رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس
لا تغضب إذا انفجر البالون في وجهك، فأنت من نفخه وأعطاه أكبر من حجمه وكذلك بعض البشر.
- مارك توين.
قرأت بدور الرسالة بعينين مُرتعبتين، ذلك الحقير كان يقوم بتصويرها معه في أوقاتهم! ارتعشت يداها فجأةً عندما أبصرت اسمه يظهر على شاشة هاتفها، الصراعات الآن تدور داخلها، هي حتى الآن لا تعي تلك القفزة الزمنية التي حدثت في حياتها، ليأتي هو الآخر ويُزيد من صدمتها!
أُغلِقَ الهاتف فهدأت نبضاتها قليلًا، لكن لم تستمر راحتها طويلًا، وذلك عندما عاد بمهاتفتها مرة أخرى، وكأنه مُصِر على مُقابلتها، لم تجد مهربًا سوى بإجابته، لذلك فتحت المُكالمة ووضعت الهاتف على أذنها وقلبها يقرع بهلع، استمعت إلى ضحكته الغليظة وصوته السَمِج الذي يتحدث قائلًا:
إزيك يا مراتي عاملة إيه؟ أكيد وحشتك مش كدا؟
ابتلعت ريقها بصعوبة شديدة وحاولت الرد عليه لكن صوتها لم يُسعفها، وكأنه تآمر ضدها هو الآخر! نظرت حولها بتيهة وعينيها تدوران في المكان، مظهرها يُوحي بأنها تبحث عن شخصٍ ما في غرفتها الفارغة، ولا أحد يعلم بنزاعاتها الداخلية التي تدور الآن، فتحت فاهها مرة أخرى للتحدث، وأخيرًا نجحت في ذلك، لتتشدق بصوتٍ مُرتعش خائف وهي تُجفف العرق الذي تكون على جبينها:
أنت. أنت عايز مني إيه؟
وبدون مراوغة أجابها عادل بغلظة: إنزليلي دلوقتي حالًا يا بنت هارون لو مش عايزة الموضوع يكبر وفضيحتك تبقى على كل لسان.
أجابته بخفوتٍ وهي ترتعش في مكانها خوفًا: مينفعش، مينفعش أنزل دلوقتي، أبويا وإخواتي كلهم صاحيين مش هعرف.
أتاها رده يصرخ بها بغضب: مليش دعوة، اتصرفي وإنزليلي.
حاولت إقناعه بشتى الطرق أن يَكُف عن عناده، فتشدقت بنبرة راجية: طيب اصبر كمان ساعتين بالله عليك يكونوا كلهم ناموا وهعملك اللي أنت عايزه.
لم تجد منه ردًا، بدا وكأنه يُفكر في حديثها، وبالفعل بعد فترة من الصمت استمعت إلى قوله: ماشي، كمان ساعتين وألاقيكِ قُدامي، ساعتين ودقيقة متلمونيش عن اللي هيحصل.
أغلقت في وجهه وهي تسبه بأفظع الشتائم، نظرت للهاتف ودموعها تتسابق بسرعة على خدها، الحقير يُساومها على شرفها، وهي عليها أن تخضع له دون إرادة منها، عادت بذاكرتها حينما توقفت أمام أبيها للزواج منه، رغم رفض هارون له من البداية، وها هي تحصد نتيجة غبائها.
فكرت في أن تُخبر أحد من أشقائها، لكن نفضت ذلك الإقتراح بسرعة عن رأسها، فإن علم أحد منهم فمن المُمكن أن يقتله دون أي تفكير، سيُضيعون مُستقبلهم من أجل حقيرٍ مِثله، لذلك يجب عليها أن تصل للحل وحدها.
الساعة العاشرة مساءً، الشوارع فارغة من المارة إلا من القِلة القلائل بها، خاصةً وسط الكثير من الأراضي الزراعية المُنتشرة في الأرجاء، سارت فتحية زوجة أبيها ل نرجس بخطوات هادئة نحو منزلها، لقد انتهت لتوها من زيارة منزل أبيها وها هي في طريقها للعودة.
شعرت بحركة غريبة تدور حولها، فتوقفت عن السير فجأة تجول بأبصارها المكان فلم تجد شيئًا، ابتلعت ريقها بريبة قبل أن تُكمِل سيرها لكن بسرعة أكبر، شهقت بفزع عندما شعرت بأحدهم يُكمم فاهها من الخلف ويُقيد حركتها، حاولت الهروب أو الصراخ لكن مُحاولاتها بائت جميعًا بالفشل، شعرت به يدفعها بقوة، فاصطدم ظهرها بقوة عنيفة في الحائط من خلفها، وهُنا تقابلت وجوههم، واستطاعت رؤية وجهه بوضوح مع إضاءات الشوارع الخفيفة، وبالطبع تذكرته على الفور، إنه رائف سعيد المُحمدي الذي رأته من قبل!
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تعود أكثر، تكاد أن تلتصق في الحائط من شدة رهبتها منه، وما زاد خوفها هو نظراته الحادة التي يرميها إليها، وكأنه يتعود لها بالقتل والهلاك! فتحت فتحية فاهها ثم تحدثت بصوتٍ مُرتعش هامس: أنت! عايز إيه؟
وبفحيحٍ رد عليها الآخر: روحك.
إجابته كانت بسيطة لكن بثت الرُعب داخلها، اتسعت حدقتاها بهلع وهي تُردد بعدم تصديق: إيه؟
ابتسامة مُخيفة ارتسمت على فاهه أشعرتها بمدى خطورة الماثل أمامها، ابتلعت فتحية ريقها بتوتر بالغ، ثم سألته بارتعاش: أنا. أنا معملتش حاجة، أنت عايز مني إيه؟
أجابها بكلمة واحدة جعلت جبينها يُقطب بعدم فهم، فقال: نرجس.
انتظرت أن يُكمِل باقي حديثه، فاستطرد قائلًا: لو عِرفت إنك مديتي إيدك عليها تاني هقطعهالك، ومش بس كدا، هسلَّط عليكِ شوية نسوان يجيبوا أجلك.
اتسعت حدقتاها برعبٍ حيال تهديده الغير مُمازح بالمرة، حاولت الابتعاد عنه والهروب من ذلك المُختل، لكنه لم يترك لها فرصة ولو صغيرة، وذلك حينما أطبق بيده فوق عنقها يضغط عليه بقوة، وبابتسامة صغيرة تتنافى تمامًا مع ملامح وجهه الحادة، تشدق بفحيح:
أنت مش بعيد كلامي مرتين يا فتحية، لو قربتي ل نرجس تاني هقتلك، أصل نسيت أقولك إني عندي إنفصام.
كانت تختنق أسفل يديه وهو لم يُشفق عليها، بل أكمل حديثه بقوله الهامس بشر: عندي شخصيتين، شخصية اسمها وليد سعيد فريد ودي أنا بقتل بيها، أتمنى إنك متجربيهاش، والشخصية التانية هي رائف سعيد المحمدي، ودي الشخصية اللي قدامك حاليًا، شخصية لطيفة، عطوفة، حنونة، وجميلة.
وجد وجهها قد شحب كالأموات، فابتعد عنها على بغتة ثم تحدث بابتسامة لطيفة: سلام يا طنط فتحية، هتوحشيني لحد ما أشوفك تاني.
قال جُملته ثم رحل من أمامها، تاركًا إياها تسعل بقوة وهي تُحاول إلتقاط أنفاسها بعنف، حديثه لم يكن مُزاحًا كما اعتقدت! بل هو يُعاني من الإنفصام حقًا!
طالعت أثره وهي تتنفس بنهيج، لقد أصابها الدوار نتيجة لكتمها لأنفاسها لوقتٍ طويل، هذا الرجل خطير حقًا، لكن ماذا يُريد من نرجس ابنة زوجها؟ وما علاقته بها؟ أيُعقل بأنهما على علاقة غير شرعية معًا! تساؤلات كثيرة دارت داخل رأسها الصلب الغبي طاعنة في شرف فتاة أخرى، ومن هُنا أقسمت على معرفة الحقيقة، لكن دون أن تتعرض ل نرجس حتى لا يقتلها ذلك المُختل كما هددها منذ قليل.
الجميع نيام براحة في منتصف الليل، وهي جالسة على فِراشها تُحاول كتم تأوهاتها المُتألمة التي تصعد من فاهها، أمسكت جنة بقدمها اليُمنى وحاولت تدليكها من بعد ركبتها لتُخفف من الألم، تنفست بعمقٍ أثناء هطول دموعها الغزيرة على وجنتيها، الألم بات لا يُحتمل، والأدوية التي تأخذها تُصيبها بالدوار والضعف دائمًا، باتت كقطعة من العظم يُحيطها جلد طفيف من شدة نحافتها، كم تتمنى لو ينتهي كل هذا وتعود لعافيتها!
حاولت الوقوف على قدمها اليُسرى لجلب أدوية المُسكن خاصتها، لكنها لم تستطع، هبطت دموعها بضعفٍ رامية الوسادة بغضب لقلة حيلتها، فاصطدمت بالطاولة التي تحمل من فوقها المزهرية، لتسقط وتتفتت لأشلاءً رغمًا عنها.
رمت رأسها للخلف بيأس مُستسلمة لألمِ قدمها، لكنها شعرت بالباب يُفتح على بغتة، رفعت رأسها لمُطالعة الدخيل، فوجدتها ذِكرى وتأتي من خلفها رضوى، في البداية تعجبت من استيقاظهما في هذا الوقت، لكن تعجبها لم يدم طويلًا، وذلك حينما انفجرت في البكاء المرير دون حتى مُحاولة كتمه.
تقدمت منها ذِكرى راكضة، ثم جلست بجانبها وهي تتسائل بصوتٍ مليء بالقلق: مالك يا جنة يا حبيبتي؟
وكذلك تقدمت رضوى للجلوس بجانبها على الناحية الأخرى، وبعدها تشدقت بخوف: بتعيطي ليه يا جنة؟ حاسة بإيه؟
أجابتهما جنة وهي تُمسك بقدمها اليُمنى: رِجلي. رِجلي هتموتني من الوجع مش قادرة.
هبت ذِكرى من مكانها بتوتر بالغ عقب استماعها لإجابتها، هرولت إلى درجها بسرعة ثم فتحته وأخرجت منه حقيبة دوائها، في نفس ذلك الوقت تسائلت رضوى التي ضمت رأسها إلى صدرها لتهدئتها: مش أنتِ خدتي أدويتك؟
هزت جنة رأسها بالنفي وهي تُجيبها ببكاء مبحوح: لأ. نِمت ونسيت أخده.
مدت ذِكرى يدها لها بكبسولة الدواء، ثم أعطتها لها على مهل، وبعدها جعلتها تتجرع القليل من المياه حتى تُسهِّل من بلعها، أعطتها كبسولتان أُخريتان وفعلت المِثل في المرة الأولى، وبعدها أخرجت الكريم وجلست عِند قدمها وبدأت بتدليكها برقة شديدة حتى لا تتسبب في إيلامها.
أغمضت جنة عيناها بألم تُحاول السيطرة عليه ولو قليلًا، في حين أن ذراعيها يشتدان حول خصر رضوى المُحتضنة لها، وجود شقيقاتها معها في أصعب أوقاتها يُشعرها بالأمان، وتلك الصفة هي أكثر ما تحتاجه طيلة فترة علاجها.
مرَّ القليل من الوقت وبدأ الألم يخمد قليلًا، شعرت بالراحة تختلجها خاصةً مع تدليك ذِكرى لقدمها بلُطف، قررت رضوى إخراجهم من همهم وتحدثت بنبرة مُشاكسة:
مش أنا قابلت تالين في النادي النهاردة؟
انتبهت كُلًا من ذِكرى وجنة إلى حديثها، فتسائلت ذِكرى باستفسار: بجد؟ وعملتي إيه؟
هزت رضوى كتفها بلامبالاة وهي تُجيبها بعبث: ولا حاجة، مجيتش ناحيتها أنا مش قليلة الأدب.
ابتعدت جنة عن أحضانها وهي تُضيِّق عيناها بريبة، ثم تحدثت قائلة: لأ ما هو شغل الملاك البرىء دا مش هيدخل علينا، إخلصي قولي عملتي إيه وإحكيلنا كل حاجة بالتفصيل المُمل.
سحبت رضوى نفسًا عميقًا وزفرته على مهل، كُل ذلك كان تحت أنظارهم الفضولية والمتابعة لها بانتباه، اغتاظت ذكرى من برودها، فقذفتها بأنبوبة الكَريم في وجهها وهي تصرخ بها في غيظ: ما تحكي يا بت بقى بدل ما أقوم أجيبك من شعرك!
دلكت رضوى وجهها بألم مُطالعة إياها بسخط، ثم هبت من مكانها وهي تقول بعناد: طيب مش هحكي حاجة بقى، وشوفوا مين اللي ه...
أمسكت جنة بكفها قبل أن تبتعد، ثم تحدثت بابتسامة صفراء لمُصالحتها: جرا إيه يا رضوى يا حبيبتي! أنتِ عارفة إن ذِكرى بتهزر معاكِ! اتفضلي اترزعي واقعدي واحكيلنا كل حاجة حصلت بقى من طأطأ لسلام عليكم.
جلست رضوى في مكانها مرة أخرى وهي تتصنع المسكنة، وبعدها بدأت بقص كل ما حدث في النادي وشجاراتها مع ابنة خالتها تالين، مُعللة أن سبب الشِجار هو مُضايقتها لها ولم تذكر السبب الأساسي، وبالطبع أخبرتهما بأن حمزة ابن الحَج هارون هو مَن ساعدها للإفلات من مأذقها هذا، وانتهت من قصَّها لِمَ حدث وهي تقول بخبث:
وكتبتلي شيك بتلاتين ألف جنيه كتعويض عن إهانتها ليا.
جزت ذِكرى على أسنانها بحقد قائلة: بنت الحرامية! وربي وما أعبد أنا لو كنت هناك لكُنت نتفتلها شعرها لحد ما أخليها قرعة، الله يرحم أيام ما كانت بترمرم هي وأبوها من الشوارع.
ربتت رضوى على قدمها أثناء قولها الواثق: متقلقيش، أنا خدت حقي تالت ومتلت.
استدارت كلتاهما على صوت جنة التي تحدثت بضيق: مكنتيش خدتي منها الفلوس يا رضوى ، إحنا مش عايزين منهم حاجة.
ردت عليها رضوى بردٍ مُقنع وهي تهز كتفاها بلامبالاة: متنسيش يا جنة إن الفلوس دي من حقنا إحنا وهما سرقوها مننا بعد ما نصبوا على بابا فيها، يعني أنا مخدتهاش منها صدقة.
تنهدت جنة بضيق أثناء تذكرها لتلك الفترة المقيتة في حياة الجميع، بينما ذِكرى ابتسمت بخفة وهي تقول بصدق: بصراحة أنا حبيت البيت الصُغير دا والحياة البسيطة أكتر من حياة ال ِلل والرفاهية الكدابة اللي إحنا كنا عايشين فيها.
أكدت رضوى على حديثها مُهمهمة: فعلًا معاكِ حق، ربنا نجانا من أشكال تِسد النِفس رغم زعلنا وحُزننا في الأول.
وتلك المرة تحدثت جنة قائلة بابتسامة طفيفة: أوقات ربنا بيسبب لينا الأسباب عشان يبعدنا عن ناس مُنافقة كانت قلوبنا متعلقة بيهم، ناس بمليون وِش وبتتلون حسب البيئة اللي موجودة فيها، بيضحكوا في وشوشنا ومن ضهرنا بيجيبوا سيرتنا بالباطل، ونفس الناس دي مينفعش نزعل عليهم، لإنهم يتنسوا، يتنسوا وبس.
كانت كُلًا من ذِكرى ورضوى تعلمان جيدًا ماذا تقصد، بالطبع لقد تذكرت حبيبها السابق وابن خالتها حازم، ذلك الحقير الذي كان يتلوى كالأفعى أمامها للحصول على أموالها، وحينما خسرت كل شيء؛ تركها.
تمددت رضوى بظهرها على الفراش، ثم تحدثت بصوتٍ ناعس ونبرة حانقة: اسكتوا بقى واتخمدوا، عايزة أنام.
قطبت جنة جبينها بتعجب وهي تتسائل بتشنج: أنتِ بتعملي إيه؟
أجابتها رضوى بملل: هنام.
دفعتها جنة من كتفها بحنق أثناء قولها الساخط: ما تروحي تتخمدي في أوضتك! هي ناقصة خَنقة؟
لم تُجيبها رضوى وكأنها لم تتحدث من الأساس، بل فعلت ذِكرى المِثل وقامت بالتمدد على الناحية الأخرى وهي تقول بتثاؤب: بطَّلي لَك بقى يا زفتة عايزين نتخمد.
نظرت إليهما جنة بفاهٍ مُفرغ وهي تُطالعهما بغباء، وبقلة حيلة تمددت مكانها هي الأخرى، فبات ثلاثتهم يشتركون الفِراش معًا، استدارت ذِكرى ناحيتها وكذلك فعلت رضوى، ثم أحاطتا بخصرها بذراعيهما، طالعتهم بحبٍ شديد وابتسامة طفيفة مُرتسمة على فاهها، تشكر الله عن وجود هاتين الأختين معها، فلولاهما ما تخطت آلامها وحدها.
تأكدت بدور من نوم جميع أخواتها ووالداها، ثم تسللت بخفة نحو الخارج على أطرافها، كانت تشعر بالخوف والحيرة من تلك التجربة التي تخوضها للمرة الأولى، لطالما كانت تستمع لأشياء كهذه على التلفاز، لكن لم تتوقع أبدًا بأنها ستخوض ذلك الحدث بخضم إرادتها!
وصلت إلى الأسفل، وفتحت البوابة الحديدة ببطئٍ شديد حتى تمنع أزيزها، خرجت للبهو فوجدت عادل ينتظرها أثناء شُربه لسيجاره، تجعد وجهها باشمئزاز فور رؤيتها لمحياه، لقد باتت تمقطه وتمقط وجهه، اقتربت منه على مهل فشعر هو بوجودها، ليبتسم ابتسامة كرهتها قبل أن يقوم برمي سيجاره، ويقول بصوتٍ غليظ:
أهلًا أهلًا ببنت هارون، ليكِ وَحشة والله!
وبثباتٍ ردت عليه بدور: اسمه الحَج هارون يا عادل، متنساش إن فلوسه هي اللي كانت معيشاك أنت وأمك.
احتدمت عيني عادل من جرأتها، لقد أتى لها خِصيصًا لرؤية ضعفها ومذلتها، لكنه لم يرى سوى القوة التي حطمت جميع مُخططاته وطارت أدراج الرياح! اقترب منها عادل خطوتين حتى بات مُلتصقًا بها، وبعنفٍ قام بإمساكها من ذراعها مُتحدثًا بشر:
ويا ترى الحَج هارون هيكون وضعه إيه لما يشوف الفيديو دا؟
وببساطة جعلت الدماء تغلي في أوردته: هيقتلك.
رؤية غضبه أشعرها بالفوز رغم سوء موقفها، فأكملت حديثها قائلة وهي تُمسد على لحيته النابتة برقة: أنت بقى هيكون رأيك إيه لما أقول لأبويا وإخواتي على اللي أنت عملته! وخصوصًا يعقوب!
وبتوعد أجابها: صدقيني مش هتقدري تعمليها، عشان في اللحظة اللي هتقوليله فيها هخليكِ بعدها تحضري جنازته، ومش بس كدا لأ! دا أنا هسلط عليكِ واحد من حبايبي يتبلى عليكِ في شرفك، وأنتِ عارفة إني أعملها.
احتدمت عينيّ بدور بغضب، تعلم كل العلم بأنه باستطاعته فعل ذلك، حِقده على أخيها يفوق كل التوقعات، يغار منه؟ نعم، يمقطه؟ نعم، يحقد عليه؟ بالطبع، إذن فمن الممكن أن يُنفذ تهديده في أي وقت، دفعته بعيدًا عنها ثم تسائلت بعصبية: عايز إيه يا عادل؟
ارتسمت ابتسامة مُنتصرة على ثُغر عادل والذي أجابه بدوره: تقولي لأبوكِ وإخواتك إنك عايزاني ومش عايزة تطلقي، وإلا...
ترك جُملته مُعلقة تزامنًا مع رفعه لهاتفه أمام عيناها، وبالطبع وصلها مغزى فعلته تلك، رأى وجهها الذي تشنج بحقدٍ، وفي الثانية التي تلتها بصقت على وجهه بغِل!
أغمض عيناه بغضب نجحت في رسمه، رفع كفه ليمسح وجهه المُبتل، وبعدها رسم ابتسامة مقيتة على ثُغره وهو يقول بسماجة: مقبولة منك يا حياتي، سلام.
قالها ثم استدار وغادر من أمامها، بينما هي تابعت أثره بقهر، وبدأ قناع قوتها الزائفة أن يزول شيئًا فشيئًا، حتى سمحت لذاتها بالإنهيار، ذهبت إلى أقرب مكان للجلوس عليه ثم أخفت وجهها بكفيها وهي تجهش في البُكاء!
ظلت عدة دقائق جالسة هكذا، السماء كحيلة، والشوارع صامتة، إلا من عويل الكلاب وصوت بكائها، صدمتها الحقيقية كانت في زوجها، وهي عليها تَقبُّل تلك الحقيقة المؤلمة رغمًا عنها، انتفضت بفزع عندما شعرت بصوت رجولي يُنادي اسمها بقلق، رفعت أنظارها تُطالع الذي أمامها فوجدته إلياس، والذي بدوره أعاد سؤاله مرة أخرى عندما طال صمتها:
مالك يا آنسة بدور؟
وقفت بدور من مكانها فجأة، نظرت حولها بتوتر وهي تتحاشى النظر إلى عينيه، وبسرعة قامت برفع كفها ومسح دموعها المُنهمرة على وجهها، ثم أجابته بصوتٍ مبحوحٍ خافت: م. مفيش.
إجابتها زادت من تعجبه أكثر، فعاد ليتسائل بإصرار: مفيش إزاي؟ يعني قاعدة برا بيتك بعد نص الليل وبتعيطي بالطريقة دي يبقى أكيد فيه حاجة!
حاولت أن تتحلى بالثبات والقوة كما اعتادت، لكن تلك المرة لم تستطع، غلبتها روحها الجريحة وجلست بضعف محلها، ثم أخفت وجهها وبدأت بالبكاء مرة أخرى، بينما إلياس يقف مكانه عاجزًا لا يعلم كيفية مواساتها، فجلس بجانبها لكن بعيدًا عنها، ثم تحدث بصوتٍ حنون:
طيب ممكن تقوليلي إيه اللي مضايقك يمكن نحله سوا؟
هزت رأسها بالنفي ومازالت تبكي بعنف، ومن وَسط شهقاتها تحدثت بألم: مينفعش. مينفعش. أنا في مصيبة.
ازداد خوفه وقلقه عليها، خاصةً وأن بكائها كان هستيريًا إلى حدٍ ما، لكنها ابتلعت صوتها وتوقفت حينما استمعت إلى اقتراحه، والذي جعلها تنتفض كالملسوعة: طيب أطلع أبلَّغ الحَج هارون أو حد من إخواتك؟
نظرت إليه بسرعة وهي تهز رأسها بالنفي، وبرجاءٍ طلبت منه: لأ. بالله عليك بلاش لأ.
كان في حيرة من أمره، لا يعلم كيف يرضيها أو يُرضي ذاته، فوجدها تتحدث بصوتٍ خافت بعد أن سيطرت على ذاتها بصعوبة وجففت دموعها: خلاص، أنا. أنا هطلع شقتنا دلوقتي.
تعجب من حديثها، فأردف قائلًا: طيب مش هتحكيلي إيه اللي حصل يمكن أعرف أساعدك؟
وبدون تردد هزت رأسها بالنفي وهي تقول: لأ شكرًا مش عايزة، عن إذنك.
ذهبت وتركته في حيرة منه أمره، من ناحية يود أن يذهب خلفها ومعرفة ما بها، ومن الناحية الأخرى يخشى رؤية أحدهم لهم وظن السوء بهم، لذلك قرر العودة إلى منزله اليوم، وغدًا سيُحاول معرفة ما بها، فمن حُسن حظه أنه رآها حين عودته من الخارج، بعدما قضى طيلة اليوم وهو يبحث عن عمل يُقدِّر مهاراته، لكن ولأسفه الشديد لم يجد.
دلف إلى المنزل بعد يومٍ طويل مُنهك فلم يجد أحد مُستيقظ، دخل إلى غرفته ثم ارتمى على الفراش بتعب وعيناه تُطالعان السقف بشرود، وبحيرة تحدث مع ذاته قائلًا: يا ترى بيكِ إيه يا ست حلويات؟
احرص على مصادقة الشر، فإن حدث؛ فإن هالك، أحيانًا تدفعك الحياة إلى داخل بؤرة مُطرزة بألوان مُبهجة، فتسحبك كالمُغيب إليها، ومن ثَم تكتشف أنك وسط أشخاص مُلطخون بالأوساخ، لكن لا يظهر وَسخهم على ثيابهم، وإنما في دواخلهم.
غُرفة صغيرة ذات ألوان زاهية كئيبة تجمع العديد من الأشخاص القذرة ذَوي الأخلاق المُنحطة، على رأسهم عمير، والذي كان ينفث من دخان نارجيلته بكلِ حقد، لم يذهب عن باله ما حدث في صبيحة اليوم ولو للحظة، لقد تمت إهانته هو ورجاله على مرأى ومسمع الجميع، وإن كان يكره يعقوب قيراط، فهو الآن يكرهه أربعة وعشرون قيراطًا.
تحولت أنظاره إلى أحد رجاله والذي تشدق بنبرة مغلولة: يعني إيه يا معلم عُمير؟ هنسيب حقنا يروح بَلّوشي كدا؟
ليُؤيده شخصٌ آخر من رجاله: الحَج هارون وولاده ذلونا بما فيه الكفاية يا معلم عُمير، وبقينا عِبرة لكل اللي في الحارة.
رمى عمير خرطوم نارجيلته على الأرض بعصبية، ثم صاح بهم في غضب: لا عاش ولا كان اللي يعلَّم على المعلم عُمير ورجالته أبدًا.
تحدث ثالث بقوله الساخط والممزوج بالضيق: يعني هنعمل إيه يا معلم؟
طالعه عمير بنظراتٍ غامضة، فتبدد الوجوم من على وجهه، ثم عاد لهدوئه مُجددًا وهو يستند بظهره على الحائط من خلفه، وببرودٍ أمر أحدهم قائلًا: هات ياض الشيشة دي.
ناوله رَجله ما طلبه، ثم غاصت أنظاره في عتمة الليل القاتمة لعدة ثوانٍ، وبعدها أردف قائلًا: حقنا هيجي، بس المرادي مش بالدراع.
تعجبوا رجاله من حديثه المُبهم بالنسبة لهم، فتسائل أحدهم قائلًا: أومال بإيه يا معلم؟
سحب عُمير نفسًا آخر من خرطوم نارجيلته، ثم زفره بتمهل وعلى مهل، وذلك قبل أن يُتمتم بقوله: بالدماغ.
ودا هنعمله إزاي؟
وببساطة أجابه عُمير مُبتسمًا بمكر: قضية شرف.
أخفت الشمس قتامة الليل وسِتاره، وصدحت تُزيل آلامه ومُخططاته الشيطانية، ليأتي يوم آخر مليء بالأحداث، بالمفاجئات، والمصائب!
كانت الترتيبات على قدم وساق في المحل الذي تُجهزه ذِكرى ، تُشرف على عمل العُمال وتُمليهم احتياجاتها، زادت فرحتها عندما أخبرها العامل عن إمكانية إنتهائهم اليوم بدلًا من الغد، لا تُصدق بأن مشروع طفولتها سيكتمل وأخيرًا!
استدارت بمُفاجئة عندما استمعت إلى صوت حمحمة رجولية تأتي من خلفها، لتبتسم باتساع فور رؤيتها ل هارون وبجانبه ابنه البِكري يعقوب، اقتربت منهم ذِكرى قليلًا حتى توقفت قِبالتهم، ثم تحدثت ببسمة: إزيك يا حَج هارون؟
أجابها هارون بود: في فضل ونعمة الحمد لله يا بنتي، ها هقوليلي إيه الأخبار؟
ردت عليه بحماسٍ لم تستطيع السيطرة عليه: كله تمام يا حَج، العامل قالي ممكن المحل يخلص النهاردة بس هيتأخروا في الشُغل شوية.
تحدث هارون مُبتسمًا: طب الحمد لله، ربنا يجعلها فتحة خير عليكِ.
لتُجيبه هي ببعضٍ من الخجل: ربنا يكرمك يا حَج.
وتلك المرة تحدث يعقوب قائلًا بهدوء: طيب أنتِ ممكن تدخلي بدل وقفتك وسط الرجالة دي وأنا هتكفل بكل حاجة.
ظنت ذِكرى بأنه يُجاملها، فرفضت اقتراحه وهي تقول برفض: لأ شكرًا ليك، أنا هتابع طلبات العُمال كلها.
أيد هارون حديث ابنه يعقوب، فتحدث برزانة: يعقوب معاه حق يا ذِكرى يا بنتي، وقفتك وِسط الرجالة دي كلها غلط، ممكن حد يضايقك بكلمة أو اتنين ومش هتعرفي تصديهم.
طالعته ذِكرى بتردد قائلة: بس يا حَج...
قاطعها يعقوب بقوله الهاديء: مبسش، اتفضلي ادخلي أنتِ وأنا هتابع مكانك، وبعدين مخل الجِزارة قدام المحل بتاعك على طول، يعني مفيش صعوبة ولا حاجة.
جاء أحد عُمال المجزر إليهم ثم تحدث باحترام مُوجهًا حديثه ل هارون: بعد إذنك يا حَج عايزينك في المجزر.
أومأ له هارون بالإيجاب، ثم نظر ل يعقوب قائلًا بصوتٍ هاديء يشوبه الصرامة: متطولش في الوَقفة وحصَّلني على طول.
علم يعقوب مقصد والده، فأومأ له بالإيجاب وهو يقول بإحترام: حاضر يابا متشلش هَم.
ذهب هارون من أمامهم، فيما مدت ذِكرى يدها له بالمفتاح وهي تقول بقلق: المُفتاح أهو، بس خَلي بالك من الحاجة!
ابتسم يعقوب بخفة على قلقها الزائد، قائلًا وهو ينتشل المُفتاح من بين كفها: متقلقيش.
ابتسمت له بتوتر، ثم سارت لخطوتين بعيدًا وهو يُتابعها، لكنه دُهِش حينما وجدها تعود أدراجها وهي تقول بصوتٍ قَلِق: وخَلي بالك من الإزاز أحسن يتكسر!
حاول كتم ضحكاته بقدر الإمكان، وبصعوبة شديدة أومأ لها بصمتٍ دون أن يتحدث، لتذهب ذِكرى من أمامه وهي تُطالع محلها بقلق وكأنه طفل صغير سيهرب منها، وبعد أن سارت عدة خطوات، عادت مرة ثالثة وهي تُؤكد عليه بقولها: والأرفف دي متخليش حد يلمسها.
قلب عينه بملل وهو يقول صائحًا: يا ستي واللهِ متخافيش أنتِ مش بتكلمي عيل صُغير!
نفخت ذِكرى الهواء بضيق، ثم سارت قليلًا، وللمرة الرابعة تعود إليه لتوصيته، وتلك المرة لم يترك لها فرصة للحديث، بل تشدق ساخطًا وهز يُعطي لها المفتاح: بقولك إيه خُدي مفتاح المحل بتاعك أهو.
نظرت إليه بوجهٍ مُتشنج، ثم أعادت له المفتاح مرة أخرى وهي تقول: لأ لأ خلاص، أنا بس كنت جاية أقولك خَلي بالك من الخشب، أصله تُركي من الأصلي والحِلو.
أشار لها يعقوب بيده حيث منزلها، ثم أردف بابتسامة صفراء: ماشي يا حِلو، ممكن بقى تمشي وتسيبيني أشوف شُغلي؟
لوت شفتيها وهي تُطالعه بعدم رضا، وبغرورٍ تركته وسارت نحو منزلها، لكن تلك المرة رحلت حقًا دون أن تعود، هز رأسه بيأس وهو يضحك بخفة، ثم اتجه نحو محلها لرؤية ما به.
لم يتبين له ما تُريد فِعله، فقد كان يحتوي على العديد من أرفف الزجاج وكذلك الخشب، وعلى الجانب يوجد اترينا من الزجاج المُحاطة بالخشب الأسود، ألوان المحل مُبهجة وجميلة، سيجذب نظر المارة بالتأكيد.
نظر حوله لحركة العُمال فوجدهم يعملون باجتهاد، ليُصيح بهم برضا مُشجعًا إياهم: عاش يا رجالة الله ينوَّر.
فأجابه رئيس العُمال بابتسامة طفيفة: تسلم يا معلم يعقوب.
بادله يعقوب الابتسامة، ثم اتجه نحو محل الجِزارة الخاص به هو وأبيه، بينما المحل الآخر يجلس به بدير وعمران، اقترب من أحدهم والذي يقوم بتقطيع اللحوم للزبائن، ثم تحدث بجدية: ما بلاش دِهن يا عبدالرازق، حُطه زيادة على الميزان بعد ما توزن.
أومأ له عبدالرازق باحترام قائلًا: حاضر يا معلم، أي أوامر تانية؟
عايزك تجهزلي كيلو لحمة حِلو وتحطيهولي في كيس، بس اتوصى.
عيني يا معلم، حاجة تانية؟
نفى يعقوب برأسه، ثم تركه واتجه إلى عامل آخر وقال: خُد يا مهدي عايزك في كلمتين.
اقترب منه المدعو مهدي مُسرعًا وهو يقول: نعم يا معلم يعقوب؟
وضع يعقوب يده على كتفه، ثم اقترب منه يهمس في أذنه: خُد كيلو اللحمة من عبدالرازق وروح جَري إديه لخالتي أم أشرف.
طالعه مهدي باستغراب وهو يقول مُتعجبًا: بس يا معلم إحنا بنوديلها مرتين في الشهر بس، وأنا بذات نفسي وديت ليها الأسبوع اللي فات واللي قبله!
ضرب يعقوب على كتفه بضرباتٍ خفيفة وهو يقول: إسمع الكلام يا مهدي وأنت ساكت، الست أم محمد وحدانية وعلى قد حالها، مفيهاش حاجة يعني لما نوديلها كل أسبوع، رِزقنا مش هيقل.
ابتسم له مهدي بود ثم قال: عيني يا معلم، ربنا يبارك فيك وفي صحتك ويرزقك بالزوجة الصالحة يارب.
اللهم آمين.
آمن يعقوب من خلفه وهو يبتسم بخفوت، يُشعره عمل الخير بأنه كطائر حر طليق، ينتشي لسماعه الدعوات التي تُرمم فؤاده ويستقبلها قلبه، ومع كل عمل خير يفعله، يفتح الله له أبواب السماء ويرزقه أكثر، فالرِزق يزداد لا ينقص.
سار بدران في ممرات المشفى النفسية التي يعمل بها، استمع إلى صوت صراخ أحدهم، ومع تقدمه نحو مصدر الصوت أكثر يزداد الصراخ، ابتسمت ابتسامة شامتة على ثُغر بدران عقب استماعه لحديث المدير الأخير:
يعني إيه مش لاقيينها؟ انتوا عارفين لو ملقينهاش إيه اللي هيحصل؟ حسن باشا هيودينا كلنا في ستين داهية.
كانت حالة إسلام لا تقل توترًا عنه، ف حسن يتوعد لهم بالقتل إن لن يتوصلوا إليها في أقرب وقت ممكن، تحدث أحدهم بتوتر قائلًا: يا شفيع بيه قلبنا عليها الدنيا وكل مكان ممكن تروحه، بس كأن الأرض انشقت وبلعتها!
ازداد الغضب داخل حدقتي كُل من شفيع وإسلام، ليقترب منه إسلام على بغتة، ثم لكمه بغِل وهو يصرخ به: هِربت إزاي؟ هو أنا مشغَّل معايا شوية بهايم؟
وضع الحارس يده على وجهه بألم، ومع ذلك ظل مُطرطأ الرأس ذليل، وهُنا قرر بدران التدخل، والذي بدوره تشدق باستغراب وهو يتقدم منهم: السلام عليكم؟ مالك متعصب وصوتك واصل لآخر المستشفى يا شفيع بيه؟
حاول شفيع إخفاء غضبه وتحدث بنبرة ساخطة: فيه واحدة من المرضى اللي في المستشفى هِربت.
شهق بدران بصدمة بدت حقيقية لهم، قبل أن يستدير إلى الحرس الثلاثة وهو يصرخ بهم: إيه! هربت؟ إيه التسيب والإستهتار دا؟ إزاي يعني تِهرب والحرس موجودين كدا؟
رد عليه شفيع بوجهٍ مُقتضب غاضب: وأهو دا اللي بسأله من بدري، إزاي مريضة قِدرت تِهرب بالسهولة دي؟
تصنَّع بدران الجهل ثم تحدث باقتراح: طيب ما تشوفوا كاميرات المُراقبة!
أجابه شفيع بصوتٍ غاضب وهو يكاد أن ينفجر من شِدة الغيظ: الكاميرات كلها كانت متعطلة في الوقت اللي هربت فيه.
وبتفكيرٍ زائف وخبثٍ كالذئب تحدث بدران: يعني الكاميرات كانت متعطلة في الوقت اللي هي هربت فيه؟ مش غريب الموضوع دا شوية!
ضيَّق الجميع أعينهم بشك، وها قد بدأت عقولهم في العمل بإتجاهٍ آخر، إتجاهٌ رسمه هذا الخبيث بدران ليجعلهم يسيرون رهن تخطيطه، فيما تسائل شفيع بريبة:
قصدك إيه يا دكتور بدران؟
وضَّح له بدران مقصده بكل براءة وهو يقول: لأ مش قصدي حاجة طبعًا يا دكتور شفيع، عن إذنك عشان ورايا شُغل.
تفوه بحديثه ثم استدار مُعطيًا ظهره لهم، وعلى ثُغره ترتسم ابتسامة خبيثة، سار في ممر المشفى وهو يضع كفيه في معطفه الطبي الذي يروق له، بينما عيناه السوداويتان الحادة تطوق المكان من حوله، اتجه إلى إحدى الغُرف وهو يطرق بحذائه الأسود اللامع سيراميك المشفى اللامع، وحين دخوله تحدث بتساؤل على الفور:.
حد شَك في حاجة يا رجب؟
استدار رجب فزعًا وهو يضع يده على صدره، تنفس الصعداء فور رؤيته لوجه بدران، فتحدث نافيًا على الفور: لأ متقلقش يا دكتور بدران، محدش شَك في حاجة لحد دلوقتي.
ابتسم بدران ابتسامة لم تصل لعينه، ثم أردف بما جعل الآخر يُفرغ فاهه من الصدمة: طب جهَّز نفسك عشان هما شكوا خلاص.
لو قولتلك إني جيبالك أخبار مُثيرة للجدل تعمل إيه؟
نبست روان بتلك الكلمات وعلى ثُغرها ترتسم ابتسامة واسعة، رفع إسماعيل أنظاره من على الأوراق الموضوعة أمامها، ارتسمت بسمة مُتهكمة على فاههِ، مُجيبًا إياها أثناء خلعه لنظارته الطبية:
أدبح خروف وأوزعه على الشركة كُلها.
تقدمت منه روان أكثر، ثم مدت يدها له بالأخبار التي من المُفترض تداولها في الجريدة غدًا، التقطها منها إسماعيل بلامبالاة لعلمه بتفاهتها كالعادة، مرت عيناه على سطور الخبر بانتباه، ومع كل كلمة يقرأها تتسع حدقتاه أكثر فأكثر، وازدادت صدمته حين قرائته للسطر الأخير، السطر الذي سُصيبه بالجلطة لا شك:
رئيس التحرير إسماعيل الدمرداشي / نقلت إليكم الخبر روان إسماعيل / المصدر مصعب هارون رضوان.
لكن أنهت مُستقبل ثلاثة من الأشخاص وهي من ضمنهم، بالطبع سيتم قتلهم لا محالة!
فكَّ إسماعيل أزرار قميصه وهو يتنفس بصعوبة وعنف، وبصوتٍ مُتقطع تحدث برعب: راحة تلعبي مع تُجار مُخدرات وكاتبة أسمائنا في نهاية المقال؟
ردت عليه روان بثقة شديدة وهي ترفع رأسها بغرور: طبعًا، أومال أسيب الخبر من غير اسم عشان الجرايد التانية تسرق مجهودنا؟
وكانت تلك هي الكلمات الأخيرة التي استمع إليها إسماعيل قبل أن يسقط مغشيًا عليه من أثر الصدمة.
عادةً ما تجد الكسول ذو حظٍ جيد، وهذا ما حدث مع هذين الإثنين، والمُشار إليهما هُما حمزة ومصعب، واللذان يقفان أمام العميد بانتباه أثناء حديثه المُحيي لهما: أنا بجد فخور بيكم، إزاي قِدرتوا تقبضوا على الإرهابيين اللي هجموا على القِسم بالسهولة دي؟
رد عليه مصعب بنبرة جادة للغاية: كله بتساهيل ربنا دا أولًا يا فندم، وبسبب مهارتنا واجتهادنا دا ثانيًا.
أكمل حمزة على حديث أخيه بقوله المُؤثر: وبعدين يا فندم أنا وأخويا فِدا للوطن، كله من أجل نشر السلام.
طالعهما العميد بفخرٍ، ثم تقدم منهما حتى توقف على بُعد خطوتين منهما تقريبًا، ورفع كفيه ليُربت بهما على أكتافهما وهو يقول: عاش يا أبطال، أنا فخور بيكم، وعشان خاطر شجاعتكم وانتمائكم، أنا هصرف لكل واحد فيكم مُكافئة شهرية لمدة خمس شهور.
رفض مصعب وهو يهز رأسه بطريقة مُبالغ بها: لأ يا فندم لأ، مش هتكافئنا على شُغلنا.
فأصرَّ العميد بقوله وهو يبتعد عنهم: الحوار انتهى يا مصعب، دُمتم بخير يا أبطال، ودلوقتي تقدروا تتفضلوا على مكاتبكم.
اتجه حمزة ومصعب إلى الخارج وعلى وجوههم ترتسم الجدية، وما إن وصلوا إلى مكتب حمزة ودخلوا إليه، حتى صرخ الأخير بسعادة: خدنا حوافز ياض يا مصعب.
تحدث مصعب بصوتٍ جاد للغاية: كله بسبب المجهود الكبير اللي إحنا بذلناه.
إلتوى فم حمزة بتهكم وهو يستدير للجلوس على مقعد مكتبه، ثم تحدث ساخرًا: جُهد إيه يا أبو جهد؟ دا لولا ربنا اللي بينجينا كل مرة إحنا كان زماننا مرفودين دلوقتي.
تقدم مصعب منه، ثم قفز يجلس أمامه أعلى مكتبه وهو يقول بلامبالاة: أديها عدت، بكرة نترقى ونكون وزراء قد الدنيا.
فتح حمزة دُرج مكتبه، ثم عبث به قليلًا وأخرج إحدى الملفات، مُلقيًا إياها في وجه مصعب الذي التقطها بسرعة، وبعدها تحدث بتهكم: طب خُد يا أبو وُزرا، راجع الملف دا كويس عشان عندنا قضية من العيار التقيل.
قرأ مصعب اسم الملف مُرددًا إياه بخفوت: حسن طارق عاشور، مين دا؟
أجابه حمزة وهو يتأرجح بكُرسيه يمينًا ويسارًا باستمتاع: دا تاجر سلاح تلاقي، مخدرات تلاقي، أعمال غير مشروعة تلاقي، زِنا تلاقي، رشاوي تلاقي، قتل ميضرش، يعني مش حارمك من حاجة.
والسؤال الوحيد الذي دار برأس مصعب هو: معاه حشيش؟
غمزه حمزة بضحك: معاه حشيش.
إلعب.
تفوه بها مصعب ضاحكًا وهو يضرب كفه بكف حمزة الذي استقبله، ليقول حمزة بنبرة مُغلفة بالخبث: هنبدأ تحرياتنا من بكرة، ويا إحنا يا هو.
وعلى ذِكر سيرة حسن طارق عاشور، كان يقف أمام أحد الرجال أثناء إرتدائه لثيابه السوداء، عيناه العسليتان مُحتدة بشر، وبيده سلاح يُوجهه إلى رأس الأخر، لتصعد من فاهه جُملة واحدة أعقبتها فعلته الهوجاء:
اللي يخون حسن طارق عاشور يبقى مسيره الموت.
ومن بعدها عمَّ الصمت الذي أتبعه صوت طلقة عالية دوت صداها في الأرجاء بطريقة مُخيفة، نفخ حسن في فوهة سِلاحه بتلذذ، ثم استدار جهة حارسه الشخصي وذراعه الأيمن وأمره بغموض:
كلَّم إسلام وقوله إن إحنا لقينا تسنيم، وخليه يجي.
وعلى صِعيدٍ آخر، فتحت تسنيم باب المنزل بعدما استمعت لطرقه، قطبت جبينها بتعجب حينما لم تجد أحد، لكن لفت إنتباهها تلك الورقة البيضاء المطوية أسفل قدميها، انحنت بجسدها قليلًا لتلتقطها، ثم اعتدلت وهي تفتحها، مرت عيناها تقرأ المكتوب بالورقة، مع كل كلمة تقرأها؛ يزداد تنفسها بشكلٍ مُخيف وترتعش أوصالها رُعبًا، وذلك عندما قرأت المُدون بها والذي كان مضمونه:
فِكرك هتهربي مني ومش هعرف أوصلك؟ نهايتك على إيدي.