رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن والعشرون
تلك اللحظات. التي نظن بها أن السعادة دائمة، ما هي إلا لحظات ساذجة تتيقن بعدها أن الحزن هو المُلائم لك، والفرحة لم تكن سوى ضيف شرف خفيف جاء لزيارتك!
خرج مروان من المنزل بأكمله بعد أن اشتد العِراك بينه وبين والدته وخاله بقوة، وذلك بعد أن صرَّح لهم بكتابة أبيه لكل أملاكه له وحده، وقف في مكانٍ هاديء يسير به عدد قليل للغاية من المارة وشرد نظره في الفراغ ليستعيد الدقائق السابقة التي مرت عليه منذ قليل.
عودة إلى الماضي.
آخر ما توقعه مروان هو قدوم خاله إلى هُنا بنفسه ليُطالب بإرث والدته، يبدو أن شقيق أبيه كان معه كامل الحق حينما أخبره بطمع أخوات والدته في ميراث والده الراحل، والآن تيقن من صحة حديثه بعد أن رأى نظرات الجشع والطمع مُرتسمة بوضوح داخل مقلتيه، انتقل مروان ببصره بين والدته بُثينة وشقيقها جميل ثم مط شفتيه للأمام بعدم رضا من حديثه، وذلك قبل أن يُفجر قُنبلته في وجه كليهما: وِرث إيه! أمي ملهاش حاجة من الورث.
انتفض جميل من مجلسه فيما فعلت بُثينة المثل والتي هتفت بدورها بصراخٍ مُهتاج: إيه الجنان اللي أنت بتقوله دا؟ يعني إيه مليش ورث؟
لن يُنكر صدمته بثورة غضبها العارمة تلك، نعم لقد توقع ضيقها، لم انفجارها هذا أدهشه وبشدة! سحب نفسًا عميقًا من داخل رئتيه ثم زفره على مهل قبل أن يشرح لها بتمهل: يعني بابا كتب كل حاجة باسمي أنا، ومكتبش ليكِ أي حاجة.
وكأن ضربة قوية هبطت من السماء فوق رأسها لتُزلزل الأرض الثابتة أسفل قدمها، شعرت بُثينة بالدوار يجتاحها وهي تنظر لشقيقها بعدم تصديق وكأنها تستنجده! فيما تقدم جميل خطوتين من مروان حتى وقف أمامه وتمتم بحدة: إزاي يعني أبوك كتب كل حاجة باسمك؟ طب أمك وأختك حقهم ونصيبهم فين من كل دا؟ هو دا عدل ربنا اللي أبوك كان بيدرسه في الأزهر وقارفنا بيه طول حياته؟
تصبغت عيني مروان بالغضب الحارق من إهانة خاله لأبيه المُتوفي بتلك الطريقة البشعة، وأمام مَن؟ أمام والدته التي لم تتزحزح لخطوة واحدة أو تُدافع عن زوجها، بل وشقيقته أيضًا التي تتغضن جبينها بضيقٍ جِراء ما تسمع وما يحدث، وأمام الخطوتين اقترب هو واحدة حتى وقف قبالة خاله مُباشرةً، ونظر داخل عينيه بكل تحدٍ هاتفًا بقوة: صدقني يا خالي كلمة كمان عن أبويا الله يرحمه وهنسى أنت مين وكلامي هيزعلك مني أوي.
إلتوت شفتي جميل بضحكة ساخرة ونظر ل بُثينة بنصف عينٍ هاتفًا بتهكم: يا زين ما ربيتي يا بثينة ياختي، ابنك واقف قدامي وبيعلي صوته عليا، كِبر ابن...
ليتحداه مروان بقوة أشد: وهعلي صوتي أكتر يا خالي لو جبت سيرة أبويا تاني، أبويا مربانيش عشان لما يموت وحد يغلط فيه أنا أسكتله.
لم تُبالي بُثينة بكل تلك التفاهات من وجهة نظرها، بل اتجهت نحو مروان بسرعة جاذبة إياه من ذراعه ليستدير لها وتسائلت بأعين تقدح شررًا: أبوك كتبلك أملاكه كلها ليه! هو دا شرع ربنا!
نصيبك أنتِ وأختي هيفضل موجود ومحفوظ لآخر نفس في عمري، أبويا معملش كدا لوحده، بس كان عنده أسباب كنت شايفها تافهة...
علَّق جُملته ثم نظر لخاله وابتسم مُكملًا حديثه بسخرية: بس دلوقتي عرفت هو عمل كدا ليه.
ظهر غيظ جميل وغضبه من خلال ضغطه على فكه الذي انقبض بقوة، ثم استدار نحو شقيقته مُتحدثًا بغضب: أنا ماشي يا بثينة، ولما تبقي تظبطي حالك وأمورك وتجيبي الفلوس اللي عليكِ ف رقمي معاكِ.
تشدق بحديثه دُفعةً واحدة ثم رحل وغادر تاركًا الجو مشحونًا بطاقة عالية من الغضب، بينما مروان زوى ما بين حاجبيه بتعجب مُتحدثًا وهو يُثبت أنظاره على والدته: فلوس إيه اللي خالي بيتكلم عليها دي!
لا يعلم أيُظهِر صدمته بسبب ترك والدته له دون أن تُجيبه، أم بسبب نظرة الكُره التي وجدها تطوف داخل مقلتاها؟ استدار بوجهه جهة فاطمة، فوجدها تُطالعه بسخط قبل أن تفعل مثل والدتها وتتركه وتغادر!
عودة إلى الوقت الحاضر.
استفاق مروان من شروده على صوت رنين هاتفه الذي لم يصمت عن إزعاجه منذ أن أتى، نظر لشاشته وزفر بتعب حينما رأى أن المُتصل لم يكن سوى رحمة ابنة عمه، والتي بالتأكيد رأته بحالة مُزرية عِند خروجه لذلك تُلِّح في مُهاتفته للإطمئنان عليه، في الحقيقة لا يوجد سواها مَن يهتم لأمره إلى تلك الدرجة، حتى والدته! يبدو أن بذور كُرهها بدأت بالطفو ليراها في أشد حالاتها سوءً!
انتهى رنينها فعاد الهاتف ليرن مُجددًا لكن ليس باسمها، وإنما باسم بدير ابن عمه تلك المرة، رجَّح بأن من المُمكن رحمة هي مَن أخبرته، لكنه ليس قادرًا الآن على الحديث مع أي شخصٍ كان، لذلك فضَّل عدم الإجابة أيضًا.
لكنه استدار بذهولٍ عندما استمع إلى صوت ذكوري يأتي من خلفه يهتف به بغيظ: مبتردش على تليفونك ليه يا واطي؟
فوجيء مروان بوجود بدير أمامه مُسددًا له نظراتٍ غاضبة تخصه، ليُردد اسمه بتعجب مُتبعًا إياه بسؤاله: بدير؟ عرفت مكاني إزاي؟
رد عليه الأخير بتهكم وهو يُجاوره: قلب الأم يا حبيبي.
لكن نظراته تحولت للخبث مُصححًا حديثه الماكر: أو ممكن تقول قلب رحمة!
والآن اتضحت الرؤية كاملة له، ليضحك بخفة مُشاركًا بدير خُبثه بقوله الوقح: ربنا يخليلنا قلب رحمة وجمال رحمة ورِقة رحمة.
مصمص بدير على شفتيه بحركة شعبية دارجة بين الأحياء الريفية عادةً، ثم سأله بتهكم: وأخيرًا حسيت بيها وبحُبها ليك؟ يا شيخ دا عمي سمير القهوجي قرَّب ياخد باله وأنت حمار مبتفهمش، أنا مش عارف هي استحملتك المُدة دي كلها إزاي! واحدة غيرها كانت حبَّت تلاتة أربعة بعد لحد ما ترجع لوعيك.
تراقصت ابتسامة حانقة على شفتي مروان الذي هتف بدوره: للدرجادي كان باين إني غبي!
أوي أوي يا غبي.
تصبغت نظرات مروان بالسخط، فيما هتف بدير مُستطردًا حديثه بسؤالٍ وهو يُحيط بكتف مروان الذي ظهر على وجهه اليأس عقب سؤاله: قولي بقى إيه اللي مضايقك ومخليك تنزل على مَلى وشك زي الطور كدا!
بقولك إيه يا عسل! معاكش لبانة شيكلس نفسها تبقى سمارة؟
هتف رائف بتلك الكلمات المُبتذلة وهو يُحيط بكتف رأفت الذي كان يقف بوجومٍ شديد، ليُطالعه رأفت بطرف عينيه دون أن يُجيبه ومن ثَم دفع ذراعه بعيدًا عنه رافضًا مُحاولاته لمُصالحته بعد وقاحته معه في الحديث منذ عدة ساعات.
زفر رائف بضجر ثم وقف أمامه مُتحدثًا بسخط: أنت هتعمل فيها مراتي يالا! ما قولت خلاص كنت متعصب ومش شايف قدامي.
ربَّع رأفت ذراعيه أمام صدره ومن ثَم قال حانقًا: ما أنت لو مهتم كنت خدت بالك من تصرفاتك.
رمش رائف بأهدابه عدة مرات مُحاولًا استيعاب تلك الأحاديث والهرمونات الأنثوية التي تخرج من ابن عمه، عمَّ الصمت لثوانٍ بينهما قبل أن ينفجر كلاهما في الضحك، مال رأفت على كتف رائف ضاحكًا بقوة وهتف من بين ضحكاته: حاجات البنات دي ممتعة أوي.
أديك جربت ياخويا على قفايا، المهم لميت حاجتك عشان نمشي!
أومأ له رأفت إماءة بسيطة مما جعل رائف يقول بعجالة: تمام أوي، هروح أشوف نرجس ونيجي نمشي على طول.
كاذب مَن يقول أن الفؤاد يُحِب مرةً واحدة، وأن القلب لا ينبض إلا لواحدٍ، إنما هو يهوى مَن يُدلله تارةً، ويعشق مَن يستثنيه تارةً، ويغرق في عيونِ أحدهم تارةً، ويُحلق سابحًا بفعل كَلِمة تارةً.
نظرت زهراء إلى هاتفها المُنير باسم بدران بقلبٍ وَجِل، مَن يراها الآن يجهلها مُسبقًا، هي التي كانت تتجنب جميع الرجال عدا يعقوب، وبعد أن أُزيلت تلك الغمامة عن عينها؛ باتت لا ترى أيٍ من الرجال سوى بدران، تنهدت بحيرةٍ من أفكارها التي سأمتها في الفترة الأخيرة قبل أن تحسم أمرها وتُجيب بصوتٍ حاولت جعله ثابتًا بقدرِ الإمكان:
ألو!
جاءها صوت بدران من الجهة الأخرى يوبخها بزيف: الأستاذة اللي قالتلي عايزة أتعالج عندك واتأخرت على أول ميعاد ليها!
ابتسمت برقة وهي ترفع عيناها نحو مرائتها تُطالع هيئتها التي بدأت بالإهتمام بها، ثم ردت عليه باعتذارٍ واهٍ: خلاص أسفة أنا جاية أهو.
لو فاكرة إني ممكن أقبل إعتذارك السخيف دا فأنا فعلًا قِبلته وقاعد مستنيكِ أهو.
تمتم بآخر الحديث هائمًا مُتخيلًا إياها تجلس أمامه الآن، فيما تعالت هي ضحكاتها بانطلاق وهي تُغادر المنزل نحو عيادته التي تبعد بقدر عشرون دقيقة سيرًا عن المنزل، وتحدثت قائلة بخبث:
بس أنت قولت هتخليني مريضة نفسيًا الأول وبعد كدت هتعالجني.
أتاها جوابه ثقيلًا مُجيبًا إياها بسخرية: ومين قالك إنك مش مريضة نفسيًا!
جحظت عيناها على آخرهما ورددت قائلة بصدمة حقيقية: أنا مريضة نفسيًا بجد يا بدران؟
كلنا مرضى ومحتاجين نتعالج، حتى الدكاترة النفسيين مرضى نفسيين، العالم كله مريض.
قالها وهو يجلس مُستريحّا على مقعدة الجلدي الوثير، فأتته صافرة الإغلاق في وجهه مما جعله يُطالع الهاتف بدهشة قبل أن تنطلق ضحكاته بعدم تصديق على جنونها، تلك ال، ساحرة تقوده إلى الجنون وهو سائر خلفها بخضم إرادته! يعلم أنها هلاكه ومُنقذته، الداء والدواء بيدها هي، كما أن خلاصها قابع بيده الآن، لو قيل له بأن علاقته بها ستصل إلى هذا الحد من القُرب لاتهمه بالجنون، كان يرى بعين عاشق ملكوم مدى تعلقها ب يعقوب، وكأنها لم تكن ترى إلاه! والآن. هي تراه ك بدران وليس مُجرد محطة عابرة تنسى بها شقيقه!
استفاق من شروده فزعًا على صوت انفتاح الباب بغتةً وظهور زهراء من خلفه بملامح واجمة، ارتسمت التسلية على تقاسيم وجهه وهو يراها تُغلق الباب خلفها بعنف واقتربت من عدة خطوات حتى صاحت بعنف: بقى أنا مريضة نفسيًا يا بدران؟
وقف من مجلسه فظهر معطفه الأبيض الطبي الذي يرتديه، واقترب منها خطوتين حتى وقف قبالتها مُباشرةً، تلك هي المرة الأولى التي تُلاحظ بها فارق الطول بينهما، فلقد وصل رأسها إلى كتفه تقريبًا، استفاقت من أفكارها السخيفة عندما وجدته يغمزها بخفة أذابت القناع الجليدي على وجهها:
بقى فيه مريضة نفسيًا قمر كدا برضه!
هجومه على حصونها مُباغت وغير مسبوق بأي إنذارات، هذا المُحتال يدخل لها من ثغراتها وهي مهووسة بالتفاصيل، أسبلت جفناها خجلًا وحاولت السيطرة على انفعالاتها التي توترت بسبب حديثه العابث، استفيقي زهراء، أنتِ غاضبة منه لا تجعليه يفوز، لذلك رفعت رأسها إليه مُجددًا بثبات اصطنعته جيدًا وتحدثت بابتسامة سلبت الجزء المُتبقي من عقله:
هنبدأ النهاردة!
وببلاهة لاقت على الموقف تحدث بتيهة: نبدأ إيه!
اتسعت ابتسامتها أكثر حتى انفلتت منها ضحكة صغيرة من بين شفتيها وتمتمت قائلة: جلسات. تخليني مريضة نفسيًا وبعد كدا تعالجني!
خرجت من زفرة حارة قبل أن يُجيبها بلوعة وهو يُستدير مُعطيًا إياها ظهره: والله العظيم أنا اللي محتاج أتعالج منك.
واستدار لها فجأة مستطردًا حديثه بضيق: أنا بعاني بقالي ليالي وأنتِ السبب.
نظرتها له باتت مُختلفة، وكيف لا وهو يحمل لها كل ذلك العشق داخله! كيف لا وهو قد تحمَّل غبائها لفترة لا تعلم عددها! لو كان غيره لملَّ، لكن هو! فعشقها يزداد داخله أكثر! اقتربت منه بتوئدة وعلقت أنظارها بخاصته وردت قائلة: خلاص. يبقى تعالجني وأعالجك والشاطر هو اللي يفوز الأول!
تراقصت شفتيه بشبح ابتسامة ما بين عاشقة ويائسة، ثم أجابها بنبرة مُتحدية وهو يُشير لكُرسي الشازلونج الأسود الموضوع في أحد الجوانب: موافق. اتفضلي اقعدي.
مصعب باشا إحساسك إيه وأنت مفضوح؟
تفاجأ مصعب من ظهورها الكارثي أمامه، خاصةً وهي ترسم على شفتيها ابتسامتها الغبية تلك والتي تسبق أي مُصيبة تفتعلها في حقه!
وبالفعل لم يكذب حدسه تلك المرة أيضًا، وإنما رأى الكثير من الإعلاميين والصحفيين يُوجهون عدسات كاميراتهم إلى وجهه، حوَّل أنظاره لها بعصبية وهتف بغضب: أنتِ عملتي إيه تاني يا وش المصايب؟ يخربيت معرفتك السودة يا شيخة.
مطت روان شفتيها بضيق وهي تُجيبه: الحق عليا إني عايزة أشهرك وأفضحك في الوسط الإعلامي كله!
ولم يكد أن يُجيبها، حتى استمع إلى سؤال يصعد من أحد الصحفيين وهو يُوجه جهاز المُسجل إلى فمه: مصعب باشا هو أنت فعلًا بتعلَّم المساجين الأطفال إزاي يعملوا بوتي في الحمام بطريقة مُنظمة!
ضرب مصعب على مقدمة صدره شاهقًا بقوة قبل أن يقول بصدمة: هي وصلت للبوتي كمان!
أنهى جُملته ناظرًا إلى روان التي طالعته بفخرٍ حقيقي جعله يُراجع نفسه في فكرة الزواج منها حقًا، وزادت تلك الحمقاء فوق الطين بلة وهي تستدير لذلك الجمع الهائل من الحشود وأردفت بثقة: السجن هنا مش زي أي سجن في مصر، الظُباط شغالين على أفضل وجه وأحسن طريقة، هما مش بس بيعلموهم يعملوا بوتي، بل كمان بيعلموهم كوكي، ومش بس كدا لأ. دي بشهادات مُعتمدة كمان.
سخر مُصعب على حديثها بقوله المُتهكم: أه فعلًا. شهادات من جامعة الصرف الصحي.
كتم العسكري الذي يُجاوره ضحكته بصعوبة بعد أن انفلتت منه رغمًا عنه، هذا الوضع العابث بأكمله يُثير الضحك وبشدة، والمخبولة التي تُجاوره أضفت عليه رونقًا مُضحكًا بعد أن قالت وهي تُطالعه بنظرة أم فخورة بطفلها:
بسم الله ما شاء الله، ربنا يحميك يابني يارب.
نفخ مصعب بنفاذِ صبرٍ وجُرعة غضبه بدأت بالتزايد، نظر للعسكري بجانبه ثم صاح به بعصبية: فُض المولد دا يا متولي ومحدش يدخل عليا المكتب حتى لو سمعت صوت ضرب نار.
هتف بها ثم دفع روان من كتفها بعنف نحو مكتبه وأغلق الباب خلفه بقوة، استدار لها بغضب فوجدها تقف تُطالعه بارتباك، قبل أن تتحدث بتلعثم: م. مالك بتبصلي كدا ليه؟ هو. هو أنا عملت حاجة غلط!
شمَّر عن ساعديه أثناء اقترابه منها ونظراته الشرسة تُحيطها، فيما هتف بشرٍ وأعين تقدح غضبًا: غلط! دا أنتِ كُلك على بعضك تركيبة غلط، بس ملحوقة أنا هظبطك.
مرت الساعات كالثوانِ على البعض، وكالدهر على البعض الآخر، وكأن الدقائق هي الأخرى قد استعصت وتآمرت على القلوب!
استيقطت ذكرى من نومها منذ ساعتين تقريبًا، كانت الساعة حينها العاشرة مساءًا، والآن ها قد أصبحت الثانية عشر بعد منتصف الليل و يعقوب لم يعد بعد! نظرت لساعة الحائط بقلق بالغ للمرة التي لا تعلم عددها بعد أن استيقظت ولم تجده بجانبها، بل لم تجده في المنزل بأكمله من الأساس! تآكل فؤادها ريبةً وعقلها يُصوِّر لها ألاف الأسباب التي تجعله يذهب ويتأخر إلى وقتٍ كهذا، ووسط انغماسها في أفكارها، استمعت إلى صوت الباب يُفتَح ويُغلق بتروٍ.
انتفضت مكانها على بغتة واتسعت ابتسامتها تلقائيًا فور أن رأته أمامها، لكن ابتسامتها تلك قد تبددت حينما رأت وجهه الشاحب ونظرات عينه التائهة، يبدو كما لو كان يغرق وهرب لتوه من الموت، اقتربت منه حتى وقفت أمامه وسألته بقلق: مالك يا يعقوب! كنت فين؟
حوَّل نظراته الشاردة إليها ولم يُسعفه لسانه على الحديث، وكأن جميع العالم اجتمع ضده حتى جسده! حتى دمائه. يشعر بها تتجمد داخله، كل الأسئلة التي جهزها لها وثباته الواهي قد تبخر فور رؤيتها، لكن هُناك ما يُخبره بأن هناك أمل، هُناك شعاعٌ من النور يتخلل تلك الظلمة التي أحاطت عالمه الوردي معها، لذلك أجابها بهدوءٍ بعد أن استعاد بعض من ثباته المُتبخر:
كنت مع فادي. ابن عمك أو...
علَّق جُملته ليرى أثر كلماته عليها، وآخر شيء قد توقعه هي شهقتها التي خرجت منها وهي تُطالعه بذهول، فيما صحح هو حديثه بنبرة ساخرة اصطبغت بمرارته: قصدي جوزك السابق، طليقك يا مدام ذكرى!
ابتعدت عنه ذكرى خطوتين للخلف وكأنها قد صُعِقَت بكهرباءٍ ساحقة، فيما هو تحولت نظراته للقهرة وهو يُشير لنفسه بإصبع سبابته يسألها بذهول: بتستغفليني يا ذكرى ؟ واخداني لعبة في إيدك!
هزت رأسها نافية حديثه ودموعها تهبط بهستيرية على وجهها، المرارة التي يتحدث بها وإنكساره الواضح يُرغمها على كُره نفسها، هو الذي كاد أن يجلب لها النجوم لتكون سعيدة، هو نفسه الذي تراه يُطالعها بنظراتٍ مُتشحة بالصدمة، تعالت شهقاتها وهي تقول بصوتٍ مبحوحٍ:
أرجوك يا يعقوب افهمني، أنا حاولت كتير أقولك بس مقدرتش.
تقدم الخطوتان اللاتي عادتهما وطالبها بصوتٍ راجٍ: لو عندك مُبرر على خيانتك أنا ممكن أسمعك، هديكِ فرصة بس قولي إن كل دا كذب.
أخفضت وجهها تُخفيه عن أنظاره علَّها تُخفف من ذنبها، كلمة خيانتك التي أردف بها وسط حديثه كالسهم السام الذي نحر فؤادها بقسوة، ولِمَ تستعجب وهو معه كامل الحق! هي خانته بالفعل، جعلته كأضحوكة أمام شخصيته المُعطية بسخاء، أصبحت أمامه مُجرد مُسخ بشع القلب والقالب، وللحقيقة هي لن تلومه، هي من الأساس ليس لديها أري رفاهية للومه!
انتظرها حتى تنتهي من بكائها المُخادع كما اعتقد، ربَّع ساعديه أمام صدره ونظراته اتشحت بالجمود فجأةٍ، وبعد مرور وقتٍ غير محسوب الدقائق بينهما؛ أردف بصوتٍ خالٍ من المشاعر: خلصتي عياط! إحكي مستنيكِ.
رفعت عيناها الدامية له تُطالعه برجاء، وحينما رأت إصراره الشديد تشدقت بصوتٍ خافت يَكاد لا يُسمَع: أنا. أنا و. فادي فعلًا كُنا متجوزين.
لاحظت انقباضة فكه عقب حديثها مما أشعرها بالخوف للحظات، لكنها حسمت أمرها على إخباره بكلِ شيء تلك الليلة، لذلك استطردت حديثها بقولها المُبرر: على سُنة الله ورسوله، بس محدش كان يعرف غيري أنا وهو وبابا وعمي.
والسبب!
تسائل بها بهدوءٍ يُنافي تلك العاصفة الهوجاء التي دمرت كل شيءٍ داخله، هي ترى بروده المُبالغ، لكنها لا ترى ذلك الخراب الذي أحدثته داخله ببضعة كلمات قليلة، بينما هي نظرت إليه برجاءٍ يصرخ على كل ذرَّة من معالم وجهها، ترجوه أن يوقفها عن الحديث ويضمها لأحضانه، حيث مسكنها الآمن وملجأها الوحيد، لكن عادةً ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السُفن، وظل على ثباته الواهي مُنتظرًا إياها على إكمال ما بدأته، وبصعوبة شديدة أفصحت بخوف:.
غ. غلطت معاه.
لا تعلم ماذا حدث بعد كلماتها تلك، كل الذي شعرت به هو اصطدام ظهرها بعنفٍ في الحائط الذي كان يَبعُدها بمسافة لا بأس بها، هل وصلت إلى هُنا بفعل دفعته، أم أنها فقط تتوهم! شهقت بعنفٍ حينما وجدته أمامها بملامح وجه لا تُنذر سوى بالشر، نظراته الدافئة التي كانت تُحاوطها دائمًا الآن حلَّ محلها الغضب، أحضانه الدافئة باتت مُشتعلة، وجهه البشوش أضحى مُنفرًا، الخاصية وعكسها باتت مُتمثلة فيه الآن وفي تلك اللحظة!
مدَّ كفه مُمسكًا بها من ذراعها وأظافرها تنغرز أكثر في لحمها، ثم قرَّب وجهه منها بخطورة وهمس بشر: يعني إيه غلطتي معاه! وضحيلي معلش أصلي مبفهمش.
رفعت كفها أمام وجهه تطلب منه برجاءٍ تزامنًا مع تعالي صوت بكاؤها: هفهمك كل حاجة بس بالله عليك إهدى، عشان خاطري اسمعني للآخر.
غامت عيناه بنظراتٍ مُثقلة، وأنفاسه بدأت تتهادى بقوة، وجهه تحوَّل للون الأحمر الداكن وكأن الأكسجين امتنع عن رئتيه أيضًا، كل شيء يستعصى عليه في تلك اللحظة، كل شيء بالمعنى الحرفي!
طالعته برعبٍ حينما وجدته يبتعد ويُدلك موضع فؤاده بألم شديد، اقتربت منه بدورها وتحدثت بهلع: مالك يا يعقوب؟
دفعها بقوة وصرخ في وجهها باهتياج: مالكيش دعوة بيا واتنيلي إحكي.
ازدادت وتيرة بكاؤها وهي تراه يكاد يُقاوم لالتقاط أنفاسه، لكنها لم تُبالِ بصراخه بها، وإنما جذبته قِصرًا لإجلاسه على الأريكة وسط مُقاومته، وبعد أن نجحت في ذلك هرولت إلى المطبخ وغابت داخله لثوانٍ لا تُعد ثم أتت حاملة في يدها كوبٍ من الماء الذي تجرعه دُفعةً واحدة تحت نظراتها المُلتاعة، انتظر حتى يهدأ لدقائق، وبعدها نظر إليها مُجددًا وهتف بتصميمٍ أرعبها رغم لين حديثه:.
ابن عمك حكالي كل حاجة، بس أنا مستني أسمعها منك أنتِ، لسه شاريكِ ومش بايعك ومستني تكدَّبي كلامه، ومهما كان اللي هتقوليه هصدقه ومش هدوَّر وراكِ، حتى لو كان اللي هتحكيه عكس كلامه.
أمسكت كفه بين يديها ورفعته إلى شفتيها تُقبله بقوة، شعر بجسده يرتعد عقب فعلتها تلك، تطبع وشمها على يده وكأنها تُودعه! تترك له ذكرى على يده قبل أن تُغادره! رفعت إليه نظراتها وتشدقت بنبرة شِبه ميتة: هحكيلك.
انتظر. الثواني تمر عليه وكأنها أدهر، كل شيء يتآمر ضده في تلك اللحظة وتلك الدقيقة، لكنه أنحى كل ذلك جانبًا وبدأت حواسه تنتبه لما يُقال ويصعد من فاهها:.
أنا و فادي ماكُناش مُجرد ولاد عم، كُنا بنحب بعض أوي، اتولدت ولقيته هو اللي قدامي، اهتم بيا وحبني بكل مميزاتي وعيوبي، وأنا كمان. حبيته بكل مميزاته وعيوبه، رغم إن في الوقت دا عيوبه كانت أكتر بس أنا مهمنيش كل دا، كنت شايفاه أعظم حاجة في الدنيا في الوقت اللي كان بيخطط فيه إنه يكسرني، إلياس أخويا كانت دايمًا مش قابله ومعظم خناقنا بسبب قعدتي معاه ووقتنا اللي بنقضيه سوا، كنت بعتبرها غيرة منه عليا زي ما كان بيعمل مع جنة ورضوى، لكن نظرته للموضوع كانت مختلفة عني، ولما كان بيشتكي لبابا ماكنش بيهتم كالعادة، هو طول عمره مهتمش بيا أو بإخواتي وكل همه الفلوس، الفلوس اللي خسرها بسببي.
قطعت حديثها لتلتقط أنفاسها واستغلت ذلك لرفع عيناها والنظر إلى تقاسيمه وأثر حديثها عليه، لكنها وجدت وجهه جامدًا مما أثار ريبتها أكثر، وبالرغم من ذلك فلقد أكملت الحديث بخيفة بالغة:.
وفي مرة كُنا سهرانين سوا. يعني. في. في ديسكو. ماكنتش أول مرة نروحه بس أنا كنت بقرف من الأماكن دي أوي، اتخليت عن رغبتي وروحت عشان خاطره وياريتني ما روحت، عمري ما شربت معاه، بس في اليوم دا كل اللي فاكراه إني طلبت عصير برتقان، محستش بأي حاجة وقتها، الدنيا لفت بيا فجأة ومحستش غير بدراع فادي وهي بتسندني، طبعًا خَدني معاه العربية وكنت عاملة شبه السكرانين وأفعالي كلها بتقول إني مجنونة أو مش في وعيي، بس...
قالت جُملتها بتردد من وسط موجة بكائها، فنظر إليها متسائلًا بانتظار: بس إيه؟
حاولت أخذ أنفاسها وتمتمت بأعين مُغلقة خوفًا من رؤية نظرات الإشمئزاز تحوم داخل حدقتيه: بس وقتها روحنا شقة المعادي بتاعته مش البيت، و. وقضينا ليلتنا سوا.
أطبق على مقلتيه يُخفي إنكساره فيما هتف لسانه مُعارضًا ثباته: ليه يا ذكرى ليه! ليه!
فضَّلت الصمت عن الحديث، وأي حديثٍ يُقال بعد ما قالته! وأي فعلٍ يُقام بعد ما فعلته! أعليها التبرير أكثر! أعليها المُطالبة بسماحه!
رفع يعقوب عيناه لها وتحدث برعشة ظهرت واضحة في وتيرة صوته: كان عندي استعداد أديلك روحي، أنتِ لو شوفتي نفسك بعيني كنتِ هتعرفي إزاي كنت بحسد نفسي عليكِ!
حديثه يُضيف فوق جُرحها ملحًا يُلهِب من ألمها، هي التي لم تعشق الحياة عشقتها لأجله، أحبته بكل جوارحها، بل بكل كيانها، يَصعُب عليها الآن رؤيته يحمل هذا الإنكسار والقهرة بسببها هي، وما كادت أن تُضيف بكلمة أخرى حتى وجدته ينتفض منه مكانه ويرحل بعيدًا عنها مُتجهًا نحو غرفته التي ما إن دخلها حتى أغلق بابها خلفه بقوة كادت أن تخلعه!
نظرت للباب المُغلق بحسرة وخشت ما هو قادم، انتظرت منه غضبٍ أكثر، لكن أكبر مخاوفها تكمن في صمته.
طُويَت صفحة أخرى من الحياة وأختفى الليل أسفل ستار الشمس العاتية، لكن أثار الليل مازالت موشومة داخل القلوب، النبض يتزايد والفؤاد مُتصدعٌ مكسور، ألا ليتَ الذِكرى تختفي ويعود هو ليغدقها أسفل جناح سطوته الدافئة! لكن ليست كل الأمنيات تتحقق، فبعضها خُلِقَ لنتمناه فقط.
فتح لقمان عيناه بصعوبة بعد ليلة طويلة قضاها في البكاء، حتى هو لم يسلم من أسواط الليل التي تسلخ الأفئدة، فحديث ابنتا خالته عن أبيه وشقيقه جعل عقله يتوقف عن العمل للحظات، وكأن تروسه قد تحشرجت من قسوة ما سمعه، مكانة أبيه وشقيقه كانت تُماثل مكانة الصديقين تقريبًا! كل ما يُظهرانه من عمل صالح تبيَّن له بأنه مُجرد عباءة مُهترءة تخفي أسفلها الكثير من القاذورات المُتعفنة، وهذا ما اكتشفه مُتأخرًا!
عاد بذاكرته لليلة أمس حينما قصَّ ل تسنيم وياسمين كل ما سمعه من أبيه وشقيقه، ولم يتركهما إلا و تسنيم تقص له كل ما حدث في الماضي، واعتقاد حسن بقتلها لوالدته تحت دعم من أبيه، وحينما أنهت قص هذا الجزء أكملت عنها ياسمين بشرود:
عودة إلى الماضي
مين اللي إداكِ الدوا دا يا تسنيم.
هتفت بها ياسمين بجزع أثناء إسنادها لخالتها التي ترنحت فجأة عقب تناولها للدواء، لتُجيبها تسنيم برعب: المُمرضة اللي جايبها عمو طارق واللهِ هي اللي إدتهولي.
صرخت ياسمين وهي تجد جسد أسمهان يسقط على الأرض كالجثة الهامدة، وما زاد من هلعها هو إزرقاق شفتيها وشحوب وجهها المُفاجيء، جلست جانبها بينما صاحت في شقيقتها المُتصنمة بصراخ: اتصلي بالإسعاف بسرعة يا تسنيم، خالتك بتموت.
أومأت لها تسنيم على عجالة ودموعها تهطل بسرعة كالشلالات خوفًا على خالتها الحبيبة، لكن أثناء ضغطها على عُلبة الدواء، لاحظت تحرك الورقة المُلتصقة عليها من الخارج، تخشبت قدماها أرضًا غير مُبالية بصرخات شقيقتها عليها، وبأطرافٍ مُرتعشة قامت بإبعاد تلك اللاصقة عن العُلبة، لتظهر من خلفها أقسى كلمة قد تقرأها في حياتها؛ «سُم»!
وتلقائيًا نطقها لسانها بصدمة: سم!
عودة إلى الوقت الحاضر.
رفعت ياسمين أنظارها إلى لقمان الذي إحمرَّ وجهه نتيجة كتمه لبكائه، فيما اختتمت ياسمين الحديث بقولها: وبعدها دخل علينا حسن ووراه أبوه اللي فِضل يزرع في دماغه فكرة إن إحنا قتلنا خالتو عشان طماعنين فيها، مُعاملته معانا اتحولت 180 درجة، حَط تسنيم في مصحة نفسية وطبعًا منسيش يوصي عليها حبايبه إنهم يوجبوا معاها، وهما الحقيقة متوصوش، وأنا حبسني في أوضة صغيرة بعد ما فهَّم أبوه إن قتلني، بس بعدها نقلني شقة تانية بعيدة عن البيت وقدرت أهرب بعد ما. ما ضربته بالسكينة.
حينها لم يُخفي لقمان صدمته من كل ما قيل، بل سمح لذاته بالإنهيار، وأي ثبات سيكون عليه بعد الذي استمع له، لولا أنه استمع لحديث أبيه وشقيقه لقال أن كل هذا هُراء وكذب، لكن حديثهم يتماشي مع حديث طارق وحسن الذي استمع إليه، نظرت إليه ياسمين بحزنٍ بالغ، فجاورته على الأريكة ثم ضمته لعناقٍ أخوي قوي وتمتمت باعتذار:
أنا أسفة والله ماكنتش عايزة أحكيلك بس أنت أصريت.
فعلت تسنيم المثل معه وجلست في الناحية الأخرى من الأريكة وربتت على ظهره بحنان قائلة: الأهم من دا كله يا لقمان إنك متمشيش في نفس الطريق اللي هما ماشيين فيه، أنت كويس ونضيف، متتغيرش عن كدا بالله عليك كفاية حسن!
مسح لقمان دموعه وخرج من أحضان تسنيم هاتفًا بصوتٍ مكتوم: لأ متقلقيش من الناحية دي، حسن ماكنش بيسمحلي أقرَّب من شغل الشركة، كنت بستغرب أوي وقتها لما كان بيرفض، لكن دلوقتي عرفت السبب.
خرج لقمان من شروده وتذكره لما حدث ليلة أمس على صوت طرق الباب بخفة، سمح للطارق بالدخول فدلفت بعدها تسنيم التي هتفت بمزاح لتخفيف حزنه ولو قليلًا: كائن الكسلان الحمار الوحشي هتفضل نايم كتير!
ابتسم بخفة وهو يهب من على فراشه وقال: صحيت أهو، لسه زي ما أنتِ مُزعجة.
أحاطت بكتفه بقوة وهي تتجه معه نحو الخارج وقالت بحماس: تعالى بقى وشوف مجهزالك فطار هتاكل صوابعك وراه.
إلتوى ثُغره بضحكة مُتهكمة وهو يهتف بريبة: ربنا يستر.
غادر بادر إلى عمله في الصباح الباكر، لم يكن مُتأخرًا تلك المرة وعلى غير عادته، وقف بسيارته بعد أن تحولت الإشارة إلى اللون الأحمر، شرد بذاكرته ليلة أمس حينما دلف إلى منزله ووجد سارة تقف مع والدته في المطبخ، أثار ذلك استغرابه وبشدة، وما زاد من ذهوله هو حديث والدته عنه بتلقائية والذي لا يصعد إلا حينما تنهمك في الحديث:.
بادر ابني دا مش عارفة هيتجوز إزاي، بيتكسف من الهوا، والمثل بيقولك اللي بيتكسف من بنت عمه ميجيبش منها عيال، أومال هيعمل إيه مع اللي هيتجوزها!
لطم بادر على خده بصدمة وهو يقف مكانه كالقرود، ماذا تفعل والدته بحق الجحيم! شعر بسخونة وجنته واحمرارها وذلك حينما استمع إلى صوت الضحكات العالية المُتبادلة بينهما، فيما تحدثت سارة هي الأخرى بصوتٍ خافت خجول:.
ربنا يخليه ليكم يا طنط، الأستاذ بادر محترم وصعب تلاقي زيه في الزمن دا.
وضعت حنان الصحون المُتسخة في حوض المطبخ، واستدارت لها بلهفة مُتحدثة بابتسامة واسعة: بجد! يعني دا رأيك فيه؟
أرادت لو تُصرح لها بأكثر من هذا، عن مدى جاذبيته ووسامته وجمال عينيه البُندقتين الجذباتين، لحيته المُهذبة وخصلاته البُنية التي لا تليق سوى به، لكنها تركت كل هذا لنفسها وأجابت باحترام مُزيف: طبعًا يا طنط.
استفاق من شروده على صوت نفير سيارة تأتي من خلفه، فانطلق مسرعًا إلى وجهة عمله مُحاولًا تشتيت عقله في ذلك الموقف الحرج الذي وضعته فيه والدته، وإجبار قلبه عن عدم النبض لها بقوة كلما ر ها أو تذكرها.
وصل أخيرًا إلى المدرسة التي يُدرِس بها، مرت الدقائق قضاها الجميع في أداء تمارين الصباح الدائمة، وبعدها صعد الطُلاب إلى فصولهم واحدًا تلو الآخر، وأثناء صعوده خلف طُلاب فصله؛ قابل في طريقه سارة التي كانت واجمة بقوة، قطب جبينه بتعجب قبل أن يقف أمامها ويسألها:
مالك يا آنسة سارة فيه حاجة حصلت؟
نظرت سارة حولها بضيقٍ ومن ثَم أجابته: الواد إبراهيم خَد العصاية من الفصل وجِري، مفكرني كدا مش هطوله يعني؟ دا أنا هخلي يوم مهبب.
ابتسم بخفة مُبديًا إعجابه من تحولها المُفاجيء الذي يظهر على بغتة، فتتحول من فتاة وديعة إلى أخرى سرشة تكاد أن تلتهم من أمامها، انتفخت أوداجها بغيظ حينما لمحت أمامها إبراهيم يُلوح لأحد أصدقائه بالعصى لإخافته، فاستغلت انشغاله ثم هرعت مُسرعة إليه قبل أن يراها، ومن ثَمَّ انتشلت منه العصى بسرعة بكفٍ، وبالكف الآخر أمسكت به من تلابيبه بقوة وهي تصرخ به بسوقية لا تتناسب مع كونها مُعلمة ذات خُلقٍ رفيع:.
بقى أنت بتستغفلني ياض ومفكر إني مش هوصلك؟ دا أنا هخلي اللي ما يشتري يتفرج عليك يا حُثالة المدرسة والمدارس المُجاورة، أمك وأبوك يكونوا معاك بكرة يا إبراهيم، مش هتدخل المدرسة من غيرهم يا إبراهيم، يا إما هخلي سنتك طين يا إبراهيم، أنت سامع يا زفت!
أومأ لها الصبي بخوفٍ قبل أن تدفعه ليُهرول بعيدًا، فيما وقف بادر يُراقب ما يحدث بضحكة مكتومة، رغم أنه يكره استخدام العنف مع الأطفال، لكن طريقتها هي تحديدًا تُشعره بالإستمتاع الغريب! عادت سارة إلى بادر مُجددًا وتحدثت برقة تُنافي تمامًا فعلها السوقي منذ قليل:
كُنا بنقول إيه يا أستاذ بادر؟
طالعها بادر بذهول قبل أن تتعالى ضحكاته بانطلاق غير مُبالغ، بينما هي وقفت تُطالعه بهيام لم تستطع السيطرة عليه، وهُنا تحدث بادر من بين ضحكاته قائلًا: قولت لا إله إلا الله، عن إذنك عشان عندي الحصة الأولى.
أفسحت له الطريق مُودعة إياه برسمية جادة، وراقبت رحيله بنظراتٍ مُتتبعة قبل أن تهمس بتنهيدة: ميبيعوش ضحكتك دي دوا للإنتفاخات يا عم!
استأذن حمزة من إلياس للخروج والتنزه مع رضوى قليلًا، أبدى الأخير اعتراضه الشديد في البداية، لكن حمزة استعان بمساعدة صفاء لإقناع إلياس ذو العقل اليابس، وفي النهاية اقتنع بعد محاولات عدة من ضغط حمزة وصفاء ورضوى ووعده بجلوسهم في مكانٍ عام بالقرب من المنزل.
سارا معًا على الرصيف، وعلى مرمى بصرهم كانا يرا زُرقة النيل السالبة، استدار حمزة جهتها وسألتها مُبتسمًا: أجيبلك حمص الشام!
ودُرة.
هتفت بها رضوى بابتسامة واسعة، ليُمازحها حمزة بقوله المرح: هتطمعي هرجعك لأمك.
ضحكت بخفة وراقبت ابتعاده لشراء مشروب حُمص الشام ومقليات الذُرة المقرمشة، خفتت ابتسامتها حينما تذكرت أمرًا هامًا لذلك اتجهت إليه مُسرعة أثناء شرائه للذُرة، ثم مالت على أذنه هامسة بصوتٍ خفيض: خليه يحرقهولي.
استدار لها مُتعجبًا طلبها وبغباءٍ تسائل: هو إيه دا؟
أجابته بحنق وهي تُشير بعينيها إلى ما تُريد: الدُرة يا حمزة، خليه يحرقهولي بحبه كدا.
إلتوت شفتاه بابتسامة ساخرة وهمس بتهكم: حتى ذوقك غريب شبهك.
قالها ثم استدار للبائع يُمليه ما طلبته منه، ليرفع العجوز وجهه الذي يظهر عليه آثار تقدم عمره وتشدق بصرامة: لا مفيش دُرة مخروق، دا يجيب أمراض وبلاوي زرقا يا بنتي.
تنغض جبين رضوى بضيق وتمتمت قائلة: بس أنا مش باكله غير كدا يا عمو!
ابتسامة صغيرة تشكلت على ثُغر العجوز فبانت من خلفها أسنانه المكسورة ونابه المُهتريء، ثم قال بحكمة علمه الزمان إياها: لازم تتعودي تتخلي عن اللي بيأذيكِ حتى لو كنتِ بتحبيه.
تبادلت رضوى النظرات المُتعجبة مع حمزة الذي وقف يُراقب الموقف بابتسامة هادئة، فيما أكمل العجوز حديثه بضحكة صغيرة استشعرت من خلفها الكثير من المرارة: مش كل حاجة بتحبيها هيكون غرضها مصلحتك، ممكن تكون ضرر ليكِ وغيرك شايف أذاه بس أنتِ مش شايفاه، في الوقت دا لازم تسمعي لكلام غيرك أكتر من نفسك.
ورغم غموض حديثه، إلا أنها استشعرت معناه الخفي الذي دسَّه بين الكلمات، مما جعلها تبتسم له بحنوٍ وفؤادها يُخبرها بأن هذا الرجل عانى كثيرًا في حياته مُسبقًا، لكنها لم تُريد أن تسأله وتتطرأ لأمرٍ لا يُعنيها، لذلك أردفت بود:
خلاص يا عمو. هات الدُرة وهحبه كدا، ووعد مني هسمع كلامك وأبعد عن اللي بيأذيني.
ابتسم لها العجوز ببشاشة ومد ل حمزة يده بأكواز الذُرة، فأعطى واحدًا ل رضوى وأخذ هو الآخر، ثم عاد بأنظاره إلى العجوز وتسائل: اسمك إيه يا راجل يا طيب!
أجابه الأخير وهو يُهفهف على الذُرة بورقة كرتونية سميكة: أنا ماجد عاشور.
الاسم مر على خاطر حمزة بسرعة البرق ولم يضع في باله شيئًا آخر، فربَّت على كتفه بود عدة مرات وقال بشجن: تسلم إيدك يا عَم ماجد.
قالها ثم ابتعد عنه هو و رضوى التي طالعت تجاعيد وجهه بحزنٍ لا تعلم مصدره، كل خط في وجهه يُوحي بتجربة صعبة مرت عليه في الحياة، وكأننا خُلقنا فقط لنتألم! استندت بظهرها على سور «الكورنيش» ونظرت ل حمزة الذي لاحظ شرودها فسألها قائلًا: مالك وشك اتقلب كدا ليه؟
ثبتت نظراتها عليه للحظات ثم سألته بقلق: أنت ممكن فعلًا تكون مصدر أذى ليا؟ ممكن في يوم من الأيام تخليني أندم إني اخترتك.
أنتِ لو عرفتي اللي بيحصلي في وجودك هتتكسفي تسألي سؤال زي دا.
قطبت جبينها وتسائلت بحذر: وإيه اللي بيحصلك؟
قلبي لما بيشوفك بيترج لوحده، وكإنك أنتِ الرقاصة وأنا الطَّبال.
تعالت ضحكاتها بانطلاقٍ وأردفت من بينها بمرح: لأ جيت عَالحرج المرادي بجد.
شاركها الضحك وتمتم بأنفاسٍ مُتقطعة: طيب كُلي يا رقاصة كُلي واخلصي عشان نِرجع، أخوكِ قارفني اتصالات.
وعلى بُعدٍ قريب منهم، راقبهما ذلك العجوز بابتسامة هادئة، قبل أن يرفع عيناه إلى السماء ويُتمتم بتمني: يارب زيد من قُرب الأحباب واجمعهم بحلالك يا منَّان.
لم تذق عيناه النوم طوال الليل، جالسٌ بالداخل بينما يستمع إلى صوت شهقات بكائها ورجائها في الخارج، لكن هو. كيف عليه التخطي! لن يستطيع تَقبُّل خداعها وخيانتها مهما مرت الأيام وتوالت السنون، تلك الحقيقة التي أخفتها ستظل كالشوكة العالقة في حياته، يشعر بعلقم مُرٍ عالق في حنجرته منذ ليلة أمس، هو الذي واجه الكثير وتخطى محطات عِدة، توقفت عجلات قطاره عِند تلك المحطة تحديدًا وكأنه قد أُهلِكَ!
شعر بملمس دمعة حارقة تشق طريقها على وجهه تُلهبه بملمسها، تُذكره بذلك النصل الذي غُرِزَ في قلبه، لو الخيانة من غيرها؛ لتقبلها، لكن هي! هي التي أهداها فؤاده بأكمله دون أن يخاف غدرًا! غطّى وجهه بأسى بالغ وهو يستمع لصوتها يرجوه للمرة المليون تقريبًا تطلب منه أن يفتح لها الباب للإطمئنان عليه، احتدمت عيناه بغضبٍ قبل أن ينتفض من مكانه ويتوجه إلى الباب لفتحه، وهُنا حدثت المواجهة!
قرَّب منك تاني بعد الليلة اللي قضتوها سوا؟
كان سؤاله مُباغتًا خرج منه بعد أن أمسك بها من مرفقها يضغط عليه بقوة وانتظر الإجابة، ارتعش جسدها من قسوة السؤال، وأمام إصرار حدقتيه أجابته بخفوتٍ مُزين بدموعها: آه.
بإجابتها هذه حسمت الأمر، كتبت بيدها النهاية لطريق كليهما، ليذهب كُلٌ منهم في طريقه عقب قوله الجامد:
أنتِ طالق.