قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والثلاثون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والثلاثون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والثلاثون

ثم ماذا؟
ثم إنَّ جميع مشاعري مُبعثَرة!

اُنتُهِكَت، سُلِبَت، وأُخِذَت بالقوة حتى ذَبُلَت، أربع كلمات كانت تعكس حالة تسنيم الرثة بعد أن اعتدى عليها حسن وألقى عليها نظراتٍ مُتشفية استطاعت قرائتها بوضوح قبل أن يُحيطها الظلام، ومن بعدها لم تشعر بأي شيء، ولا حتى بحمل حسن لها ووضعه لها في سيارته التي انطلق بها بعيدًا حتى وصل إلى منطق نائية يمر بها عدد قليل من السيارات راميًا جسدها الملفوف بملائة مُهترئة على الطريق!

مرت الساعات حتى استطاعت فتح جفنيها المُنغلقين بصعوبة شديدة، تتأوه بألمٍ بالغ يضرب كل إنشٍ في أنحاء جسدها، وحتى الآن لم تعي للمكان الذي تضجع به، رمشت بأهدابها عدة مراتٍ لتعتاد الإضاءة فقابلها الكثير من الوجوه المُشوشة والغير واضحة، وبعد لحظات استطاعت تكوين الصورة كاملة، وأول مَن رأت كانت ياسمين التي انهمرت على وجهها تغمره بالقُبلات وصوت نحيبها يعلو في كلِ ركنٍ من أركان الغرفة.

ثانية مرت. وثانيتان. وشعرت ياسمين بجسدها يُدفَع بقوة من شقيقتها حتى كادت أن تصتدم بالأرض لولا أن لحقتها يد ذكرى التي ساندتها، لم يكن بالغرفة سوى الفتيات ومعهم حنان الذي أصرَّ عليها بدير من التواجد معها، ومع إلحاحه عليها وافقت وغادرت مكانها من أمام غرفة العناية المُحتجز بها حمزة الذي استقرت حالته وجاءت إلى هُنا.

انكمشت تسنيم على ذاتها تضم ركبتيها إلى معدتها وتُطالعهم بنظراتٍ هيستيرية خائفة، خصلات شعرها تلتصق بمظهر رَثّ على جبينها المُمتليء بالعرق، عيناها تصبان المزيد من الدموع وهي تبحث من بينهم عن شخصٍ بعينه، حسن. ذلك المُغتصب الذي دمَّرها بأقسى ما يكون، الحقير المُنتهك الذي سلبها جسدها، اقتربت منها ياسمين مُجددًا لتضمها فصرخت بها تسنيم في المقابل: ابعدوا عني، محدش يقربلي، سيبوني في حالي بقى، ابعدوا عني، ابعدوا.

ظلت تَصرخ بانهيار والجميع يُطالعها باندهاشٍ جَلي، دخل المُمرضين إليها بسرعة فطالعهم الطبيب المُشرف على حالتها وتحدث بعصبية: مين اللي دخلكم؟ بعد إذنكم اخرجوا دلوقتي.
انسحبت الفتيات واحدة تلو الأخرى على مضض، خاصةً ياسمين التي كانت ترفض ترك شقيقتها وحدها، لكن حنان جذبتها معها عِنوة نحو الخارج وقالت مُهدئة إياها:
تعالي وسيبي الدكاترة يشوفوا شُغلهم، مش اتطمنا عليها! يبقى خلاص بقى.

دفنت ياسمين وجهها في أحضان حنان التي جذبتها مُعانِقة إياها وعيناها تدمع على حال الفتاة المسكينة بالداخل، بينما ياسمين ظل صوت نحيبها يعلو وهي تتذكر آخر ما حدث وكيف توصلوا إلى شقيقتهم، وذلك حينما جاءت مُكالمة هاتفية إلى بدير الذي قدَّم بلاغًا عن اختطاف تسنيم تُخبره عن إيجادهم لفتاة بنفس المواصفات، وبمساعدة مصعب واستعانته بأصدقائه قاموا بالبحث عنها في أسرع وقت وعلى مدى طويل، حتى أتى إليهم اتصالًا من أحد السائقين يُخبرهم عن وجود فتاة من مظهرها يبدو بأنها قد تعرضت للإعتداء، وسريعًا تحركوا إلى المكان المنشود وأخذوها سريعًا إلى إحدى المستشفيات، لتكون الصدمة الكُبرى لهم حينما تعرفوا على هويتها واكتشفوا بأنها تسنيم بالفعل!

مرت دقائق أخرى وأتى إليهم هارون ويسير بجانبه بدير الذي يظهر الشحوب واضحًا على وجهه، اقتربا حتى توقفا بجانب حنان التي نظرت إلى زوجها وسألته بهدوءٍ مُتعَب: فيه حاجة جديدة حصلت؟
هزَّ هارون رأسه بالنفي وطالع الوجوه المُنفعلة بخوفٍ ثم تسائل: مالكم؟
ردت عليه حنان بتنهيدة مُثقلة بالحزن: تسنيم فاقت وفضلت يا حبيبتي تصرخ وتصوت والدكاترة عندها جوا دلوقتي بيحاولوا يهدوها.

لا حول ولا قوة إلا بالله، الله يكون في عونها ويقويها.
تمتم تلك الكلمات بحزنٍ شديد ورفع رأسه ل بدير الذي صمت، ربما قد صمت لسانه وكفَّ عن الحديث، لكن عيناه لم تصمت إطلاقًا، بل قصت الكثير من المعاناة التي يكتمها داخله، لذلك أخذ منه هارون الحقيبة البلاستيكية التي كان يحملها وتمتم بحديثٍ مقصود: امشي أنت ولما ترسى على بر وتقرر أنت عايز إيه ابقى تعالى.

لم يُجادله بدير في كلمة، وإنما سار وابتعد دون حديث، يسير كتائهٍ ليس له مكان أو مرسى، سُلِبَت منه روحه التي حفظها معها، وحينما اُنتُهِكَت شعر بنصل السكين التالم يُغرَز داخل فؤاده، كيف عانت هي وكيف سيتحمل هو، أسئلة كثيرة تتدفق داخل عقله تُجبره على الإنهيار لكنه صلد لا ينكسر، ربما يكذب الآن، هو عاجز!

اتجه بدير إلى مقهى المشفى حيث يجلس أشقائه، فلم يجد سوى يعقوب وبادر فقط، ارتمى جالسًا على المقعد الفارغ وسألهم بصوتٍ مُتعب: أومال فين الباقي؟
رد عليه بادر بعد أن تنهد بهدوء: مصعب راح القِسم عشان يتابع القضية بتاعة حمزة بنفسه، و بدران جاله تليفون مهم من شغله فاضطر يروح ساعة وهيجي، و عمران مع مراته بيحضر معاها جلسة الكيماوي.
وجَّه يعقوب رأسه له وتسائل: أنت مالك؟

رد عليه بدير مُتهكمًا بمرارة: أنا زي الفل، أنت عامل إيه؟
وبالرغم من كونه سؤالًا ساخرًا غير حقيقيًا في باطنه، إلا أن يعقوب أجابه بتعب: حاسس إن قلبي متفتفت.
نظر إليه أخويه بحزنٍ بالغ لعلمهم ما يُعايشه، فرفع بادر يده يُربت بها على كفه بحنوٍ قائلًا بلُطف: قُل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا، اتحمل معلش.

سحب يعقوب شهيقًا عميقًا من بين شفتيه لداخل صدره ثم زفره على مهلٍ وهو يُجيبه: نفسي أغمَّض وأنام وأصحى ألاقي حياتي اتعدّلت لوحدها.
هتتعدِّل متقلقش، سيبها على الله.

قيل أن المشاعر تتناقض دائمًا، لكن تلك المرة فالمشاعر تتفق على إحساسٍ واحد فقط وهو الإنتقام، اشتعلت عيني رائف بالحقد البالغ وانطلق ذاهبًا من المنزل بأكمله عقب استماعه لمُخطط عمه وزوجته على قتل والديه منذ عشرات السنين، عشرون عامًا وأكثر حُرِمَ فيهم من والديه بسببهم هُم! وهو الذي ظنَّ بأن موتهم قضاءًا وقدر كما قيل وتناقلت الألسُن!

قبض على مقود سيارته بقوة بالغة حتى ابيضت مفاصل يده من شدة ضغطه، وقدمه تضغط على دواسة البنزين بعنفٍ حتى كادت السيارة أن تطير بسبب سرعتها! تجاهل رنين هاتفه وشاشته المُنيرة باسم زوجته وأكمل طريقه بدموعٍ تَملأ عينه، القهرة التي أصابت قلبه في تلك الأثناء ليس لها مثيل، كان من الممكن أن يكون له عائلة تُحبه، كان من الممكن أن يعيش سعيدًا، كان من الممكن أن يحظى بطفولة سعيدة كبقية الأطفال، لكنهم نزعوا منه هذا الحق بشراسة، تاركين إياه ينغمس في قوقعة وحدته وألامه.

وصل إلى وجهته المقصودة حيث الشقة النائية عن بقية منازل الحي البسيط، هبط من سيارته بسرعة وسمح بعبراته بالهطول دون أن يمحوها، وأكل الأرض بأقدامه من أسفله حتى وصل إلى أعتاب المنزل الذي طرقه بعنف شديد، ثوانٍ مرت حتى فُتِحَ الباب فاحتضنت قبضة رائف وجه الماكث أمامه ثم صرخ به بانهيار عقب سقوط الأخير:
أمك وأبوك قتلوا أهلي!

أغمض رأفت عيناه بألم وهو يتأوه بعنفٍ من شدة اللكمة التي تلقاها من رائف وحتى الآن لم يستوعب ما قيل، بينما رائف لم يهتم لحالته ولا لذراعه المُجبرة، وإنما انحنى عليه يهزه من تلابيبه بعنف وهو يهتف باهتياج:
قتلوهم زي ما كانوا عايزين يقتلوني، قتلوهم ويتموني، سامعني! أبوك وأمك السبب في موت أمي وأبويا.

كان يتحدث بعينين يُعانقهما الإحمرار الشديد المُلازم لدموعه التي أبت الهطول، وأمامه رأفت يُطالعه بعينين جاحظتين وفؤادٍ يطرق بصخب من هول ما استمع، في البداية ظن بأنه لربما يمزح ليرد له مخاوفه، لكن تقاسيم وجهه تعكس صدقًا أخلفه الألم والمرارة، والسؤال الذي دار بعقله الآن هل رائف جاد حقًا فيما يقول أم أنه حلل حديث أبويه بطريقة خاطئة؟

دفع رائف جسد رأفت بعنف واعتدل مُبتعدًا عنه نحو النافذة، عقله يكادُ أن يطير ولديه رغبة عارمة في الإنتقام الآن، يود لو يحرق العالم ليُهديء من تلك النيران المُشتعلة الحارقة، داخله يتآكل وخارجه يُصارع، لكن ما باليدِ حيلة!

تقدم منه رأفت بخُطى مُترددة حتى توقف بجانبه، لاحظ مفاصل يد الآخر التي تقبض على سور الشرفة الحديدي بقوة بالغة، حتى وجهه المُنقبض والذي ظهر نتيجة ضغطه القوي على أسنانه، فضَّل الصمت لكن لسانه أبى السكوت وتحدث مُدافعًا عن والديه بعدم رضا:
مش يمكن أنت فهمت غلط؟

حديثٌ يتمنى من داخله لو يَصدُق حقًا، لا يود وضع أبويه في خانة القتلى، هو بصعوبة استطاع إنقاذ رائف من شرورهم، والآن! زفر بسخطٍ تزامنًا مع صدور ضحكة ساخرة من فاهِ رائف الذي أخرج هاتفه وعبث به قليلًا حتى عثر على إحدى التسجيلات التي سجَّلها مؤخرًا وقرَّبها من مسامعه، ليظهر ل رأفت صوت أبويه المليء بالحقد المُغلف بالحزن وهما يتحدثان عن قتلهما لوالديّ رائف أثناء موجة غضبهم.

أغلق رائف التسجيل بغضب فيما ارتسمت الصدمة بوضوح على معالم وجه رأفت، وبخبثٍ تسللت الدموع إلى مقلتيه اللتين تُطالعيْن الفراغ بملامح مُبهمة، مرت دقيقة، أو ربما أكثر والصمت يُصاحبهما، حتى قرر رأفت قطعه بقوله الجامد:
اعمل اللي تشوفه مُناسب.

نبس بكلماته ثم اتجه للداخل تاركًا رائف يُصارع أفكاره، أخاه الروحي الآن يُعاني، وهو أيضًا يُعاني، لن يُنكر امتنانه الشديد له عقب انقاذه من بطش كُلًا من صبري وبُثينة رغم خطورة ما قام به لأجل إنقاذه، لكنه الآن مُحاط بالنيران من كل جانب، هل ينتقم منهما ويأتي بثأرِ والديه، أم يخسر صديقه!

شدَّ على رأسه بحيرة وقرر التوجه نحو الداخل، ليجد رأفت يتمدد على الفراش يرفع ناظريه إلى السقف يُطالعه بشرود، وجهه جامد لكن قلبه يحترق، لم يتوقع أن يصل حقد والديه إلى تلك الدرجة من الأذى، هل وصل الأمر بوالده أن يقتل أخيه من أجل المال! وعِند هذا التفكير أغمض عيناه بألمٍ بالغ وهو يهز رأسه بيأس.
شعر بجسد يرتمي بجانبه وصوت رائف يصعد مُتنهدًا بتعب، نظر إليه رأفت بطرفِ عينه وقال: هتبات هنا النهاردة؟

رمقه رائف باشمئزاز مُجيبًا إياه وهو يدفعه قليلًا: ليه كنت مراتي؟ دا أنا مستحملك بالعافية.
إجابته أغاظت رأفت الذي دفعه بقوة أدت إلى سقوطه على الأرضية الصلبة وتحدث قائلًا بغيظ: طب غور وخلي مراتك تنفعك بقى، اطلع برا عايز أنام.
تأوه رائف بقوة ونظر إليه بغضب أثناء قوله الحاد: لولا إن دراعك مكسورة أنا كنت عجزتك، أنا ماشي جتك داهية.

وبالفعل نفَّض الغبار عن ثيابه وسار مُتجهًا نحو الباب، وما كاد أن يرحل حتى استمع إلى نداء رأفت المُتوتر باسمه: رائف ؟
استدار له يُطالعه بانتباه رغم الألم المُسيطر على محياه، فتسائل الأخير بتردد: ناوي تعمل إيه؟
والله ما أنا عارف، سيبها على الله.
تمتم بها رائف بيأس قبل أن يرحل ويتركه ليغرق في أفكاره مُجددًا.
في طريقك للصلاح، تجد الوحوش تنبش في أعماقك لتُعيدك لنفس المُستنقع الذي حاربته من قبل!

تم أخذ جُثمان كُلًا من تالين وعشيقها هاني أمام أنظار حازم الذي طالعهما ببرود، صوت الطلقات العالية قام بإيقاظ سكان المنطقة الذين قاموا بإبلاغ قوات الشرطة التي أتت على الفور، أثار استغرابهم بشدة حينما وصلوا ووجدوه جالسًا على إحدى الأرائك واضعًا قدمًا فوق الأخرى وبين يديه سيجاره يُدخنها بهدوء، لا يرتسم الندم أبدًا داخل مقلتيه القويتين، بل إنهما تلتمعان وكأنه حقق انتصارًا حقيقيًا للتو!

تم أخذه إلى قِسم الشُرطة والتحفظ على الجثتين ومن ثَم بدأت التحقيقات رغم تأخر الوقت، أُذيعت الأخبار على قنوات التلفاز وتناقلت الألسُن عن مقتل تالين صفوت الجداوي ابنة رجل الأعمال المشهور صفوت الجداوي على يد زوجها وابن عمها حازم خيري الجداوي، الأمر الذي انتشر كانتشار النيران على العلم.

أخذ صفوت أول طائرة تهبط إلى مصر بعد أن استقبل الخبر بصاعقة كُبرى، بينما توجه كُلًا من فادي وخيري ومعهم المحامي الخاص بالعائلة إلى القِسم بعد أن رنت هواتفهم بالكثير والكثير من الأرقام، منهم المواسي وأكثرهم الشامت، ضرب خيري على الحائط بعنف وهو يقف أمام غرفة المكتب الموجود داخلها ابنه مع الضابط الذي يُحقق في قضيته، ومن ثَم هتف بغضب:.

يادي المصيبة السودة، أخوك ودَّانا وودى نفسه في ستين داهية بسبب غبائه.
نظر فادي لأبيه وتحدث يُهدئه بقلق: إهدى كدا بس يا بابا وكل حاجة هتتحل إن شاء الله.
نظر خيري لابنه بنظرة نارية وتحدث بصوتٍ مكتومٍ غاضب: هتتحل إزاي يعني؟ أخوك قتل مراته، ومراته دي تبقى بنت عمه وعمك اللي هيخرب الدنيا فوق دماغنا كُلنا.

تنغض جبين فادي بضيق وقال ساخطًا: ما التحقيقات لسه شغالة يا بابا و حازم قال إنها كانت بتخونه، عايزه يعملها إيه يعني؟
بقولك إيه اسكت، اسكت ومتعصبنيش أكتر ما أنا دمي فاير.
تفوه بكلماته بغضب وبعدها خرج المحامي من غرفة المكتب وخلفه حازم المُكبل بالأغلال الحديدية ومعه حارسين، اتجه إليهم فادي مُسرعًا ووجَّه حديثه لأخيه قائلًا: متقلقش يا حازم هتطلع منها إن شاء الله.

لوى حازم شفتيه بابتسامة جانبية لامُبالية، وأجابه بهدوءٍ وهو ينظر لأبيه بطرف عينه: أطلع ولا مطلعش مباقتش فارقة.
كان ينتظر من أبيه كلمة مواساة واحدة، لكن الأخير ذهب بوجهه بعيدًا عنه ناظرًا للجهة الأخرى، ابتسم حازم بمرارة وسار مع الشُرطي الذي سحبه دون أن يُضيف كلمة أخرى، تابع فادي ذهابه بضيقٍ شديد ثم نظر للمحامي وسأله: إيه الأخبار يا متر؟

رد عليه المحامي بعد أن تنهد بهدوء: التحقيقات شغالة وبكرة الصبح هيبعتوا يجيبوا كاميرات المُراقبة الموجودة حوالين البيت، شهادة حازم بخيانة مراته ليه خطيرة جدًا، ولو فعلًا التحقيقات أثبتت إنها كانت بتخونه فالقضية هتتقفل على إنها قضية زنا وهيطلع منها بسهولة جدًا، لكن دا طبعًا بعد شهادة الشهود اللي شافوها وكاميرات المراقبة.

زفر فادي بارتياح بعد حديث المحامي، لكنه عاد ليتسائل بقلق: وفعلًا تالين كانت بتخونه يا متر ولا دي لعبة من حازم؟
مط المحامي شفتيه وظهر على وجهه إمارات التفكير وهو يقول: والله وضعها هي والولد اللي كان معاها كان مش ولا بُد، فأعتقد آه كانت بتخونه فعلًا وأخوك مبيكذبش.

أومأ له فادي بشرود ورفع أنظاره لأبيه الذي كان يظهر على وجهه القلق الشديد، ليس قلقًا على حازم، وإنما قلقًا من ردة فعل أخيه الذي شارف على الوصول!
فؤادي يُعانقكِ وروحي تُقبِّل روحك.

وضع عمران زوجته على فراشها على مهلٍ بعد أن انتهوا من أخذ جرعة الكيمياوي، لم يستطيع تجاهل هذا الإرهاق والتعب المُرتسم على وجهها، جسدها يصرخ بإنهاكٍ ناهيك عن روحها المُبعثرة بصمت، ساعدته صفاء على وضعها ثم اعتدلت قائلة وهي تنظر نحو ابنتها: هروح أعملك أكل عشان تاخدي العلاج.
ردت عليها جنة بأنفاسٍ ثقيلة: مش جعانة يا ماما، مليش نِفس.

كادت صفاء أن تعترض على حديثِ ابنتها، لكن قاطعها عمران الذي وجَّه حديثه إلى والدة زوجته وقال بهدوء: روحي يا طنط اعمليلها الأكل وأنا هفضل معاها.
أومأت له صفاء بسرعة واتجهت نحو المطبخ لتعد طعام العشاء لابنتها، فيما نظرت جنة إلى عمران بأعيُن صارخة رغم صمت لسانها، اقترب جالسًا بجانبها حتى أصبح أمامها مُباشرةً، ثم سحبها لعناقٍ هاديء وهو يسألها بصوتٍ حنون:
مالِك يا جنتي؟

لم تُراوغ جنة في الحديث، وإنما تحدثت عما يؤرقها ويشغل بالها وهي تقول بصوتٍ مُرتعش يملؤه الشجن: تفتكر ممكن أخف فعلًا؟ ممكن أعيش!
إيه لازمته السؤال دا؟

تسائل بها وهو يدفن أصابعه بين خصلاتها ليعبث بها، فيما أغمضت جنة عيناها وشعور الخوف بدأ يطغي عليها مُجددًا، منذ أن بدأت علاجها ورأت صعوبة ما تمر به وهي تدفن الكثير من الأسئلة داخلها، وهذا سؤالٌ واحد عما يحوم بأفكارها، ظلت صامتة ولم تُجيبه بما يُرضيه، لذلك ناداها مُجددًا بصوته الآجش:
جنة اتكلمي. أنا سامعك.
تهدجت أنفاسها وارتعش صوتها رغمًا عنها وهي تُعاد سؤاله: هتسيبني علشان تعبانة؟ هتزهق مني؟

أخرجها من أحضانه ونظر إليها بتمعن، فجذب أنظاره عيناها التي امتلأت بدموعٍ كثيفة طغتها، فرد على سؤالها بسؤالٍ لم يرضي روحها: برضه إيه لازمته السؤال دا دلوقتي؟

قررت دموعها التحرر من أسرها وهبطت على صفحة وجهها لتشق طريقة نحو الأسفل، وبنحيبٍ مكتوم أجابته تلك المرة بقولها: عشان حازم سابني لما عِرف إني عندي كانسر، قالي إن مفيش حد هيفضل معايا والكل هيسيبني في نص الطريق لوحدي، وأنا فعلًا خايفة أبقى لوحدي، خايفة تسيبني بعد ما عيني اتعودت عليك، في المرة الأولى أنا زعلت، لكن لو حصلت منك أنت أنا هتكسر.

دائمًا ما يُذهلها، وتلك المرة صدمها أيضًا حينما وجدت ابتسامة واسعة ترتسم على ثُغره ولسانه يهتف قائلًا: أنا فعلًا هسيبك أنتِ مكدبتيش.

اتسعت عيناها تَرمقانه بدهشة، بينما جسدها قد تخشب في مضجعه، وذلك قبل أن يُكمِل حديثه وهو يردف بحنان: هسيبك تتحرري، أنا نفسي أسيبك فعلًا وأخليكِ تبصي لنفسك بالعين اللي تستحقيها، عايز أوصلّك إن الجنة دي صعب الكل يوصلها إلا بعد مُعاناة ومقاومة كبيرة، وأنتِ كمان. جنة صعب الكل يملكها، مش علشان مراتي لأ، بس علشان قلبك نضيف وروحك نقية، أنتِ غالية ومتستحقيش إلا كل غالي.

رفعت كفها لتمسح به عبراتها التي هطلت وتشدقت ببكاءٍ خافت: خايفة أموت تتجوز غيري وتبوسها هي الأول ومتبوسنيش.
فرغ فاهه بصدمة وظل يُرفرف بأهدابه وكأنه يُحاول استيعاب ما تقوله تلك الوقحة، فيما استطردت هي الحديث دون خجل: بوسني يا عمران.
وكأنهما قد تم الإمساك بهما بالجُرم المشهود، وظل عندما استمع كلاهما إلى صوت شهقة إلياس العالية تأتي من جوارهما، تبعه ضربه بكفه على صدره وهو يُردد بصدمة: أختي وجوزها؟

تفاجئا من وجوده المُفاجيء، فطالعه عمران بضيق وطلب منه بتبجح ساخط: اخرج واقفل الباب وراك لحد ما أشوف طلبات أختك.
احتقن وجه إلياس بغضب وتقدم منهما ينقل أبصاره بين كليهما ومن ثَم قال له تحديدًا بغضب: عملت فيها إيه انطق؟ مش هسيبك غير ما تعترف.
أشاح عمران بيده أمام وجهه وردد ساخطًا: يا أخي اتنيل بقى، أنا عايز أفهم أنت كنت فين وأختك بتتربى؟ سحبتوا منها الحنان لحد ما بقت تطلب الإهتمام يا عالم يا ظالمة؟

نظر إلياس ل جنة التي تُطالعه بسخط وتشدق: عاجبك كدا جيبتلنا الكلام من اللي يسوى واللي ميسواش ياللي متربتيش؟
شعر بنكزة قوية في جانبه كان مصدرها عمران الذي زجره بقوله الحاد: أنا اللي أقولها ياللي متربتيش بس، محدش يهزق مراتي غيري، واتفضل اطلع برا بقى بالذوق.
مش طالع إلا على جثتي.

تفوه بها إلياس بعنادٍ وعيناه تلتمعان بإصرارٍ صريح، فتحدث بعدها عمران بخبثٍ ماكر: هتخرج ولا مفيش جواز من أختي؟ وابقى قابلني لو طولت ضُفرها.
وعقب حديثه بلحظات، وجده ينتفض من مكانه بسرعة وهو يُطالعه بأعين مُتسعة، ثم تحدث باحترام قبل أن يترك لهم الغرفة بأكملها ويخرج: طيب جالي تليفون مش مهم لازم أرد عليه دلوقتي، عن إذنكم.

وعقب رحيله، ارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتي إلياس وهو يرى والدته آتية لهم بصينية الطعام، يظن الأبله بأنه سيتركه معها وحدهما! هو يعلم عن وقاحة شقيقته وتبجح الآخر، لذلك لا يمكن تركهما معًا أبدًا.
سيطر التعب على معالم جنة مُجددًا وعاد الألم ليغزو قدمها بشراسة، جزت على أسنانها بقوة لتمنع صرختها وهتفت من بينهما بضيق: مش مسامحاك يا عمران.

نظر إليها عمران بقلق وابتعد عنها قليلًا ليجلس في نهاية الفراش عِند موضع قدمها، وبدأ بتدليكها بخفة شديدة كما أمره الطبيب المُعالج لحالتها وهو يُجيبها: اتهدي وبطلي حركة بس وأنا هبوسك والله، خدي نَفَسِك ومتكتمهوش.

هبطت دموعها بكثافة وشعرت بوالدتها تجلس بجانبها ثم ضمتها إلى صدرها بقوة، تمسكت فيها جنة بكل قوتها وكتمت آهاتها المُتوجعة في صدرها، تشعر بحريقٍ هائل في قدمها، وكأن أحدهم سكب الوقود ثم قام بإشعاله وهي عليها أن تتحمل الألم، في كل مرة تأخذ بها جرعة الكيماوي تشعر بألمٍ أكبر، حتى أنَّ خصلاتها قاربت على الإنتهاء تقريبًا! لكن عليها الصمود أكثر من أجل عائلتها و عمران على الأقل.

ساعاتٌ مرت كالأزمان، العين تغفو لكن القلب يرفض الغفيان، والروح تترنح ما بين حُزنٍ وبكاء، والجسد يتمرد كالأسدِ المُلتاع.

الوقت مُتأخر للغاية، الساعة الثالثة مُقتبل الفجر والجميع نيام والصمت قاتل، استغلت رضوى تلك الأجواء وتسللت إلى غرفة حمزة، تُريد أن تروي عطش اشتياقها له ولو بنظرة، وبالفعل قد نالت ما تمنت، قامت بتعقيم نفسها قبل الدخول وارتدت القفازات ثم جلست على المقعد المُجاور لفِراشه، نائمٌ هو لا يشعر بشيء، طنين الأجهزة يشغل الصمت المُريب في المكان، تجرأت على الاقتراب أكثر ونادته ببكاء:
يا حشَّاش يا خمورجي!

تظن بأنها حين تُشاكسه سيستيقظ كما يحدث في الأفلام التي تُشاهدها دومًا، لكن هو الآن لا يُجيبها، تمعنت النظر في وجهه النائم وتحدثت بنحيب: ليه يا حمزة كدا؟ أنت مش قولت إنك هتطمني؟ أنا دلوقتي خايفة، والخوف اللي جوايا دا مش هيروح غير لما تصحى، قوم علشان خاطري ومتسبنيش لوحدي، لو بعدت عني مش هيكون ليا وجود من غيرك، متبعدش.

دفنت وجهها بين كفيها وظلت تنتحب بقوة، صوتها تُحاول أن تكتمه بقدرِ الإمكان، وبعد دقائق قضتهم في البكاء رفعت وجهها المُمتليء بالدموع له مرة أخرى، وأكملت تحدثها معه وكأنه يسمعها:
كنت دايمًا بتقولي إن مفيش حمزة من غير رضوى، أنا دلوقتي اللي بقولك إن رضوى ولا حاجة من غير حمزة.

مدت كفها لتُمسِك به خاصته وتُشدد من الضغط عليه، ثم أكملت برجاء: قاوم يا حمزة علشان خاطري، وجودك مهم في حياتنا كُلنا، وأنا هنا هفضل مستنياك حتى لو كان العُمر كله، لإن العمر ميكتملش غير بيك!

أسدلت الشمس شعاعها وتبددت حلكة الليل المُخيفة، وعاد الجميع إلى المشفى مُجددًا، يذهبن للإطمئنان على حمزة من الطبيب المعالج لحالته، ثم يتجهن للإطمئنان على تسنيم، حالة كليهما مُثيرة للإهتمام والشفقة معًا، لكن الشيء الغريب بأن تسنيم ستخرج من المشفى اليوم بعد إصرار كبير منها، حاولت ياسمين ردعها عن قرارها وكذلك حاول هارون معها بلين، لكنها أبت أن تستمع إلى حديث أيًا منهما وستخرج اليوم ولا مجال للنقاش.

جلس الشباب بالكافتيريا الخاصة بالمشفى في الأسفل، و رضوى ظلت مُلازمة أمام غرفة العناية مع إلياس وهارون، بينما ياسمين بدأت بتجهيز ملابس شقيقتها استعدادًا للرحيل، و ذكرى جلست بجانب تسنيم التي ضمتها وَسط مُقاومتها وخوفها منها في البداية، لكنها نجحت في استحواذ خوفها أخيرًا، بينما زهراء، رحمة، سارة، ومي ظلوا بالمنزل مع نعيمة زوجة عوض لتجهيز الطعام لهم لحين عودتهم، و مروان أخذ مكان الشباب في إدارة محلات الجزارة الخاصة بعمه هارون.

وقف مروان وَسط العاملين يُتابعهم بأعيُن ثاقبة وإعجابٍ في آنٍ واحد، اجتهادهم رغم عدم وجود رب عملهم يُثير إعجابه حقًا، فعادةً ما يتكاسل العُمال عن أشغالهم عِند غياب كبيرهم، لكن هؤلاء يُنجزون أشغالهم بجدٍ واضح، جذب نظره أحدهم يتقدم منه خطوة ويؤخر الأخرى، فناداه مروان وهو يُشير له بيده:
تعالى يا عم مالك خايف كدا ليه؟

تقدم منه ياسر بحرج ثم حكَّ مؤخرة عُنقه بتوتر وهو يُحييه: صباح الخير يا بشمهندش، هو المعلم يعقوب مش هيجي النهاردة؟
أجابه مروان وهو يهز كتفيه بجهل: مش عارف والله، بس بنسبة كبيرة لأ عشان حمزة لسه مطلعش من المستشفى.

أومأ له ياسر بصمتٍ للحظات قبل أن يُخرِج من جيب بنطاله مبلغًا من المال ومدَّ يده بهم إليه يحثه على أخذهم ومن ثَم قال: ربنا يشفيه ويبعد عنه كل رَضي يا بشمهندش، استسمحك لما تشوفه تديله القرشين دول وتقوله ياسر بيقولك معروفك وِصل يا معلم.
أخذ منه مروان الأموال مُطالعًا إياهم بتعجب، ثم رفع أبصاره له وهو يسأله بعدم فهم: فلوس إيه دي؟

رد عليه ياسر بحرج: إديهم ليه وقوله الكلمتين دول وهو هيفهم، وأسف لو هعطلك يا بشمهندش.
طالعه مروان بود ثم رفع كفه ليُربت به على ذراعه قائلًا: تمام يا ياسر، أنا هوصله الفلوس والكلام متقلقش أنت.
شكرًا يا باشا عن إذنك.

قالها مُستئذنًا منه ثم تركه وغادر، نظر مروان للمال بحيرة ثم هز كتفه بلامبالاة بعدها ووضعهم في جيبِ بنطاله ثم عاد مُتجهًا إلى منزله ليأخذ حمامًا دافئًا يُريح أعصابه وبعدها سيذهب إلى المشفى للإطمئنان على حمزة.
وفي المشفى.

هبطت ذكرى إلى الأسفل لتأتي ببعضِ الطعام لها وللفتيات، بالطبع لم يخفى عليها أمر حبس حازم أربعة أيام على ذمة التحقيق بعد قتله ل تالين، لن تُنكِر بأنها صُدِمَت حينما وصل إليها الخبر، لكن تلك الشماتة التي طغت مشاعرها بددت الشعور القليل بالشفقة تجاهه، وقفت في المقهى تنتظر العامل حتى ينتهي من الشطائر التي طلبتها منه وأخرجت هاتفها ثم عبثت به قليلًا غافلة عن تلك الأعيُن التي تُتابعها منذ أن هبطت إلى الأسفل، وبالتأكيد لم تكن سوى عين يعقوب الجالس مع أشقائه.

بعينيٍ صقرٍ مُتأهب راقبها وراقب كل حركة تصدر منها، حتى عندما وضعت الهاتف على أذنها وانتظرت قليلًا حتى أتاها الرد من على الجانب الأخر، ثم تشدقت بابتسامة واسعة: فرحانة من قلبي لروح قلبي والله يا فادي.
دارى بدران وجهه حينما لمح تقاسيم وجه يعقوب التي تشنجت فجأة وفكه الذي برز نتيجة ضغطه على أسنانه، بينما ذكرى لم تُلاحظ وجوده حتى الآن وأكملت حديثها بتمني وسعادة ظهرت واضحة في نبرة صوتها:.

عقبالك يارب إما تحصَّل أخوك، وبإذن الله أجيلك وأجيبلك معايا كل اللي بتتمناه، زي ما هجيبله بالظبط.
وعلى الجانب الآخر. كان فادي يجلس في سيارته أمام المقود وأصابعه تضغط بقوة عليه سخطًا وغضبًا من حديثها، وبهدوءٍ مُنافي لشُعلة الغضب التي تحترق داخله قال: أنتِ فين أنا جايلك.

نظرت ذكرى حولها بعينيها فلمحت يعقوب جالسًا على الطاولة المُجاورة لها، فتجعد وجهها ضيقًا وطالعته بضجر، فبادلها هو النظرات بغضبٍ يكاد أن يُصهرها، لكنها تجاهلته وأشاحت بوجهها للناحية الأخرى تزامنًا مع قولها للآخر: أنا في المستشفى ونص ساعة كدا وهكون في البيت، عايز إيه؟

لم يرد على سؤالها، وإنما أغلق الهاتف بوجهها مما جعلها تسبه في سرها، كان العامل قد انتهى من صُنع الشطائر فأخذتها منه بعد أن أعطته أمواله واتجهت نحو الأعلى مُجددًا حيث الفتيات، تاركة أحدهم يكاد أن ينفجر من شدة الغيظ.
حمحم بدران بحنجرته لجذب أنظار أخيه، فطالعه يعقوب بسخط وتحدث غاضبًا: عايز إيه!
انتفض بدران من صراخه ورد عليه بحنق: هو أنا كلمتك!

نفخ يعقوب بضيق وعقله على وشك أن يشت منه، تلك الماكرة هي مَن تتجاهله الآن حقًا؟ بعد كل ما فعلته به هي التي تسخطه؟ انتفض من مكانه فجأةً وقال: أنا طالع لأخوك، هتيجي معايا ولا هتفضل قاعد؟
كان بدران على وشك إجابته لكن يعقوب قاطعه يصرخ به بحدة ليس لها أي مُبرر قبل أن يتركه ويرحل: أحسن خليك قاعد.

فرغ بدران فاهه بذهول وتابع أثره بمزيجٍ من الدهشة والشفقة، فالتوت شفتيه بابتسامة ساخرة وهو يقول: دا أهل الحب صحيح مساكين بجد بقى!
أسعِد قلبي بحنانك وزِد لمعة عينايّ بريقًا.

وقف مُصعب أمام منزل روان بعد أن طلب منها الهبوط لأجله، هو مُتعب ويشعر بأن جميع الأماكن لا تُناسبه، أحزانه لا تجد من صدره مُتسعًا فطفقت على مقلتيه، جمودٌ غريب سيطر عليه عقب حادثة شقيقه، وكأن مشاعره قد تجمدت وتنتظر لحظة استيقاظ الآخر حتى ينصهر جليدها، حمزة لم يكن مُجرد شقيق، وإنما روحٌ عانقت روحه وترابطت حياتهما معًا.

زفر بضيقٍ وهو ينظر لساعة معصمه للمرة العاشرة، لقد تأخرت كثيرًا وهو يقف هُنا منذ نصف ساعة تقريبًا، استمع إلى صوت صرير البوابة الحديدية، فرفع عيناه لها ليجدها قادمة إليه بابتسامة عفوية لطالما وجدت أثرًا عميقًا داخله، وكما يحدث دائمًا فابتسامتها كالعدوى انتقلت إليه فبات يُبادلها إياها بحنوٍ بالغ، وكأنها الطفلة وهو الوالد!

صعدت بجانبه فتصنع هو الضيق وهو يسألها: ما لسه بدري يا أستاذة كنتِ استني شوية كمان!
أغلقت الباب خلفها وهي تتنهد بقلة حيلة أثناء قولها الضاجر: واللهِ هو دا اللي قولته لبابا مش عارفة هو مستعجل على إيه!
رفع له إحدى حاجبيه يُطالعها بحنق، فيما رفعت هي رأسها بكبرياء وتسائلت: مش ملاحظ حاجة!

طالعها بعدم فِهم ونفى برأسه أمام نظراتها المُتسعة بذهول، أثار الأمر ريبته فسألها بتعجب: مالك النهاردة أنتِ ملبوسة ولا إيه؟
ضيقت ما بين حاجبيها بضيق ورمقته بحنق، ثم تشدقت قائلة بغضب: الأوتفيت بتاعي يا مصعب باشا!
نظر إليها لدقيقة في محاولةٍ منه لاستيعاب حديثها، زفر بضيق وأدار مُحرك سيارته التي انطلق بها وهو يُجيبها بنبرة مُتعبة: والله يا روان أنا تعبان ومش فايق.

ربعت ساعديها أمام صدرها بعدم رضا وقالت بصوتٍ غاضب: تعبك مش مُبرر إنك متاخدش بالك من الأوتفيت بتاعي يا أستاذ!
نظر إليها مصعب بطرف عينه يُطالع الأوتفيت كما تقول ثم عاد ينظر للطريق أمامه مُجددًا، فإلتوى ثُغره بابتسامة ساخرة وهو يقول بما زاد من غضبها: لابسالي طقم أسود في أسود وكإنك جاية تاخدي عزايا، تعرفي يا بت يا روان! أنا لسه واخد بالي من حاجة مهمة دلوقتي.
ورغم ضيقها منه إلا إنها تسائلت: حاجة إيه؟

أجابها بصراحة مُطلقة اتسعت لأجلها عينيها بدهشة: إن دَخلتك دَخلة شؤم عليا، ومش بقول كدا عشان خطيبتي لأ، بس أنا بكلمك بالأمانة.
توقفت الكلمات بحلقها وهي تُطالعه بنظراتٍ مُبهمة، فنظر إليها مُسرعًا وسألها بذهول: أنت زعلتي ولا إيه؟

لم تُجيبه بلسانها كعادتها، وإنما وجد حقيبتها السوداء الكبيرة ترتطم بوجهه بقوة جعلته يتأوه بألمٍ بالغ، وفوق ذلك فإنها حجبت الرؤية أمامه لعدة ثوانٍ مما جعله يتفادى سيارتين بصعوبة كان على وشك الإصطدام بهما، طالعها بصدمة وهو يصرخ بها بعدم تصديق: هنعمل حادثة يا بنت العبيطة أنتِ بتعملي إيه يخربيتك!

تنفست روان بعنفٍ وعادت هادئة لموضعها من جديد وأجابته بلامبالاة وكأنها لم تكن على وشك قتلهم منذ قليل: بليز يا مصعب باشا راعي مشاعري وعاملني على إني واحدة حساسة.
تشنج وجهه بسخط وردد كلمتها الأخيرة باستنكار: حساسة! يا شيخة دا ي...
قطع حديثه فجأةً حينما لمح نظرتها المُحذرة التي رمتها له فصمت، لكن من داخله همس بحسرة: دا أنا لو ربنا بيحبني مش هيوقعني فيها، أنا نفسي أفهم أنا بحبها ليه!

عادت تسنيم إلى المنزل في حارة هارون وسط ترحيبٍ حافل من الجميع، بداية من حنان وهارون حتى نعيمة وعوض، وبالرغم من الحالة الرثة التي كانت بها صممت أن تجلس وحدها في غرفتها بعيدًا عن التجمع الذي بات يُصيبها بالغبطة.
نظرت ياسمين إليهم وتحدثت بصوتٍ مُتعب وقد تحكمت فيه غصة البكاء: هي هتفضل في الحالة دي كتير؟ دي بقت تترعش لما حد يجي يلمسها حتى أنا!

تقدمت منها بدور مُربتة على كفها بود وقالت مواسية لها: اللي مرت بيه ماكنش سهل عليها برضه، وإحنا لازم نقف جنبها ونساعدها تتخطى اللي حصلها دا.
تدخلت رحمة في الحديث وقالت مُقترحة بعد تفكير: تسنيم محتاجة لدكتور نفسي، لازم تطلَّع الطاقة السلبية اللي جواها كلها في الكلام مع حد هي واثقة فيه.

رمقتهم زهراء بنظرة سريعة قبل أن تقول على عجالة: أنا ممكن أخلي بدران يشوفلها دكتورة كويسة في المستشفى اللي شغال فيها وأكيد هو أدرى بيهم.
نال اقتراحها استحسانهم وبالفعل اتفقن على الحل النهائي لتلك المُعضلة، كان الرجال يقفوا بالخارج وكذلك خرجت إليهم حنان ونعيمة لجلب الطعام الذي قاموا بتحضيره.

استمع الجميع إلى صوتِ طرق الباب فاتجهت ذكرى لفتحه ظنًا منها بأنها حنان، لكن جسدها قد تخشَّب في محله حينما رأت يعقوب أمامها مُباشرةً، تعانقت أنظارهما بحديثٍ كان صاخبًا بالرغم من صمته، لكن وجهه تجعد بضيقٍ حينما تذكر مكالمتها مع فادي وتمتم بصوتٍ مسموعٍ حانق: استغفر الله العظيم يارب.

رفعت له إحدى حاجبيها باستنكار، فالتفت إليها وما كاد أن يتحدث حتى انتفض جسده محله حينما أُغلِقَ الباب في وجهه على بغتة، وصوت تمتمتها الساخطة قد وصل إليه وهي تقول: لما تتعلم الزوق هبقى أفتحلك الباب.
احتدت عيناه غضبًا وعاد يطرق الباب بقوة أشد أثناء توعده لها في سره، فوصله صوتها المُعاند وهي تقول بإصرار: مش فاتحة ولو اتقلبتلي قرد.

في تلك الأثناء أتى هارون بعد أن استمع للحديث الأخير من خلف يعقوب الذي كاد أن يكسر الباب فوق رأس ذكرى من شدة حنقه منها، فإلتوى ثُغر هارون بابتسامة ساخرة وهو يقول: حلقتلك؟
استدار يعقوب لأبيه بمُباغتة وتحدث من بين أسنانه: لأ طبعًا دا الظاهر الباب معلَّق.
كتم هارون ضحكته وتقدم هو يطرق على الباب برزانة، ليأتيه صوت ذكرى الصارخ: مش فاتحة غير لما تقولي بعد إذنك افتحي الباب يا ست ذكرى، غير كدا انسى.

افتحي الباب يا ذكرى يا بنتي أنا عمك هارون.
ولم تمر ثوانٍ حتى فُتِحَ الباب بسرعة وابتسمت ذكرى في وجهِ هارون مُحيية إياه بود: أهلًا يا عمو اتفضل.
اتسعت ابتسامة هارون رغمًا عنه وهو يرى معالم وجه ابنه التي ازدادت سخطًا ومن ثَم أجابها: يزيد فضلك يا بنتي، المهم طمنيني على تسنيم عاملة إيه دلوقتي؟

ظهر اليأس والإحباط على وجهها قبل أن تُجيبه بحزن: حابسة نفسها في الأوضة ومش عايزة حد يدخل عليها خالص، بقت بتخاف تقعد معانا حتى!
استغفر هارون بصوتٍ مسموعٍ قبل أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يصبرها ويقويها، الله يكون في عونها مرت بتجربة صعبة مش من السهل إن حد يعديها، لكن أنا واثق إن دا مجرد إختبار من ربنا ليها وأكيد هيعوضها خير إن شاء الله.
آمنت على دعائه قائلة بتمني: يارب يا عمو، يارب.

تفنى العوالم وتضيقُ السُبل أمام لحظة شر واحدة تلتمع داخل حدقتيك المُشبعتين بالشرور، انتهت الزيارة القادمة ل طارق عاشور ودخل إلى سجنه مُجددًا مُرتديًا البذلة الحمراء الخاصة بالإعدام، رمق الجميع بنظرة عابرة قبل أن يتجه نحو المرحاض المُنفصل بخُطى وئيدة غافلًا عن زوجين العيون التي تُتابعه، دخل ليقضي حاجته وذاكرته تسترجع الحديث القصير بينه وبين الرجل الذي أتى كرسولٍ بينه وبين حسن ليُخبره بالموعد المُحدد لتهربيه، كَم بدا سعيدًا ومُنتشيًا بتلك الأخبار المُبهجة!

انتهى من قضاء حاجته وخرج ليغسل يده وجهه ومن ثم اتجه إلى باب الخروج، لكن قاطع طريقه رجُلين ضخمي الجثة ويُطالعونه بنظراتٍ غير مُريحة، جعد وجهه بضيق وبعدها صرخ بهم بحدة: فيه إيه ما توسَّع من طريقي يا جدع أنت وهو!

والإجابة بعدها لم تُعجبه بالمرة، وذلك حينما أخرج أحدهم مدّية من ثيابه وسارع الآخر بتكميم فاهِ طارق وتكبيل جسده، قبل أن يشق أحد منهم عُنقه بكل برودٍ دون أن يرف لهم جِفن وبدون أي شفقة، لقد وقع في شرِ أعماله وانتهت حياته بطريقة بشعة كبشاعة ضحاياه ممن يتجرعون السموم أو أشد قسوة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة