد هتجيبهالي؟
عفويتها تلك تُذكره بشقيقته بدور تمامًا، لذلك ضحك مُومئًا لها بالإيجاب أثناء قوله: أيوا بجد.
صمت قليلًا ثم حوَّل حديثه نحو سارة الخجلة من تصرفات شقيقتها الهوجاء ومن ثَم تسائل: وأنتِ يا أستاذة سارة مش عايزة حاجة أجيبهالك؟
هزت رأسها بالنفي شاكرة إياه بخفوت: لأ تسلم يا أستاذ بادر.
ودَّع كلتيهما على وعد بجلب ما تحتاجه مي، لكن وصلىإلى مسامعه حديث الصغيرة التي قالت لشقيقتها بحنق: مقولتيش ليه إنك عايزة كريب ليه؟ باين عليه كريم ومش بخيل وكان هيجيبلك على فكرة!
ضربتها سارة بخفة على ظهرها وهي تنهرها بضيق قائلة: تعرفي تسكتي أنتِ خالص يا مصيبة دلوقتي؟
أنا غلطانة.
تمتمت بها مي بضجر، فيما همست سارة لذاتها بعبثٍ جديد عليها كُليًا: ما هو إحنا مش هنفضل عايشين على أستاذ وأستاذة العمر كله، يارب تتلحلح يا شيخ قلبي قبل ما أنا اللي أشيخ جنبك!
صعد مروان لمنزله بعد يومٍ طويل قضاه في العمل اليوم، فقابلته شقيقته فاطمة بعد أن فتحت له باب المنزل وهمست له بخفوت: خالو جوا وقاعد مع ماما مستنيينك.
جعد مروان وجهه بسخط وتمتم مع ذاته: إيه اللي جابه دا كمان، هي ناقصاه!
سار إلى الداخل مع شقيقته، وحيى خاله ناصر الذي أتى من البلدة لتوه، كان يعلم أن وراء مجيئه أمر ما، وتأكد حدسه عندما أردف بنبرة مُلتوية: أظن إن والدك رحمة الله عليه مر على وفاته كتير، وأظن برضه إن الست والدتك استنت كتير هي كمان.
استنت كتير على إيه مش فاهم؟
تبادل كُلًا من ناصر و بثينة النظرات للحظات، قبل أن يُظهِر ناصر عن سبب مجيئه الحقيقي: على الوِرث.
لا تتهاون بذكاء مَن أمامك، فمن المُمكن أن تحترق بنيران ظنك!
دلف مصعب إلى مكتب العميد وجلس بعد أن بسط كفه بجانب رأسه ليؤدي تحيته، قبل أن يجلس أمامه على المقعد المُقابل لمكتبه بعد أن استدعاه لهُنا، انتظر مصعب لهُوينة قبل أن يبدأ العميد حديثه بقوله المُبجل حتى يكسب ثقته من جديد:
أنا باعتلك أنت لوحدك بالذات عشان عارف إنك عاقل عن حمزة وبتحسبها ألف مرة قبل ما تاخد أي قرار.
كان يظن بأنه بهذا الحديث يجلبه لصفه، لكن هذا انعكس بالسلب عندما تحدث مصعب بصوتٍ حازم أرسل للآخر رسالة خفية غير منطوقة: مفيش حد فينا أحسن من التاني، أنا وهو بنكمل بعض وعشان كدا كل مُهماتنا ناجحة يا سيادة العميد.
سارع العميد يُوافقه بقوله: طبعًا يا حضرة الظابط، المهم أنا عايزك في موضوع مهم.
وتلك المرة انتبه له مصعب وأعطاه اهتمامه بأكمله، فبدأ العميد يخبره بجدية: طبعًا أنت عارف إن في العمليتين اللي حاولنا فيهم نقبض على طارق عاشور وحسن عاشور وندينهم بالأدلة كان فيه واحد مُقنع ملامح وشه مخفية كان بيصطاد رجالته، أنا عايزك توصل للمُقنع دا في أسرع وقت.
تعجب مصعب من طلبه وتسائل باستغراب: مش المفروض المُقنع دا تبع الشرطة؟ هعرفه أنا منين!
هز العميد رأسه نفيًا قائلًا: لأ مش تبع الشرطة، إحنا أصلًا مبعتناش أي حد يخوفهم، الراجل دا وراه سر ولازم نوصله، ومش بعيد يكون تبع جماعة الإرهاب المنتشرين اليومين دول.
مطَّ مصعب شفتيه بتفكير عميق وشرد بصره في نقطة ما في الفراغ، مرت لحظات وبعدها رفع أنظاره نحو العميد الذي ينتظر إجابته بترقب ومن ثَم قال: تمام يا فندم، هحاول بكل جهدي أوصل للراجل دا وبإذن الله مقضية.
ابتسم له العميد بفخر فاستأذن منه مصعب بجدية للذهاب، وفور خروجه من غرفة مكتبه، تحولت تقاسيم وجهه الجادة إلى أخرى عابثة وهو يهمس لذاته بمكر:
بتطلب من المُقنع إنه يدوَّر على نفسه؟ طب واللهِ عيب.
تراقصت ابتسامة جانبية على شفتيه وهو يتذكر أدائه للمهمتين في دور المُقنع الخفي، ذلك الذي يبحث عنه الجميع بكل جهودهم حتى يصلوا إليه، وكيف لا وهو يُسبب لهم الذُعر في كل عملية تُقام بينهم!
انمحت ابتسامته فجأة عندما ظهرت أمامه من اللاشيء روان التي هتفت بابتسامة واسعة: مصعب باشا! إحساسك إيه وأنت مفضوح؟
لم يكن سؤالًا عابرًا، بل كان سؤالًا تقصده بالمعنى الحرفي، وذلك عندما وجد جميع كاميرات الصحفيين مُوجهة إليه مُباشرةً!
يعقوب؟
همهم يعقوب بخفوت وهو يستند بظهره على الوسائد الموضوعة الموضوعة بالشُرفة الواسعة، بينما هي كانت تستند برأسها على صدره براحة، فقالت بنعاس: احكيلي حدوتة.
لم تستمع سوى لضحكته الخافتة وبعدها صمت، لترفع أنظارها إليه تطلب بإلحاح: احكيلي حدوتة.
مال على وجهها يُداعب أنفها بأنفه بحركة مُشاكسة وهو يقول: بس بشرط.
شرط إيه؟
قالتها، ليُجيبها بإصرار: حِبيني.
شددت من عناقه وهي تستجيب له: حاضر. بس احكيلي يلا.
غرز أصابع يده بين خصلاتها في حركة باتت مُعتمدة بينهما، ومن ثَم سألها: أحكيلك حدوتة السبع معيز؟
ضحكت عاليًا وهي تسأله: إشمعنى دي بالذات!
رد عليها ضاحكًا هو الآخر: أبويا كان دايمًا بيحكيها لينا عشان بيشبهنا بيهم.
تعالت ضحكاتها بانطلاق وبعدها قالت: خلاص ماشي إحكيهالي.
وبالفعل بدأ يعقوب بسرد القصة الخيالية لها وهو يبتسم بشجن لتذكره ذكريات طفولته الرائقة: كان يا مكان، يا سعد يا إكرام، ما يحلى الكلام، إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام.
عليه الصلاة والسلام.
تمتمت بها ذكرى بخفوت، فعاد يعقوب ليستطرد سرد قصته: كان فيه مرة معزة مخلفة سبع معيز وأبوهم ميت، ف في يوم الأم كانت رايحة السوق عشان تشتري حاجات البيت، فقالتلهم محدش يخرج من البيت أو يفتح الباب أحسن الديب ياكلكوا، وفعلًا سمعوا كلامها وبعد ما مشيت سمعوا الباب بيخبط، المعزة الكبيرة بصت لإخواتها الصغيرين وقالتلهم محدش يفتح دا أكيد الديب، الجرس فِضل يرن مرة واتنين وتلاتة لحد ما راحت ووقفت وراه وقالت مين؟ الديب قلد صوت مامتها وقال أنا مامتكم افتحوا الباب، أمهم المعزة كانت قايلالهم على كلمة سِر، فالمعزة الكبيرة سألته وقالتله إيه هي كلمة السر! قام الديب جاوبها وقالها ياللي حبيبك قاسي وسابك ويا عذابك؟ قاموا كلهم ردوا في صوت واحد وقالوا آااه، ومن هنا عرفوا إن هي أمهم، وفعلًا فتحوا بس اتفاجئوا إن اللي قدامهم هو الديب اللي خدعهم مش أمهم، كل معزة فيهم جريت في ناحية عشان تستخبى فيها، لكن للأسف الديب لقاهم وكلهم كلهم، الأم لما جت من برا لقت الباب مفتوح فاتخضت ودخلت بسرعة، لقت إن الديب موجود في البيت وتخين أوي، هو طبعًا خاف منها وحاول يجري عشان ينط من الشباك، الأم جريت على المطبخ عشان تجيب السكينة، وبعدها جريت وراه عشان تمسكه، هو ماكنش عارف يجري بسبب المعيز الكتير اللي هو كالها، وفعلًا مسكته قتلته وفتحت بطنه عشان تخرَّج ولادها المعيز من بطنه، وبكدا المعزة الأم لمت ولادها حواليها من تاني وعاشوا في تبات ونبات.
كان يشعر بتفاعلها معه أثناء قصّه لحكايته، وما إن أنهى قصته شعر بانتظام أنفاسها، هبط على جبينها يُقبله بحنانٍ وشجن، قبل أن يحملها بين ذراعيه ويتجه بها نحو الغرفة ليضعها على الفراش، طالعها بحبٍ يتزايد بعد كل ثانية يقضياها معًا، تلك التي أزهرت فؤاده وروته بعد أعوامًا كثيرة كان مُتعطشًا بها للحنان.
وما إن اعتدل استمع إلى صوت رنين هاتفه الذي التقطه على الفور حتى لا يُزعجها، وأجاب بهدوء: سلام عليكم.
وعليك السلام، يعقوب هارون رضوان معايا؟
قطب يعقوب جبينه بحذر وهو يُجيبه: أيوا أنا، مين معايا.
لتأتيه الإجابة صادمة من الطرف الآخر: أنا فادي الجداوي ابن عم ذكرى مراتك.
بينهما الألاف من الأميال، لكن روح الكُره والتحدي اشتعلت بين الاثنين لاإراديًا، فادي يتصل به؟ لكن لِمَ؟ ماذا يُريد منه؟ يبدو أن وقت انكشاف الحقائق قد آن!