رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي والثلاثون
الحقد يعمي بصيرة الإنسان، فيُحوله من شخصٍ مُتساوٍ إلى آخر مُمتليء بالكُره، كسحابةٍ بيضاء لُوِثت فباتت رمادية مُحملة بالأثقال.
وقف حازم أمام أبيه يتحداه بعُنفوان، عيناه تطلقان شررًا قادرًا على حرق المكان من حوله، وقبضته تشتد حتى ابيضت مفاصله، ولأول مرة يرى خيري ابنه في مثل تلك الحالة من التمرد والعصيان، لكن لن يجعله يُفلت بعملته الحقيرة مع ابنة شقيقه، والذي يمتلك نصف أسهم الشركة، وإن خسره؛ سيخسر أموالًا طائلة ليس لها أول من آخر، لذلك تقدم من حازم خطوتين حتى بات على مسافة قريبة منه للغاية وتمتم بفحيح:.
قول اللي أنت عايزه كدا تاني!
وبإصرارٍ أشد هتف حازم بعنادٍ مُماثل لأبيه: بقول مش هتجوز تالين و...
صفعة قوية هبطت على وجنته كانت السبب في مُقاطعته، تعالى صداها في أركان الغرفة كما ترددت داخل الأفئدة المكنونة، اهتز حازم في مكانه للحظاتٍ ورمق أبيه بعدم تصديق، ليس لأنه قام بصفعه من أجل الزواج من تالين، وإنما صفعه من أجل الأموال! ابتلع تلك الغصة التي استحكمت عليه وتكونت طبقة رقيقة من الدموع داخل مقلتيه أبت بالهطول، كان داخله مذبحوًا، لكن شفتيه قد ابتسمتا في نقيضٍ لما يشعر به تمامًا، وبعدها أردف بتساؤل مرير: كل دا عشان متخسرش فلوسك؟ عشان رفاهيتك؟ عايز تدمرني!
لم يأبه خيري بتفاهاته تلك كما يقول، وإنما اقترب منه أكثر ليُمسك به من تلابيبه ويهزه بعنف وهو يصرخ به: أنت اللي دمرت نفسك لما روحت عملت علاقة قذرة مع بنت عمك، رغم إنك عارف ومتأكد إن لو حصلها حاجة أبوها مش هيسكت ووارد جدًا يلغي الشراكة اللي ما بينا.
دفع حازم يده عنه بعنفٍ صارخًا به باهتياج: طالعلك. كل حاجة أنا بعملها دلوقتي أنت اللي معلمهالي. الوساخة اللي أنا فيها دي بسببك أنت مش بسبب حد تاني، تفكيرك المستمر في الفلوس والشركات والثروة وصلوك إنك تعلمنا إزاي نبيع وندوس على أي حد مقابل فلوس أكتر. حتى أخوك مسلمش من شرك. خدت منه كل حاجة عشان تكبر في السوق أكتر. بس تعرف حاجة! أنا مش زعلان عليه عشان هو يستاهل، أنا بس زعلان على حاجة واحدة بس، إني معرفتش أحافظ على الإنسانة الوحيدة اللي حبتني وكانت ممكن تغيرني للأحسن، كانت ممكن تبعدني عنك ووقتها ماكنتش هلومها، حتى أنت لما حسيت إن جنة بقت ليها سيطرة عليا حاولت تبعدني عنها وللأسف نجحت، عارف ليه؟ عشان أنا غبي. غبي عشان ضيعتها، وغبي عشان سمعت كلامك، غبي عشان مشيت وراك، غبي عشان بعد كل السنين دي كلها اكتشفت إني لوحدي منبوذ ومليش حد يحبني زي ما بتمنى.
طالع خيري ابنه ببرود، وكأن كل ما قاله لا يُعنيه ولم يُحرِّك شعرة واحدة في رأسه، هو الآن يضع هدفًا مُحددًا أمام ناظريه وهو عدم خسارة شقيقه حتى لا يخسر المزيد من الأموال، كان صدر حازم يعلو ويهبط بعنفوان وانتظر رد أبيه على ما قاله، لكن ردة فعل أبيه كانت صادمة حينما قال بلامبالاة: أنا كلمت عمك وهو هيجي من السفر بعد بكرة عشان تكتب على بنته.
اتسعت حدقتاي حازم باندهاش، فيما أكمل خيري حديثه غير مُراعيًا لحالته: طبعًا هو ميعرفش أي حاجة عن اللي حصل ما بينكم، أنا قولتله إنك مستعجل على الجواز وهو معترضش عشان شغله في ألمانيا، وكمان هو واثق فيك فعشان كدا جوازكم هيتم في أسرع وقت.
مش هتجوزها.
نبس بها بحسمٍ وهو يُطالع والده بحقدٍ بدأ بالنمو، فرد عليه خيري بوعيد: لو متجوزتهاش هحرمك من ورثك وهسحب منك فلوسك اللي في البنوك والعربية، والبيت دا مش هتدخله تاني، وابقى قابلني لو لقيت اللي يعبرك.
رمش حازم عدة مراتٍ بعدم استيعاب، هذا المُسخ المُسمى بوالده لا يفعل شيء سوى أنه يُدني من نفسه أكثر! ولم يكد أن يتحدث بشيء؛ حتى وجد أبيه يتركه ويرحل بعد أن لملم حاجياته وذهب إلى عمله! تابع حازم أثره الراحل ببعضٍ من القهرة، فإن كان فد أخطأ بحق فوالده السبب، دنائته تلك كانت عبارة عن انعكاسٍ صغير لوالده لا أكثر، إذًا لِمَ يلومه بتلك القسوة؟
ارتمى بإنهاك على الأريكة الجليدية الوثيرة دافنًا وجهه بين كفيه وعقله يُفكر بلا توقف في حل لتلك المُعضلة التي حلت فوق رأسه دون تخطيط.
مرَّ يومان على كل تلك الأحداث، لا شيء يتغير سوى أن الألم يتزايد والشوق يطفو على صفحات القلوب، وبالرغم من ذلك فإن البسمة تُرسَم مُرغمة على الوجوه.
ارتدى يعقوب ثيابه والتي كانت تتكون من قميص رمادي اللون به خطوط رفيعة من اللون الأبيض وأسفله ارتدى بنطالًا من اللون الأسود، ثيابًا أعطت لمظهره جاذبية تزايدت مع استطالة ذقنه التي هذَّبها بماكينة حلاقته، استطاع أن يُداري إجهاد وجهه، لكن ولأسفه الشديد فشل في إخفاء حزنه الذي بهت على عينيه.
رشَّ من عطره بكثرة ثم خرج من غرفته مُتجهًا نحو غرفة مصعب والذي تألق في ثيابٍ أظهرت عضلات جسده المُشتدة بجاذبية، فقد ارتدى بنطالًا من اللون الأسود يعلوه قميصًا ناصع البياض، أطلق يعقوب صفيرًا مُعجبًا تبعه قوله العابث: يا سيدي يا سيدي! هو أنت اللي حِلو ولا الحب اللي محليك؟
استدار له مصعب الذي كان يقف أمام مرآته يُهندم من مظهره، ثم غمزه ضاحكًا: دا أنت اللي حِلو يا حِلو.
استحكمت غصة مؤلمة حلق يعقوب عقب إجابته، تلك الكلمات المُغازلة كان يرميها على مسامع إحداهن ذات يوم، فحاول مُداراة الألم عن أخيه باحتضانه له وتحدث بصوتٍ هاديء مُعاكس لحالته وهو يُربت على ظهره بحب: ألف مبروك يا حبيبي، ربنا يتمملك على خير.
بادله مصعب العناق بآخر أقوى وشعور السعادة يغمره بانطلاق، لا يُصدِّق بأن اليوم سيذهب من أجلها هي، من أجل طلبها كزوجة وشريكة له طيلة حياته، فؤاده ينبض بفرح، وعقله لا يكادُ أن يُصدِّق ما يحدث، ابتعد عن أخيه عقب أن فُتِحَ باب الغرفة بواسطة بدير الذي انطلق نحو مصعب يضمه بسعادة وهو يصرخ بتهليل:
ألف مبروك ياض، عقبالي يارب.
تعالت ضحكات مصعب و يعقوب يُتابعهما بابتسامة هادئة مُحِبة، لكن ثوانٍ ما انتفض الجميع عقب استماعهم لصوت الزغاريد التي انطلقت فجأة من فاهِ بدور، طالعها الجميع بضجر عدا مصعب الذي اتجه إليها لاحتضانها، فعانقته بشغف وهي تقول بحبٍ خالص: مُبارك يا ولا، أخيرًا عِشت وشوفتك أجمل عريس في الدنيا!
ابتعد عنها مصعب ضاحكًا والذي تمتم بسخرية: متخليش الجلالة تاخدك أوي وتنسي إني أكبر منك يا حبيبتي، متحسسنيش إنك ستي.
دفعته بدور لاوية شفتيها بنزق، لكن عاد الحماس يحتل معالم وجهها وهي تدور حول نفسها وتسألهم بسعادة: إيه رأيكم في الفستان بتاعي؟
نظر جميع إخوتها إلى فستانها الهاديء والبسيط في نفس الوقت، فقد كان من اللون الكشميري من خامة السيتان لا يوجد عليه أيَّة نقوش، وبالمنتصف يوجد حزام من نفس اللون لكن عليه زخرفة ماسية بسيطة، أعطاه جسدها الممشوق والمُمتليء قليلًا مظهرًا خلَّابًا للغاية.
وهُنا تحدث يعقوب الذي كتَّف ساعديه أمام صدره وقال بنزق: شكله حلو أوي علشان كدا مش هتخرجي بيه.
فرغت بدور فاهها بصدمة، فأيَّد بادر الذي دخل لتوه الغرفة بعد أن استمع لحديث شقيقه الأخير وقال: أنا أدعم الكلام الجميل دا، ادخلي غيَّري المسخرة دي وإلبسي أي عباية سودة من بتوعك.
تشنج وجه بدور باستنكار، فطالعت بدير باستنجاد عله يُساعدها، لكنه خذلها حينما هتف بضيق: البتاع دا شكله جميل عليكِ والحلاوة دي متظهرش للي برا معلش.
طالعتهم جميعًا بغضب ومن ثَم صاحت بهم بتمرد: مش هغيَّر حاجة أنا فستاني عاجبني، أنا غلطانة أصلًا إني باخد رأيكم في حاجة.
دخل عليهم في تلك الأثناء بدران الذي كان مُتألقًا في ملابس سوداء عكست جاذبيته، فذهب إلى شقيقته الغاضبة وأحاط بها من كتفها، ثم مال على وجنتها يُقبلها برقة وسألها بحنوٍ: حبيبة قلبي متضايقة ليه؟
شكت له بتبرم وهي تُطالع الرجال أمامها بنظرة ساخطة: مش عاجبهم اللي أنا لابساه وعايزيني ألبس عباية سودة.
ضمها إليه أكثر واستدار مُتوجهًا بها إلى الخارج وهو يُجيبها بلامبالاة: سيبك منهم وتعالي معايا دول شوية فلاحين وأنتِ زي القمر.
شقت الابتسامة وجهها فيما طالعهما أخواتهما بنزق، فاستدار لهم مصعب وتحدث قائلًا: شايفين مدلعها إزاي؟ والله لهقول لبابا ينقبها عشان تداري سحنتها دي.
ضربه يعقوب على صدره بقوة واعترض بقوله: متتكلمش على أختك كدا، دي خِلقة ربنا!
بالأسفل. وقفت رضوى بجانب سيارة حمزة تتأفف بضجر من الحين للآخر، ضغط حمزة على أعصابه بشدة حتى لا ينفجر في الصراخ عليها، تعاملها معه قد تغير منذ أن تفرقا يعقوب وذكرى وكأنه تُحمِّله الذنب على حزن شقيقتها، استغفر بصوتٍ مسموع مما جعلها تلتفت إليه تسأله وهي تتخصر في مكانها:.
والله؟ مش طايقني للدرجادي؟ طيب طالما كدا ما أدخل بيتي أحسن وبلاها آجي معاكم أحسن، على فكرة ماما وإخواتي أولى من الوقت اللي هضيعه دا، دا غير كمان إن أنت خطيبي مش جوزي ولا حاجة فممكن أعتذر عن حضوري للمناسبة دي، أصلي شكلي مابقتش عاجبة حضرة الظابط و...
قاطعها حمزة حانقًا وهو يُشيح بيده أمام وجهها: ما تخرسي بقى هو محدش مالي عينك؟ وبعدين دا كله علشان بستغفر ربنا؟ أنت غيرتي المِلة ولا إيه!
رمقته بغيظ ثم أشاحت بوجهها للناحية الأخرى وربعت ذراعيها أمام صدرها ولم تُجِبه، مازال ذلك الهاجس يُربعها، أن يتخلى عنها مثلما تخلى شقيقه عن شقيقتها، كل ليلة تستمع إلى صوت بكائها وأنينها المكتوم، تبكي معها سِرًا حُزنًا عليها وخشيةً من الإكمال في زيجة تخاف فشلها، في البداية كان أرقها بسبب والدها وهو طمأنها، لكن تلك المرة خائفة وبشدة بسبب ما تمر به شقيقتها بسبب شقيقه، أيُعقل أن يفعل بها ما فعله الآخر؟
زفر حمزة بضيق وهو يعلم كل ما تُفكِّر به، هو بصعوبة حاول طمأنتها للموافقة عليه، والآن قلقها باديًا عليها بشدة مُنعكسًا على تصرفاتها الهجومية الدائمة، تنفس بعمق وخرج صوته لينًا تلك المرة رغم صلابته: طيب ممكن أفهم إيه اللي مخوفك؟
ابتلعت ريقها على مهلٍ وأجابته بصوتٍ ظهر عليه توتره: أنا مش خايفة.
وقف قبالتها وتحدث بصوتٍ حنون: لأ أنتِ خايفة، وقولتلك وقت ما تخافي هكون أنا جنبك بطمنك.
تسارعت أنفاسها توحي بمشارفتها على البكاء، لكنها كتمت غصتها داخلها حينما رأت شقيقها إلياس يخرج من المنزل بملامح واجمة، لاحظ حمزة ذلك فأردف بسرعة قبل أن يصل: كلامنا لسه مخلصش يا رضوى، فكري في كل اللي أنتِ عايزة تقوليه عشان لما نقعد سوا متتوتريش.
تنفست بعمقٍ وحاولت السيطرة على ذاتها وجلب ثباتها الذي تبدد عقب حديثها معه ومشاعرها المُبعثرة، وصل إليهما إلياس وهو يُضيق ما بين حاجبيه بعدم رضا وقال: كان لازم تاخدها معاك يعني!
رد عليه حمزة بحنق: هو انتوا ليه يا جدعان محسسني إن أنا اللي طلقت؟ منكدين على اللي خلفوني ليه وأنا لسه متجوزتش أصلًا؟
لسه هنشوف إذا كنت هتتجوزها أصلًا ولا لأ.
رددها إلياس ببرود وهو يحتل مقعده في السيارة في الأمام، فجحظت عيني حمزة عقب حديثه وهو يقول بصدمة: يعني إيه الكلام دا؟
صعدت رضوى للسيارة وجلست على المقعد الخلفي مُستمتعة بمشاكسة أخيها لخطيبها المُبجل، فيما أجابه إلياس وهو يتململ بلامبالاة: يعني أختي عزيزة مياخدهاش غير عزيز، وبصراحة بقى أنا لسه هعمل عنك تحريات وأشوف إذا كنت قد الثقة فعلًا ولا لأ.
حكَّ حمزة وجهه بعصبية، وجزَّ على أسنانه بغيظ هامسًا لذاته بسخط: ماشي يا إلياس يا حيوان. ليك يوم.
قالها ثم استدار للناحية الأخرى ليشغل محل السائق، ثم انطلق بسيارته خلف سيارات عائلته التي انطلقت لتوها إلى وجهتها، وهو منزل روان إسماعيل الدمرداشي.
وعلى الجانب الآخر. كانت ذكرى تُتابع يعقوب من خلف نافذتها حتى لا يراها، لم يخفي عليها الجو المشحون والنظرات المُحملة بالغضب ببنه وبين شقيقه، بالرغم من أنها أخبرتهم بأن سبب الإنفصال هو عدم توافقهم مع بعضهما البعض، وبالطبع لم تذكر السبب الحقيقي.
أخرجت تنهيدة حارة من بين شفتيها وعيناها تتبعان أثره الراحل، ثلاثة أيام حُرِمت فيهم من دفيء أحضانه وهمساته الحنونة، افتقدت به عزفه على آلة الكمان الخاصة به، صوته العذب الذي كان بُغدقها به، عبثه ومشاكساته الوقحة أحيانًا، بإختصار هي حُبِسَت في شرنقة ذكرياته، والتي بالرغم من ألمها إلا إنها تُشعرها بالأمان.
هبطت دموع ذكرى بألمٍ شنيع يفتك بفؤادها، تشعر بأن نهايتها باتت قريبة، هي الآن محاصرة داخل سجنٍ من نار يُذيب حواجز ثباتها ويُهددها بالإنهيار، تُرى هل سينقذها يعقوب من ذلك السجن اللعين، أم أنه سيتركها تغرق؟
وفي منزل إسماعيل الدمرداشي.
وقف إسماعيل أمام ابنته وهو يكاد أن يُصاب بذبحة صدرية عقب رؤيته لما ترتديه، فصاح بها بعصبية إحمرَّ على أثرها وجهه بشدة: أنتِ يا بت جاية عملي الأسود في الدنيا! تخليص ذنوب ياللي ربنا يهدك!
نظرت روان لما ترتديه بملامح ممُتعضة بسبب صراخ أبيها عليها، لا تعلم ما الذي يُغضبه منها لهذا الحد، فثيابها كانت في غاية الرُقي والأناقة كما تقول، والتي كانت عبارة عن فستان من اللون الأخضر الفاقع، ولم تكتفي بهذا فقط، بل وضعت زينة وجه خضراء كذلك أعلى جفنيها، كانت عبارة عن صحن من الملوخية يسير على الأرض، وبالرغم من ذلك، رفعت وجهها لأبيها تردف بنزق:
مالها هدومي يا بابا؟ دي الموضة وشيك كمان أهو!
ازدادت عصبية إسماعيل وتشنج وجهه مُستنكرًا حديثها، فصاح مُرددًا بنقم: موضة وشيك؟ طيب الفستان الأخضر وقولنا ماشي، لكن فيه حد عاقل يحط لون أخضر فوق عينيه! وإيه اللي على حواجبك دا؟ ترتر!
ردت روان على والدها مُصححة: دا أيشادو يا بابا، لو سحمت يا إسماعيل بيه سيبني على راحتي، أنا عاجبني شكلي كدا.
رمقها إسماعيل باشمئزاز لم يُداريه، ورحل من أمامها وهو يُتمتم بصوتٍ استمعت إليه واضحًا: دا الله يكون في عونه والله، جاي يتقدم لعود برسيم مش عروسة أبدًا.
أثارت كلمات إسماعيل غضبها واتجهت نحو المرآة لترمق إنعكاس صورتها بتقاسيم وجه واجمة، لكن ثوانٍ ما لانت حينما هتفت بإطراء على ذاتها: طيب والله عسل وشيك.
قالتها هامسة، لكنها صمتت مُجددًا وهي تُعيد النظر في ثيابها وزينة وجهها مُجددًا، ومازال تشبيه والدها لها عن كونها عودًا من البرسيم يُثير حنقها، لذلك قررت تغير ثيابها لأخرى حتى تكون في صورة أفضل من التي عليها الآن.
مرت نصف ساعة انتهت منها من تبديل مظهرها كُليًا وهبطت للأسفل بخطوات وئيدة حيث يجلس والدها ووالدتها ناهد التي ما إن رأتها حتى ضربت على صدرها شاهقة بصراخ: يا وقعتك المهببة النهاردة!
استدار إسماعيل مُسرعًا لرؤية ما تنظر إليه زوجته، لكنه أغمض عيناه مُجددًا حتى يتحكم بأعصابه التي كادت أن تتلف بسبب ابنته، ثم فتحهما مُجددًا وتحدث بابتسامة مُفتعلة: أسود! يلا مش مشكلة أهو أحسن من الأخضر اللي كنتِ لابساه.
نظرت ناهد إلى زوجها وسألته بحنق: أنت هتسيبها تقابل خطيبها وأهله بفستان أسود! دا حتى الطرحة مهانش عليها تغيَّرها ولبستها سودة!
إلتوى فاهِ إسماعيل بسخرية وهو يقول: معذورة، ما أنتِ مشوفتيش كانت لابسة إيه.
قلبت روان عيناها أثناء مُتابعتها لحديثهما بملل، لقد غيَّرت ملابسها وبدلتها بفستان لامع أسود اللون هبط مُحتضنًا جسدها بانسيابية وكأنه يحتويه، وارتدت في قدمها هيلز من اللون الأسود كذلك، حتى حجابها كان يُماثلهما في اللون، وكسرت تلك العتمة بزينة وجه رقيقة أضفت لها جُرأة حينما طلت شفتيها بلون أحمر عكس بياض وجهها، وتلك المرة تخلت عن نظارتها واستبدلتها بعدسة لاصقة بُنية اللون كلونِ عينيها تمامًا.
استمعوا جميعًا إلى صوت جرس الباب فهرولت روان إلى غرفتها سريعًا وهي تهتف بسعادة: هروح أستخبى بقى عشان أعملها مُفاجأة لعريسي.
نظر إسماعيل لأثرها بتهكم وهمس مُتحسرًا: الله يكون في عونك يابني، حظك المايل وقعك على بنتي!
تجهزت جميع عائلة رضوان أمام باب منزل إسماعيل الدمرداشي، لكن صوت شجار مروان ورحمة هو ما أوقف هارون عن طرق جرس الباب، نظر عوض لابنته بضيق وقال بصرامة واضحة: خلاص يا رحمة أنتِ مش صغيرة أنتِ وهو على لعب العيال دا!
نظرت رحمة إلى والدها حانقة وشكت له بسخط: يا بابا كل شوية يدوس على طرف الفستان وهيوقعني!
أشار مروان لنفسه مُدعيًا الصدمة وراسمًا على وجهه إمارات المظلوم وهو يهتف: أنا عملت كدا؟ ربنا يسامحك أنا مش هقول غير كدا.
ربت بدير على كتفه ونظر إلى رحمة قائلًا وهز يُمصمص على شفتيه: معلش يا حبيبي أصلها ظالمة، هتروح من ربنا فين بس!
نظر مروان إلى بدير وأردف بقهرٍ زائف قارب الجميع على تصديقه: دي بتتبلى عليا أنت مُتخيل! كل دا عشان دوست على فستانها أربعتاشر ولا خمستاشر مرة بالغلط!
دُفِعَ جسد مروان بقوة بسبب عوض الذي ضربه على صدره بكف يده الغليظ ومن ثَم هتف بنظراتٍ وكلماتٍ ذات مغزى: اتلم وابعد عن البت بدل ما أزعلك، ومتقربش منها تاني.
تحولت تقاسيم وجه مروان وحديث عمه المُغلف بصرامته أشعرته بأنه كالمُغفل أمامه، انتظر هارون حتى انتهوا من لعبة الأطفال تلك ثم طرق جرس الباب وانتظروا قليلًا حتى فُتِح الباب بواسطة إسماعيل الذي رحَّب بهم بحرارة، ومن خلفه رحبت ناهد بالنساء برُقي، لن يُنكرا اندهاشهما بهذا العدد الكبير أمامهما، لقد أخبرتهما روان بأن عائلته كبيرة، لكن لم يتوقعا بأنها كبيرة لهذا الحد!
جلس الجميع على المقاعد بغرفة الصالون، واستأذنت رضوى بأن تدخل إلى العروس لتكون جانبها، وتبعتها زهراء كذلك والتي تطورت علاقتها مع الفتيات في الفترة الأخيرة، بينما الرجال ظلوا يتجاذبون الأحاديث التقليدية التي تخص الزواج، و حنان و هالة وكذلك نعيمة اندمجوا معًا سريعًا، بينما رحمة فضَّلت الجلوس بجانب والدتها وتتبادل النظرات المُتحدية مع مروان.
وبداخل الغرفة، نظرت رضوى إلى روان مُطلِقة صفيرًا مُعجبًا من بين شفتيها ومن ثَم قالت: إوعى الحلاوة! لأ لأ الأوتفيت جامد عليكِ.
اتسعت ابتسامة روان بسعادة، فيما اعترضت زهراء وهي قاطبة لجبينها: هو إيه اللي جامد! هتسودي على الواد عيشته من أولها!
لوت الأخيرة وجهها وتمتمت بلامبالاة: والله هو اختارني يبقى يستحمل نتيجة اختياراته، أنا اللي مدايقني إني دورت على روچ أسود بس للأسف ملقتش.
صاحت بها زهراء بحنق: ياختي بركة إنك مالقتيش، دا أنتِ فاضلك قرنين حُمر وتطلعي بدور شرشبيل.
تعالت ضحكات رضوى بانطلاق، فيما طالعت روان الأخيرة حانقة ومن ثَم دفعتها بعيدًا وهي تهتف من بين أسنانها: بقولك إيه إمشي من هنا أنا مش ناقصاكِ، أو أقولكم! امشوا أنتوا الاتنين وابعتولي مصعب.
عمت الغرفة بصخب الضحكات المُنطلقة والتي قُطعت بعد لحظات فور أن نادت ناهد على ابنتها للخروج، نظرت لنفسها في المرآة للمرة الأخيرة ثم تركت الغرفة واتجهت إليهم في الخارج، هز مصعب رأسه وهو يضحك بيأسٍ فور أن وقعت أنظاره عليها وتمتم مع ذاته:
وأنا كنت مستني منها إيه مثلًا؟
تسائل بها مع ذاته ضاحكًا وعيناه مُلتصقة بها تأبى تركها، لن يُنكر بأنها ساحرة للغاية، وكأن الأسود خُلِقَ لها ومن أجلها فقط! تبدو كساحرةٍ فسلبت قلب الأمير خاصتها، وهو سُلِبَ، وسُحِرَ، بل فُتِنَ!
حيت روان الجميع راسمة على ثُغرها ابتسامة هادئة، بينما عانقت النساء بحرارة، وجاء دوره لتُطالعه، هو اليوم ساحر، أو ربما هي العاشقة، عاشقة! كلمة تسائلت بها داخلها لتضحك بخجلٍ فور أن توصلت للجواب في ثوانٍ معدودة، ولِمَ عليها التفكير وهي وقعت في شِباكه؟ تعلقت الأعيُن بحديثٍ صاخب رغم صمته، والقلوب ترابطت رغم تباعدها، حتى أن الارواح تعانقت بعنفٍ يُزيح الجليد.
شعر مصعب بمن ينكزه في جانبه بقوة وصعد بعدها صوت بادر يُعنفه بخفوت: خسئت يا وقح! ااتقي الله.
طالعه مصعب بطرف عينيه ساخطًا وعاد للجلوس بجانب أبيه الذي بدأ بالحديث مع إسماعيل والإتفاقات التقليدية المُتبادلة بينهم، وبعد ما يقرب من النصف ساعة وتم الاتفاق بين الطرفين، تعالت الزغاريد من النساء وأكثرهم كانت حنان التي كانت سعيدة بفرحة فلذة كبدها، اتجهت ناهد إلى المطبخ لتأتي بالمشروبات الغازية والعصائر، وذهبت معها رحمة وزهراء وكذلك رضوى لمساعدتها، فيما اقترح بدران بضحك:.
طيب مش نسيب العرسان سوا بقى يا عمي ولا إيه!
ودَّ مصعب في تلك الأثناء لو يقفز على شقيقه ليُقبله امتنانًا، وبالفعل ترك لهم إسماعيل المساحة للتحدث سويًا، لو عليه لتركها له من تلك اللحظة إن شاء قبل أن تكون نهايته على يدها!
جلست روان أمام مصعب على المقاعد الموجودة بالشرفة الواسعة، والتي كانت تُعتبر غرفة أخرى ولكن باختلاف أنها تطل على الشارع الرئيسي وحديقة منزلهم، أضواء الشرفة الخافتة أعطت للجو جاذبية خاصة، وازدادت جاذبيته حينما قال مصعب بإطراء وهو ينظر لها:
شكلك زي القمر النهاردة.
أسبلت جفونها أرضًا وصمتت حتى ظنَّ بأنها لن تُجيبه، لكنها ردت بنبرة خجولة: وأنت كمان شكلك ابن ناس أوي النهاردة.
شكلي ابن ناس!
رددها مُتهكمًا، بينما هي رفعت رأسها له لتُجيبه بابتسامة واسعة: ونضيف ومستحمي كدا.
حاول مُداراة تشنجه من إجابتها الغبية، لكنه لم يستطع، بل وضع كفه أسفل ذقنه ليستند برأسه عليه ثم تسائل مُجددًا بحسرة: اممم وإيه كمان!
ظنت بأن إطرائها يُعجبه، لذلك تشدقت بحماسٍ أكبر وهي تعتدل في مكانها: وكمان ريحتك حلوة، دا برفان سِحر الورود دا؟
لأ دا شلل المنحوس، تسمعي عنه؟
هزت روان رأسها تنفي معرفتها بهذا العِطر الغريب، ليدفع لها طبق الحلوى أمامها وهو يهتف من بين أسنانه بغيظ: طيب كُلي. كُلي وسمي الله بدل ما أطفحهولك في يوم مُفترج زي دا.
بدأت بتناول الطعام وهي تضحك بخفة من الحين للآخر وهو يُراقبها بضحكة يائسة، لِمَ أحبها؟ لا يعلم، لِم اختارها؟ لا يعلم، لِمَ يسعد بها بتلك الطريقة؟ لا يعلم، إجابات كُل تلك الأسئلة وقفت عاجزة أمامه، لكنه سعيد بها بالرغم من غبائها، رؤيتها تضرب خلاياه بقوة، وعيناه تَشُع نورًا فور أن تقع عليها.
توقفت روان عن تناول الحلوى ونظرت إليه هاتفة بتذكر: تعرف إني وريت صورتك لصحبتي فقالتلي إنك شبه مني أوي!
ظهرت ابتسامته واضحة أسفل الإضاءة الواضحة وأجابها وهو يُربع ساعديه أمام صدره: نصيبنا مكتوب ببعض من يوم ما اتولدنا.
بجد!
تسائلت بها بانتباهٍ، فأومأ لها وأكمل قائلًا بشجن: حواء مخلوقة من ضلع آدم، هي كماله، وأنتِ كمالي.
واللهِ أنت اللي عسل.
قالتها بتلقائية وهي تضحك، فانطلقت ضحكاته عاليًا يُشاركها الضحك تحت أنوار القمر والنجوم التي شهدت قصة حُبهما للتو!
الساعة تدق التاسعة والنصف مساءًا تزامنًا مع دق الطبول في منزل عائلة المحمدي احتفالًا بزواجها من ابن العمدة، تعالت الزغاريد من النساء والتعليلات والمُباركات من الرجال، كان زفافًا يحضره الصغير قبل الكبير، وكيف لا والعريس من أكبر عائلات سوهاج؟ سارا العروسان معًا جهة خشبة المسرح وجلسا على كراسيه، وبعد أن أدورا رقصتهم جاء دور الأغاني الشعبية، فذهب العريس للرقص مع أصدقائه، والعروس ظلت مع أصدقائها الفتيات.
كان الزفازف يضم عددًا كبيرًا للغاية من أهل البلدة، ويتم توزيع وجبات الطعام على كلِ واحدٍ منهم، كما أشرف عتمان وصبري على استقبال ضيوفهم الكِبار و رأفت اندمج في الرقص مع الرجال، ليس سعيدًا بزواج شقيقته التي تزوجت بعد فضيحتها بإقامة علاقة غير شرعية مع ابن كبير البلدة، ولم سعيد بأجواء الزفاف والأغاني تلك!
عاد العروسان إلى مقاعدهما وجاءت الفقرة المُنتظرة، الهدية التي وعد بها رائف ابنة عمه، راقبته نرجس من بعيد بابتسامة مكبوتة لِما سيفعله الآن من جنون، بينما جميع المعازيم راقبوه باستغراب و بُثينة وصبري طالعاه بقلقٍ وتوتر، خاصةً عندما صعد على خشبة المسرح وأمسك بجهاز الميكروفون وكأنه سيُغني!
تعالت الهمهمات من حوله والتي انقطعت فور أن تعالت أصوات الموسيقى تُغطي عليهم، وصوته يصعد بعدها مُغنيًا:.
كان ليا في يوم حبيب يا خسارة باعني، بالغالي اشتريته وبالرخيص باعني، وأنا لا ندمان عليه ولا هبكي في يوم عليه، وأنا إيه. أنا إيه!
أنا لا مسطول ولا بطوح. أنا جاي أبارك ومروح، وأشوف اللي باعني، وسابني وخانني، خلى قلبي بيتمطوح.
آه يمة آه وآه يابا. دي عيلة واطية ونصابة، والليلة جينا نهنيكوا، هاتو الفلوس اللي عليكوا.
كان معظم مَن بالزفاف يرقص بتهليل ولا يضع في حُسبانه معنى لأي كلمة من تلك الكلمات، حتى أن رائف أخذ عصى صعيدية وذهب ليرقص بجانب ابن عمه ويُغني معه!
فيما كانت جميع العائلة تُطالع رائف بنارية تكاد أن تحرقه، و نور التي عضت أناملها من الغيظ والكُره تجاه ابن عمها، لم تتوقع أن مُفاجئته ستأتي مُهينة هكذا، حتى لو لم ينتبه الجميع لمعناها الموجه إليهم على وجه الخصوص!
وعلى الناحية الأخرى. نظر صبري ل عتمان بغضب وصرخ باهتياج: عاجبك اللي بيعمله ابن سعيد يابا؟ عايز يفضحنا قدام الناس!
نظر عتمان ل صبري باستغرابٍ زائف ورد عليه بكلماتٍ مُلتوية أثناء استناده على عصاه الخشبية الغليظة: وأنت واخد الكلام على نفسك ليه يا صبري؟ أنت لا خدت منه فلوس ولا خدت منه وِرث علشان يطالبك بيه، ولا أنت ناوي على حاجة غير كدا؟
توترت معالم وجه صبري بشدة عقب اختراق والده له بنظراته، ليبتلع ريقه بتوتر وهو ينفي قائلًا: ل. لأ طبعًا. أنا قصدي الناس.
طمأنه عتمان من تلك الجهة قائلًا بابتسامة هادئة وهو يعود ببصره حيث حفيديه اللذان يرقصان على المسرح: ملكش دعوة بالناس، الناس مبسوطة وأحفادي الأتنين هما كمان مبسوطين.
كتم صبري سبَّته البذيئة التي كادت أن تصعد رغمًا عنه، ثم حوَّل أنظاره إلى خشبة المسرح مُجددًا وعيناه تخترقان رائف بوعيدٍ خطير، وهُنا أنارت فكرة شيطيانية داخله عزم على تنفيذها عقب الإنتهاء من زفاف ابنته ومرور بعض الأيام، سيضع خطة مُحكمة للتخلص من رائف نهائيًا، سيُزيح تلك الشوكة التي تُعيق طريقه مهما كلَّفه الأمر.
عادت جميع العائلة إلى منازلهم، فمالت زهراء على بدران وهمست بضيق: بدران أنا عايزة أتكلم معاك شوية.
نظر حوله أولًا ليتأكد من انشغال الجميع عنهم، ثم عاد ليرمقها بقلق وهو يتسائل: مالك يا زهراء شكلك متضايق!
ابتلعت ريقها على مهلٍ لكن رغمًا عنها استحكمت تلك الغصة حلقها، فردت عليه بصوتٍ مبحوح أظهر محاولتها الصعبة لكتم بكائها: أنا مخنوقة أوي.
طالعها بخوفٍ نابع بصدق من دواخله وقال بلا تردد: تعالي نطلع على السطوح ونتكلم براحتنا.
نفت برأسها قائلة: لأ تعالى أنت في بيتنا ونقعد في البلكونة عشان منبقاش لوحدنا.
وكأن ذلك ذهب عن رأسه نهائيًا، هو بكل بلاهة يطلب منها أن يصعدا معًا إلى السَطح ليجلسا وحدهما في هذه الخلوة، استغفر ربه في سره ووافقها على طلبها، وبالفعل رافقها إلى الداخل بعد أن استأذن عمه والذي رحَّب به على الفوؤ واتجها إلى الشرفة المفتوحة والبعيدة عن مسامع الجميع.
وبالأسفل. وقف حمزة بجانب رضوى مُستندين على صفيح سيارته السوداء، نظراتها شاردة بعيدًا عنه وهو ينتظرها أن تتحدث، طال صمتها فناداها بحنوٍ بالغ: رضوى؟
رفعت أنظارها التائهة إليه فقال: احكيلي أنا سامعك.
أعطاها الإذن لتقص ما يُخيفها وهي انتهزت الفرصة على أكمل وجه، لن تُنكِر بأنه حنون ويُحاول بشتى السُبل لإرضائها، لكن يعقوب أيضًا كان كذلك مع شقيقتها، لن تُنكر عشقه الظاهر لها في عينيه، لكن يعقوب كان كذلك مع شقيقتها، لن تُنكر حديثه القادر على محو ضيقها، لكن يعقوب كان كذلك مع شقيقتها، تخشى أن تكون يومًا ما مكان شقيقتها، تخاف أن تُعاني زلات الفراق في لحظة من اللحظات، ترتجف من فكرة عودتها من المعركة خالية الوفاض بدونه، وكل هذه الأفكار ترجمها لسانها على هيئة كلمات مُبعثرة غير مُرتبة التقطها هو ببراعة، هو قادر على ترتيب أفكارها المُشعثة بدون أن تشرح كثيرًا.
انتهت من حديثها ومعها سقطت دمعة تائهة من طرف جفنها، وكأنها تمردت لتُبيّن وجعًا تُداريه خلف قناعها، تنهد حمزة بهدوء وانتقل من مكانه ليقف أمامها بدلًا من أن يُجاورها، وبهمسٍ حنون تحدث بود:.
أنا مقدَّر خوفك من المستقبل وزعلك على أختك، بس مينفعش أبدًا تقارني نفسك بيها، ظروف جواز يعقوب وذكرى مش زي ظروف جوازنا، هما جوازهم جِه فجأة، بين يوم وليلة لقوا نفسهم لازم يتجوزوا علشان يداروا على الفضيحة، وبعدها بدأوا يحبوا بعض، وبعد فترة من جوازهم اكتشفوا إنهم مش شبه بعض علشان كدا انفصلوا، لكن أنا وأنتِ غير كدا، أنا جيت اتقدمتلك علشان بحبك، وأنتِ وافقتي بيا علشان بتحبيني، أنا هطمنك وفي المقابل هتثقي فيا، أنا هحتويكِ وقت زعلك، أنا وأنتِ شبه بعض ومتفقين في حياتنا، ليه تقارني نفسك باتنين نصيبهم مش مكتوب لبعض!
بدت كما التائهة أمامه، عيناها تُطالبانه بالمزيد حتى يُريح صخب تفكيرها، ولم يتأخر في ذلك واستطرد حديثه قائلًا بعقلانية أكبر: ولو عندك حُب المقارنة فأنتِ ممكن تقارني علاقتنا بعلاقة ابويا وأمي، الحج هارون عُمره ما سابها تنام متضايقة منه أبدًا، ووقت زعلهم بيراضيها وبيعاتبها بس بحنية، علاقة مُريحة وهادية ومبنية على الحب والإحترام، وصدقيني أنا مش هبقى أقل حنان وحب من أبويا صدقيني، أنا بس عايزك تشوفيني زي ما أنا، عايزك تشوفي علاقة حمزة ورضوى لوحدها ومتقارنيهاش بأي علاقة تانية.
لن تُنكر بأن حديثه أصابها بالإطمئنان الشديد، وللمرة التي لا تعلم عددها أوضحت عن مخاوفها بقولها: حمزة أنا خايفة.
لتأتيها الإجابة المُعتادة منه في كل مرة: أنا هطمنك.
سار عمران مع إلياس لداخل منزله، فنظر إليه الأخير بتأفف وهو يهتف: أنا مش عارف أنت وأخوك قارفني معاك ليه؟ ما تغور يا أخي وتعالى اتطمن عليها الصبح!
رد عليه عمران باستفزاز: مش هغور غير لما اتطمن على مراتي.
تركه إلياس يدخل إليها وهو يسبه بداخله، ودخل هو إلى غرفته ليُبدا ثيابه مُتذكرًا تجاهل بدور إليه طيلة الجلسة، فعقب عرضه للزواج منها ليلة أمس استمع إلى جوابها الذي أتى على هيئة صافرة إغلاق الهاتف، وهذا كان جوابها الأحمق، لا يعرف أهو رفض أم خجل!
وعلى الجانب الآخر. دلف عمران بتسلل إلى غرفة جنة عقب أن استمع إلى صوت الأغاني يأتي من داخلها، كانت هي منشغلة في ترتيب خصلاتها أمام المرآة وهي تجلس على كُرسيها المُتحرك الذي جلبه لها عمران لتستطيع التنقل كيفما تشاء دون الحاجة إلى الضغط على قدمها المُصابة:
دا أنا بنظرتين جَت رجلي. وأديني جتلك وبرجلي. دا أنا بنظرتين جَت رجلي. وأديني جتلك وبرجلي.
وهُنا ظهر أمامها عُمران خلفها في انعكاس صورتها على المرآة، لتغمزه بمشاكسة وهي تُكمل الغناء: بحبك يابن اللذينة من شعر راسي لرجلي.
تعالت ضحكاته على عبثها الذي بدأ يظهر مؤخرًا وهو يستقبله منها بصدرٍ رحب، فوجدها تمد له ذراعيها فحملها من خصرها لتستند على قدم واحدة غير المُصابة، وذراعاها تُحيط بهما عُنقه وأكملت: رموشي هكحلهملك. وع الأرض هفرشهملك. رموشي هكحلهملك. وع الأرض هفرشهملك. بشويش عليا. دا أنا وحدانية. ميهمنيش.
مدَّ يده لإغلاق الأغاني التي تصدح من هاتفها ومن ثَم قرَّبها منه أكثر وهو يهتف بعبث: إيه الروقان دا كله يا جنتي؟
ردت عليه بعبث مماثل تعلم تأثيره عليه: وهو اللي معاه عمران ميروقش إزاي بس يا عموري؟
تعالت ضربات قلب عمران بصخب، لم يتوقع بأن لتلك الصغيرة تأثيرًا قويًا عليه لتلك الدرجة، استند بجبهته على جبهتها وتنفس بعنفٍ وهو يهمس لها: كلمة كمان ومش هضمن ردة فعلي، فنتلم ونحترم نفسنا أحسنلك يا بنت الناس.
دارت ضحكتها ودفنت وجهها في عُنقه تضمه إليها بشدة، ثم همست بصوتٍ مكتوم يُعاكس كُليًا طريقتها منذ قليل: عمران أنا عايزة أقولك حاجة مضيقاني.
تحشرج صوتها في نهاية الحديث مما استدعى قلقه البالغ عليها، فحملها برقة حتى وصل بها إلى الفراش ومدد جسدها عليه وهو يُجاورها: مالِك يا جنتي إيه اللي مزعلك؟
ارتعشت شفتيها وتسللت الدموع إلى مقلتيها وهي تُجيبه بصوتٍ يدل على بوادر البكاء: أنا شعري بدأ يقع.
اتجهت عيني عمران إلى خصلاتها تدريجيًا ورفع كفه ليتلمس نعومتهم برقة، ثم هبط بعينيه ليحتضن عيناها بخاصته قائلًا وهو يرسموعلى شفتيه ابتسامة ساحرة: هتبقي أحسن قرعة شوفتها في حياتي.
هبطت دموعها تزامنًا مع ضحكتها التي صعدت رغمًا عنها، فباتت قاب قوسين أو أدنى من الجنون، مسح عِبراتها بأصابعه وهو يُشاركها الضحك وبعدها نمتم بحنان:.
لازم تستني خطوة زي دي في حياتك، أنتِ عارفة إن الكيماوي اللي بتاخديه هو السبب، وأكيد إحنا مش هنيأس علشان شوية شَعر ممكن يرجعوا بسهولة جدًا، وبعدين يا ستي متقلقيش أنا هحبك في كل حالاتك، سواء وأنتِ بشعرك أو من غيره، أنا مش عايز غير روحك اللي أنا بقيت مُدمن وجودها حواليا دي.
دمعة أخرى هبطت من طرف عينها اليُسرى أثناء مُطالعتها له بامتنانٍ جلي، رفعت ذراعها له وبادرت هي تلك المرة باحتضانه وهو لم يتأخر، وكأن في عناقه إكسيرًا يُشجعها للإكمال! أو ربما دواءً سحري يُزيل الآلام!
انقضى الليل وانتشرت الشمس بنورها تعم الأرجاء، قررت ذكرى الخروج من قوقعة أحزانها والذهاب إلى محلها والذي أهملته في الفترة الأخيرة، واكتفت بمتابعة أخباره عن طريق مُساعدتها التي عملت معها مؤخرًا، حانت منها التفاتة إلى محل يعقوب الذي يُجاور محلها، فوجدته مُنهمكًا في عمله يُملي مطالبه لأحد العُمال، وبعد أن انتهى من الحديث معه وقعت عيناه عليها، وجدها تُطالعه بحنين واشتياق يجرفانها مع تيار مشاعرها المُبعثرة، وبصعوبة شديدة استدار بنظره بعيدًا عنها في حركة باتت قاسية من للغاية!
تنهدت بخمول واتجهت للداخل بعد أن رحبت بها العاملة بحرارة، اتجهت أبصارها إلى اترينات المخبوزات فوجدتها فارغة، يبدو أن عليها صُنع مخبوزات جديدة بدلًا من التي انتهت، كذلك اطمئنت على طيورها الجميلة، ثم اتجهت حيث ورودها!
وقفت أمام وردة حمراء مُتفتحة يظهر عليها الحيوية والإشراق، فابتسمت ابتسامة حزينة وهي تُفكر مليًا بأن الورود سليمة وهي التي ذَبُلت! صاحبة الورود باتت مُتهدلة وحزينة! تنتظر صاحبها بأن يأتي ويرويها لتعود كما كانت، هبطت بأنفها لتشتم عبقها فأغمضت عيناها باستمتاع وهي تهمس بتمني:
ياريتني وردة!
وبالفعل كانت تلك أمنيتها منذ الصغر، أو تكون وردة جميلة يُحبها الجميع، لا تأذي ولا تُؤذى، لكن فالآن الأمر يختلف، هي أذت وتأذت، هي الآن جريحة!
نفضت تلك الأفكار عن عاتقيها وذهبت لمساعدتها تطلب منها الذهاب لشراء بعض المحتويات التي تريدها لخبر المُعجنات، وبالفعل ذهبت المُساعدة وأتت حاملة كل ما طلبت، لتنغمس ذكرى في خبز حلواها ومخبوزاتها المُفضلة، انتقلت من عالمها المليء بالمآسي إلى عالم آخر يخصها وحدها، عالم لا يوجد فيه سوى ذكرى وورودها وطيورها ومخبوزاتها فقط، وكم كانت تتمنى أن يكون يعقوب معها هو الآخر!
وهُنا صدح صوت جهاز التسجيل بنغمة فيروز الرنانة والتي تُنشد ما في قلبها:
بُعدك على بالي، يا قمر الحلوين، يا زهرة تشرين، يا دهبي الغالي، بعدك على بالي، يا حلو يا مغرور، يا حبق ومنتور، على سطح العالي.
بعد مروان شهران.