رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والثلاثون
لم يكن الفراق من قبل هينًا، والحُزن بدوره لم يكون طفيف، إن جاء قلبي للسؤالِ عن عاشقٍ، بكى مسلوبًا بالشوقِ العنيف، وحال عيني كحالِ قلبي تنفطرُ، خسارةٌ ووداعٌ للحبِ العفيف.
شهران مرا كدهران، يتصنع الثبات وهو في الحقيقة حُطام، يُتابع يومه بابتسامة زائفة وفي جوف الليل يسمح لذاته بالإنهيار، منذ ذلك اليوم الذي استمع به عن خطبتها لابن عمها وهو يكادُ أن يُجَن، يالسخرية القدر! تذهب لِمَن دمَّر حياتها لتتزوجه؟ وهو! هو؟ سؤالٌ ساخر مُحمَّل بالمرارة تسائل به عقله المُشوش بصورتها، يبدو أنه كان موهومًا بحُبها، وهي اسهمت في دماره باستمتاع!
رمى يعقوب ما بيده وارتمى على المقعد الموجود في محل جزارته، عيناه تُتابعان العُمال لكن عقله ثابتًا لا يتحرك، خانته نظراته واتجهت إلى محلِ ذكرى المفتوح، لا يظهر منه شيء سوى ورودها التي اهتمت بهم في الفترة الأخيرة و اترينة المخبوزات التي صنعتهم للتو، تنهد بإرهاق وهو يرفع رأسه للأعلى حيث السماء التي بدأت بالتدمُع، لا يعلم أهذه طبيعتها الشتوية أم إنها تبكي مع فؤاده!
وقف من مكانه ونظر للعاملين بالمحل قائلًا بصوتٍ آجش: يلا كفاية لحد كدا يا رجالة، روحوا بيوتكم قبل ما المطرة تزيد.
الله يباركلك يا معلم يعقوب.
قالها أحد العاملين وبالفعل بدأ الجميع بلم حاجياتهم للذهاب إلى منازلهم، بينما هو ظل يُتابعهم بعينيه الثاقبة حتى رحلوا جميعًا ولم يتبقى سوى واحد، ناداه بهدوء قبل أن تخط قدماه أعتاب المحل، فالتفت له الأخير يقول بلهفة مُغلفة بالتوتر: اؤمر يا معلم؟
رد عليه يعقوب مُتسائلًا بنبرة هادئة لم تخلو من الصرامة: الأمر لله يا ياسر، أنا بس كنت عايز أسألك عن حاجة كدا بما إنك آخر واحد يخرج من المحل إمبارح، محدش دخل المحل بعدي إمبارح؟
ابتلع المدعو ياسر ريقه بتوتر بالغ ظهر على معالم وجهه، وبتلعثم أجاب: ل. لأ يا معلم، ليه خير فيه حاجة؟
أصل فيه ألفين جنيه ناقصين من الفلوس فقولت إما أسألك يمكن شوفت حد خدهم ولا حاجة!
هز الأخير رأسه مُتهربًا بعينيه المُتوترتين منه، حتى أن أنفاسه قد تعالت خشية من كشف أمره، فوجد يعقوب يُربت على كتفه بودٍ ويقول بابتسامة هادئة: تمام يا ياسر روَّح أنت لمراتك وعيالك وسلملي على سيد ابنك، مش صحته بقت أحسن دلوقتي!
رفع ياسر عيناه ليرمقه فأجبره وجهه البشوش وبسمته المُريحة على الهدوء، فرد عليه مُجيبًا إياه: الحمد لله، بس الدكتور طالب إشاعات وتحاليل تاني علشان يتأكد إنه بقى كويس، وأدينا مستنيين الفرج.
لم يكن ياسر يكبره بكثير من السنوات، بل هو في نفس عمره تقريبًا، لكنه فضَّل الزواج في سن الرابعة والعشرين والإستقرار في منزل الزوجية مع زوجته الحنونة وطفليه الصغيرين، ويشاء الله أن يُصاب ابنه بإحدى الأمراض القلبية فظل يُكافح ويُقاوم حتى قارب على الشفاء كما أخبرهم الطبيب، راقب ياسر. يعقوب الذي اتجه إلى المكتب الخشبي الصغير، والذي عاد حاملًا لحفنة من النقود التي وضعها في كفه رغمًا عنه تحت مقاومته وقال بود: طيب خُد دول واعمل التحاليل والأشعة اللي مطلوبة لابنك، وسيبها على الله وخلي أملك فيه كبير.
طالعه ياسر بصدمة دامت لثوانٍ، فدفع النقود له وهو يقول برفضٍ وصوتٍ مُتحشرج: ل. لأ يا معلم يعقوب أنا مش عايز حاجة، ال. الحمد لله خير ربنا كتير.
دفع له يعقوب مرة أخرى وقال بصرامة تلك المرة: خير ربنا كتير بس خلي دول معاك احتياطي، ووقت ما تعوز فلوس تعالى اطلب ومتتكسفش، إحنا هنا كُلنا أهل وعيلة واحدة فمش هنكبر على بعض يعني، ولا إيه!
ذلك الشعور بالندم بدأ ينحر به بقوة، يُطالعه برجاءٍ مُصطبغ بالألم الشديد أن يعود عن قراره لكن يعقوب يُطالعه بإصرارٍ لم يجد منه بُد على الرفض، وبالفعل أخذ الأموال وفاجئه باحتضانه له وهو يقول بصوتٍ مكتوم: أنا أسف، مُتشكر بجد. مُتشكر يا معلم.
كان يعقوب يعرف علام يعتذر ويتأسف، لكنه لم يُجيب سوى على النصف الآخر من الحديث وهو يُربت على ظهره بابتسامة هادئة: الشكر لله يا عم، يلا بقى إمشي وروح لبيتك قبل ما الدنيا تشتي والمدام تحلف ما أنت داخل البيت.
ابتعد عنه ياسر ضاحكًا بخفة وبالفعل غادر ورحل تاركًا إياه يتنهد بثقل، يعلم بأن ياسر هو مَن أخذ الأموال حينما راجع كاميرات المُراقبة المخفية في المحل، لكنه لم يشعر تجاهه بالنقم أو الضيق، وذلك بسبب علمه عن مرض ابنه شديد الخطورة والذي يحتاج إلى كثيرٍ من الأموال، وبالتأكيد احتاج المزيد فوسوس له شيطانه على سرقة الأموال من المحل، وهو لن يلومه، فجميعنا لسنا بملائكة وخطَّائين، لا حاجة لإدّعاء المثالية!
ارتفع صوت الرعد يضرب السماء بقوة وارتسمت خطوط ملتوية على السماء الغائمة الكئيبة، ولم تمر سوى ثوانٍ حتى أمطرت بغزارة، ارتسمت ابتسامة هادئة على ثُغرِ يعقوب وهو يُراقب تلك الأجواء المثالية، تفتقد إلى كوبٍ من القهوة وأغنية يعود عصرها إلى الفن القديم وهي!
زفر بضيقٍ على تفكيره المستمر بها وبدأ بإغلاق المحل جيدًا وإحكام أبوابه الحديدية من حوله بعد أن وضع البضائع في الثلاجات لتحفظها، زوى ما بين حاجبيه وهو يلمح أخيه بدير قادم نحوه سائرًا تحت المطر، وحينما وصل إليه سأله بتعجب: نازل في الوقت دا تعمل إيه؟
نظر إليه بدير بصمتٍ لثوانٍ قبل أن يُجيبه بقوله: رايح أجيب سينابون من محل ذكرى.
تجمد وجه يعقوب عقب إجابته وصمت، مما شجَّع بدير أن يطلب منه: ما تيجي معايا بالله عليك! ومتخافش هي مش هناك أنا سألت عيل من عيال الشارع، وكمان عشان تشيل بوكيه الورد بتاع أخوك بادر اللي هيتقدم بيه، وأنا مش هعرف أشيل دا كله لوحدي، و...
قاطعه يعقوب بضجر وهو يدفعه أمامه قائلًا بسخط: خلاص اخرس أنت لسه هترغي!
تهللت أسارير بدير وهو يراه يأتي خلفه، بينما كان فؤاد يعقوب يطرق بين جنبات صدره بصخب، يتمنى ألا يجدها كما قال شقيقه، لكن من الناحية الأخرى يرجو لو يراها! وصلا إلى أعتاب المحل فتصنم حينما رآها أمامه، تعتني بعصافيرها المُلونة وجسدها ينتقل برشاقة بين أرجاء المحل، نظر بدير إلى شقيقه بتوتر وتمتم بهمسٍ مُعتذرًا بعد أن استطاع قراءة الألم داخل مقلتيه:
أنا آسف والله معرفش إنها موجودة.
استمعت ذكرى إلى همسٍ يأتي من خلفها، فاستدارت مُسرعة لتتخشب نظراتها فجأة على جسد يعقوب، رعشة طفيفة أصابت جسد كليهما عقب تلاقي الأعيُن وتحدُثها بأحاديثٍ صاخبة لكنها صامتة في ذاتِ الوقت، ودت لو أن تتقدم لتُعانقه، ومن ثَم تصفعه على هُجرانها، حتى ينتهي بها المطاف تشكو له ببكاء سوءِ الطريقِ بدونه، لكن كل تلك الأفكار ترجمتها حينما تشدقت بصوتٍ مُتوتر:
اتفضلوا.
أشاح يعقوب بعينه بعيدًا عنها وهو يسب بدير سرًا، فبالرغم من تلك المشاعر التي تدفقت داخله إلا أن هناك شعورًا بالقنوط يكمن داخله تجاهها، جذب بدير شقيقه خلفه قِصرًا ليتلاشي المطر، ثم استدار لها مُحييًا إياها بودٍ لم يخفت: إزيك يا ذكرى أخبارك إيه؟
أجابته الأخيرة بابتسامة هادئة أثناء مُحاولتها للسيطرة على صخب فؤادها: الحمد لله يا بدير بخير، أقدر أساعدك إزاي؟
نفخ يعقوب بصوتٍ مسموع شاعرًا بالإختناق من وجوده معها في مكانٍ واحد، مازال الفؤاد يبغاها لكنه لا يتقبلها، وهذا أكثر ما يؤلمه، حاول بدير التخفيف من حدة الأجواء فقال بمزاح:
بصي يا ستي بقى عقبال عندك أخويا بادر هيخطب سارة فإحنا عايزين بوكيه ورد كدا يكون محترم وابن ناس.
اتسعت ابتسامتها بفرحة حقيقية وهي تقول بسعادة: بجد؟ ألف مبروك ربنا يتمملهم على خير يارب.
آمن على دعائها وأضاف على حديثه بقوله: ودلوقتي بقى عايز عشرين قطعة سينابون من بتوعك وشكليهم على مزاجك بقى.
من عينيا بس كدا!
قالتها بابتسامة واسعة واتجهت لأخذ إحدى العُلب الزخرفة من على الرف يمينها، ثم أعطته إياها وأردفت: خُد نقي أي نوع سينابون أنت عايزه على ما أعملك بوكيه الورد.
وبالفعل اتجه بادر إلى اترينة المخبوزات وبدأت ينتقي منها ما يشتهي، بينما ذكرى حاولت صرف ذهنها عن يعقوب الذي لا يبعد عنها سوى بضعة خطواتٍ معدودة، ثم بدأت بصُنع بوكيه من الورد تختلف ألوانه، ومع كل زهرة تُمسك بها تضع في منتصفها شريطة من الحرير جعلتها حُرة وفعلت المِثل في جميع الزهور، وبعد أن انتهت قامت برصّهم أمامها وألصقتهم ببعض البعض بشريطة سوداء حريرة كبيرة، وفي النهايو غلفتهم بورق من الكرتون زهري اللون.
انتهت من صُنع قالب الزهور تزامنًا مع قدوم بدير حاملًا لعُلبة المخبوزات، أخذت العلبة منه ثم بدأت برش المزيد من الصوصات المُتنوعة عليها وهي تقول بابتسامة صغيرة: اعتبر علبة السينابون دي هدية مني بمناسبة خطوبة بادر.
نظر إليها بدير باندهاش واعترض بقوة قائلًا: لأ طبعًا مينفعش الكلام دا، أنا هدفع حق البوكيه والسينابون.
وضعت له العُلبة في حقيبة موشوم عليها اسم المحل ذات لون أبيض، ثم أعطته إياها هي وباقة الزهور قائلة بصرامة: أنا مش هاخد غير حق البوكيه بس ودا آخر كلام عندي.
وأمام إصرارها لم يدفع من الأموال سوى لباقة الزهور فقط، أما بالنسبة للمخبوزات فقد رفضت رفضًا تامًا أخذ أي مُستحقات مُتعللة بأنه هدية منها للعروسين، اتجه بدير للباب للخروج لكنه وقف مشدوهًا حينما رأى شقيقه يتجه نحو ذكرى ويضع أمامها ورقة بفئة المئتي جُنيهًا ثم قال بصرامة:
إحنا مش عايزين حاجة منك، وفلوسك قدامك أهي.
رمقته بذهول لطريقته الوقحة في الحديث، فاعترضت قائلة: بس أنا بقول دي هدية ومش هقبل حقها أبدًا.
لأ معلش إحنا متربيين ومش بنقبل الهدايا.
قالها جُملته الأخيرة بسماجة وهو يُطالعها بقسوة، ثم استدار مُعطيًا إياها ظهره وسار عدة خطوات نحو باب الخروج، لكنه توقف مُجددًا على حديثها الذي صعد منها ببرود: طيب طالما مُصِّر تدفع فالحساب 400 جنيه مش 200 بس.
ختمتها بابتسامة لزجة جعلته يُطالعها باستخفاف ومن ثم وضع أمامها ورقة أخرى من فئة المئتي جُنيه، لتتشدق بهدوء: كدا نبقى خالصين.
لأ. لسه مش خالصين.
جُملته صعدت مُبهمة ولم يُفسرها قبل أن يُغادرها ويرحل بخطواتٍ سريعة عكست غضبه وانفعالاته التي كتمها طيلة تلك الدقائق، في حين نظر بدير ل ذكرى بنظراتٍ مُعتذرة قبل أن يلحق بأخيه ويرحل هو الآخر، تاركين إياها تنغمس في زوبعة حُزنها مرة أخرى!
الطيورُ على أشكالها تقع، جُملة ترددت على مسامع الجميع تقريبًا، منهم مَن استمع إليها وتجاهل، ومنهم من عاشها وتماشى.
وقف عُمير أمام مرآته يُعدِّل من أزرار قميصه الأبيض الذي يرتديه، دخلت عليه والدته الحاجة أنعام تُطالعه بنظراتٍ ساخطة ومن ثَم قالت بنزقٍ بان في نبرتها: برضه هتروح تتقدم للي ما تتسمى؟ أنت اتجننت يا عُمير؟
انتهى عمير من ترتيب ثيابه وبدأ بتهذيب خصلاته القصيرة وهو يُجيبها بحسمٍ وتقرير: وفيها إيه يعني يامَّا؟ وهي ريناد مش بنت زي كل البنات!
رمقته والدته بنظراتٍ ثاقبة قبل أن تُتمتم بكلماتٍ رمتها على مسامعه مُسبقًا، لكنه كالعادة لم يكن ليهتم: لأ مش زي كل البنات، البت اللي تمشي في سِكة السِحر والأعمال متبقاش زي كل البنات، وأنت فاهم قصدي كويس.
استدار عمير لوالدته ليكون مُقابلًا لها، وتحدث بزفرة ضائقة: ياما قولتلك هتلاقيكِ اتخيلتي واحدة شبهها، دي البت أغلب من الغُلب ومكان ما تُحطيها هتلاقيها، أعمال إيه بس اللي أنتِ بتتكلمي عنها!
تشدق بجُملته الأخيرة في استنكارٍ غريب، فنكزته أنعام في معدته بقوة تأوه على أثرها مُتألمًا وصرخت به: اللي تروح للشيخة جليلة أكبر دجالة في المنطقة دي متبقاش غلبانة يا ابن بطني، وياما ناس وشوشها سِمحة بس في الحقيقة هما عالم عِكرة.
نفخ عُمير بضجر وتجاهل والدته مُتجهًا إلى المقعد ليجلس عليه ثم بدأ في إرتداء حذائه بتروٍ، عمَّ الصمت عليهما لثوانٍ قبل أن ينتفض مكانه بفزع حينما استمع إلى شهقة والدته العالية وصراخها بصدمة أثناء لطمها على صدرها بعنف: يا مصيبتي! لتكون عاملالك عمل ودا اللي مخليك ملهوف عليها كدا!
احتل الاستنكار وجه عمير وهتف بعصبية: ياما الله يرضى عليكِ سيبيني في حالي بقى، هي ناقصة لابسة!
وجدت أنعام أن لا مفر من ذهاب ابنها لخِطبة تلك الشيطانة المُسماة ب ريناد، وبالطبع لم تكن سوى شقيقة عادل زوج بدور السابق، تلك الفتاة التي رأتها عدد لا بأس به من المرات تتردد إلى الشيخة جليلة المعروفة بسحرها وتعاويذها المُدمرة، في البداية لم تُصدق ما تراه أعينيها نظرًا لخُلق الفتاة الذي يشهد عليه الجميع، لكنها حين استمعت من نساء المنطقة عن تلك الحالة التي تلبست بدور من مَس أيقنت ما رأته وأنها السبب فيما حدث لها!
تنهدت بثقل واقتربت من ابنها تُربت على كَتف ابنها برقة وبعدها قالت برجاء: يا حبيبي أنا ما صدقت ربنا صلحلك حالك وبعدت عن السِكة اللي كنت ماشي فيها دي، ليه عايز تناسب عادل اللي المنطقة كلها بتحلف بقلة ربايته؟ راجع نفسك عشان خاطر أمك طيب!
وقف عمير من مكانه وأمسك بكفِ والدته يُقبله بحنو، ثم جذبها معه لخارج الغرفة وهو يُلقي على مسامعها كلماتٍ ظن بأنها تُطمئنها: يا ست الكل اتطمني وأنا أوعدك لو مرتحتش في الخطوبة دي أو شكيت في أي حاجة من اللي أنتِ بتقوليها هنهيها لوحدي، إنما البت عجباني وداخلة دماغي، سيبيني أجرب بس.
نفخت بأسى وأومأت له باستسلام أمام إصراره، وانتظرا قليلًا حتى أتى حامد العوضي مُرتديًا لكامل ملابسه ثم اتجهوا إلى وجهتهم، حيث منزل عادل وأسرته لخِطبة شقيقته التي استولت على عقل عمير فجأة!
الهرب. كل ما يستطيع الإنسان فعله هو الهرب، فتضطر إلى الاختباء في قوقعة صغيرة يُحيطها الظلام الحالك، فتغرق بها روحك المُنتهكة بإرادتك، وتتلطخ بالأوساخ التي اخترتها بسبق الإصرار!
جلس حسن في منزل صغير للغاية يكاد لا يتسع لشخصين معًا، به غرفة واحدة صغيرة وحمام فقط، هو هُنا مُنحسر منذ شهرين بعد أن استطاع الهرب من قوات الشُرطة التي داهمت الميناء حينها، وذلك بعد أن قفز في المياه واختبأ خلف أحد القوارب الصغيرة، كان سيُكشف عدة مرات أثناء تمشيط الضُباط للمكان عدد لا بأس به، لكن مهارته على السباحة ساعدته على حبس أنفاسه أسفل المياه لمدة أربع دقائق كاملة.
لن يُنكر شعوره حينها بأنه كان على وشك الانتهاء، مُستقبله كان على المحك، لكن مُستقبل أبيه قد انتهى تقريبًا بعد أن حُكِمَ عليه بالإعدام شنقًا منذ أسبوع تقريبًا، لكن هو لن يتركه يموت بتلك السهولة، فقد وضع خطة مُحبكة لتهريبه مع أحد معارفه في مجال عملهم المشبوه، وبالرغم من سوء أوضاعه؛ إلا أنه لم يصمت عن هذا الحد، بل استمر بالعمل في مجالٍ بعيد كُليًا عن تهريب المواد المُخدرة، وهو الإتجار بالفتيات العذراوات!
جاءته مكالمة هاتفية أخرجته من شروده، فأمسك بالهاتف ونظر للشاشة المُنيرة باسم المُتصل بنظراتٍ ثاقبة ثم أجابه بهدوء يُنافي كل تلك العواصف التي تدور بداخله: ارغي!
ظل لدقيقتين كاملتين يستمع للطرف الآخر دون مُقاطعته، ومع كل كلمة يستمع إليها تحتد نظرات عينه أكثر وأكثر وفؤاده يشتعل بلهيبٍ حارق قادر على إنهاء الجميع، وبعد أن أنهى الأخير حديثه رد عليه حسن بفحيح: لأ متعملش أي حاجة أنا هتصرف، سيب المهمة دي عليا.
أشعل سيجاره ونفثها بعنف أثناء تفكيره العميق في الخطوة القادمة التي على وشك تنفيذها، حسنًا حمزة هارون رضوان، لقد حفرت قبرك بيدك ولن تفلت تلك المرة!
الأجواء الشتوية البحتة جعلت يعقوب يجلس بين أفراد عائلته شاعرًا بالدفيء الذي يجتاحه أثناء وجوده بينهم، تنهد بسخط أثناء مُطالعته ل بدير الذي يُوزع عليهم مخبوزات السينابون التي اشتراها من محل ذكرى، دفع يده بعيدًا وهتف بغلظة جعلت وجه بدير ينكمش باستنكار:
ابعد عن خلقتي السعادي بدل ما أطبق وشك في إيدي، أنا حايش نفسي عنك بالعافية.
رفع بدير أحد حاجبيه وجلس بجانب والده على الأرض مُتمتمًا: الحق عليا إني عايزك تاكل حاجة حلوة، دا سينابون بالقرفة والكريمة من اللي أنت بتحبه!
قال جُملته الأخيرة تزامنًا مع همهمته المُستمتعة أثناء تذوقه للمخبوزات، جز يعقوب على أسنانه غيظًا وهو يرى جميع الجالسين قد بدأوا بتناولها أيضًا ويظهر على وجوههم أثار الإستمتاع الشديد، مطّ شفتيه بسخط بعد أن رأى نظرات والدته الناقمة تجاهه، هو حتى الآن لم يُخبرهم عن سبب انفصاله هو و ذكرى، خشى أن يطولها الأذى ولو بنظرة من أحد أفراد عائلته، بالرغم ما سببته له من أذى عنيف مازال يبحث عن راحتها!
شعر بشقيقته تُجاوره على الأريكة أثناء حملها لعُلبة المخبوزات على قدمها، ثم مدتها له وأردفت بحنو: خُد كُل يا يعقوب وانسى هي من مين ومين اللي عاملها.
مش عايز يا غلطة كُلي أنتِ.
قالها بلامبالاة وهو يُشيح بوجهه بعيدًا، فيما رفعت هي حاجبيها له وصرخت به على بغتة: غلطة؟ تصدق بالله إني غلطانة أصلًا! أبقى أستاهل ضرب الجذمة لو عبرتك تاني يا صفيق.
استدار لها يعقوب بمُباغتة وأمسكها من ياقة ثيابها يهزها بين يديها مُتسائلًا باستنكار: صفيق؟ إيه صفيق دي يا بت أنتِ!
رمشت بدور بجهلٍ وهي تهز كتفها ببلاهة، قبل أن تقول وهي تنظر إلى أحد أشقائها: والله ما عارفة، إهدى كدا ومتتعصبش واسأل بادر هو مُدرس وأكيد يعرف!
توقف الطعام بحلق بادر الذي طالعه الجميع مُنتظرين إياه أن يشرح معنى الكَلِمة لهم، فابتلع ما بفمه وتحدثت قائلًا: وأنا إيه اللي هيعرفني! أنا مُدرس كيميا مش لغة عربية.
ثم استدار لشقيقته وتحدث بغيظ: ما تسكتي بقى يا غلطة ومتوجعيش دماغنا! أنتِ عاملالك دَوشة على المِسا ليه!
نفخت بدور مُغتاظة وانفلتت من بين يدي شقيقها وابتعدت عنه جالسة بجانب والدها على الناحية الأخرى وهي تقول بنزق: يا بابا دي مبقتش عيشة بقى! مش كل شوية يقولولي يا غلطة هو فيه إيه!
أحاط هارون بكتفيها وهو يضمها إلى صدره بحماية، ثم قال بعدما ابتلع ما في جوفه: عايز أقولك إن الغلطة متقدملها عريس جدع ومحترم وابن ناس.
شهقة عالية قد صعدت لكن ليس من فاهها، وإنما من فاهِ الرجال اللذين طالعوا أباهم بدهشة جلية، بينما حنان لم تنتظر لسماع قرار ابنتها حتى وأطلقت زغرودة عالية وَسط ذهولهم، ذهب إليها بدران مُسرعًا وكمم فاهها أثناء قوله الحانق: بتعملي إيه يا حنان استني بس! و.
قطع حديثه حينما وجد المزهرية ترتطم بوجهه وصوت أبيه يصعد مُعنفًا إياه بقوة: إيه حنان دي يا حيوان أنت! هي أمك بتلعب معاك ولا إيه يا لطخ؟
أسبلت حنان عيناها وتخضب خديها باحمرار وحياء وهي تهمس بصوتٍ خافت خجول: تعيش وتدافع عني يا حج.
ابتسم لها هارون بحب تحت أنظار أبنائه اللذين يُتابعون قصة الحُب هذه بأوجه مُتشنجة، فيما همس يعقوب لذاته بحسرة: أبويا هايص وأنا لايص.
قاطع مصعب صمتهم مُوجهًا حديثه ل هارون الذي انتبه إليه: عريس مين دا يا حج اللي متقدم ل بدور؟ دي لسه يادوبك مخلصة شهور عدتها وملحقتش تفوق!
رد عليه أبيه وهو يعود بظهره للخلف مُجددًا ليستند عليه: العريس دا متقدم في نفس اليوم اللي خلصت فيه عدتها وأنا اللي أجلت الموضوع، وأنا لو شايفه ميستاهلش ماكنتش فتحت الموضوع أبدًا وقفلته في ساعتها.
ومين العريس دا بقى يا حج؟
تسائل بها بادر، لتنتبه حواس بدور بأكملها والتي فضَّلت الصمت منذ بداية الحديث شكًا في أمرٍ ما، وبالفعل تأكد شكها حينما هتف هارون بتمعن وحذر: إلياس ابن رؤوف.
نعم! بتقول مين؟
وتلك الصيحة المُستنكرة والمُستعرضة في ذات الوقت صعدت من فاهِ يعقوب الذي تحول وجهه إلى الغضب، علاقته مع إلياس عادت جيدة كما كانا مُسبقًا، وللخقيقة هو لا يدري سبب اعتراضه الحقيقي على زواج شقيقته منه، إن تزوجها فسيرى آخر شخص قد يرغب في رؤيته الآن على الأقل، لكن بذلك الشكل سيراها في كل الأوقاتِ تقريبًا! وكأن القدر يجمعهما سويًا رغمًا عن أنوف الجميع.
نظر هارون ل يعقوب بهدوء وقال: معترض ليه يا يعقوب حابب أسمع منك؟
زوى يعقوب ما بين حاجبيه بضيق وحاول البحث عن حُجة مناسبة، فلم يدري بنفسه سوى وهو يقول: إلياس مش هيعرف يحافظ على أختي وأنا لا يمكن أديها لواحد مُستهتر أبدًا، كفاية غلطتنا في المرة الأولى.
ابتسامة جانبية ارتسمت على جانب فمِ هارون الذي عارضه قائلًا: اللي يحافظ على 3 بنات إيه اللي يخليه شخص مُستهتر زي ما بتقول؟
تعالت أنفاس يعقوب المُتعصبة وظهر الوجوم جليًا على وجهه، لا يعلم ما سبب تعصبه لتلك الدرجة، فبالأساس أشقائه الاثنان يُناسبونه، وهو في العموم شخص جيد بكل المقاييس، لذلك زفر بضيق بعد أن يهب من مكانه فجأة قائلًا بصوتٍ مكتوم عكس ضيقه قبل أن يذهب إلى غرفته:
اعمل اللي أنت شايفه صح يا حج.
راقب هارون رحيل ابنه بأعين ثاقبة لا تخلو من الضيق، شعر بمن يُربت على قدمه فنظر إلى الفاعل ليجدها حنان التي تحدثت بحزنٍ على حال وليدها: اعذره ومتزعلش منه يا حج، وهو شوية وهيهدى وهتلاقيه جايلك لوحده.
تنهد هارون بثقل وهو يوميء لها، ثم نظر إلى أبنائه الآخرين وتسائل: ها! حد عنده اعتراض منكم انتوا كمان؟
بادر عمران بالحديث قائلًا: بصراحة يا بابا هو إلياس شخص كويس ومحترم ومشوفناش منه غير كل خير.
بس غتت.
قالها حمزة مُغتاظًا وهو يتذكر مُحاولاته المُستميتة لإبعاده عن رضوى طيلة الفترة السابقة، التمعت عيناه بفكرة عظيمة ونظر لوالده بحماس قائلًا: وافق عليه يا حج عشان أذله زي ما هو بيذلني.
ضحك الجميع بخفة فقاطعتهم حنان بقولها المُتزمت: مش لما نسمع رأي أختك الأول يا موكوس!
مش مهم رأي أختي، المهم رأيي أنا.
تجاهله هارون ونظر لابنته التي أخفضت رأسها للأسفل لتخفي حُمرة وجهها التي انفجرت على بغتة، ليسألها أبيها مُشاكسًا إياها بعد أن رأى حالتها: وأنتِ رأيك إيه يا عروسة؟
قبضت بدور على كف والدها بشدة ولم تردف بكلمة واحدة، وأي حديثٍ هذا ستتفوه به بعد أن باغتها والدها بسؤاله، تعالت قهقات هارون وضمها لصدره وهو يضحك عاليًا، ثم قبَّل جبينها ومن ثَم قال بارتياح: على خيرة الله.
وبدلًا من حنان تلك المرة. أطلق بدير الزغاريد العالية وسط ضحكات الجميع التي تصاعدت بقوة، فاستمع إليها يعقوب الذي يجلس بالداخل يحبس ذاته في غرفته وتمتم بوعيدٍ مُستنكر: وحياة أمك يا إلياس لهوريك النجوم في عز الضُهر، صبرك عليا.
دخل عُمير ومعه والده ووالدته إلى منزل عادل، فاستقبلتهم هالة التي صاحت مُهللة: يا أهلًا وسهلًا، اتفضلوا نورتونا.
دلف الجميع إلى الداخل تحت ترحيبات عادل وهالة، وجلسوا جميعًا على الأرائك بعد أن وضع عمير الحلوى على الطاولة الزجاجية التي أمامه، صعد صوت الرعد يضرب السماء فضحكت هالة قائلة وهي تُحاول التخفيف من حدة الأجواء: حتى السما بترحب بيكم.
رسمت نعمات على فاهها ابتسامة لزجة وتشدقت بنبرة ساخطة: أو يمكن إشارة.
إشارة لإيه بالظبط؟
تسائل بها عادل باستفهام ونظراته تخترق نعمات مُحاولًا أن يعرف معنى حديثها المُبهم، ليزجرها حامد بعينه قبل أن يُحمحم بجدية ويبدأ حديثه بقوله الرزين: طبعًا يا عادل أنت عارف سبب زيارتنا دي ليه، لكن هقولك السبب تاني، إحنا جايين بنطلب إيد أختك ريناد لابني عمير على سُنة الله ورسوله، قولت إيه؟
شبَّك عادل كفيه معًا وأردف قائلًا: قولت اللي أوله شرط أخره نور يا عم الحج.
نظر الجميع لبعضهم البعض باستغراب، فعاد حامد ليتسائل بحذر: يعني إيه الكلام دا؟
يعني نتفق على كل حاجة من أولها من حيث الشبكة والشقة والمهر والمُقدم والمؤخر وبعد كدا نقول مبروك.
لم تستطيع نعمات الصمت أكثر وصاحت به في سخطٍ جَلي: بس الحاجات دي مش بنتفق فيها دلوقتي، هي الشبكة وخلاص لحد ما نشوف ربنا هيتمم الجوازة دي على خير ولا كل واحد هيروح في حاله.
نظر حامد لزوجته وأمرها بهدوء: استني أنتِ دلوقتي يا أم عمير.
ثم نظر ل عُمير الصامت منذ بداية الجلسة بطريقة مُريبة، ومن ثم سأله بتروٍ: وأنت رأيك إيه في الكلام دا يا عمير؟
نظر له عُمير بآلية وتمتم قائلًا: نتفق وماله يا حج، كله بالأصول.
وبالداخل. وقفت ريناد خلف باب غرفتها تنظر من ثقب صغير وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة خبيثة مُنتصرة، نظرت للقطعة القماشية السوداء بين يديها ومن ثَم هتفت بتبجيل: تسلم إيدك يا شيخة جليلة!
وللحقيقة هدفها ليس عُمير ذاته، بل هدفها الحقيقي هو بدير، لكن كيف ستصل له عن طريق عُمير؟ ولِم اختارته هو تحديدًا!
لا شأن لي بجسدك، عانقني ولو بعينيك!
احتمت ذكرى من برد الشتاء القارص أسفل غطائها الوثير، فُتِحَ باب الغرفة وظهر من خلفه إلياس حاملًا كوبين من السحلب واقترب منه يضعه بعنف على الكومود بجانبها ثم قال بغلظة: خُدي اشربي الطفح بدل ما يجيلك برد، محدش فاضيلك يلف بيكِ عند الدكاترة.
رمى بجُملته ثم جاء ليستدير ويذهب، لكنها أمسكت بكفه وقالت بنبرة مُرتعشة باكية: نام جنبي النهاردة يا إلياس وانسى أي خلاف ما بينا دلوقتي!
جذب كفه منها واستدار لها بنصف وجهه قائلًا بسخرية: لأ معلش، ابقي خَلي فادي اللي فضلتيه عليا هو اللي ينفعك.
قالها ثم اتجه مُسرعًا إلى الخارج وصدره يعلو ويهبط بعنف أثر تحكمه في انفعالاته، هو يُقاطعها منذ أسبوع تقريبًا بعد أن تمت خطبتها على ابن عمها فادي بموافقة أبيه الأكثر من مُرحبة، يكاد عقله أن ينفجر وهو يُفكر في سبب مُوافقتها وعدم رفضه رغم يقينه بكُرهها ل فادي، هي فقط جلست جلسة واحدة مع أبيها وبعدها تغير كل شيء، خرجت لتُخبرهم بموافقتها على الزواج من ابن عمها، وها قد تم تحديد الزفاف بعد عدة شهور قليلة للغاية تكادُ لا تُعد!
اتجه بعدها إلى غرفة شقيقته رضوى فوجدها تقف بجانب نافذة غُرفتها تتحدث بصوتٍ خفيض على الهاتف وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة هادئة تعكس عشقًا خفيًا، رجَّح بأن المُتصل هو حمزة، لذلك تسلل من خلف شقيقته والتقط منها الهاتف ليقول بنبرة مُتهمة: كنتِ بتكلمي مين! انطقي! اعترفي! قفشتك بالجُرم المشهود.
جاؤه صوت حمزة على الناحية الأخرى يهتف بسخرية لاذعة: مالك يا أو ر؟ وبعدين أنت إيه اللي دخّلك أوضتها من غير ما تستأذن؟ دا أنت ناقص تطلعلي من الحمام.
نظر إلياس بغيظ لشقيقته التي أطلقت العنان لضحكاتها بالصعود، فلم يجد سوى إغلاق الهاتف بوجه هذا الوقح على الناحية الأخرى والذي نظر للهاتف بذهول في اللحظة الأولى، ثم تحول للغيظ قائلًا وهو يجز على أسنانه بحنق: دا أنا هطلع عليك القديم والجديد بس صبرك عليا.
وعلى الجانب الأخر. ضم إلياس شقيقته التي مازالت تضحك وقال بحماية: متخليش الواد يعاكسك ولا يقولك كلام وقح زيه، محدش هيعاكسك هنا غيري مفهوم!
أومأت له بضحك وهي تُبادله العناق بحبٍ شديد، علاقة إلياس بهم ليس مجرد علاقة أخ، بل هو بمثابة أب، خوفه عليهم وشم بأفئدتهم حبٍ لن يزول مهما مر من الدهر قرونًا، استطاع بحنانه أن يُقوي من رابطة الأخوة المصنوعة من الدم، ورغم أن المصدر الرئيسي لدمائهم فاسد؛ إلا أن صفاء حاولت بشتى الطُرق تجميعهم.
ابتعد عنها بعد دقائق أغدقها بهم بدفء أحضانه، ثم اقترب مُقبلًا جبينها بحُب وقال بجدية ضحكت على أثرها: الكائن اللي اسمه حمزة دا لو كلمك تاني اعمليله بلوك، ولو ضايقك افتحيله دماغه، ولو عاكسك ناديلي، اتفقنا؟
ضحكت رضوى وهي توميء له إيجابًا، فشاركها الضحك بمزاح قبل أن يخرج من غرفته ويتجه نحو غرفة شقيقته الثالثة جنة والتي تمكث معها والدتها في الغرفة منذ أن بدأت رحلة علاجها.
دلف إلياس للغرفة بهدوء ظنًا منهم بأنهما نِيام، لكنه وجد والدته هي الوحيدة التي تغط في نومٍ عميق و جنة تجلس بجانبها وتتحدث إلى الهاتف بصوتٍ خفيض! تنغض جبينه بسخط وشعور الغيرة على شقيقته بدأ يطفو عليها هي الأخرى، تقدم أكثر لتسنح له الفرصة بالاستماع إليها، فوجدها تقول بصوتٍ خفيض مُصطبغ بالخجل:
بس بقى يا عمران بتكسف!
تشنج وجه إلياس بغضب حارق وانتشل منها الهاتف هي أيضًا بسرعة قبل أن يُعطيها فرصة للإعتراض، فوجد عمران على الناحية الأخرى يقول بصوتٍ هائم: وهو أنا قولت إيه بس يا قلب وفشة وكلاوي عمران؟
نظر إلياس للهاتف بين يديه باشمئزاز وهتف بصوتٍ مسموع: الله يقرف ملافظك ويقرف أختي اللي بتسمع الكلام دا منك ومتقبلاه!
أنت بتعمل إيه عندك؟ إدي التليفون ل جنة عايز أقولها حاجة مهمة.
حاجة مهمة؟ بتغازلها ولا كإنك بتغازل جاموسة وتقولي عايزها في حاجة مهمة!
تأفف عمران بسخط وتشدق بتبجح: يا عم إديها التليفون بدل ما آجي أتكلم معاها Face to face ووقتها محدش هيقدر يطلعها من حضني!
اتسعت حدقتي جنة بعدم تصديق فظن شقيقها بأنها لربما مصدومة من حديث عمران الوقح، لكن الصدمة كانت من نصيبه تلك المرة حينما هتفت بحماس: أيوا يا عمران تعالى بسرعة.
شهق إلياس عاليًا بصدمة، في حين تعالت ضحكات عمران على الناحية الأخرى، تلك الصغيرة الوقحة لا تكف عن إبهاره بوقاحته يومًا بعد يوم، وهو وللحقيقة مُستمتع بهذا كثيرًا، انقطعت ضحكاته حينما استمع إلى صوت صافرة الإغلاق من الهاتف، لقد أغلق ذلك الدنيء المُدعى ب إلياس الهاتف بوجهه! عضَّ على شفتيه غيظًا وتوعده بضيق:
ماشي يا إلياس، يومك قرَّب. قرَّب أوي.
توقف المطر والساعة أصبحت التاسعة مساءًا، الجميع في منازلهم ينعمون بالدفيء، الشتاء القارص هذا العام يضرب العظام بقوة، لكن ذكرى لم تهتم بكلِ هذا، فلفت على جسدها شال خفيف نوعًا ما وخرجت إلى الشرفة، اتجهت أنظارها تلقائيًا إلى منزل يعقوب وتحديدًا إلى الشرفة التي قضوا بها أجمل الأيام، بها كان يحتضنها، يُشاكسها، تتنعم بدفئه ويسقيها اطمئنانًا، ويُعبر عن حُبه بالأغاني ذات التراث القديم والتي اجتمعا على حبها معًا.
دمعة شارة هبطت من جفنها تتمرد بقسوة على قناع قوتها الواهي الذي رسمته على وجهها مؤخرًا، هي تشتاقه حد اللعنة لكنه يتجاهلها دائمًا، يُعاقبها على وِزرٍ ليست بفاعلته، حتى خطبتها من ابن عمها ليست بخاطرها، إنما بإجبار من والدها بعد أن هددها بفسخ زواج شقيقتها الصُغرى وخِطبة شقيقتها الوسطى، مُستقبلهما كان يقف على كلمة واحدة منها، تعلم كل العلم بأن والدها قادر على تنفيذ تهديده رغم أنف الجميع، فاضطرت قِصرًا على الموافقة.
رمشت بأهدابها تُحرر دموعها المُحتبسة داخل عينيها، أخذها تفكيرها إلى تلك الأغنية التي ألفتها مؤخرًا حينما كانت غارقة في زوبعة أحزانها، لذلك بدأت بغنائها بصوتٍ نشاذ:.
بخفوتٍ. بكيتُ فقيدي، بدموعٍ. تُقطِّع القلوب، ودماءٍ. تركت وريدي، شِتاتٌ. بضياعِ الدروبِ، أحبيبًا كُنت أم هواءًا! ولوچكَ كانَ موچود، إلزامًا، وإحترامًا، فُتِحَت لكَ أبواب العيوب، فقُلت عشقتُها، وعن جمالي فضلتها، أرحلتَ وتركتني! بعد إذ خدعتني، أسئمتَ الكذبَ عليَّ أم تُرى نبذتني، كسرتَ قلبًا هائمًا عشق حد الشحوب، لم يعد كائنًا حيًا، سرى يعيشُ على صوتِ النُحوب، عَشِقَ الدُچى، ونفرَ الضُحى، ورجاؤه الوحيد. ياليتني أموت.
هطلت دموع ذكرى بغزارة ومن ثَم أكملت جُزئيتها المُفضلة والتي تُعبر عن حالها تفصيليًا:
أسمِعتَ صوتَ تحطُمي، أچبني ولا تُبكني، أبسهولةٍ نسيتني أم تُراكَ كرهتني! أختنقُ حبيبي وغُصتي، تكادُ تُنهي مَعيشتي، تبًا لكَ ألعنتني وثم ببرودٍ بعتني! يا كاسر نفسي أشقيتني، وبضعفي نحوكَ أذللتني، وقسمًا بربي. يا وتينَ قلبي، لأُعلِنن عليكَ قسوتي، وأردُ على لعنتِكَ بلعنتي.
اتحدت السماء مع عينيها وبكيا بغزارة، ذلك الضعف الذي سيطر على قلبها منذ أن ابتعدت عن دائرته أشعرها بالمهانة رُغم عشقها الثابت في قلبها، رفعت عيناها للسماء وتمتمت بأسى غزير: الله يسامحك يا يعقوب، ياريتني ما حبيتك.
(الأغنية كاملة من تأليف صديقتي العزيزة رقية حسانين، صاحبة الصوت الآخاذ والكلمات المُبهرة، لكن ولأسفي الشديد لا أعلم عنها شيء الآن، وستجدون النغمة كاملة بدون موسيقى على جروب الفيسبوك الخاص بأعمالي).
مر اليوم بطيئًا مُتسللًا والليل معه تباعًا، وأتى صباح يوم جديد غادرته الشمس وبقيت السُحب الرمادية الكئيبة، وكأنها تنعي أصحاب ذلك اليوم السيء مُسبقًا وقبل الجميع!
الساعة تدق العاشرة صباحًا، و مصعب يقف في تلك الأثناء أمام العميد الذي تم اعتقاله في زنزانة مُنفردة لا يوجد بها سوى فراش صغير متهالك ونافذة تكاد لا تتعدى كف اليد، إلتوى ثُغر مصعب بابتسامة ساخرة وهو يتقدم منه أثناء وضعه لكفيه في جيب بنطاله وأردف قائلًا بتهكم:
مين كان يصدق إن الجاسوس اللي فضلنا ندَّور عليه أكتر من خمس شهور قدامنا وهو اللي بيدينا الأوامر؟
احتدت عيني الأخير ورمقه بنظرة حارقة تكاد أن تُصهره، الشيء الذي جعل معالم الانتشاء ترتسم بوضوح على وجه مصعب هو الضعف المُرتسم على وجهه، وبالرغم من ذلك الإنهاك تمتم بتوعد صادق: صدقني هتندم يا مصعب، هتندم أنت سامعني!
تخشب وجهه وتقدم منه مُسرعًا وكأنه يلتهم الأرض من أسفله حتى وصل إليه ووقف قبالته مُباشرةً! انحنى مصعب بجزعه قليلًا حتى تقابلت الأوجه بنظرة مليئة بنارِ الحقد والإنتقام، ومن ثَم أمسك به من تلابيب ثيابه يهزه بعنفٍ وهو يهتف بفحيح: صدقني مهما عملت مش هيبقى بحجم الخسارة اللي أنت خسرتها أبدًا.
حتى لو كانت الخسارة هي أخوك حمزة؟
للحظاتٍ شعر بأن جسده يتخشب ولا مجال للحركة، انتصب مصعب في مكانه فجأة وسأله بأعين جاحظة: قصدك إيه؟
ظهرت الشماتة جلية على وجه الآخر والذي أمسك بمعصمه ينظر إلى ساعة يده، لترتسم على وجهه صدمة مُصنطعة وهو يهتف بهلعٍ زائف: يا خبر؟ دول زمانهم بينفذوا المهمة!
ارتسم الهلع على وجه مصعب الذي لم يجد بُدًا من لكمه على وجهه بقوة أدت إلى ترنُح جسده أرضًا، ومن ثَم صرخ به باهتياج: أخويا لو حصله حاجة يا ابن ال مش هسيبك عايش لثانية واحدة.
نبس بكلماته ثم هرول من أمامه راكضًا بأقصى ما يملك، لا يعلم إلى أين سيذهب وكيف سيصل إليه قبل أن يُصيبه مكروه، لكنه سيحاول بكل ما يملك من جهود إلى الوصول في أقرب وقت، وترك خلفه رجُلًا تصدح ضحكاته عاليًا بهيستيريا وعيناه تلتمع بشر جَلي أثناء همسه: باي باي يا حضرة الظابط.
لربما تكون في خطر في أي وقت، فقط تجهّز واستحضر ما تبقى لك من مقاومة حتى تُجازف!
وقف حمزة أمام سيارته في منطقة مُنعزلة تُحيطها الخُضرة والزرع من كل مكان، نفخ بضيقٍ وهو يُحاول للمرة المليون مع هاتفه أن يصل إلى صديقه الذي أخبره عن ضرورة حضوره لأمرٍ هام للغاية، تعجب بقوة وازداد تعجبه حينما أخبره أن يأتي لإحدى الأراضي التابعة لمنزل عائلته، وبعدها أغلق الهاتف نهائيًا، رجَّح بأنه لربما قد يُريده لحل مشكلته مع عائلته والتي أخبره عنها من قبل، لذلك ذهب إليه دون تردد وها هو يقف منذ ربع ساعة تقريبًا والمكان خالي من أي كائن حي.
نفخ بضجر وقرر الرحيل بعد خمس دقائق إن لم يأتي، وبعد مرور المُدة التي حددها استقل سيارته مُجددًا في نية للعودة إلى منزله، لكن يداه قد توقفت عن إدارة مفتاح السيارة حينما استمع إلى صوت تعمير الأسلحة، تجمد في مكانه والتقطت أذناه صوت أقدام تدهس على الأرض العُشبية النضبة، فجَّهز سلاحه مُسرعًا ونظر حوله علَّه يلمح أي شيء، وبالفعل رأى على مرمى نظره أربعة رجال مُسلحين من أصحاب البذلات السوداء الفخمة، وما كاد أن يفعل أي شيء حتى شهر بتهشم زجاج سيارته ومرور الطلقة الحديدية من أمام وجهه مُباشرة!
ابتلع ريقه بقلق ونظر إلى هيئتهم مُجددًا فوجد أن الحرب من ناحيته خاسرة بتاتًا، مما جعله يُفكر بالتفاوض معه، وبالفعل هبط من سيارته بتروٍ لكن تم خداعه وانطلقت الطلقات من فوهة أسلحتهم لتخترق جسده الذي سقط هامدًا وفاقدًا لكل معاني الحياة.
العمل على قدم وساق، الجميع يأتي ويذهب تعجلًا على صراخ بادر بهم لينهوا إرتداء ثيابهم بسرعة، وبالنسبة له فهو مُتوتر للغاية، اليوم سيذهب لخِطبة مَن سكنت الفؤاد بعد أن أجَّل التقدُم لها عقب خبر وفاة والدتها على يدِ أحد أعداء زوجها، حينها كانت الصدمة صاعقة والألم جلل، لم تتوقع أن يأتي خبر والدتها بتلك الطريقة الشنيعة، حزنت عليها بقوة رغم قسوتها الدائمة عليها وتفضيلها زوجها، لذلك قرر تأجيل الخِطبة تقديرًا لحُزنها.
استدار بادر لوالدته التي أتت قائلة بحنق: ما تصبر يا واد لحد ما أخوك حمزة ييجي؟ هي الدنيا هتطير ياخويا!
نظر بادر ل حنان وقال أثناء تقطيبة حاجبيه التي تعكس سخطه: خسئت يا حمزة! أكيد هو متأخر بمزاجه علشان يغيظني، خسئتم كلكم.
نبس بجُملته وشهق بعدها بعنفٍ مُتألم عقب ضرب أحدهم له على مؤخرة عنقه، استدار للفاعل بأعين غاضبة فوجده يعقوب الذي قال ضاجرًا: ولا ولا! وجع دماغ إحنا مش عايزين، واتنيل استنى أخوك ييجي عشان نروح كلنا سوا.
زفر بادر بغضب واتجه ليجلس على أريكة المنزل الوثيرة وهو يُربِّع عن ساعديه بحنق.
في حين ترك بدير كل تلك الضجة وهبط للأسفل لرؤية ملاكه الشرس، تلك التي تزايد عشقها داخل فؤاده بتسلل دون أن يدري! هبط الدرج مُسرعًا فاتسعت عيناه بانبهار عقب رؤيتها لها، كانت ترتدي ثيابًا عادية للغاية، لكن في كل مرة يراها بها يزداد انبهاره أكثر عن المرات الأولى!
وعلى الجانب الآخر. رأته تسنيم فاتسعت ابتسامتها وتضجرت وجنتها بحُمرة خجلة، لاحظت اقترابه فاقتربت في المقابل لكنها توقفت شاهقة بفزع أثناء وقوف إحدى السيارات المُصفحة أمامها، وعلى حين غُرة التقطوها إلى داخل السيارة وسط مقاومتها الواهية واختفوا بلمح البصر، فلم يُسمَع بعدها سوى صوت صرخة بدير المقهورة باسمها: تسنيم!
اختيارك ليس صوابًا، إنه الجحيم بذاته.
في منزل عتمان المحمدي هبط كُلًا من صبري وبُثينة بابتسامة واسعة أثارت ريبة عتمان الذي كان يجلس مع نرجس زوجة حفيدته و نور التي جاءت من منزل زوجها للتو بعد مرور شهرين على زواجها، جلسا بجانب بعضهما البعض فتحدث عتمان ساخرًا: خير اللهم اجعله خير! صبري وبُثينة بيضحكوا؟
اتسعت ابتسامة بُثينة أكثر والتي أجابته براحة: ومنضحكش ليه يا عمي! ربنا يكتَّر من أفراحنا.
اللهم آمين.
آمن على دعائها بنبرة غير مُرتاحة استشعرتها نرجس هي الأخرى، في حين شرد صبري في الخطة التي ستُخلصهم من رائف إلى الأبد، وذلك بعد أن استمع إلى والده يأمره بالذهاب لجمع ضرائب المحاصيل من الفلاحين، وجدت تلك هي الفرصة المُناسبة لتنفيذ خطته الدنيئة، وذلك بأمر أحد المُجرمين بحل فرامل سيارته نهائيًا، ليظهر الأمر وكأنه حادث طبيعي وغير مُدبر!
عَلى صوت رنين الهاتف الأرضي ومعه ازداد الحماس بقلب صبري وبُثينة بشرٍ جَزِع، هبت نور من مكانها أولًا لتُجيب، تزامنًا مع دخول رائف من الباب الرئيسي حيٌ يُرزق دون إصابته بخدشٍ واحد! ارتسمت الصدمة جلية على وجهيهما وانتفض الجميع بفزع على صوتِ نور التي صرخت برعبٍ واهتياج: رأفت!
لم يشعر أحدهم بشيء سوى بسطلٍ من الماء البارد يسقط فوق أجسادهم، لا يعلم أيًا منهم كيف وصلوا جميعًا إلى المشفى بتلك السرعة، ولا بركضهم نحو غُرفة العمليات وكأنهم يلتهمون الأرض من أسفلهم، بل استفاقوا على خروج الطبيب من العناية المُركزة والذي أجابهم بأسف بعد سؤال بثينة بانهيار على حالة ابنها:
للأسف مقدرناش نعمل حاجة، البقاء لله.