قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون

الآلاف من الكلمات وقفت عاجزة على طرف شفتيها عقب تصريحه بتطليقها، لقد تخلَّى عنها حقًا، قطع كُل حِبال الوِد المُتصلة بينهما، هجر فؤادها وحرم عيناها من رؤيته، بينما هي لم تستطيع المُجازفة والتمسك به، وبأي وجهٍ من الأساس ستمنعه من الابتعاد عنها؟ بأي حقٍ ستُجبره أن يظل معها، خدعته؟ ربما، لكنها عشقته بكل جوارحها، عشقٌ لم تُبادله غيره، لكن يبدو بأن حقيقتها التي أخفتها عليه فاقت مستوى تحمُّله فقرر الإبتعاد.

توقفت أنفاس ذكرى وهي تنظر إلى تقاسيم وجهه بصدمة شقت العضو الماكث ما بين ضلوعها، لو قالت أن فؤادها تفتت لما كذبت، هي شعرت بصوت تمزيقه الذي صمَّ أذنها، كلمة واحدة منه كانت كافية لقلب حالها بأكمله، فتتحول من مُدللة صغيرة إلى فُتات مُحترقة، أرجعت خصلات شعرها التي ثارت كحالها تزامنًا مع اهتزازة رأسها بالنفي في عدم تصديق، وبخفوتٍ مذبوح همست:
لأ. لأ يا يعقوب لأ.

لم يكن حال يعقوب أقل منها، بل إن وضعه يزداد سوءًا عنها، جميع أعضاء جسده مُتصلبة بينما عيناه الخائنتان تُعانقاها رغم كل ما حدث وما سيحدث، فيما اقتربت منه مصعوقة تصرخ به وكأنها استوعبت ما رماه على أذنيها للتو: لأ يا يعقوب بالله عليك. مش هقدر صدقني. مش هتبعد عني أنا مش هسمحلك.

كفاها يقبضان على خاصته بكل قوتها، ترجوه بدموعٍ ألا يفعل، ألا يبتعد، ألا يقتل روحًا أحبت فتمزقت، لكن ماذا عن ألمه هو؟ ازدادت شهقاتها قوة وهي تتشدق بكلماتٍ مُبعثرة غير مُرتبة: والله العظيم ما كان بمزاجي، قسمًا بالله ما بمزاجي، هو استغلني في المرة الأولى ومكنتش في وعيي، المرة التانية كنت مراته بعد ما أبويا أجبرني أتجوزه عشان الفضيحة.

تعالى نحيبها بقسوة وعادت لتسترسل ببكاءٍ يُمزق جماد الحجارة الساكنة: أنا مش وحشة والله يا يعقوب، إحنا جوازنا جِه فجأة وملحقتش أقولك، وبعد ما اتجوزنا كان صعب عليا أقولك حاجة زي دي، كل مرة كنت بقرر فيها إني خلاص هقولك كنت بخاف، مش سهل عليا آجي أقولك حاجة كل ما بفتكرها بتوجعني، يا يعقوب رد عليا أنت الوحيد اللي بتطمني!

ارتسم على جانب فمه ابتسامة ساخرة وهو يُطالعها بمرارة، قبل أن يردف بكلماتٍ تُقطر دمًا من قسوتها: أنا بطمك وأنتِ في المقابل عملتي إيه!
أخفضت عيناها أرضًا وجسدها يرتعد ببكاءٍ عنيف، فيما أكمل هو بحسرة: هتفضل أكبر غلطة عملتها في حياتي هي إني حبيتك.

رفعت رأسها إليه مصعوقة من إعترافه الذي هبط على مسامعها كالرعدِ في ليالي الشتاء القارصة، تستطيع أن تستمع إلى صوت عواصف قلبها، لكنها مُعبقة بالغبار الكثيف الذي وأد فرحتها، بينما هو كان يُطالعها بحسرة طفل فقد أمه للأبد، لم يكن ليتخيل أن إعترافه سيكون قاسيًا هكذا، ظنَّ مُسبقًا بأنه عقب النُطق بعشقه لها سيُغدقها من نافورات حُبه المُكثف لها، لم يكن هذا تخطيطه، بل لم يكن هذا في الحُسبان من الأساس!

استجمعت ذكرى بعضًا من ثباتها وتقدمت منه تُطالعه بعينين راجيتين أثناء نُطقها لإسمه: يعقوب طيب إديني فرصة!
فتراجع هو المِثل وأجاب: فرصة! أنتِ متستاهليش كل الحب اللي في قلبي ليكِ، أنتِ كسرتيني، وجرحك لسه مش عارف مين هيداويه.

غطت وجهها بكفِ يدها لتكتم نحيبها الذي ارتفع بشكلٍ هيستيري، وعلى غير العادة لم يُشفق عليها، وإنما طالعها بقسوة صاحبت فعلته بإمساكه لها من ذراعها بقوة وسحبها نحو الخارج، طالعته بدهشة أثناء مُحاولتها لفك حصار ذراعها الذي يقبض عليه بشدة، لكنه أفلتها دافعًا إياها بعنفٍ خارج المنزل وصرخ بها باهتياج:
وشك مش عايز أشوفه تاني أنتِ فاهمة؟

صدمتها بلغت عنان السماء فشُلَّ لسانها عن الحركة، بينما يعقوب أكمل بتهديدٍ قاسٍ: وحياة الوجع اللي في قلبي دا لهدوقك أضعافه أنتِ والكلب التاني، وخليكِ فاكرة إن يعقوب هارون رضوان مابيسبش حقه.

أتبع حديثه صوت دوي عالي نتيجة لغلقه الباب بقوة في وجهه، ترك مكانه وسار مُتجهًا إلى الغرفة التي حبس بها ذاته ليلة أمس، الأفكار تُصارعه واليأس لا يُحتمل، الأمل تبدد والألم يتضاعف، الغرفة تخنقه بحبلٍ سميك من الذكريات، اتجهت أنظاره نحو الفراش ليتقاذف إليه مشهد نومه على قدمها بكلِ راحة، لم يكن يعلم بأن تلك الراحة ستُسلب منه وبمثلِ هذه القوة، غيَّر فكرة الجلوس على الفراش واتجه يجلس على الأريكة التي تحتل جانب الغرفة الأيمن، وببطئٍ شديد رفع كفه ليُدلك موضع قلبه الذي يتزايد ألمه مُشاركًا إياه وجعه.

مازال الصباح مُشرقًا والفؤاد حالك مُظلم، سارت ذكرى بأقدامٍ ثقيلة إلى منزلها لكنها تعثرت عدة مرات وكادت أن تقع على وجهها، شعرت بمن يُمسك بها من يدها لإسنادها، رفعت عيناها بتيهة ثوانٍ ما تحولت إلى غبطة فور أن طالعت عُمير الماكث أمامها، نفضت يدها عنه بعنفٍ وصاحت به بكُرهٍ واضح: ابعد عني يا حيوان، أنت إزاي تتجرأ وتمسك إيدي.

رفع عُمير إحدى حاجبيه باستنكار وصاح مُتبجحًا: الحق عليا إني كنت بسندك بدل ما تقعي، خيرًا تعمل شرًا تلقى صحيح!
وبالرغم الوهن الواضح على جسدها، دافعت بكل استماتة وتمتمت بحقد: لأ شكرًا ياخويا، مش عايزة منك لا خير ولا شر وغور من وشي السعادي.

احتدمت عيني عُمير بالغضب خاصةً وهو يرى نظرات المارة تتجه نحوهما، جزَّ على أسنانه بغيظ وعاد ينظر إليها قائلًا باحتقان: لولا إنك واحدة سِت أنا كنت عرفتك مقامك دلوقتي.
وأنا حابب أعرف هتوريها مقامها إزاي؟

تلك الجُملة الغاضبة خرجت من فمِ بدير الذي كان يخرج من منزله ليتوجه نحو جامعته التي التزم بها مُؤخرًا، اقترب منهما ووقف أمام ذكرى بحمائية وهتف مُكررًا حديثه عقب صمت عمير: ها! بقولك حابب أعرف هتوريها مقامها إزاي؟
اشتعلت النيران داخل عيني عمير الذي هتف قائلًا: مرات أخوك لسانها طويل والظاهر عايزة اللي يلجمه.
رسم بدير على ثُغره ابتسامة باردة وهو يُجيبه برحابة صدرٍ وطمأنينة: إحنا اللي معلمينها.

وأمام بروده هذا، لم يجد سوى تسديد نظرة حارقة له قبل أن يُطالع ذكرى بمثلها ويرحل مُبتعدًا عنها، طالع بدير أثره باشمئزاز قبل أن يستدير نحو ذكرى فيصدمه مظهر وجهها الباكي الذي لاحظه للتو، رمقها بقلق تبعه سؤاله الغير مُطمئن:
مالك كنتِ بتعيطي ليه؟ ونازلة دلوقتي و يعقوب مش معاكِ؟

انصهر قناع القوة وحلَّ مكانه الوهن من جديد، فتشكلت الدموع داخل مقلتاها بكثافة قبل أن تتحول إلى شهقاتٍ عالية، ذُهِلَ بدير من حالتها وتسائل بخوف أخوي صادق: أنتِ و يعقوب متخانقين طيب!
لم يأتيه الرد منها، بل تابعت البكاء وهو وقف يُطالعها بعجز لا يعلم ما يجب عليه فعله، طالعها بحزنٍ وعاد ليقول بلين: طيب متزعليش وكفاية عياط، لو عايزاني أكلمهولك هعمل كدا، يعقوب دا مفيش أحن منه والله.

رفعت عيناها الحمراوتان له وتحدثت بصوتٍ ضعيفٍ مقهور: كلمه يا بدير، كلمه وخليه يسامحني بالله عليك.

حديثها كان مُبهمًا بالنسبة له، ففاجئته بتركه له يقف وحده ورحلت جهة منزلها! زوى بدير ما بين حاجبيه بعدم فِهم وطالع أثر رحيلها تارةً، وتارةً أخرى يرفع عيناه جهة شقة أخيه التي من المُفترض أنها عش زوجيته الآن، فلمح طيفه يقف خلف النافذة ومن ثَم اختفى مُجددًا، ازدادت حيرته وتدفقت الأسئلة إلى عقله لكن لا يجد لها أي إجابة، تُرى ماذا حدث بينهما؟

جلست فاطمة شقيقة مروان على فِراشها تحمل هاتفها بين يدها وتضعه على أُذنها لتسمع حديث الطرف الآخر بملامح واجمة، لتُجيب بعد لحظاتٍ من الصمت: وأنا هعمل إيه يعني يا مصطفي؟ هو أنا اللي روحت كتبت كل حاجة بإسم أخويا مروان؟
نطقت بها بعصبية والأخير لا ينفك عن دس السُم داخل عقلها بحديثه الماكر والمُغلف بغضبه: أنتِ بتسأليني أنا هنعمل إيه؟ مش أنتِ قولتيلي إنك لما تسافري مع أمك هتورثي وهتجيبلي الفلوس؟

ضيَّقت ما بين حاجبيها بضيق وسألته بحذر: هو أنت كل اللي همَّك الفلوس!
ضرب مصطفى على جبهته بخفة لاعنًا غبائه الذي سيُخسره كل شيء بتسرعه، ليقول بعجالة مُصححًا حديثه: لأ طبعًا مش كل همي الفلوس، بس أنتِ عارفة إن أبويا شارط عليا أنجح الأول في المشروع اللي أنا فاتحه عشان نعرف نتجوز، ولسه عايز راس مال كبيرة ويادوب القرشين اللي معايا على القرشين اللي معاكِ هيكفوا بالعافية.

تنهدت بسخط وهي تلعن خالها جميل في سرها، ذلك الذي لم يُوافق على زواجها من ابنه مصطفى حتى يعتمد على نفسه اعتمادًا كاملًا، هذا ما صدقته هي، لا تعلم أن هُناك خطة شيطانية تُحاك خلف ظهرها للسيطرة عليها وتحريكها كما يشاؤون هُم، زفرت بضيقٍ استشعره الآخر فحاول تحسين صورته أمامها مرة أخرى بقوله الحنون الزائف:
يا فاطمة أنا بحبك وعايز أتجوزك في أسرع وقت، ساعديني أرجوكِ.

لانت ملامحها تدريجيًا عقب استماعها لصوته، ثم قالت بنبرة حائرة ودموعٍ بدأت بالتكدس داخل مقلتيها: أعمل إيه يا مصطفي؟ كل حاجة دلوقتي مكتوبة باسم أخويا بيع وشِرا زي ما قالنا، الكبيرة والصغيرة بقت في إيده هو وإحنا مالناش حق نتدخل في الوِرث غير لما هو اللي يتنازل عن حقنا في الميراث اللي مكتوب بإسمه.
تهجم وجهه للحظات قبل أن يهتف بتفكير: طب خلاص أنا عندي فكرة!
فكرة إيه؟

تسائلت بها فاطمة بانتباه، في حين هو بدأ بإلقاء خطته الخبيثة فوق مسامعها التي نفرت مما يقول، جحظت عيناها بصدمة وتمتمت بهلع: إيه؟ أنت بتقول إيه يا مصطفى؟ لأ طبعًا أنا مستحيل أعمل كدا، مهما حصل ففي الأول والآخر مروان يبقى أخويا وأنا مرضاش ليه الذُل أبدًا.
زاد غضبه من هرائها هذا من وجهة نظره وأردف بسخطٍ قبل أن يُغلِق الهاتف في وجهها: خلاص مش عايز منك حاجة اقفلي.

نظرت للهاتف بصدمة جليَّة سيطرت على محياها، هو لا يفعل مثل تلك الفعلة إلا عندما يكون غاضبًا منها بشدة، ظهرت الحيرة على تقاسيم وجهها وتنهدت بضيق وهي تحقد على أخيها الذي يملك كل شيء الآن دونًا عنها هي!
هذا هو الحال، تتأرجح من نعيمٍ إلى شقاء، وما عليك سوى القبول والبقاء!

طرقت ذكرى جرس الباب وانتظرت قليلًا حتى فُتِح لها بواسطة إلياس الذي يغلب النوم محياه، طالعها بأعيُن ناعسة مضمومة ثم هتف بضجر: يعني وأنتِ معانا قارفاني وأنتِ متجوزة قارفاني، أعمل فيكِ إيه؟

تمتم بجُملته وهو يعود أدراجه نحو الداخل بعد أن أفسح لها، صمتها على حديثه وعدم شجارها معه جعله يُضيَّق حاجبيه باستغراب وهو يستدير لها، وجدها قد جلست على الأريكة دافنة وجهها بين كفيها وفضَّلت عدم الحديث، اقترب منها ومن ثَم جلس بجانبها وسألها بقلق بدأ بالتسلل إليه:
مالك حصل حاجة؟ ولا متخانقة أنتِ و يعقوب؟

انتظر إجابتها على أحر من الجمر لكنها لم تُجيب، وضع يده على ظهرها فوجد جسدها بدأ بالإهتزاز دلالة على بكائها، ازداد استغرابه الذي اصطبغ بخوفه وعاد ليتسائل بخوف: مالك يا بنتي إيه اللي حصل متقلقنيش؟
أبعدت يدها عن وجهها فظهر له وجهها الأحمر بشدة وعينيها المُنتفختين بوضوح، طالع حالتها بذهولٍ وأول شيء قد قفز بعقله هو أذية زوجها لها، لهذا سألها بتحفز: يعقوب مَد إيده عليكِ؟

هزت رأسها نافية ومن ثَم تمتمت بانهيار قبل أن ترتمي داخل أحضانه: أنا اتطلقت.

كان وقع الكلمات على أذنه كمزحة ثقيلة ألقتها عليه للتو، لكن ردة فعلها وانهيارها هذا يُكذِّب ظنه، رفرف بأهدابه عدة مرات علَّه يستطيع فِهم تلك الكلمات البسيطة والمُعقدة في الوقت ذاته، تطلقت! كيف وقد كانا معًا ليلة أمس والسعادة ترتسم على وجهيهما وواضحة للعِيان! تفكيره مُشتت وعقله كاد أن يُجَن حتى يعلم السبب، لكنها حالتها الآن لا تسمح بأي سؤال قد يطرحه عليها، فما كان عليه سوى أن يرفع ذراعه ويُحيطها ضاممًا إياها إلى صدره بقوة.

وكأن الفُرصة جائتها على طبقٍ من ذهب وتركت العنان لدموعها لتنهمر كالشلالات، تُخرِج كل آلامها المُنحبسة على هيئة شهقات بكاء وتأوهاتٍ تعكس مدى وجعها، تمسكت بمنامة شقيقها بكل قوتها وظلت تُهمهم بكلماتٍ لم يفهم حرفًا واحدًا منها، وبالرغم من ذلك ظلَّ يُهدئها بكلماته الهادئة وقُبلاته الحانية، حتى شعر بها تهدأ تدريجيًا.

فُتِحَ باب إحدى الغُرف وخرجت من خلفه صفاء التي طالعت ابنتها بقلق فور أن وقعت عيناها عليها، هرولت إليهما وتسائلت بخوف غريزي: مالك يا حبيبتي إيه اللي حصل؟ مال أختك يا إلياس بتعيط ليه؟
أشار إلياس بعينه لوالدته أن تصمت، ثم توقف من مكانه وسحب معه ذكرى قائلًا بصوتٍ حنون: تعالي يا حبيبتي قومي ادخلي أوضتك وارتاحي شوية.

كانت قد كفت عن البكاء وكأن قوتها قد خفتت تمامًا، سارت معه بوهنٍ دون حتى أن تعترض أو تتحدث، حالة اليأس التي تلبستها فجأة هذه جعلت الضغينة تتشكل داخل فؤاد إلياس جهة يعقوب مما سببه لشقيقته، طلاقه المُفاجيء هذا يمكث خلفه سرٌ طويل سيفهمه آجلًا أم عاجلًا، لكن ما يهمه الآن هو صحة شقيقته.

راقبت صفاء دخولهم للغرفة بقلبٍ مُنفطر وانتظرت لدقائق قليلة للغاية ثم وجدت إلياس يخرج من غرفة شقيقته، هرولت إليه مُسرعة ثم تسائلت بجزع: أختك فيها إيه يا إلياس؟ إيه اللي وصلها للحالة دي؟
رمق إلياس والدته بضيقٍ قبل أن يُتمتم نافرًا: ذكرى اتطلقت.
يا مصيبتي!
صرخت بها صفاء بصدمة وهي تضرب على صدرها بصدمة، فزجرها إلياس بقوله: بس يا ماما هي مش ناقصة وفيها اللي مكفيها.

تنفست صفاء بعنفٍ من الخبر الصادم الذي تلقته للتو، منذ أيام فقط كانت سعيدة بزواجها من يعقوب والحيوية تملأ وجهها، والآن هي مُجرد فتاة عبارة عن روحٍ مُحترقة تالفة! تجمعت العبرات داخل عيني صفاء وعادت لتتسائل: طيب. طيب إيه اللي حصل بينهم خلاهم يوصلوا للطلاق؟
هز إلياس كتفيه بجهلٍ وأجابها: مش عارف والله، هي محتاجة ترتاح دلوقتي ولما تصحى نبقى نفهم منها كل حاجة.

أومأت له صفاء بحزنٍ بليغ على ابنتها وعادت بأنظارها نحو باب الغُرفة المغلق الذي تنام خلفه ابنتها الجريحة، رفعت عيناها للسماء وتمتمت برجاء: اللهم إنَّ لا نسألك رد القضاء، ولكنَّ نسألك اللُطف فيه.

وصل رائف وزوجته ورأفت إلى المنزل بعد ساعاتٍ كثيرة قضوها في السفر، هاتفَ عتمان رأفت طالبًا منه الذهاب إليه لمتابعة أعمال إحدى أراضبه الزراعية التي على وشك الإصابة بديدان ضارة قد تُتلف المحصول الجديد، ربت رائف على كتفه وتحدث قائلًا بود: تمام ماشي، بس لو احتجت أي حاجة رِنلي وأنا هبقى قدامك.

أوما له رأفت وهو يُطالعه بامتنان ثم تركه ورحل، في حين أمسك رائف بكفِ نرجس وتوجها سائرين إلى الداخل، فبالرغم من ما حدث معها من محاولة قتل زوجة أبيها لها، إلا أن رائف حاول بشتى الطُرق طيلة الطريق أن يُنسيها ما مرت به، وبالفعل بدأت تتناسى شيئًا فشيئًا خاصةً مع مشاكسته الدائمة مع رأفت والتي تُثير ضحكها في أغلب الأوقات.

رفعت نرجس رأسها له وتحدثت بُمشاكسة: بس أنا شايفة إن علاقتك أنت و رأفت بدأت تتحسن عن الأول كتير!

أومأ لها رائف ضاحكًا وأوضح لها بشجن: لما قعدت مع نفسي وفكرت لقيت إن رأفت فعلًا مش زي أبوه وأمه، هو حتى ملهوش ذنب في اللي حصل وإحنا صغيرين بس أنا كُرهي ليهم كان عاميني مش أكتر، وإحنا صغيرين رأفت كان أقرب صديق ليا وزي ضِلي، لما كبرنا شوية ودخلنا الإعدادي بدأ يجيلي حالة نفور منه بسبب معاملة أبوه وأمه ليا وتفضيلهم الدائم ليه عني، لحد ما شِبه كرهته وبعدت عنه وعنهم كلهم لما بدأت اعتمد على نفسي.

طالعته نرجس بتأثر لما كان يُعانيه، فرفعت يدها تُربت على كتفه بحنوٍ بالغ وأتبعت فعلتها بقولها المُحِب: أكيد ربنا هيعوضك خير، أنت حلو أوي يا عسلية وأنا بحبك.
رفع كفها إلى شفتيه يلثم باطنه وقال: والعسلية بيحبك يا صفرا.

ضحكت بخفة وهي تهز رأسها بيأسٍ على ذلك اللقب الذي يُناديها به، أحيانًا يُثير غيظها، وأحيانًا أخرى تجده مُميزًا رغم سوءه، لكن كل شيء منه مُختلف بطبيعة الحال، سارا معًا نحو الداخل فوجدا كُلًا من بثينة زوجة عمه وابنتها نور جالستان على المقاعد الوثيرة التي تحتل صالون المنزل، قلبت نرجس عيناها بمللٍ وتمتمت بصوتٍ هامس لم يصل سوى له:
يا ستار يارب على الأشكال اللي تسد النِفس.

حوَّل رائف أنظاره له ومن ثَم هتف بسخرية لاذعة: فيهم من فتحية مرات أبوكِ، أشكالهم عِكرة.
كتمت ضحكتها وأكملت السير معه نحو الدرج مُتجاهلين وجود الاثنتان الأخرتان تمامًا، لكن بُثينة أوقفتهما بقولها المُتسائل بعنهجية مُحتقرة لشخصيهما: أومال فين رأفت هو مش كان معاك!
استدار لها رأفت نصف استدارة وأردف بنبرة وقحة تليق بها: لما تسألي السؤال عِدل زي الناس هبقى أرد عليكِ.

وهي المفروض تسألك إزاي إن شاء الله؟ ما تظبط كدا ومتنساش نفسك!

كان هذا الحديث يصعد من فاهِ نور التي أخذتها العِزة بالجلالة ودافعت عن والدتها باستماتة، فأخرسها هو بقوله المُتهكم بعد أن استدار لها بجسده كاملًا: منساش نفسي! متنسيش أنتِ نفسك وتنسي مقام أمك اللي كانت شغالة عند أمي وغوت أبوكِ فاضطر يتجوزها عشان يداري الفضيحة، وسبحان الله بنتها بتعيد نفس أمجاد أمها اللي تشرَّف وفرحها بكرة على اللي اتقفشت معاه واتفضحت قدام أهل البلد كلهم!

اتقدت عيني كُلًا من نور وبثينة بغضبٍ عارم اشتعل في نفوسهم، لا تعلمان كيف يستطيع قلب الطاولة عليهما وبكل تلك البراعة! وبرغم ذلك غمزها بمشاكسة وألحقها بوعيد خفي: ومتخافيش، لسه هديتك موجودة.
وبعدها رحل تاركًا إياهما تتأكلان بغيظ، فيما مالت نرجس على أذنه هامسة له بسعادة: فخورة بيك يا عسلية.

وعلى الجانب الآخر. نظرت نور إلى والدتها بتشنج غاضب وصاحت بعصبية: وبعدين يا ماما! هنسيبه طايح في الكل كدا ولا هَمَّه.
رمقتها بُثينة بهدوءٍ يسبق الكارثة، قبل أن تتشدق بوعيد: اصبري بس وخليها عليا، المهم إننا نخلص من حوار فرحك دا بدل ما يتأجل تاني، و رائف دا سيبيه عليا خالص.
ما أجمل أن يكون القمر هو بطل أحلامك، ثم تفتح عيناك فتجده بطل واقعك المُر أيضًا!

استيقظت جنة من نومتها تشعر بالإعياء الشديد، تكاد تشعر بتسرب الألم مُجددًا إلى أوردة قدمها المُصابة بالداءِ الخبيث، أغمضت عيناها بإرهاقٍ واستدارت برأسها إلى جانبها فشهقت بفزع حينما وجدت عمران جالسٌ بجانبها على الفراش!

رفرفت بأهدابها عِدة مراتٍ في محاولة للإستفاقة ظنًا منها بأنها مازالت نائمة، ووجوده مُجرد حُلم جميل سيذهب بعد استيقاظها! لكن ابتسامته التي اتسعت وصوته الآجش الذي خرج منه أكد لها بأنه واقعًا ملموسًا أشبه بالخيال:
دا يا صباح الحلاوة والدلال على ست الحُسن والجمال!
فما كان عليها سوى النُطق ب: عُمران! أنت إيه اللي جابك؟

تشنج وجهها باستنكار أثناء رده المُتهكم والوقح في الوقت ذاته: أمي وأبويا اللي جابوني، أما أنتِ بتسألي أسئلة غريبة!
ضحكت بخفة وحاولت إزالة أثار النوم عن وجهها بخجل، وجدته يقترب منها ويستند بمرفقه على الوسادة التي تنام عليها، ومن ثَم هتف برومانسية: بيقولوا لما تحب حد بيتشوفوا حِلو على طول حتى وهو قايم من النوم، لكن أنتِ شكلك يخوَّف.

في بداية حديثه كانت تُطالعه بهيامٍ وقلبٍ يطرق بصخب، لكن حينما أكمل حديثه تحولت نظراتها إلى الاشمئزاز الصريح، من المفترض أن عقد قِرانهما كان ليلة أمس، إذن عليه أن يُغرقها بكلماتِ العشق والغزل، لا بوقاحته تلك! دفعته بضجر عنها وتحدثت بصوتٍ حانق مكتوم:
خلاص روح ودوَّر على اللي يبقى شكلها حلو لما تصحى من النوم، اسرح بقى الله يكرمك مش ناقصة حرقة دم على الصبح.

كتم عمران ضحكته المُشاكسة وأخفاها بصعوبة وهو يُردد كلمتها خلفها: اسرح! لأ الكلمة دي بتاعتي ومحدش يقولها معايا.
رفعت له إحدى حاجبيها كتهديدٍ صريح، فحمحم مُتراجعًا بجدية: ممكن أعملك offer وأخليكِ تقوليها مرة واحدة بس في اليوم.

اتسعت ابتسامتها تزامنًا مع لمعة عينيها التي تتصاعد وفؤادها الذي يطرق بصخبٍ جِراء قُربه منها، تعلقت الأعيُن بوصالٍ من العشقِ الصامت، وعكست ما تخجل الألسُن أن تعترف به، اقترب عمران بوجهه منها ثم طبع قُبلة مُطولة على وجنتها أوضح بها اشتياقه الكافر لها، ابتعد قليلًا ليُطالع مُقلتاها ثم همس بانهاك:
آه لو تقوليلي إزاي أتحرر من حلاوة عينيكِ بدل ما أنا أسير!

أغمضت جنة عيناها في محاولة منها للسيطرة على صخب أفكارها الشيطانية التي تتقازف داخل عقلها، فيما همست لذاتها بمشاكسة: كلمة كمان وهرزعك بوسة تجيب أجلك.
فتحتهما مُجددًا وطالعته عن قُربٍ يتلذذ به فؤاد كليهما، وبعدها همست وهي تُبعده قليلًا: عمران أنا رجلي بدأت توجعني تاني، عايزة آخد العلاج.

ابتعد عنها في لحظة واتجه إلى الدُرج الموضوع داخله دوائها ليُخرج منه حقيبة شفافة كبيرة يوجد بها الكثير من العقارات الدوائية، حملها ثم اتجه إلى فراشها يجلس على طرفه ووضع الدواء أمامه، ثم بدأ يعبث به ليُعطيها الدواء المُناسب في الصباح، راقبت ما يفعل بابتسامة صغيرة قبل أن تُقرر سؤاله مرة أخرى:
مقولتليش بقى، جيت إزاي؟
أجابها وعيناه مُثبتتان على الدواء: من الشباك.

شهقت بعدم تصديق، فيما برر هو ضاحكًا وهو يهز كتفه بلامبالاة: خبطت على الباب أخوك الغتت قفل في وشي، فاتصرفت.
أنهى حديثه وهو يُعيد الحقيبة مُجددًا إلى مكانها بعد أن أخرج أربع عُلب من الدواء وتركهم جانبها، ضحكت بذهول أثناء مُتابعتها له وهو يتجه نحو باب الغرفة ليفتحه، فصاحت به بصراخ: أنت بتعمل إيه؟ يعني داخل من الشباك وهتخرج من الباب؟ أنت عايز تفضحني!

إلتوى ثُغره بابتسامة مُتهكمة حِيال كلمتها الأخيرة، لكنه أجابها وهو يستكمل طريقه نحو الخارج: محتاجة مايه عشان البرشام، هخرج أجبهالك وهجيلك تاني.

وبالفعل خرج غُير ممهلًا إياها فرصة للإعتراض، شقَّ طريقه إلى المطبخ بسهولة وكأن المنزل ليس به ساكنين، يتعامل فيه وكأنه يعود لأملاكِ أبيه وما شابه! ملأ الكوب الزجاجي الكبير بالمياه على آخره واستدار ليعود مُجددًا نحو غرفة جنة، لكن قابل في طريقه إلياس الذي صرخ بفزع فور أن وقعت أنظاره عليه، هو طرده منذ قليل، كيف دخل وما الذي أتى به إلى هُنا؟ جحظت عيناه برعبٍ وعاد للخلف وهو يُردد:.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
راقبه عمران باستمتاع أثناء استناده بكتفه على باب المطبخ، استعاد إلياس ثباته بعد ثوانٍ، وتحولت نظراته للغضب صائحًا وهو يقترب منه: أنت دخلت هنا إزاي؟ وبتعمل إيه هنا!
رد عليه عُمران باستفزاز: بيت مراتي وأدخله وقت ما أكون حابب، أنت عايز إيه!
تشنج وجه إلياس وهو يُكرر جُملته الأخيرة باستنكارٍ شديد: أنا عايز إيه؟ أنت ياض جايب البجاحة دي كلها منين؟
أبويا مربنيش.

كانت إجابة بسيطة تفوه بها عمران، فيما غيَّر إلياس مجرى الحديث وتسائل بجدية لظنه بأن عمران على علمٍ بما حدث بين يعقوب وذكرى: أخوك عمل كدا ليه يا عمران.
قطب عمران جبينه بجهلٍ وهو يُطالعه بعدم فهمٍ كبير، وبعدها تسائل باستغراب: أخويا مين؟ وإيه اللي عمله؟
وضَّح له إلياس مقصده بقوله: يعقوب طلَّق ذكرى ليه؟

جحظت عيني عمران بدهشة وظهر الاستنكار على وجهه وهو يصيح بسخط: إيه؟ أنت بتهزر ولا بتستخف بدمك يا إلياس على الصبح؟ يعقوب مين دا اللي طلَّق ذكرى؟
زفر إلياس بضيقٍ وسار مُعطيًا إياه ظهره: والله السؤال دا تسأله لأخوك، أنا مش عارف إيه اللي مانعني أروح أكسَّر دماغه وأعرف عمل كدا ليه، بس مستني أختي تهدى وترتاح عشان أفهم منها اللي حصل.

سار عمران خلفه وتحدث بحيرة شديدة وعقلٍ لا يتوقف عن التفكير: أنا معرفش حاجة عن اللي أنت بتقوله دا، إزاي يطلقها مش فاهم! دا روحه فيها!
كاد أن يُجَن، عقله يثور ويُفكر في كل الإتجاهات، لم يتوقع ولو بأقصى مُخيلاته أن يقوم يعقوب بذلك، دائمًا ما كان يرى العشق المُشع داخل عيناه لها، ابتسامته التي تزداد حيوية عِند وجودها، روحه المُشبعة بالحماس حين يراها، كل أفعاله تقول بأنه مُتيم بها، إذن ماذا حدث؟

حكَّ إلياس وجهه وتشدق بجبين مُتغضن وحيرة: مش عارف بقى. مش عارف.
اقترب منه عمران وربَّت على كتفه بكف يده مُؤازرًا إياه بقوله: خلاص إهدى كدا وأنا هَدِّي جنة علاجها وهروحله وأشوف إيه اللي حصل.

أومأ له إلياس بتنهيدة حارة، فيما اتجه عمران بالفعل إلى غرفة جنة حتى يُناولها دوائها، وبالفعل لن يُخبرها أي شيء الآن حتى لا تتدهور صحتها، فحتى الآن لم تعلم كُلًا من الشقيقتين ما حدث مع شقيقتهما الثالثة، أرجع إلياس رأسه للخلف مُغمضًا عيناه ومُستندًا على ظهر الأريكة الوثير ليُريح رأسه من التفكير ولو قليلًا! لكنه فتحهما مُجددًا والتشنج يملأ وجهه حينما صدحت صوت نغمات رومانسية من غرفة رضوى التي تعيش قصة حب من نوع آخر!

نفخ بضجر وتمتم مع ذاته بعبوس: خليكِ أنتِ كمان لحد ما تقعي على جدور رقبتك، دا انتوا بنات ولاد فقرية.

تظن بأنك قوي غير مهزوم، وتأتي الحقيقة لتجلدك بسوطها اللاذع كالعلقم، فبينما أنت تُخطط وتُواكب، يأتي قدرك ويوقعك في شر أعمالك، حتى تسقط على وجهك كالصعلوك، فلا تجد مَن يمد إليك راحته لإنقاذك، تكتشف بأنك وحدك، طيلة حياتك تحصد شرًا فتنمو ثماره داخل أحشاء معدتك المُهترئة بالذنوب، وحين تصرخ وتستغيث، يُقابلك فقط الغبار!

جلس حازم داخل غُرفته التي حبس ذاته بداخلها بعد أن شنَّ شِجارًا عنيفًا مع أبيه بعد علمه بحمل ابنة أخيه تالين بنطفة من ابنه المُبجل، في البداية كان أبيه يظن بأن الفاعل فادي كما أخبرته الخادمة، لكنه اكتشف بأن الفاعل هو حازم عندما واجهه، لا يتذكر شيء سوى بضعة تراهات وتجمع كُل مَن بالمنزل على أصواتهم العالية، من ضمنهم تالين التي وقفت لتُتابع ما يحدث بأعيُن باردة، غافلة عن أعين فادي التي ترمقها بنظراتٍ مُحتقرة لشأنها.

بينما خيري اقترب من ابنه أكثر وأمسك إياه من تلابيه يهزه بعنفٍ وحديثه الحاد يعكس جدية حديثه المكروه ل حازم: آخر كلام عندي، هتتجوز بنت عمك وتكتب عليها غصبًا عن عين أهلك، أنا معنديش استعداد أخسر أخويا بسبب عيل بايظ وصايع زيك.

تفوه والده بهذا الحديث ثم دفعه رامقًا إياه باشمئزاز قبل أن يتركهم ويغادر إلى اجتماعه، استفاق حازم من شروده وهو يجز على أسنانه بحقدٍ دفين، ارتعش جسده مكانه فجأة فعلم أن الوقت قد حان لأخذ جرعته الآن، هبَّ من على الفراش واتجه ناحية خزانته يفتحها بسرعة هستيرية، جسده يُطالب بجرعته الآن رغم بأنه قد أخذها منذ عدة دقائق فقط! لكن تلك الأحداث التي تضغطه تُجبره على أخذ المزيد والمزيد من تلك المادة البيضاء السامة.

وجد الكيس الأبيض الشفاف أخيرًا مُختبئًا كاللص بين ثيابه، فانتشله سريعًا ثم جلس مكانه على الأرض ووضعه أمامه، ثم هبط بكامل جسده ليشتمه بانتشاء عجيب، اشتمه بالقدر الكافي الذي يجعله يُحلِّق عاليًا كي لا يشعر بالواقع المرير الذي يعيشه، واقعًا هو المُتسبب به لا أحدًا غيره! رفع رأسه فظهر أنفه الملون ببياضٍ مُصطنع وأعين تُحيطهما السواد والشحوب، دلك أنفه بيده وشردت عيناه بوعيدٍ خالص وهو يهمس من بين أسنانه:.

أنا هعرفكم كلكم، والجوازة دي لا يمكن تتم حتى لو اضطريت إني أقتل!
في هذا العالم تحديدًا. عليك سؤال الشوارع والطُرقات ما إن كانت صادقة كالشعور، أو كاذبة كالذكريات، واحدة من أغبى ما يُفكر به المرء أن يظن بأنه سينسى أو يتخطى، فلا القلب سينسى، ولا العقل سيتخطى، بل ستظل هُناك ندبة مؤلمة موشومة على الفؤاد، ورياح الحُب ستلفحك في كل الأوقات!

كان يعقوب مُتمددًا بإنهاكٍ على فراشه في شقته التي كانت تجمعه هو و ذكرى، يُربت بربتاتٍ خفيفة موضع قلبه وكأنه يُواسيه، عيناه حمراوتان بقوة تعكس بكاؤه منذ قليل وتصطبغ بألمه المرير، لقد بنى منزلًا ورديًا كانت بطلته تلك الخائنة التي عشقها بكل جوارحه، أقام أحلامًا كانت هي سيدتها وهو أميرها، شيَّد منزلًا من تصميمه الخاص كانت هي صاحبته وهو عاشقها، كل تفصيلة بحياته القادمة كان يربطها بها، لذلك كان الجرح غائر والوجع شديد.

ذهب بذاكرته ليلة أمس بعد انتهاء عقد قران شقيقه على شقيقتها، حينها أخذها وهرب بها من وَسط الجمع الهائل إلى إحدى الطاعم الفاخرة التي لم يدخلها من قبل تقريبًا، لكن لأجلها فعلها، طلب لها أشهى وأطيب المأكولات، السعادة التي كانت تُحيط كلاهما لم تكن لها مثيل، وأثناء تناولهم الطعام تبادلا الكثير والكثير من الأحاديث، ومن بينهم سؤاله الشجن لها:
إيه هي أحلامك يا ذكرى؟

استطاع أن يلمح لمعة عينيها القوية، وذلك حينما تركت ما بيدها وشردت قائلة بابتسامة صغيرة مليئة بالحب: واحدة من أحلامي اتحققت وهي إني أفتح محل ورد ومخبوزات وعصافير، متتخيلش أنا بحب الورد والعصافير إزاي، بحب أشوفهم طول الوقت بيفرحوني، بيسحبوا أي طاقة سلبية جوايا، لما حد يصالحني مش بكون عايزاه يجيبلي هدية غالية وكبيرة، هي وردة كفاية وبتبسط أوي أوي، وكمان لما أزعل أو اتضايق بحب آكل دوناتس بالشيكولاتة أو كرواسون بالكريمة، عشان كدا قررت أجمع أكتر 3 حاجات أنا بحبهم وأحطهم في محل واحد قدام عيني طول الوقت.

لا يعلم ما أصابه، هي الآن في أقصى وسامتها حينما تحكي عن شيءٍ تُحِبه، شبَّك يديه معًا وأسند ذقنه عليهما ثم عاد ليتسائل بابتسامة ساحرة: وإيه حِلمك التاني؟

تنهدت بحرارة وردت عليه بتمني حزين: نفسي أفتح كافيه صُغير مش كبير، يكون قديم وألوانه بتتمايل بين اللون البُني والكافيه، فيه صور ل عبدالحليم و أم كلثوم و وردة والناس العظيمة دي، عايزاه كلاسيكي كدا مش مودرن زي ما موجود دلوقتي، يكون فيه ريحة زمان وناس زمان وهدوء زمان، والقهوة البلدي اللي بتتعمل على الرمل، الحاجات دي بتبسطني أوي.
حِلمك التالت!

تسائل بها دون أن يُقاطع لحظات الشجون تلك، فأجابته بابتسامة واسعة مليئة بالحب: عايزة أطير، وأسافر، وأبعد عن الكل في مكان مافيهوش غير أنا وأنت وبس!

لن يُنكِر ذهوله من كَونه واحدًا من تلك الأحلام المُميزة، لكنه في نفس الوقت شعر بشعورٍ غامر من السعادة والحب، علَّقت ذكرى أنظارها عليه دون خجل، تؤكد له بأنه يجب أن يُمثِّل جُزءًا لا بأس به من تلك الأحلام، وجدته يميل بجذعه قليلًا ثم ارتفع مُجددًا حاملًا بين يديه صندوقًا صغير أبيض اللون ملفوف بشريطة ذهبية من السِتان اللامع ويضعه أمامها، قطبت جبينها بتعجب، فأشار جهة الصندوق بعينه وقال طالبًا منها:.

افتحيه.
جذبته أمامها أكثر وقلبها يطرق بصخبٍ جَلي، وذلك قبل أن تفتحه بأيدي مُرتعشة من التوتر، اتسعت ابتسامتها بسعادة بالغة فور أن وقعت عيناها على زهرة ناصعة البياض مربوط بجذعها شريطة من اللون الأسود الفخم، وبذلك الشريط يتصل حبل قصير ذهبي اللون بورقة مطوية ومُزينة بطريقة خاطفة للأنفاس، تنفست بعنفٍ وتسللت دموع فرحتها إلى مقلتيها وهي تفتحها لتقرأ ما هو مُدون بها:.

الحبيبُ من المُحِب لا يَمِّل، ومنكِ يا شجرة الدُّر لن أمِّل.

التهمت عيناها كلماته وكأنها توشمها داخل قلبها، رفعت عيناها المُترقرقة بالدموع له فلم يعطف عليها، وإنما أخرج من جيب بنطاله الأسود عُلبة مخملية من اللون الأسود ثم فتحها ليظهر من خلفها خاتمًا أقل ما يُقال عنه غاية في الروعة، خاتم من الذهب الخالص بنقوشه الرائعة والمُميزة بتلك الماسات الذهبية التي تخترق جدرانه، لم يُعطيها فُرصة للإندهاش، وإنما مدَّ يده لها ليُلبسها إياه تحت صدمتها، وأتبع فعلته انحناء وجهه على باطن يدها ليضع قُبلة مُطوَّلة عليه، ومن ثَم رفع رأسه ليُكرر جُملته المُدونة على الزهرة:.

الحبيب من المُحِب لا يَمِّل، ومنكِ يا شجرة الدُّر لن أمِّل.
دمعة مُتمردة هبطت من عينيها جِراء انتفاضها من مكانها والهرولة إلى أحضانه الدافئة أمام رواد المطعم بأكمله، وقف من مكانه واستقبل عناقها القوي هذا بقوة أكبر يدفن وجهه بين ثنايا عُنقها المُخبئة خلف حجابها، لم يشغلهما بشر قط! كل ما يهمهما في تلك الأثناء هو وجودهما معًا فقط وكُلٌ يتمتع بدفيء أحضان الآخر، فليحترق العالم بعد ذلك!

حِلو أوي يا يعقوب.
همست بها ذكرى بصوتٍ مُتحشرج وهي تعانقه، فيما أردف يعقوب بمشاكسة استشعرتها: الحِلو للحِلو.
مرت دقيقة. اثنتان. ثلاثة. واستفاق يعقوب أولًا بعد أن لاحظ توجه جميع النظرات إليهما، منهم مَن يُتابع بابتسامة هائمة، ومنهم من أخرج هاتفه لتصوير تلك اللحظات الجميلة!
أبعدها يعقوب بخفة عنه وقال ضاحكًا: تيجي نهرب! الناس كلها بتبص علينا.

أومأت له ضاحكة، فلملمت أشيائها وهداياه التي جلبها لها ثم هرولا معًا نحو الخارج وَسط الأصوات الضاحكة والهمهمات، يمكننا القول بأن هذا اليوم هو الأفضل في حياتهما على الإطلاق، ظلا يسيران معًا لوقتٍ طويل ويتسامران بحماسٍ شديد، حتى وصلا إلى الحارة التي يقطنان بها، اتجها معًا نحو منزلهما لكنهما انتفضا بفزع حينما خرجت أم بخيت من نافذة منزلها تُتابعانهما بتفحص وقالت مُبتسمة على بغتة:.

إيه الحلاوة دي! شكلكم بتحبوا بعض أوي وهتعمَّروا سوا.
استفاق يعقوب من ذكرياته ودموعه تهبط بقوة شديدة، آلام قلبه لم يشعر بها تتزايد وتنتفض بتلك الطريقة من قبل، اعتدل في مكانها ومسح وجهه ليُزيل عبراته، ثم همس بصوتٍ مليءٍ بالحسرة والرضا في آنِ الوقت: الحمد لله. الحمد لله.

اتجه إلى المرحاض ليغسل وجهه ويُزيل بقايا دموعه وبعدها جففه بالمنشفة، استمع إلى صوت الباب فاتجه لفتحه وهو يستعد لمواجهة من أحد أفراد عائلته، وبالفعل وجد أمامه عمران وبجانبه هارون الذي تسائل بصرامة:
طلقت مراتك ليه يا ابن حنان؟

انتهى بدير من محاضراته وخرج من الجامعة بعد يومٍ حافل امتلأ به رأسه من أحاديث الأطباء التي لا تنتهي، زفر بسخط وحكَّ رأسه بتعب أثناء تمتمته مع ذاته بضجر: قال يعني لازم أعتب عشان أنجح، أومال هعمل إيه عشان أطلع من الأوائل!

وقف أمام الحافلات التي كادت أن تمتلأ على آخرها من الرُكاب، فلم يجد مكانًا للجلوس سوى جانب السائق، لذلك اضطر آسفًا أن يجلس بالأمام، انطلق السائق بالسيارة في حين مال بدير برأسه ليستند على نافذة السيارة وأغمض عيناه بإرهاقٍ واضح، وقت مُناسب لأخذ قيلولة صغيرة حتى يصل إلى المنزل، وما إن غفلت عيناه لدقائق؛ حتى انتفض مكانه بفزع بعد أن استمع إلى صراخ السائق من جانبه يُصيح بعنفٍ وسوقية:.

أنت ياض يا ابن ال يا، وسَّع من الطريق يا.
حاول بدير تهدأته فربت على كتفه قائلًا: خلاص يا ريس محصلش حاجة إهدى كدا.
استدار له السائق وتحدث بعصبية: دا عيل ابن مش عارف يشوق، هتلاقي أمه اللي جايباهاله.
رد عليه بدير بتعب: معلش خليها عليك أنت الكبير.

وبالفعل صمت السائق وعاد بدير يستند على زجاج النافذة ليُكمل قيلولته، مرت دقائق أخرى وعاد لينتفض مُجددًا على صياح السائق الذي صاح بسباب لاذع: يابن ال يا راجل يا اخلص، طالما مبتعرفوش تسوقوا بتركبوها ليه!
زفر بدير بسخط جاذبًا خصلات شعره بنرفزة ووجَّه حديثه للسائق يقول بتهدأة: خلاص يا ريس ملوش لزوم الخناق والشتايم دي، ملهاش لازمة!
وللمرة الثانية يستدير له السائق ويهتف بغضب: دا موقف الشارع كله ابن ال.

معلش خليها عليك أنت المرة دي كمان.
قالها ثم عاد لوضعه فشعر بحركة السيارة تهتز وتقف بعنف، فاعتدل في مكانه وصاح هو تلك المرة لمن بالخارج: ما تخلص يا ابن ال متقرفوش اللي جابونا بقى!
جلس حمزة ومصعب بجانب بعضهما البعض أمام جهاز الحاسوب المُتصل بجهاز التنصت الذي أوصلَّه حمزة ووضعه في مكتب العميد، نظر إليه مصعب وسأله بإعجاب: وعملتها إزاي دا يا ابن الإيه!

غمز حمزة بمكر وقال بغرور: عيب عليك ياض مش هتصعب عليا.
راجل.
نطقها مصعب بفخر، وبعدها انتبهت آذانهم إلى صوت العميد الذي يظهر بأنه يُهاتف أحدًا ما، كانت مُكالمته في البداية مُبهمة وغير مفهومة، لكن تدريجيًا بدأ معنى حديثه بالوضوح أكثر حينما قال:.

متقلقش يا فندم كل شيء إحنا متفقين عليه بيتم وبالحرف الواحد، الظُباط بيروحلهم معلومات عن موعد الشحنات بعد ما بتم بساعات كتيرة، فالمهمة بتبوظ وبيتجازوا، أهم حاجة تلتزم بإتفاقك معايا والفلوس توصلي في الوقت المطلوب.
نظر مصعب لشقيقه بذهول، فيما هتف مصعب بتشنج غاضب: يا زبالة يا خاين! وعايش فيها دور الأب الشريف! أنا قولت كدا برضه، أصل مستحيل حد يكون طيب للدرجادي.

صمتا مُجددًا يستمعا إلى بقية الحديث والذي كان في غاية الخُبث والخطورة: المهمة اللي هتتم بعد ساعتين دي أنا وصلتها ليهم بإنها هتكون الفجر، ميعرفوش إن فيه كمين متحضرلهم.
ضرب مصعب على صدره شاهقًا بصدمة: كمين! يعني كان عايز يموتنا في عز شبابنا ابن العالم المعفنة! من غير ما أتجوز!

دفعه حمزة بسخط وهو يُطالعه باشمئزاز وكاد أن يسبَّه، لكن حديث العميد صنَّمهم في مكانهم حينما قال: أكيد يا طارق بيه متقلقش، الخطة ماشية مظبوط وتمام مية في المية.
تمتم حمزة بهمسٍ وصل لمسامع مصعب: طارق عاشور؟
سخر مصعب بتهكم غاضب: وهو فيه غيره! ابن ال كان مستغفلنا وممشينا على كيفه.

انتفض حمزة من مكانه على بغتة وعيناه تقدح شررًا حاقدًا ومن ثَم تشدق بغضبٍ عارم: لازم نمنع الظُباط إنهم يكملوا المأمورية دي، لو راحوا هيموتوا.

وقف مصعب من مكانه بسرعة واتجه يُلاحق شقيقه ليقف أمامه يمنعه عن فعل ما يقول، ثم قال بسخط: ظُباط إيه اللي هتمنعهم إنهم يكملوا المأمورية؟ أنت اتجننت يا حمزة ولا جرا لمخك حاجة؟ أنت إيه اللي يضمنك أصلًا إن مفيش جاسوس وسط الظُباط دول هيروح يبلغهم باللي قولته؟ ومش بعيد كمان يصفوك.
دفعه حمزة صارخًا به باهتياج: وعايزني أعمل إيه يعني؟
أجابه مصعب بخبث: طبَّل للي قدامك عشان تريَّح دماغك.

زوى حمزة ما بين حاجبيه بعدم فهم، فأوضح له الأخير قائلًا: يعني العميد عايزنا نروح على ميعاد العملية صح! إحنا هنوهمه بس في الناحية التانية هنضرب ضربتنا الصح.
فهم حمزة ما يرمي إليه وصمت للحظاتٍ يُفكر في حل مُناسب يُخرجهم من ورطتهم بأقل الخسائر، أنار عقله بفكرة قد تكون هي المُنقذ الوحيد لهم، فرفع عيناه إلى مصعب يقول على عجالة:.

أنا أعرف ظابط كويس تبع يحيى الديب صاحب بادر، أكيد هو يعرف حد ثقة ممكن يساعدنا في الحوار دا، هتيجي معايا نروحله؟
راقت فكرته استحسان مصعب لكنه رفض قائلًا بتخطيط: لأ عندي حوار كدا لازم أخلَّصه دلوقتي، إنچوي أنت وأنا هنچوي كمان.
تمتم بحديثه مُسرعًا ثم رحل من أمام حمزة الذي لحق به نحو الخارج، لكن كُلٌ منهم ذهب في طريقه.

يومان مُتكاملان قضتهما في النوم براحة عارمة بعد أن تحررت من قيودٍ كانت تقبض فوق عُنقها بقوة، فتحت بدور عيناها تُطالع كل ما حولها بنظرة مُختلفة، نظرة أكثر راحة، أكثر استمتاعًا، الأيام السابقة التي عاشتها؛ عاشتها مع ذئبٍ كان ينهش في لحمها دون أن يُراعي، كانت تُعطيه الحب والإحتواء، فقابله هو بالسخط والأذى!

نفَّضت كل تلك الأفكار البشعة عن بالها وهبت من مضجعها مُتجهة نحو المرحاض لتغسل وجهها وتقضي حاجتها وتتوضأ، وأثناء خروجها لمحت والدتها تدور حول نفسها في الصالون تُحدِّث ذاتها ومعالم القلق مُرتسمة على وجهها، اتجهت نحو باستغراب ومن ثَم تسائلت على بغتة: مالِك يا ماما؟

انتفضت حنان بفزع وطالعت إياها برعب، وفور أن وقعت عيناها عليها وضعت كفها على صدرها تُتمتم بخضة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أنتِ إيه اللي صحاكِ دلوقتي يا بت أنتِ؟
رفعت بدور حاجبها بسخط وهي تسألها: وأنتِ مش عايزاني أصحى ليه يا ست حنان؟ وبعدين مالك واقفة مش على بعضك كدا وعمالة تُبصي فوق! فيه حاجة حصلت؟

قالت الأخيرة بفضولٍ شديد، فأمسكتها حنان من معصمها تُقربها منها، ثم تحدثت بصوتٍ خفيض حَذِر: أصل الواد أخوكِ عمران جِه واتكلم مع أبوكِ بوشوشة كدا وبعدها خَده وطلع على فوق عند أخوكِ يعقوب.
ضيَّقت بدور ما بين حاجبيها وتسائلت بتعجب: وأنتِ إيه اللي عرَّفك إنه طالع عند يعقوب؟ مش يمكن طالع لعمي عوض أو مروان؟

نفت حنان برأسها وقالت بثقة: لأ لأ أنا متأكدة إنهم طِلعوا لأخوكِ، أنا سمعتهم وهما بيجيبوا اسمه وبعدها وِش أبوكِ اتبدل وجاب ألوان.
فكرت بدور مُليًا بعُمق بدا أبلهًا بعض الشيء، وبعد لحظاتٍ من التفكير قالت باقتراح: أيكونشي جايبين ليه عروسة وهيجوزوه تاني!
لطمت حنان على صدغها قائلة: يا مصيبتي! عروسة؟

أكدت لها بدور ببديهية: يمكن يعقوب أخويا اتصور مع واحدة كدا أو كدا زي ما حصل مع ذكرى وهيخلوه يتجوزها رغمًا عن أنوف الجميع ويكونوا حرابيق!
لم يُعجب الحديث حنان البتة، لذلك دفعتها بعيدًا عنها وهي تقول بنزق: حرابيق يا قليلة الأدب! غوري يا بت من هنا وروحي شوفي أنتِ راحة فين.
طالعتها بدور بسخط قبل أن ترحل وهي تُتمتم مع ذاتها بمسكنة: خدت غرضها مني وبعد كدا رمتني، عجايب.

دلفت إلى غرفتها مرة أخرى واتجهت إلى الخزانة لانتقاء ثياب بيتية مُريحة لإرتدائها، استمعت إلى صوت وصول رسالة هاتفية فاتجهت إليه لترى أن المُرسِل لم يكن سوى إلياس الذي كتب:
استني النهاردة بالليل هبعتلك مُفاجئة حلوة أوي، سلام يا ست حلويات.
ابتسمت بخفة وانشغل عقلها عن ماهية المُفاجئة الغريبة التي يُجهزها لها.

الأيام تُخبيء الكثير من المُفاجئات، وهذا ما همس به فادي الذي يجلس في مكتبه على مقعده الوثير وهو يهتز به يمينًا ويسارًا باستمتاعٍ شديد، يتذكر مواجهته الحارة التي دارت ليلة أمس بينه وبين يعقوب، تلك المواجهة التي خطط لها كثيرًا حتى يصل إلى مبتغاه الحقير، رفع إصبع إبهامه يحتس به جانب شفتيه بعد أن تذكر ضربة يعقوب العنيفة له بعدما أخبره كل شيء، لم يلومه، وإنما وضع له أعذارًا تستحق.

أرجع رأسه للخلف يتذكر كل شيء حدث في الماضي، يتذكر الحقائق فقط وليست الأكاذيب التي أخبر بها يعقوب!

حينما كانا معًا في إحدى الحفلات التي أقنعها بها لتنفيذ خطته الدنيئة تلك بعد أن اتفاقه مع أبيه، وللحقيقة. كان لوالده دورًا فعالًا في تلك الخِطة حتى يستولي على أملاك رؤوف ويُهدده بفضح ابنته إن لم يتنازل، وبالفعل رسم فادي دور الحبيب بحبكة صدقها جميع الموجودين أمام إهتمامه المُبالغ بكل تفصيلة تخصها، ولِمَ لا تُصدقه وهي ترى ظاهره البريء وليس باطنه الدنيء، اقترب منها وأعطاها كوبًا من عصير البرتقال وهو يقول برقة:.

خدي يا روحي اشربي، الجو هنا تحفة.
التقطت منه ذكرى الكوب المُمتليء وأكدت على حديثه بحماس: أيوا فعلًا حلو أوي.
فتحدث فادي يُعاتبها بهدوء: شوفتي! مش قولتلك الجو هيبقى حلو وأنتِ ماكنتش عايزة تيجي!
اعتذرت ضاحكة وهي تُتابع الجميع بعينيها: خلاص بقى يا فادي متزعلش، وبعدين قولتلك كنت متضايقة منك بسبب تالين.
خلاص بقى متجيبيش سيرتها وخلينا نستمتع بوقتنا، اشربي العصير يلا.

وبالفعل بدأت ذكرى تتجرع مشروبها تحت أنظاره الثاقبة التي يرمقها بها من الحين للآخر حتى تأكد من إنهائها له، ارتسمت ابتسامة خبيثة على ثُغره بعد أن مرَّت دقائق وملامح الإعياء بدأت بالظهور تدريجيًا على محياها، فذهب إليها مُسرعًا مُتصنعًا القلق أمام الجميع الذين راقبوا إسناده لها بعد أن اعتذر لهم عن ضرورة ترك الحفلة لاضطراب صحتها المُفاجيء، وضعها جانبه داخل السيارة واستدار ليجلس بجانبها أمام المِقود، ثم اتجه بها نحو شقته الخاصة تحت تمتمها الغير مفهومة.

وصل بها إلى المنزل بعد أن حملها ليصعد الدرج المؤدي إلى الأعلى، وبعدها بدأ في تنفيذ خطته الدنيئة والتعدي على حُرمة منزله دون أي مقاومة منها، ذهب عقلها لكن عقله مازال موجودًا، إذن ما تبريره، هو حتى لم يُبرر بأي شيء حين استيقظت ووجدت ذاتها نائمة بجانبه بذلك الشكل المُخل، لا ثياب، لا أي شيء، فقط شُرشف يُحيط بجسد كليهما!

يتذكر صدمتها، صرخاتها، بكاؤها، سبابها عليه، حتى حالة الهياج التي سيطرت عليها وتحطيمها لكل ما تطوله أيديها مازالت موشومة داخله، ومن بعدها تذكرت ذكرى نهائيًا، فتحولت من شخصٍ وديع لا يُقدم سوى الحُب، إلى شخصٍ مُتعصب يكره الجميع بلا سبب، وازدادت حالتها سوءًا عندما أخبر خيري شقيقه رؤوف بما حدث بينهما، لتثور ثائرة الآخر ويذهب إليها ليُبرحها ضربًا أدمى جسدها دون أن يستمع إليها، وبعد تم الزواج الإجباري، زواجٌ لا يعلمه سوى خيري، رؤوف، فادي، وذكرى، ذكرى التي تم ذبحها بنصلٍ تالم من أقرب الأشخاص إليها، عانت شهرًا كاملًا من جبروت والدها وإجبار فادي عليها لأخذ حقوقه الشرعية منها، ورُغم أن الزواج كان قانونيًا، إلا أنها كانت تشعر بالذنب كلما اقترب منها فادي.

ومن تلك النُقطة بدأ خيري هو الآخر يضغط على رؤوف بكل قوته ليتنازل عن أملاكه له وإما أن يفضحه ويفضح ابنته أمام العالم بأكمله، حينها ستنخفض أسهمه وسيكون مُجرد هامشًا منبوذًا في السوق، وبعد أن تنازل رؤوف ؛ أجبر خيري ابنه على تطليق ذكرى وبالفعل قد فعل!
وهذا ما حدث بالضبط، لكن ما قاله فادي ل يعقوب قد كان:
وبعد المرة الأولى كانت بتتحايل عليا أقرَّب منها لحد ما نتجوز، ولو مش مصدقني اسألها.

استطاع ببضعة كلمات فقط أن يذبحها مُجددًا، بنفسِ السكين وبنفسِ النصل التالم! ظُلِمَت مرتان، واحدة حينما أوقعها فادي في مصيدته، والأخرى حينما طلَّقها يعقوب، لكن ما لم يعلمه أحد بأن رؤوف اشترك معه في تلك اللعبة أيضًا بعد أن وعده الآخر بأن يُعيد له كل ممتلكاته مُجددًا مُقابل أن يتزوج ذكرى!

استفاق فادي من شروده على صوت الهاتف الذي عَلى رنينه يُعلن عن إتصال، اعتدل في مكانه والتقطه ينظر إلى شاشته، فاتسعت حدقتاه بصدمة حينما رأى أن المُتصل لم يكن سوى ذكرى!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة