قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثلاثون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثلاثون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثلاثون

لم تكن الحياة عادلة يومًا، ولم يكن الفؤاد مُتعقلًا من قبل، والرياح دائمًا تأتي بما لا تشتهي السُفن، حتى الحُب. لم يكن الحل للخلاص للحظةٍ، كل هذه أوهام يّسطِّرها لك عقلك الباطن للتعايش، كل هذه أحلام تخفي من خلفها كابوسًا لو رأيته لوقعت فزعًا، حتى دموعك التي تخدعك بأنها دموع فرح، لم تكن سوى نتيجة من الحُزن والخذلان.

كرر فادي اسم ذكرى بلهفة ما إن فتح الهاتف ليُجيبها، فجاؤه صوتها القوي والذي يتغلغله الحقد المرير: آه ذكرى يا زبالة.
رمش بأهدابه عدة مراتٍ وكأنه وعى للموقف بأكمله، فاصتبغت عيناه بالغضب وهو يُردد بحدة مُهددًا إياها: احترمي نفسك يا ذكرى وإلا...

قاطعت حديثه بمرارة رغم قوة نبرتها: وإلا إيه؟ فيه إيه باقي لسه معملتهوش! قولت ل يعقوب عن اللي كان بيننا ويا عالم قولتله إيه، دمرت ماضيّا وحاضري ومستقبلي، سببتلي كُره ناحية كل الرجالة، بس مهما حصل يا فادي عمري ما هكره يعقوب وهفضل أحبه، عارف ليه!
تسائلت وانتظرت قليلًا فلم تسمع سوى صوت أنفاسه الغالية التي تعكس انفعالاته المُتعصبة، لكن عصبيته وصلت إلى أوجها حينما هتفت ذكرى بصوتٍ واثق يدل على عشقٍ وطيد:.

عشان يعقوب راجل بجد، مش واطي وحيوان زيك.

تدفقت الدماء إلى رأسه وشعر بحُمم تؤجج من طاقة الغضب داخله، حديثها بكل تلك الثقة عن غريمه جعله يحقد على يعقوب أكثر وأكثر، يُحاول معرفة ما يُزيده عنه حتى يُغير ما بذاته ويجعلها تعود كسابق عهدها لتُبادله الغرام مُجددًا، لكن ما لا يعلمه أن المسألة مسألة قلوب، وأن الأرواح تلاقت في نقطة تُشبه المغناطيس، وبرغم البُعد فالقلوب مُترابطة، والأيدي مُتشابكة، والأعيُن مُتعانقة.

كاد أن يفتح فاهه حتى يُجيبها بطريقة مُهينة، لكنه صمت حينما استمع إلى صوت صافرة الإغلاق تعلو من الطرف الآخر، نظر إلى الهاتف بغضبٍ جم وفي لحظة عُنفوان عصيبة رماه بعنفٍ على الجدار الذي أمامه، ليسقط مُتهشمًا أمام ناظريه كالفُتات، نظر إلى نثرات الهاتف وصدره يعلو ويهبط بعصبية هائلة، لقد استطاعت ببضعة كلماتٍ فقط أن تتسبب في إحراق روحه بعدما كان يحتفل بنجاح خطته العظيمة.

جز على أسنانه بحقد وهمس من بين شفتيه بتوعد صريح: ماشي يا ذكرى، إن ما خليتك تندمي على كل كلمة قولتيها مبقاش أنا فادي الجداوي.
استقبل يعقوب والده وشقيقه في منزله وجلس كلٌ منهم على أريكة في الصالون، الشيء الوحيد الذي كان يعم المكان هو الصمت، لا يُسمع سوى صوت أنفاسهم المُغلفة بالتوتر والحزن والقلق، وحينما طال صمت يعقوب عاد هارون ليتحدث بجبينٍ مُقطب قائلًا:
مش هتقولِّي ليه برضه طلقت مراتك يا ابن حنان؟

رفع يعقوب أنظاره الخاوية ليُطالع أبيه الذي يظهر التأهب الشديد على تقاسيمه، فلوى شفتيه ضاحكًا بمرارة وتحدث ساخرًا: مبتقوليش يا ابن حنان دي غير لما تكون زعلان مني يا حَج.
صحح هارون مُعتقده بصرامة: قصدك لما تبقى غلطان، أنا مبزعلش لا منك ولا من حد من إخواتك وأنت عارف كدا كويس، ولتالت مرة هسألك يا يعقوب، طلقت مراتك ليه!

أغمض يعقوب عيناه يُحاول بشتى الطُرق السيطرة على انفعالاته وإخفاء حُزنه الذي لم يخفى على أبيه بالطبع، وبعد ثوانٍ فتحهما مُجددًا ثم تحدث بابتسامة هادئة لم تُزيد إلا من شك هارون من إجابته:
متفقناش مع بعض يا حَج، حاولنا كتير نتعايش سوا بس كنا بنفشل في كل مرة وأسلوبها غير أسلوبي، نصيبنا مش مكتوب ببعض.

عايز تفهمني إنك فجأة اكتشفت إن البنت اللي كنت هتموت وتتجوزها أسلوبها غير أسلوبك؟ اضحك على حد غيري يا يعقوب بالكلام دا، وأنا أهو مستني إجابتك والحقيقة اللي أنا عايزها مش الكدب اللي أنت بتقوله.

مُحاولاته المُستميتة لإخفاء دموعه قد بائت بالفشل الذريع، وها هو مع أول ضغط ينتج من أبيه تخونه عِبراته وتبدأ بالهطول، دفن يعقوب وجهه في كف يده مُخفيًا وجعه عنهما، ليس خجلًا، وإنما مرارة، كان على أتم استعداد أن يُحارب العالَم بأكمله من أجل ابتسامة واحدة منها، أن يُدمر كُل مَن تُسوِّل له نفسه في إزعاجها، وأثناء حربه لأجلها، جاءت هي من خلفه وطعنته بمنتهى القسوة ضاربة بكل وعودها عرض الحائط.

تبادل كُلًا من عمران وهارون النظرات القلقة وكان أول مَن ينتفض من مكانه هو عمران الذي هرول إلى شقيقه يسأله بجزع: مالَك يا يعقوب؟ إيه اللي حصل ما بينكم وصلك للحالة دي؟

ازداد نشيج يعقوب مع تزايد آلام قلبه، ليته يستطيع البوح عن جُرحها، ولكنه بالرغم من جُرمها مازال يشتاقها فؤاده وتُطالب بها روحه، لا يستطيع فضحها والإساءة إليها في حين أنها عاملته كمُغفل طيلة الوقت، وفي تلك اللحظة. تخلى هارون عن مجلسه وتحرك من مكانه مُتحركًا جهة ابنه، جلس بجانبه بتروٍ وعلى حين بغتة جذبه في عناقٍ قوي رغم دفئه ليبوح عن مكنونات صدره بالبكاء.

أحيانًا. يحتاج الإنسان إلى عناقٍ دافيء، قُبلة هادئة، حديثٍ مُطمئن، يحتاج إلى أن يشعر بالسكينةِ والهدوء، خاصةً وإن كانت الرياح العاصفة تضرب طواحين حياتك.
مرت الدقائق الهادئة في ظاهرها و العاصفة في باطنها، وبها انطفىء بكاء يعقوب تزامنًا مع انطفاء روحه، وهُنا أعاد هارون سؤاله عن سبب طلاقه هو و ذكرى، ليُجيبه بصوتٍ واهن يحمل وجع العالم بأكمله:
وجعتني أوي يا بابا، وجعتني أوي.

تنفس هارون بعُنفٍ وعلم أن ابنه لن يبوح عن السبب مهما حدث، لذلك لجأ إلى حديثه الذي يعلم تأثيره الشجن عليه وتمتم وهو يُمسد على ظهره بحنان:.

يمكن اللي حصل معاك يكون وجعك أوي وقلبك مش مستحمله، لكن كل ما تيأس افتكر الرسول وإزاي كان بيتعامل مع البلاء، سيدنا مُحمد اتعرض لابتلاءات ملهاش أول من آخر، يُبتلى بالجوع فيشد الحجر ويقول ولله خزائن السموات والأرض، ويُقتل أصحابه، ويشج وجهه، وتُكسَر رباعيته، ويُمثّل بعمه، وهو ساكت، ثم يرزق ابنًا ويسلب منه، فيتعلل بالحسن والحسين، ويموتوا، هو بس كان موكل أمره لربنا،.

وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: « قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟، قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيُبْتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة».

لم يكن يعقوب فقط هو المُستمع، وإنما عمران أيضًا الذي يحمل داخل فؤاده خوفًا شديدًا وهو يرى حالة زوجته التي تزداد سوءًا يومًا بعد يوم عقب أخذها لجرعات العلاج المُميتة، ببضعة كلماتٍ رماها أبيهم فوق آذانهم جعل السكينة والإطمئنان تتسلل لداخل قلوبهم، فيما استطرد هارون الحديث مُنهيًا إياه بقوله:
ومسير كل حاجة وجعاك تبقى من الذكريات.
خرج يعقوب من أحضان أبيه وأجابه بقهرةٍ أبت تركه:.

بس أنا مش عايز ذكرى تبقى من الذكريات.
طالعه هارون بصمتٍ قبل أن يقول بكلماتٍ ذات مغزى: يبقى تشيل الشوكة اللي واقفة في طريقك أنت وهي وتكمَّل، ولو مقدرتش؛ فهي متستاهلش.

طالع يعقوب أبيه بتيهة وعقلٍ مُشوش، فيما رفع هارون كفه يُجفف وجه ابنه من الدموع بحنانٍ مُغلف بالقوة ومن ثَم قال بحسم: أنا ابني ميعيطش، ابني مفيش حاجة تكسره، قوم كدا وشِد حيلك عشان تقرر حياتك الجاية هتمشي إزاي، وكله هيبقى برغبتك أنت ومحدش هيجبرك على حاجة.
أومأ يعقوب لأبيه ببطئٍ ووقف معه حينما هب الأخير من مكانه جهة الباب، فسار يعقوب خلفه وهو يتسائل بتعجب: أنت رايح فين يا حَج!

هنزل لأمك يابني زمانها هتتجن، وأنت كمان لما تحس إنك كويس انزل لمطرحك من تاني.
تمتم بها بحنانٍ شديد أثناء وقوفه على أعتابِ الباب، فطالعه يعقوب بحبٍ قبل أن يرتمي بين أحضانه يُعانقه بامتنانٍ شديد وبعدها همس: شكرًا يا بابا، ربنا يديمك ليا ويجعل حِسك دايم في الدنيا.

ربت هارون على ظهر ولده وهو يبتسم بخفة، ثم ابتعد بعدما ودَّعه وهبط للأسفل حيث زوجته التي كادت أن تُجَن خوفًا، تنهد بثقل وهو يُفكر مليًا في الطريقة التي عليه إخبارها بها عن طلاق ابنه من زوجته، لكنه حسم أمره بإخبار الجميع وليحدث ما يحدث، المُهم عنده هو يعقوب وراحته.

وفي الأعلى. نظر يعقوب باستنكارٍ جَلي إلى عمران الذي تمدد على الأريكة بكل أريحية وحمل بيده جهاز التحكم ليُغير قنوات التلفاز كيفما يشاء، لذلك سأله يعقوب بتبجح: مش هتغور أنت كمان ولا إيه؟
نظر إليه عمران بطرف عينه وتسائل ببراءة: بتكلمني أنا يا بيبي!

اتجه إليه يعقوب بخطواتٍ سريعة حتى وقف قبالته بتقاسيم وجه مُستنكرة، فصرخ به عمران بسخط: ما توسَّع يا عم خليني أتفرج على الفيلم، واتجر اجري روح اعملنا حلة فشار وحُط عليها بهارات ومكعب مرقة دجاج، وعندك إزازة حاجة سقعة في التلاجة صُبلنا كوبايتين، وفي درج المطبخ التاني هتلاقي برتقان أخضر هاته نقزقز فيه وإحنا قاعدين و...

قاطع يعقوب حديثه صارخًا به وهو يُمسكه من تلابيه يهزه بعنف: أنت لحقت لفيت في الشقة يا حيوان؟ بقولك إيه يا عمران غور من وشي أنا عايز أفضل لوحدي لو سمحت.
صمت عمران عن الحديث رامقًا إياه بعتابٍ لعدة ثوانٍ، فنفَّض يد يعقوب بعيدًا عنه دون أن يتحدث وابتعد، نفخ يعقوب بضيق ظنًا منه بأن طريقته الوقحة هذه أثارت ضيق شقيقه، لكنه دُهِش حينما استمع إلى تمتمة عمران الباردة وهو يتجه نحو المطبخ:.

خلاص هروح أنا أعمل الفشار مش عايز حاجة من وشك.

لثوانٍ ضحك يعقوب بعدم تصديق، لكنه وعى بعد ذلك أن عمران لا يريد تركه وحيدًا في تلك الحالة حتى لا يسبح في أفكاره الخانقة مُجددًا، رمق أثره بحبٍ شديد، قبل أن يتنهد بثقل ويتجه نحو الأريكة ليرتمي عليها بإنهاك وهو يُغمض عينه تاركًا ذاته يغوص في ذكرياته التي لا تُزيد إلا من ألمه، لكنه انتفض بفزع حينما استمع إلى صوت عمران العالي يأتي من جانبه لينتشله من أفكاره وهو يقول بسماجة:.

شغَّلنا بوس الواوا لهيفا وهبي خلينا نروَّق!

مرت ساعتان، وها هو يقف بقناصته في أحد المباني العالية والتي تسنح له الفرصة برؤية كل ما تطوله عيناه، ارتدى مصعب قناعه على وجهه بثقة، ثم ثبَّت قناصته أمام باحترافية بالغة وعيناه تمسحان المكان بأكمله، ارتسمت ابتسامة واثقة على ثُغره وهو يتخيل ردة فعل الجميع حينما يُفاجئون بانكشاف خطتهم، لا بُد بأن أول شخص ستتوجه إليه أنظارهم هو العميد، والذي يعلم بكلِ كبيرة وصغيرة داخل مبنى الشرطة، ذلك الخائن الذي صدمهم بحقيقته الحقيرة يجب أن ينال ما يستحقه بكل تأكيد.

انتصبت حواسه حينما رأى سفينة كبيرة مُحملة بالصناديق الخشبية الغليظة قادمة نحو الميناء، وسيارة طارق عاشور وحسن عاشور ها قد جاءت للتو لاستقبال الشُحنة والتي لا يُعرَف ماهيتها حتى الآن، لكن ما أثار ريبته أن جميع مَن بالميناء يستقبلون الشاحنة هُم أيضًا! أيُعقل بأن الجميع مُشترك في تلك الجريمة، أم أن هناك شيئًا غامضًا يُحاك خلف ظهورهم؟

نفض تلك الأفكار عن رأسه الآن وركَّز على هدفه، وبجهاز الميكروسكوب الذي بيده وضَّح الرؤية أكثر وقرَّب الصورة منه حتى يرى محتوى تلك الصناديق، ظهر الاستنكار على وجهه حينما رأى أن الشُحنة ما هي إلا مجموعة من الكلاب البوليسية التي يستخدمها المُجتمع الراقي في الحراسة عادةً، وبكل صندوق يوضع به كلبين على الأكثر، مطَّ مصعب شفتيه بحيرة وبعدها همس لامباليًا:.

أنا ميهمنيش الكلام الفاضي دا، أنا حاسس إن فيه حاجة شمال في الموضوع.

وعقب همسه، ترك ما بيده ووقف خلف قناصته ووجَّهها إلى هدفه، ثانية. ثانيتان. وانطلقت الرصاصة بسرعة مُخيفة لتستقر في رأس أحد الحُراس الذين يعودون إلى رجال طارق وحسن عاشور، عمَّ الهرج والمرج في المكان وتعالت صرخات الرجال بهلع، فيما انطلقت رصاصة أخرى لتستقر في صدر أحد العاملين في الميناء والذي كان لديه شُبهة مُوجهة إليه من قبل في الإتجار بالنساء، وها هو تخلص منه للأبد، والرصاصة الثالثة والرابعة والخامسة خرجوا ليستقروا في الجزء السُفلي من السفينة مما أدى إلى خرقها!

انتصب واقفًا باعتدال وهو يُراقب ما تسبب به من هلع باستمتاع ورضا شديدين لكن تحولت تقاسيم وجهه إلى الصدمة حينما رأى قوات الشرطة تُحاصر الميناء بأكمله وتهجم على الجميع، وما زاد صدمته هو رؤيته لأخيه حمزة على رأس هذا الهجوم، لكن كيف أتى بقواتِ الشرطة إلى هُنا!
«قبل ما حدث بقليل. ».

اتجه حمزة إلى وجهته المعروفة وهو منزل يحيى الديب بعد أن هاتفه وأملاه الآخر عنوانه الجديد الذي انتقل إليه، وبعد نصف ساعة كان قد وصل إلى منطقة راقية ترتص بها العمارات بجانب بعضها البعض في انتظامٍ ووجهتها من اللون الكريمي الهاديء، كما أن أمام كل عمارة منهم يوجد عدد لا بأس به من الأشجار وأصيصات الزهور ذوات الروائح النفاذة، اتجه إلى العمارة التي وصفها له يحيى والمُدون على حائطها رقم 70، فانطلق إليها يصعد إلى الدور الثالث بسرعة.

طرق جرس الباب وانتظر قليلًا حتى فُتِح الباب وظهر من خلفه جسد لفتاة صغيرة ترتدي فستانًا بيتيًا من القماش الأبيض والمنقوش بزهورٍ بنفسجية صغيرة، وما إن رأته حتى تسائلت بعفوية: عايز بابا صح؟
ابتسم حمزة بخفة لمظهرها الطفولي اللطيف ورقتها المُفرطة، ثم أومأ لها بالإيجاب، لتُفاجئه بمد يدها له وهي تقول بحسم: هات خمسين جنيه وأنا هسيبك تدخل.

فرَّغ حمزة فاهه وهو يُطالع الصغيرة باندهاش، بينما يحيى استمع إلى حديث ابنته من الداخل وصاح بها بصراخ: بت يا آلاء.!
نفخت آلاء بغيظ وهي تنحني جانبًا لتسمح ل حمزة بالدخول، فسبقته هي للداخل مُوبخة والدها: يوه بقى يا بابي! ما تسيبني أسترزق يا أخي!

دخل حمزة خلفها وحاول بكل قوته أن يكتم ضحكته التي كادت أن تنطلق عاليًا احترامًا لسُكان المنزل، لكن محاولاته بائت بالفشل حينما ردد يحيى حديث ابنته باستنكارٍ ومن ثَم سألها بتشنج: تسترزقي؟ أنتِ مين علمك الحركة دي يا قليلة الرباية!
صعدت الصغيرة بجانبه تحتضن دُميتها الصغيرة وهي تُجيبه بحماس: يامن ابن عمو رائد بيعمل كدا مع الضيوف وبيكسب فلوس كتير أوي.

انطلقت ضحكات حمزة عاليًا وفي ذهنه يُفكر في تلك الوظيفة حقًا بعد أن يتقاعد من عمله! ليهتف من بين ضحكاته:
يا زين ما ربيت يا يحيى والله.

شاركه يحيى الضحك وهب من مجلسه مُعانقًا إياه، فبادله حمزة العناق باشتياقٍ جلي وبعدها ابتعدا ليجلسا مُتبادلان بعض الأحاديث المُشتركة قبل أن يبدأ حمزة بقص كل شيء على أذن يحيى الذي استمع إلى بانتباهٍ شديد ومعالم الدهشة والذهول ترتسم على محياه تدريجيًا، وبعد ما أنهى قص ما اكتشفه صاح يحيى بتفكير خبيث:
دا صهيب هيحب الحاجات دي أوي، مفتقدها بقاله سنين.
مين صهيب؟

تسائل بها حمزة بانتباه، فأجابه يحيى وهو يهب من مكانه قائلًا: صهيب هو الظابط اللي هيساعدك، يلا بينا ننزله دلوقتي عشان منتأخرش، بس ممكن يعصلج معاك شوية عشان النهاردة المفروض إجازته.
أنا لو مكانه متحركش بصراحة، بس أنت إقنعه.
قالها حمزة برجاء، فإلتوى ثُغر يحيى بتهكم وهم يسيرا معًا جهة الباب للخروج: عايزني أنا اللي أقنعه؟ دا أنت غلبان وعلى نياتك أوي.

كان قد وصلا إلى أعتاب الباب، لكنهما وقفا مُجددًا حينما نادت آلاء قائلة: عمو!
استدار لها حمزة وكذلك يحيى، فأسبلت آلاء جفنيها وهي تقول بخجل: أنت عسول وهتوحشني.
تعالت ضحكات حمزة بانطلاق من الصغيرة والتي رغم وقاحتها إلا إنها لذيذة ومُسلية للغاية، وعلى النقيض تمامًا تغضن وجه يحيى باستنكار قبل أن يقول باشمئزاز: اتفوخس على اللي رباكِ.

أخرج حمزة من جيب بنطالة ورقة بفئة المئة جنيهًا فاتجه ناحيتها مُجددًا وأعطاها لها وهو يقول ضاحكًا: بمناسبة إنك خليتيني أدخل يا شيكولاتة.
التقطت منه آلاء المال قبل أن ترد عليه بحماس: والله أنت اللي شيكولاتة يا عمو، شكرًا.

جذب يحيى الأخير الذي يضحك معه واتجها معًا إلى الطابق الثاني في الأسفل حيث شقة صهيب طاحون، طرق يحيى جرس الباب ففتحت له حبيبة التي طالعته بابتسامة هادئة وهي تُفسح له الطريق ليدلف هو وضيفه قائلًا: إزيك يا يحيى اتفضل.
دلف يحيى وحمزة وتسائل الأول وهو يجول بأنظاره في المنزل: الحمد لله بخير، أومال صهيب فين؟
أشارت حبيبة إلى إحدى الأماكن وقالت ضاحكة: بيذاكر للعيال، ادخله.

أومأ له واتجه حيث أشارت مع حمزة الذي يُطالع كل شيء بحرجٍ بالغ، وحينما وصلوا استمعوا إلى صوت يزيد الذي يتسائل بحيرة: بابا! ال 7 × 8 بكام؟
ب أربعين.
إجابة حاسمة خرجت من بين شفتي صهيب الذي يتصفح هاتفه بملل أثناء مُجاورته ل سديم التي نامت على كُتبها أثناء دراستها، ليتطلع الصغير إلى أبيه بشكٍ وهو يهتف:
متأكد ولا هجيب أربعة من عشرين زي المرة اللي فاتت؟

رد عليه صهيب بثقة: عيب عليك ياض، أنت بتشُك في إجابة أبوك اللي مربيك ومعلمك وملبسك ومنضفك ومأكلك وهتصدق إجابات المُدرسين الفارغة؟
طالع يزيد أبيه باقتناع ومن ثَم هتف: معاك حق.
وبعدها دوَّن الإجابة التي أملاها عليه أبيه بكل ثقة، وكُله يقين بأن النهاية العُظمى ستكون من نصيبه تلك المرة.

دخل عليه يحيى وكذلك حمزة الذي تابع المشهد بفاهٍ مُنصدم، تلك العائلة غبية حقًا! استفاق على مد صهيب يده له ليُصافحة باحترامٍ وعرفهما يحيى على بعضهما البعض، هو لم يراه لا هو ولا إخوته من قبل، على عكس يحيى ورائد ورائف الذي تعرفوا على الشباب في الفترة التي كان فيها صهيب وقاسم مسافران إلى روسيا.

وبعد تبادل السلام التقليدي بدأ حمزة بقص كل ما حدث مرة أخرى على مسامع صهيب الذي كان يستمع إليه بانتباه، وها هو انتهى بهم الأمر يُحاوطون الميناء بقوات الشرطة بعد أن استعان صهيب بالعميد مُغازي والذي يثق به ثقة عمياء، ولمعرفة مُغازي لسُمعة صهيب الحسنة قرر مُساعدته وإرسال معه عدد كبير من القوات للهجوم.

تم القبض على جميع الرجال الموجودين في الميناء، كذلك قبطان السفينة والعاملين عليها، وأولهم طارق عاشور الذي دُهِش باختفاء ابنه حسن من حوله وكأن الأرض انشقت وابتلعته! وتم القبض عليه هو.
تم أخذ الجُثث التي تسبب بها المُقنع لفحصها والكشف عليها، وتشميع المكان بقوات مُسلحة على أعلى كفاءة، وحتى الآن حسن مازال مُختفيًا، مما أثار ذهول مصعب الذي غفل عن متابعته من الأعلى أثناء تمشيطه للمكان بعينيه!

وصل بدير إلى حارته بعد أن قضى أكثر من ساعتين في التنقل بين وسائل المواصلات المُزعجة، ظهر الإرهاق والتعب جليًا على تقاسيم وجهه، لكنه انمحت تمامًا حينما لمح تسنيم تخرج من إحدى محلات البقالة وهي تُمسك بيدها كيس كبير من المشتريات، لم تُلاحظ وجوده لانشغالها في عَد الأموال التي بيدها، لكنها استدارت له حينما استمعت إلى صوته يُناديها بلهفة، ارتسمت ابتسامة واسعة على ثُغرها فور أن وقعت عيناها عليه ورددت اسمه باستغراب:.

بدير؟ كنت فين كدا؟
اقترب منها حتى جاورها وسار بجانبها ومن ثَم أجابها باسمًا: كنت في الجامعة، آخر سنة بقى ولازم أجتهد فيها عشان أنجح بتقدير عالي وأتجوز.
تتجوز؟
رددت كلمته بوجل وهي تُطالعه بجزع: ت. تجوز!

أومأ لها برأسه ببطئٍ خبيث وعيناه تدرسان انفعالات وجهها التي انعكست بصورة واضحة، لم يخفى عليه تلعثم نبرتها، ولا اهتزاز مقلتاها، ولا شحوب وجهها، حتى روحها الخائفة استطاع أن يشعر بها، لذلك قرر التخفيف من توترها بقوله الودود: طبعًا أنا اللي هختار، بنت زي القمر، مُحترمة، ولسانها طويل في نفس الوقت، وعندها حَسنة على كف إيديها اليمين.

وتلقائيًا اتجهت أنظارها إلى يدها اليُمنى حيث تلك الشامة التي تُزين جانب كفها، شعرت بالتوتر يجتاح أوردتها بالرغم من تلك السعادة التي ضربت جسدها بقوة، إذن هو يقصدها هي! لم تستطع منع ابتسامتها التي تشكلت بدون إرادةٍ منها على ثُغرها، ابتسم بدير على ردة فعلها شاعرًا بمضخات من الدماء في قلبه تتزايد الآن، ظلا لدقيقتين يسيران صامتين، حتى قرر جذب أطراف الحديث معها وهو يسألها بجدية:.

ليه بننشف عيش الفتة وبعد كدا بنسقيه بشوربة تاني!
حقًا؟ أهكذا يتجاذب معها الحديث؟ نظرت إليه ببلاهة فحكَّ مؤخرة عُنقه وهو يهمس لذاته: شكلي عكيت الدنيا!
فيما هي رفعت كفها تكتم بها ضحكاتها التي كادت أن تدوي عاليًا حتى وصلا إلى المنزل، وقفت تسنيم أمام المنزل الذي تقطن به مع الفتيات، ثم استدارت له تسأله بابتسامة صغيرة أقسم بأنها الأجمل في الوجود: أنا هطلع بقى، عايز حاجة!

أراد أن يظل معها لفترة أكبر، أن يتبادل معها الأحاديث والضحكات، أن يصنعا ذكرياتًا مليئة بالحب والاشتياق، لكن دائمًا ما يُعانده القدر في ذلك، أو بمعنى آخر. هو الذي يُعاند ذاته حتى يبتعد عنها ولا ينساق خلف شيطان ظنونه وتخيلاته، هي أرق من أن يُسبب لها أذى، ظلت تنتظر إجابته وهي تتمنى لو يطول صمته حتى تسنح لها الفرصة بالوقوف معه قليلًا، لكنه قضى على تلك الفرصة عندما جاوب على سؤالها مُومئًا لها بالإيجاب وهو يقول:.

آه. كنت عايز طبق البلح بالسمنة اللي أنتِ خدتيه مني ومرجعتهوش.
رمشت بأهدابها لتعي ما يقوله، فتوتر من ملامحها المُتشنجة وتحدث بتلعثم: خ. خلاص، هبقى أبعت بدور أختي تاخده منك بس ياريت ترجعيه مليان زي ما خدتيه، سلام.

نبس بكلمته الأخيرة ثم هرول من أمامها مُسرعًا مُتجهًا نحو منزله في محاولةٍ منه للسيطرة على نبضاته التي تجعله أبلهًا أمامها في أغلب الوقت، في حين تابعت أثره بسخط وهي تهتف بنزق: طبق البلح؟ دا أنا الله يكون في عوني والله على المصيبة اللي ربنا ابتلاني بيها دي.
اتركني لأُضمد جُرحًا كنتُ فاعله، أداويك بين يديك وداخل أحضانك.

حياتها بدونه حالكة سوداء مُنغمسة في الظلام، فها هي بعد يومٍ واحد قضته بعيدًا عنه تشعر بأن روحها قد فارقتها وظلت معه، تتمنى لو يكن هُنا الآن لتُخبره كم عشقته، لتقص له كيف تشتاقه، لتُريه دموعها التي تهبط لأجله، تريده أن يُعانقها كما كان يفعل من قبل، هي أنانية في حُبها تعلم، أخطأت لكنها لم تجرم، فهي مثله ضحية عانت الويلات على يدِ أسرة مُشتتة، أبٍ جاحد، وابن عم مُغتصب، فأتى هو ليُكمل مُربع المعاناة ويُصبح زوج مُتخلي.

نعم تخلى عنها، لم يستمع إليها ولم يهتم لدموعها، هو حتى لم يُعطيها فرصة للتبرير، استفيقي ذكرى. أي تبرير هذا الذي تودين قوله؟ أنتِ خدعتيه، عاملتيه كمُغفل كبير، جعلتيه يعيش في وهمٍ فادح، فتحول حُلمه الوردي الجميع إلى كابوسٍ مُروع كانت هي بطلة كلاهما، وبالرغم من كونها وقعت ضحية للُعبة هزلية حقيرة، هو أيضًا كان ضحية وتأذى من خلالها فؤاده فأصبح جريحًا مُتألم.

خرجت من شرودها على صوت هاتفها الذي على رنينه، لم تُعيره إهتمام وجعلته يصدح كيفما يشاء، لكن عندما ألحَّ في الرنين اضطرت إلى الإجابة، اعتدلت في مكانها وأمسكته بملل، لتنتفض في مكانه كالملسوعة حينما رأت اسم المتصل، وبلهفة أجابت بصوتٍ مُتعطش: يعقوب؟

وعلى الطرف الآخر. أغمض يعقوب عيناه بقوة عقب استماعه إلى صوتها الذي اشتاقه في تلك الساعات حد اللعنة، لربما لو كانت أمامه لجذبها لصدره ليُلصقها بفؤاده حتى يُريح دقاته، لكن حاجزًا منيعًا يقف الآن كحائل بين علاقتيهما، نفخ بقوة ومن ثَم تحدث بجمودٍ استشعرته المسكينة الآخر:
أنا قولت للي عندي إن سبب الطلاق إننا متفقناش سوا ومش مرتاحين، قولي للي عندك كدا أنتِ كمان عشان محدش يشك في حاجة.

كانت تستمع إليه بإنصات، تحفظ نبرته وكأنها تدقها دقًا داخل فؤادها، تجمعت الدموع داخل مقلتيها وتحدثت بصوتٍ واهن عكس مُعاناتها وحروبها: يعقوب أنا عايزة أقابلك، علشان خاطري، مش أنت قولتلي عايز تسمعني وهتصدق أي حاجة مني؟ أنا عندي استعداد أحكيلك كل حاجة، بس علشان خاطري أنا عايزة أشوفك لآخر مرة، أنت وحشتني أوي.

الكلمات انحبست داخل حنجرته ولم يجد ما يقوله، طال صمته ومعه صمتت هي الأخرى، كُلٌ منهم يستمع إلى أنفاسِ الآخر، الأرواح مُتصلة والقلوب مُتعانقة، لكن الأجساد مُتباعدة والأعين تحترق شوقًا، وبعد صمتٍ دام لثوانٍ أو ربما لساعات تحدث يعقوب قائلًا بنبرة غامضة:
أنا هعرف كل حاجة لوحدي.

تفوه بجُملته ثم أغلق الهاتف في وجهها تاركًا إياها تتلوى من الشوق والخذلان، ألقت الهاتف من يدها وجلست مُتربعة على الفراش تبكي بصمتٍ حارق، كل شيء يتآمر ضدها حتى قدرها، كل شيء بالمعنى الحرفي، وهي عاجزة عن المُدافعة أو الحديث، وكأن لسانها قد بُتِرَ والحقيقة بأن روحها مَن قُتِلَت.

علم الجميع بطلاق يعقوب وذكرى وكان الخبر صادمًا للجميع، تلك الخطوة التي أتت منهما على بغتة لم تكن على الخاطر أو الحُسبان، فالجميع لاحظوا عشقهما الغير منطوق ونظراتهما التي تعكس حُبًا غير معدود، نظرت زهراء إلى بدران بتخبط وهي تسأله بغبطة وهي تستند بظهرها على كُرسي الشازلونج الموجود بعيادة بدران وقالت:
ه. هما يعقوب وذكرى اتطلقوا ليه؟

طالعها بدران بنظرات أشعرتها بأنه على وشك اختراقها من حدتها، لكن صوته صعد هادئًا عكس تلك العاصفة الهوجاء التي تدور بداخله: حاسة بإيه!
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تهرب من أنظاره وأجابته بصوتٍ مُتلعثم: ه. هكون حاسة بإيه يعني يا بدران؟ ع. عادي أنا بسأل بس.

حاول بدران بشتى الطُرق أن يُسيطر على انفعالاته وطاقة الغضب التي بدأت تتدافع في جسده عقب رؤية نظرات التشوش تحوم داخل مقلتيها بعد أن علمت بطلاق شقيقه، فبادرها بسؤاله الصريح وكأنه يُلقيه من على كاهله: فرحانة إن يعقوب طلَّق مراته؟
استطاعت ببراعة أن تقرأ غيرته المُرتسمة داخل عينه بوضوح، فقررت العبث معه قليلًا وأن تنحى بارتباكها جانبًا: وهفرح فيه ليه؟ ما توضح كلامك يا دكتور الله!

لم يستطيع التحكم بغضبه أكثر، بل كوَّر قبضته بقوة ثم ضربها بعنفٍ على الطاولة التي تحمل حاجياته وانطلق يتحدث بحدة وطريقة تبتعد كل البعد عن كونه طبيبًا نفسيًا: زهراء متعصبنيش أكتر من كدا بدل ما أخبط دماغك في الحيطة وأفشفش دماغك!
ازداد غضبه عقب رؤيته لابتسامتها التي تُحاول كتمها لكنها فشلت في ذلك، فهبَّ من مكانه صارخًا فيها بغضب: دا أنتِ مُستفزة قسمًا بالله، أنا غلطان إني قاعد معاكِ دلوقتي.

اتجه إلى الشُرفة ليقف بها مُعطيًا ظهره لها، تنفسه العنيف يتسارع فلا يُسمع سواه في الغرفة، اعتدلت في جلستها أولًا ثم اتجهت إليه سائرة بهدوء حتى وقفت خلفه ونادته برقة: بدران!

أغمض عيناه حتى لا يلتف لها ويحملها ليرميها من الشرفة وينتهي منها للأبد، حينها سيتم الحُكم عليه بالإعدام من أجل ابنة عمه المُستفزة والتي تبرع في إتلاف أعصابه بسهولة، لقد أخطأ خطأ فادح حينما اقترح عليها أن يُعالجها من اضطرابها الذي نتج بعد زواج يعقوب فسبب لها خوفًا من الفقد بعدها، وها هو يحصد نتيجة قراراته!

نادته مرة أخرى برفقٍ لكنه ظل على نفس حالته ولم يتحرك، فبدأت تقول وتُبرر حديثها بود: أنا مش فرحانة والله بطلاقه، أنا بس استغربت لما سمعت الخبر وخوفت في نفس الوقت، أنا كنت موهومة بحاجة اسمها يعقوب ومعيشة نفسي في حلم أنا لوحدي اللي راسماه، لكن فوقت على كابوس جوازه من واحدة تانية، منكرش وقتها إني زعلت وعيطت ودخلت في حالة اكتئاب، لكن وجودك جنبي كان بيهون عليا حاجات كتير أوي من ضمنها إني وأخيرًا فوقت من وهم اسمه يعقوب ودخلت لحلم تاني اسمه بدران، لكن المرادي الحلم كان حقيقي مش مجرد وهم أنا اللي راسماه.

في البداية كانت ملامح وجهه واجمة بشدة، لكنها بدأت تلين تدريجيًا حينما استمع إلى بقية حديثها الذي أصهر فؤاده المُتعطش، وهُنا أدرك نجاحه في مُهمته، والمُهمة كانت إذابة الجليد من حول فؤادها ليُعانق فؤاده، والآن فقط قد وصل لغايته!
استدار لها بوجهٍ مُبتسم وسعادة شقت وجهه قائلًا وهو يُشير للداخل: طيب يلا يا مريضة علشان أعالجك.

أتى الليل سريعًا واختفت الشمس خلف ستار الظُلمة الحالكة آخذة معها كل الذكريات، عاد جميع الأبناء إلى المنزل بعد يومٍ طويل مُتعب، قضاه مُعظمهم في العمل وقضاه بدير في المذاكرة بِجد، جلس هارون على الأريكة وبجانبه بدور الذي يحتضنها بدوره أثناء مُتابعته لأحد الأفلام، بينما هي كانت هائمة وشاردة في ملكوتها، تُفكر في الهدية التي سيُرسلها لها إلياس تلك الليلة، تُرى عن أي هدية يتحدث هو؟

وعلى ذِكر سيرة إلياس وجدت ذاتها تبتسم تلقائيًا، فمنذ معرفتها به لم يُظهِر لها سوى جانبه الرجولي المُمتزج بمرحه اللذيذ، بدايةً من قراره لمساعدته لها دون مُقابل، حتى تلك اللحظة والتي مازال يُساعدها بها دون أن تشعر، تنهدت بارتياح حينما تذكرت جلب أخيها عمران لورقة طلاقها صباح هذا اليوم، شعرت بأنها أصبحت حُرة بلا أية قيود تُعيق راحتها، وعلى حسب ما سمعت بأن عادل سيخرج من المشفى اليوم بعدما قضى بها أسبوعًا كاملًا مُعانيًا بآلام في أضلعه ورأسه.

استفاقت من شرودها على صوت ولولة حنان التي لم تصمت عن النواح منذ الصباح بعد استماعها لخبر طلاق ابنها لزوجته، قلب أبناؤها أعينهم بملل ساخطين، بينما زفر هارون بسخط مُتمتمًا بصوتٍ استمعت إليه ابنته: هنبدأ فقرة الولولة والبكاء على الأطلال من تاني.

ولم يُكذِّب ظنه بالفعل، بل اتجهت حنان إلى يعقوب الذي هبط للأسفل ليجلس معهم وتحدثت تجلده بحديثها الذي ترميه على مسامع الجميع منذ الصباح: ليه يابني تعمل في روحك كدا؟ فجأة كدا تحس إنك مش مرتاح معاها تقوم مطلقها؟ دا البت كانت أغلب من الغُلب، وبعدين رجعت لمين أنت في قرارك دا؟ ولا مفكر إنك خلاص كبرت علينا وقرارك بقى من دماغك؟ اسمع إما أقولك يا يعقوب، أنت لو مردتش مراتك يبقى أنت لا ابني ولا أعرفك، ولساني دا مش هيخاطب لسانك أبدًا.

زفر يعقوب بملل وتمتم بلامبالاة: يامَّا أنتِ من الصبح بتقولي لسانك مش هيخاطب لساني وبرضه بتيجي تكلميني.
صمتت حنان فجأة وتبدلت معالم وجهها إلى الغضب فجأة وكأنها تحولت لكائن آخر، ثم نكزته في جانبه بقوة وهي تصرخ به بغضب: أنت يا ولا محدش بقى همَّك؟ دا إيه قلة الأدب وقلة التربية اللي بقت فيك دي!

نبست بجُملتها بغضب شديد ظنت بأنه سيُجدي نفعًا معه، لكنه ظل على بروده يرمقها بهدوء، فلجأت إلى حيلة أخرى وهي الحديث معه باللين وقالت: إحكيلي يا حبيبي الحقيقة دا أنا أمك، يرضيك تخبي على أمك؟
آه يرضيني.
هتف بها بهدوء جعل حُمم غضبها تنفجر وهي تصيح به بسخط: جتك أوه في جنابك، أنا غلطانة إني بكلمك يا فاسق يا عاق.
مال بدران على أذن مصعب يهمس له بضحك: أمك مش هتسيب أخوك غير لما تعرف قرار الموضوع.

نظر مصعب إلى كليهما ضاحكًا وأكد على حديثه بقوله المرح: شوف مش هي قالت مش هتكلمه تاني؟ أديها نازلة زن فوق دماغه أهو.
كان معه حق، ف حنان التصقت مرة أخرى ب يعقوب تُحاول أن تستفسر منه عن سبب الطلاق الحقيقي وليس المُزيف كما يُخبرها بعد أن سبته للمرة العاشرة بعد الألف حينما لم يُبرح عن السبب!
ضحك الآخر بخفة وحوَّل أنظاره نحو حمزة الواجم وتسائل بتعجب: مال حمزة شايل طاجن سته ليه؟

أجابه مصعب بهمس: أصل خطيبته مش بترد عليه من الصبح، شكلها متأثرة باللي حصل مع أختها ومنكدة على أخوك.
مصمص بدران على شفتيه وقال بمسكنة تُشبه مسكنة أخيه: يا كبدي!
في تلك الأثناء. استغل بادر وجود الجميع، فحمحم بصوتٍ عالٍ نسبيًا ثم قال بهدوء: طيب بما إنكم متجمعين فأنا حابب آخد رأيكم في موضوع.

انتبه إليه الجميع وأولهم أبيه، بينما حنان توقفت عن الولولة وطالعته بتمعن هي الأخرى، فبدأ هو الحديث بقوله: بسم بالله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
قاطعه بدير الذي ضربه على وجهه وأردف بسخط: أنت هتخطب بروح أهلك! ما تنجز وقول اللي أنت عايزه وخلصنا.
رمقه بادر بحنق وقال ضاجرًا: خسئت يا وقح!
كمَّل يا بادر وسيبك منه.

قالها يعقوب بحسم، فيما أكمل بادر حديثه بنفس الطريقة قائلًا: أما بعد. قررتُ أنا.
قطع حديثه للمرة الثانية عندما رمقه هارون بصرامة، فعدَّل الحديث مُسرعًا بقوله: قررتُ أنا بعد موافقة أبي العزيز، أن أتقدم لخِطبة الآنسة سارة لتكون زوجة لي، وشريكة حياتي، وأمًا لأولادي، وجِدة لأحفادي، وصديقتي في الجنة بإذن الله، والخِطبة الأسبوع القادم أتمنى من حضراتكم الحضور، وشكرًا.

انتظر منهم عبارات التهنئة والتعظيم، لكنه لم يجد أي شيء، يكاد يسمع صوت صرصور الحقل من الصمت الدائر حوله، وأول مَن تحدث كان هارون الذي تحدث بصوتٍ مُتحسر وهو يضرب كفًا بالآخر: يعني ياربي الواد الوحيد اللي قولت عليه عاقل طِلع أهطل هو كمان؟ فوضت أمري ليك يارب.
زوى بادر ما بين حاجبيه بتعجب وهو يتسائل: مهلًا! هل قُلت شيئًا خاطئًا يا أبي؟

وتلك المرة ردت بدلًا عنه حنان التي قالت بسخرية: أهو أنت كدا، كل ما تتزنق في الكلام تقلبلنا على قناة حرافيش.
عدَّلت بدور حديثها: اسمها كراميش يا ماما.
أشاحت حنان بيدها بلامبالاة وهي تُتمتم ببعضِ الكلمات في سرها، في حين نظر هارون إلى ابنه بادر وسأله بتهكم: ويا ترى حددت ميعاد الفرح ولا لسه مخدتش قرار؟

نفى بادر بعنفٍ وهو يقول بقوة: لأ طبعًا يا بابا متقولش كدا، أنا لا يمكن آخد قرار زي دا بدون ما أرجعلك طبعًا.
لأ فيك الخير والله، لأ أنا حاسس إني عرفت أربي بجد.
بينما مصعب أضاف هو الآخر: وأنا هروح أكلم والد روان بكرة يا حج زي ما عرفتك ولا أأجل الحوار دا شوية لحد ما الظروف تتعدل؟

حدجه يعقوب بطرف عينه وتحدث بهدوء: ومالها الظروف إن شاء الله؟ ما الدنيا زي الفل أهي، شوف حالك ودُنيتك ومتأجلش حاجة، ولو عايزني آجي معاك قولي وأنا هاجي.
رمقه مصعب بامتنان مُربتًا على كتفه بود، بينما هارون زفر بثقل قبل أن يقول بتنهيدة قوية: على خيرة الله، يكش ربنا يريحني منكوا وأخلص بقى.

الليل يبتلع المباني ويَغلب عليه الظلام، سار عادل في ذلك الطريق الضيق مُترنحًا وهو يُدندن بكلمات إحدى الأغاني الشعبية، هو فقط. خرج من المشفى صباحًا، واليوم خرج ليذهب إلى أحد الملاهي الليلية الشنيعة، توقف مكانه فجأة حينما لمح جسدًا يقطع عليه الطريق، رفع عيناه له فصاح به بتبجح:
وسَّع من الطريق خليني أعدِّي يا جدع!
اقترب منه ذلك الرجل وهمس أمام وجهه بفحيح: أنا فعلًا هعدي، بس هعدي على وشك يا ابن ال.

لم يعي عادل لكلماته إلا حينما هجم عليه الأخير يلكمه بقوة في وجهه تارةً وفي معدته تارةً أخرى، وكأن وظيفة عادل في تلك الحياة أن يتم ضربه من الجميع! على صراخ عادل المُتألم وحاول الدفاع عن نفسه بكل استماتة، لكن حالته السكيرة قيدت من حركته وجعلته يقع على ظهره أرضًا، مما جعله فريسة سهلة يسهُل الفتك بها.

لم يُكذِّب الأخير خبرًا حينما وجده بذلك المظهر، فأمسك بعصى خشبية كانت موضوع على جانب الطريق ثم رفعها وهبط بها بكل قوته على ركبتيه واحدةٍ تلو الأخرى، كان عادل يتلوى من الألم وصراخه لم يُحرِّك شعرة واحدة في رأس الأخر الذي أكمل ما يفعله حينما صعد بالعصى ليضرب بها ذراعيه أيضًا حتى استمع إلى صوت تكسيرهما، وحينما شعر بإرضاء ضميره، انحنى بجسده على أذن عادل الذي كاد أن يفقد الوعي من شدة الهمس وهمس بها بشيطانية:.

دي جزاة اللي يجي ناحية حاجة تخصني.
أنهى حديثه بتسديد لكمة أخيرة إلى أنفه أفقدته الوعي على الفور.
وفي نفسِ الوقت. كانت بدور تجلس مُستيقظة داخل غرفتها عندما وصلتها رسالة من رقم إلياس تحمل مقطعًا مرئيًا، فتحته بسرعة لتتسع عيناها بصدمة حينما رأت ضربه بطريقة قوية ومُهينة لزوجها السابق، كتمت شهقتها التي كادت أن تصعد بكفها ومازالت تُتابع هذا المقطع الذي أعادته مرارًا وتكرارًا وكأنها تُشبع عيناها منه.

لا تُنكر سعادتها وانتشائها، رؤيته ذليل هكذا أثارت شيئًا ما بداخلها وأيقظت الفرحة النائمة بفحواها، انتبهت إلى رنين الهاتف بعدها والذي تزين شاشته باسم إلياس، وعقب أن فتحته استمعت إلى عرضه السخي يسألها دون إعطائها أي فرصة للحديث:
تتجوزيني!

الفصل التالي
بعد 16 ساعة و 05 دقائق.
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة