قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والثلاثون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والثلاثون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والثلاثون

كنت أظن بأن الحياة تُعطي أكثر مما تأخذ، لكنها في كلِ مرة تُدهشني بأخذ كل ما أُحِب!

تلك المرة لم تكن المُصيبة هيَّنة عليه بتاتًا، لقد زفَّ إليه الطبيب خبر وفاة ابن عمه للتو! نظر رائف للوجوه بنظرة تائهة علَّه يستشف كَذِب ما استمع إليه، لكن ولبشاعة الأمر كل شيء حوله يوحي بحقيقة ما يُعايشه، صُمَّت أُذناه عن صوت الصُراخ الذي صعد من بثينة وامتد صداه في أرجاء المشفى، وشاركتها نور الصراخ وبكت بقهرةٍ حُزنًا على فراق أخيها، بينما صبري ارتمى على أقرب مقعد ودفن وجهه بين كفيه يكتم نشيجه، والجميع غافل عن التمتمات التي خرجت من فاهه وَسط تلك الفوضى.

نظر بشرود إلى اليد التي وُضِعت على كتفه لتُواسيه، فرفع عينه إليها ليجدها نرجس التي تُحاوطه بنظراتها الحزينة، وكأنه وجد ملازه ومأمنه وَسط كومة من الخراب المُحترق، فراحَ يشكو لها كصغيرٍ فقد كل شيءٍ في تلك الحياة ولم يبقَ سواها: ب. بيقول. رأفت! مات إزاي؟ دا. دا كان معايا من شوية بس!

تسلل الدمع إلى عينيها حُزنًا على حالته تارةً، وتارةً أخرى على وفاة رأفت، ذلك الذي كان بمثابة شقيق لزوجها وأكبر داعم له منذ أن خطت قدماه منزل آل مُحمدي، لكن شاء القدر أن يقتطف منهم تلك الثمرة اليانعة ويترك مكانها فارغًا صلدًا ليُعاني أحباؤه ألم الفُراق المُبرح، ضمت كتفيه إليها وواسته بمؤازرة مُبكية:
اللهُ يعطي والله يأخذ ما يُريد، إنَّا لله وإنَّ إليه راجعون.

سمح في تلك اللحظة لدموعه بالإنهمار، بضعة كلماتٍ فتت الزجاج المُحيط بفؤاده وجعلته ينهار في أحضانها باكيًا، كيف رحل صديق أيامه في مثل لمح البصر، منذ قليل فقط كان يُشاكسه كعادته، فيستقبل رأفت مزاحه بمزاحٍ أثقل حينما يلكمه، وينتهي الأمر بضحكاتهم التي تعلو بصخبٍ، كل مزحة، كلمة، حديث، مشاكسة، محفورة داخل فؤاد رائف الذي يسترجع شريط ذكرياته مع رأفت الآن، مهلًا! هل قال ذكريات! هل أصبح رأفت في حياته مُجرد ذكرى سيعيش على صداها فقط بعد الآن!

رائف!
نادته بها نرجس بخفوت لتنتشله من زوبعة أحزانه، رأت عينه المُغرورقة بالدموع ووجنتاه المُبتلتان بعبراته الكثيفة، رفعت كفاها وجففت وجهه بحنوٍ وهو مُستسلم لها بضعفٍ جَم، لاحظ إشارتها بعينيها إلى أحد الأركان فانتقل ببصره حيث تُشير، فلفت انتباهه جده الذي استند على حائط المشفى الرخامي وتنفسه يعلو بشكلٍ مُريب، طالعه بتردد لعدة لحظات قبل أن يتذكر جُملة رأفت التي ترددت صداها في أذناه الآن:.

علي فكرة جدك بيحبك مش زي ما أنت فاكر.
تذكر حينها استخفافه بكلماته ورده المُتهكم عليه: بيحبني دا على أساس إيه؟ وكلامه اللي يسم البدن اللي كان كل شوية يسمعهولي!

فكان رد رأفت عليه حينها كالآتي: الكلام اللي يسم البدن دا كان بيسمعهولي أنا كمان، جدك عاش في بيئة صارمة ومتحفظة جدًا، واللي أبوه وأعمامه كان بيعملوه معاه كان بيعمله معانا إحنا كمان، مفكر إنه كدا بيربي رجالة زي ما بيقول، بس الوضع معاك كان مختلف شوية وفهمته غلط علشان أنت كنت متغرب عننا الفترة اللي فاتت.

عاد رائف لواقعه على ضغطة كف نرجس ونظراتها المُشجعة له، فوجد ذاته تلقائيًا يتجه نحو جده ويُسانده قبل أن تخونه قدماه ويقع أرضًا، رفع عتمان عيناه يُطالع بهما رائف وإمارات الذهول مُتجلية على تقاسيم وجهه بوضوح، سحبه رائف معه قِصرًا نحو إحدى المقاعد وهو يقول بصوتٍ مُتحشرج يكتم بكاؤه:
تعالى اقعد يا جدي.

سار معه عتمان صامتًا حتى وصل إلى المقعد وجلس عليه بإنهاك بعد أن خانه جسده فجأة، لمح رائف الشحوب المُسطِّر وجه جده فسأله بقلق: أطلبلك الدكتور؟
قالها بأعيُن دامعة تحمل حُزنًا وألمًا كبيرًا داخلهما، ليهز عتمان رأسه بالنفي ومن ثَم قال بصوتٍ غلبه التعب: عايز أشوفه، عايز رأفت.

انتصب رائف في وقفته وحكَّ وجهه بقوة ليتحكم في قوته الواهية التي يرسمها بكل ما يملك، لكن ورغمًا عنه سمح لروحه بالبكاء قبل عيناه، وذلك حينما أبصر جسد شقيقه الروحي ونصفه الميت يخرج محمولًا على عربة من غرفة العناية المُركزة، جسده هامدًا وشفتاه الزرقاوتان تتماشى مع وجهه الأصفر الشاحب!

تعالت صرخات بثينة التي بدأت باللطم على وجهها أثناء مُحاولتها للوصول إلى جسدِ ابنها، لكن صبري منعها من ذلك حينما وجد رفضًا قاطعًا من الأطباء من لمسه في ذلك التوقيت، فيما انهارت نور داخل أحضان عتمان الذي اتجهت إليه لتبكي بقهرة وجدت صداها في قلوب الجميع، و رائف لم يتحمل مظهر رأفت فتبددت صلابته وبكى! كُلٌ يبكي على عزيزٍ فقدوه في لحظة واحدة!

مرت الدقائق والجميع مازالوا على نفس حالتهم من الإنهيار، حتى خرجت إليهم المُمرضة التي طالعتهم بشفقة وقالت بعملية: تقدروا حضراتكم تشوفوا المُتوفي بس كل واحد يدخل لوحده، لإن الشرطة زمانها على وصول ولسه هيحققوا في الحادثة اللي حصلت.

كلماتها وبالرغم من عمليتها إلا أنها صنمت جسدين قد وعيا أخيرًا لحجم الكارثة التي وضعا ذاتهما فيها، نظرا كُلًا من صبري وبثينة لبعضهما البعض بتصنم ورعشة قوية سرت في جسدِ كليهما، ابنهما راقدٌ بلا روح في الداخل بسببهما، والشرطة تبحث عن الفاعل! ياللمصيبة.
ومَن يبتلع صرخات ضائعٌ وجد ذاته شتاتٌ بعد تَعب؟
مَن ذا الذي يُحرر الطير المُحتبس بعد أن مات؟
مَن يُعيدُ الجليد إلى صموده بعد أن ذاب؟

أهُناكَ فرصة للأشياء أن تعود بعد أن تبعثرت لفُتات!
أم أن الفُتات ستظل كحالها دون أن تجد الدواء؟
أقدامٌ راكضة تملأ أصواتها رخام المشفى عقب وصول عائلة هارون لها بعد تلقيهم الخبر المُفزع بإصابة ابنهم حمزة هارون رضوان بعدد من الرصاصات استقرت بوحشية داخل جسده، وها هُم انتهى بهم المطاف ينتظرون بقلوبٍ تنتفض فزعًا أمام غرفة العمليات التي أدلتهم عليها المُمرضة.

مرت ساعة وأخرى والجميع في حالة تأهُب واستعداد، صوت بكاء حنان وبدور يكسر الصمت الدائر بين الجميع، يعقوب يأخذ الطُرقة ذهابًا وإيابًا مُحاولًا أن يُلملم شتاته، مصعب يقف أمام غرفة العناية ويستند برأسه على بابها بضعفٍ وكأنه يُناجي شقيقه برجاء أن يستيقظ، حالة بدير لم تقل عنهم تيهة، بل ازدادت حينما أتاه خبر إصابة شقيقه وفي نفس الوقت عاجز عن إنقاذ تسنيم التي خُطِفَت أمام عينيه، بادر يقف جواره يُحاول طمئنته وطمأنة ذاته أيضًا، بدران يتصنع الثبات من أجل والدته التي تكادُ أن تموت من شدة اختناقها، بينما عمران جاور أبيه ولم يتحدث بأي كلمة منذ أن أتى مثله تمامًا.

فُتِحَ باب غُرفة العمليات فهرع الجميع إلى المُمرضة التي خرجت بمُباغتة وقالت على عجل: المريض محتاج نقل دم ضروري لإنه نزف كتير، من فضلكم لو فيه حد منكم نفس فصيلة دمه يتفضل معايا.
رد عليها يعقوب بسرعة: أنا نفس فصيلة دمه.
فشاركه بدران في الحديث وسارع بقوله: وأنا كمان.
فيما خرجت بدور من أحضان والدتها وتحدثت بنحيبٍ قوي: وأنا زيهم، خُدي مني اللي أنتِ عايزاه بس بالله عليكِ خليه يعيش.

طالعتهم المُمرضة بأملٍ فأشارت لهم باستعجال على تتبُعها إلى إحدى الغُرف الموجودة في آخر الرواق الموجود بنفس الطابق، وبالفعل دخلوها وتمددوا على ثلاثة من الأسِرَّة وبدأ المُمرضون في سحب عينات الدم المطلوبة منهم، في حين نظر هارون ل بادر وأمره بهدوء:
روح هات لإخواتك حاجة ياكلوها يا بادر علشان يقدروا يُصلبوا طولهم بعد كدا.

أومأ له بادر دون الحديث ثم خرج ليأتي بما يحتاجونه أشقائه، بينما هارون اقترب من زوجته وضمها إليها بحماية ثم تحدث بإرهاق: إهدي يا حنان، ابننا هيكون بخير شِدي حيلك كدا أومال!

لم يُزيدها حديث هارون إلا بُكاءًا أكثر، فضمت ذاتها إليه أكثر لكتم شهقاتها داخل صدره وهو يُربت على ظهرها ليُهدهدها، تبًا لذلك العمل الذي يجعل أبنائه مُعرضون للخطر دومًا، بين الحين والآخر يكون مُنتظر أن يأتي أحد من ابنيه مُصاب، وكأن ذلك الأمر بات مُلازمًا لهم، لكن تلك المرة فالأمر يزداد خطورة عما يتوقع!

رفع هارون بصره فوجد بدير يجلس على أحد المقاعد ويدفن وجهه بين كفيه، وكأنه شريدٌ سُجِنَ في متاهة ترفض فك أسره، ناداه هارون مرة لكن يبدو عليه أنه لم يستمع له من الأساس، لذلك ناداه مُجددًا بصوتٍ أعلى جذب انتباه الأخير الذي رفع إليه عينيه المُرهقتين قائلًا: أيوا يا حج!

أشار له أبيه بعينيه أن يتقدم، فترك بدير مكانه واقترب منه يجر أذيال يأسه وخيبته حتى وقف أمامه، فسأله هارون دون مُراوغة: قدمت بلاغ في القسم ولا لسه؟
جذبت الكلمة أذان الجميع لكنهم ظنوا بأنه يتحدث عن حمزة، بينما بدير هز رأسه نفيًا وقال بتعب: ملحقتش يا بابا.
خرجت حنان من أحضان زوجها وقالت أثناء إشارتها نحو مصعب الذي كان مُلازمًا بالوقوف أمام غرفة العناية: مصعب بلَّغ زمايله يا حج.

هز هارون رأسه وقال: مش بتكلم عن حمزة، أنا بتكلم على تسنيم.
نظر عمران باستغراب ل مصعب الذي استدار لهم وبادله نفس النظرات، في حين تسائلت حنان بقلقٍ بالغ: مالها تسنيم؟ إيه اللي حصلها!
ارتسمت الصدمة جلية على وجهِ الجميع حينما باغتها بدير بالإجابة تلك المرة: اتخطفت.
ضربت حنان على صدغها بصدمة وتمتمت بهمسٍ مُنصدم: يا مُصيبتي! إمتى وإزاي دا حصل؟

حكَّ بدير وجهه بعصبية وشعر بالإختناق يُهاجم أنسجة جسده بضراوة أوشكت على الفتك به، لا يعلم أيجدها من مسألة إصابة شقيقه الخطيرة، أم من اختطاف فتاة كان لها في القلبِ مكانًا لا بأس به؟ ابتلع ريقه بغصة مؤلمة ورغمًا عنه تسللت الدموع إلى مقلتيه خوفًا وقلقًا على كليهما، شعر أبيه بالحرب التي تدور داخله فربت على كتفه وقال بهدوءٍ حافظ على الصرامة بين طياته:.

روح أنت و عمران وقدَّم البلاغ، البنت دي أمانة في رقبتنا يا بدير ولازم ميحصلهاش حاجة.
طالع بدير أبيه بعجزٍ فربت هارون على كتفه بقوة وعُنفٍ وهو يُصيح به: بدير! صحصح وفوق كدا وقول يارب، اخلص مش هنفضل ساكتين كتير كدا.
ترك عمران مكانه وتقدم من أخيه ليُجاوره، ثم أمسك بكفه ليشدُد من عضده وقال مُوجهًا حديثه لأبيه: أنا هروح مع أخويا يا حج، ولو حصل أي جديد بلغنا على طول.

أومأ له هارون بالإيجاب، فيما تقدم منهم مصعب وقال بصوتٍ ظهر عليه إنهاكُه: وأنا هكلم زمايلي في القِسم وهخليهم يساعدوكم في البلاغ في أسرع وقت، المهم متضيعوش وقت علشان الكلب حسن ميعملش فيها حاجة.
وأنت عرفت منين إن هو اللي ورا خطفها؟
سؤال خرج من بدير فاستعجله مصعب بقوله: روح يا بدير اعمل اللي بقولك عليه دلوقتي وبعدين هبقى أفهمك كل حاجة.

سحب عمران أخيه معه وانطلقا مُسرعين إلى وجهتهم ليقوموا بالإبلاغ عن إختطاف تسنيم، تولى عمران أمر القيادة وعقله مُنشغل ب بدير الذي يُجاوره وعقله مُنشغل في ملكوت آخر، عشق تلك الفتاة يظهر جليًا داخل مقلتي شقيقه والذي يبدو عليه مُتيمًا بعشقها، بل هو في أقصى مراحل الحُب لها، وكيف لا يعلم وهو يُعايش ما يعيشه الآن! يكاد يسمع صوت صخب فؤاده الذي يطرق بين جنبات أضلعه، وكأن يتمرد عليه خوفًا على نِصفُه المفقود!

رحلة الآلام لا تنتهي، بل تتزايد مع تقدم العُمر والمعارف، رحلة الحياة قد تبدو كشُعلة مُتقدة هادئة في ظاهرها، لكنها تحمل الكثير من النيران الحارقة في باطنها، وفي اللحظة التي تظن بها بأنك قد انتقلت إلى مرحلة الأمان تنتشلك النيران على بغتة لتُلهبك بحريقها الصاعق، وعِند مُحاولاتك للصراخ والهرب تجد من يُكمم فاهك ليمنع توسلاتك المكتومة، هي فقط دموع تُعبر عن حالك الحزين، الدموع وفقط!

علي فراشٍ قديم مُتهالك يستقر جسدها الضئيل، صعدت همهمة صغيرة من بين شفتيها وبدأت بفتح عيناها على مهلٍ، تأوهت تسنيم بخفة من صداع رأسها ورمشت بأهدابها عدة مرات وعقلها يُحاول استعادة ما حدث في الساعات الأخيرة، ضيقت ما بين حاجبيها باستغراب وهي تجد ذاتها مُحتبسة في غرفة ضئيلة لا يوجد بها سوى فراش ومصباح أصفر شاحب يعلوها، تسلل الخوف إلى فؤادها وارتفعت بجسدها بمساعدة مرفقيها للجلوس، وهُنا هاجمتها الذكريات بشراسة، لقد اختُطِفَت!

انتفضت مكانها بفزع حينما فُتِحَ باب الغرفة بعنفٍ على بغتة وظهر من خلفه رَجُلٍ بجسدٍ عضلي كبير، اتسعت عيناها رُعبًا حينما أبصرت وجهه المقيت بالنسبة لها، كانت تدفع جسدها للخلف بقدمها حتى اصطدمت بظهر الفراش وهي تُردد اسمه بهلع:
ح. حسن!

أغلق حسن الباب بقدمه ثم اقترب منها بتوئدةٍ وهو يرسم على ثغره ابتسامة مُتشفية من رؤية معالم الخوف ترتسم بوضوح على وجهها، تمسكت تسنيم بالملاءة المُتسخة من أسفلها وكأنها تستمد منها قوتها الغير موجودة، فيما تابع هو تقدمه منها حتى وصل إليها وانحنى أمام وجهها هامسًا بفحيح:
إزيك يا بنت عمي!

مظهره أوحى لها بشراسة كانت مُختبئة خلف قناع رُقيه الزائف، الطبقة المخملية التي كان يُظهرها للجميع تبددت أسفل الزي الإجرامي الذي ارتداه مُؤخرًا، ثيابه بدت رثَّة عكس ما كانت عليه من قبل، شعره أشعث لكن ووجهه بدا شاحبًا بعض الشيء، بات نُسخة مُخيفة من شخص كان راقيًا من قبل، حاولت أن تستجمع قوتها الواهية وسألته بشراسة:
عايز إيه مني وجايبني هنا ليه يا حسن؟

صوتٌ ساخر خرج من بين شفتيه يعكس حقدًا استشعرته في نبرته حينما قال: لينا حساب لسه مخلصش لسه يا تسنيم، ولا نسيتي؟

زوت ما بين حاجبيها بسخطٍ بالغ ورمقت إياه بقوة وهي تصرخ به: فوق بقى وبطَّل الوهم اللي أنت حابس نفسك فيه دا، حقدك عماك عن إنك تشوف الحقيقة اللي كانت واضحة وباينة قدامك طول الفترة اللي فاتت، مشيت ورا كلام أبوك ومفكرتش للحظة إنك تدوَّر وتشوف إذا كان كلامه صح ولا لأ، عارف ليه؟ لإنك غبي، غبي ومُتخلف ومش عايز تشوف الحقيقة.

اشتعلت عيناه بشراراتٍ من الغضب، فامتدت يداه لتنسدل أسفل خصلاتها التي انسلتت من غطاء رأسها ثم شدد من الضغط عليها وهو يصرخ بها: حقيقة إيه اللي عايزاني أشوفها؟ حقيقة موت أمي اللي أنتِ قتلتيها بمساعدة أختك؟ انطقي!

عضت على شفتيها لتكتم تأوهها، وفتحت عيناها التي تجمعت بهما الدموع بغزارة لكنها أبت الهطول بترَفُع وأجابته برغم الألم الذي يجتاح فروة رأسها: أمك مش أنا اللي قتلتها، أبوك هو اللي قتلها، طارق عاشور هو اللي قتل أمك أسمهان العِز.

شعرت بقبضته تخفت تدريجيًا من حول خصلاتها، حتى رأته يبتعد عنها وينتصب واقفًا وعيناه ترمقها بعدم تصديق، طالعته بغضب مُغلف بالحقد وهي تُضيف بسخرية لاذعة استشعرها بمرارة: إيه اتصدمت؟ كنت مستني إيه من تاجر سلاح مثلًا! إنه يطلع شيخ جامع!

لاحظت أثر حديثه عليه فأصرَّت على الإكمال والضغط على نقطة ضعفه أكثر لتثأر لحقها ولحق شقيقتها وحق لقمان الذي دخل في حالة نفسية سيئة للغاية بسببه هو وأبيه، فأضافت بكُرهٍ واضح:.

وأنت كمان زيك زيه ويمكن أوسخ كمان، بقيت لمامة رجال الأعمال وماشي تشمشم على اللي يدفع أكتر عشان بس شوية فلوس، عارف أسمهان ماتت إزاي؟ أبوك هو اللي سمَّها، بعد ما سِمعت عن خطته القذرة إنه عايز يشغَّلك معاه وتكون إيده اليمين في تجارته، طب تعرف إن هي جالها جلطة وأنت مسافر بتنفذ أول عملية أسلحة! تعرف إنك السبب الأساسي والرئيسي في موت أمك؟ أنت السبب، ومحدش غيرك السبب في موتها، أنت سامعني يا حسن؟

كلماتها كانت كالسوطِ تهبط فوق مسامعه لتجلد كل ذرَّة في جسده بلا رحمة، وكأنها تنتشي بعذابه فلم يملك ذاته وهو يهجم عليها ليمنعها من الإكمال، أحاط بقبضته عُنقها وراحَ يصرخ فيها باهتياج: كدابة. كدابة. اخرسي يا بنت ال، أنا هقتلك. هقتلك.

ومع كُل كلمة كان يُرددها كان يُزيد من الضغط فوق عُنقها أكثر وأكثر، في حين جحظت عيني تسنيم بفزع وهي تُبصر هجومه الضاري عليها، حاولت دفع جسده لكنه كان أشبه بوحشٍ ثائر في تلك الأثناء، عيناه معميتان بغضبٍ أعماه عن فعلته، فلم تجد السبيل للنجاة سوى أظافرها التي رفعتها لتغرزها في وجهه بقوة جعلته ينتفض بعيدًا عنها ويتأوه بقوة.

تنفست تسنيم بعنف وهي تُدلك موضع كفه وعيناها ترمقانه برعبٍ ازداد حينما أبصرت تقدمه مرة أخرى بشراسة أكبر، لكن تلك المرة هبط عليها بضرباتٍ مُبرحة وهو يسُبها بأبشع الألفاظ تارةً، وتارةً أخرى ينعتها بالكاذبة، صراخه الغاضب كان يوازي صرخاتها المُتألمة أسفل يده، صُمَّت أُذناه عن توسلاتها واستمر في تعذيبها حتى همد جسدها تمامًا، ابتعد عندما شعر بتفاني قوتها ونظر لجسدها فوجده راقدًا في مضجعه، طالعها شرزًا بصدرٍ يعلو ويهبط من شدة انفعاله ثم تركها وغادر بخطواتٍ تكاد أن تلتهم الأرض من أسفلها!

لا تسير الحياة كما نتمنى عادةً، بل إنها تُلهينا وَسط الطُرقات حتى نسقط في موجة من اليأس والخذلان، تجعلك تتجرع كأس المرارة فتمنعك من المُضيّ والنسيان، تتشرب حُزنك البليغ وسخطك الأبدي المرير، فتعتاد الحُزن وتخاف من السعادة التي تأتي دون حُسبان.

جلست زهراء بجانب ياسمين المُنهارة في البكاء، هي على تلك الحالة منذ أن شهدت لحظة اختطاف شقيقتها في ثوانٍ معدودة، ضمتها زهراء إليها وظلت تُربت على ظهرها بحُنوٍ ومن ثم أردفت: متقلقيش والله يا ياسمين أختك هابقى بخير.
هزت ياسمين رأسها بالنفي وتحدثت من بين شهقات نحيبها تقول: لأ. حسن ممكن يقتلها، كُرهه وحقده خلاص بقى مسيطر عليه ومبقاش بني آدم، أنا عايزة أختي. عايزة تسنيم.

نُبِحَ صوتها في جُملتها الأخيرة فطالعها جميع الفتيات بقلة حيلة وحُزنٍ على تسنيم، بينما اتجهت مي نحو شقيقتها سارة التي كانت تجلس بعيدًا عنهم بعض الشيء مُفضلة الجلوس وحيدة في تلك الأثناء، كلما قالت ها قد ابتسمت لي الحياة من جديد تأتي لتصدمها بشيء أشد قسوة من ذي قبل، وكأنها اعتادت تلك الصدمات فلم يعد بمقدورها البُكاء الآن!

جلست مي بجانبها ومدت يدها إليها بالهاتف قائلة: بادر اتصل عليكِ كتير وأنتِ مبترديش.
رفعت لها سارة أنظارها بانطفاء وقالت بهدوءٍ مُنافي للحالة التي عليها الجميع: ابقي رُدي عليه أنتِ وقوليله نامت.
قطبت مي جبينها بتعجب وحال شقيقتها يُثير استغرابها بشدة، فتحدثت قائلة: سارة أنتِ عارفة إن بادر ملهوش ذنب في اللي حصل، أخوه اتصاب وفي المستشفى وكمان تسنيم اتخطفت، أنتِ بتعاقبيه على إيه؟

وقفت سارة من مجلسها وقالت بجمودٍ أثناء توجهها نحو غُرفتها: مش بعاقبه على حاجة، أنا بعاقب نفسي، محدش يصحيني أنا داخلة أنام.

راقبت مي توجه شقيقتها نحو غرفتها المُقيمة بها، منذ متى وهي تتهرب من مشاكلها دون حلها وتتخذ النوم سبيلًا لها! ذلك السؤال نفسه كان يدور داخل عقل سارة التي جلست على الفراش دافنة وجهها بين كفيها، ولم تمر سوى ثوانٍ وانفجرت في البكاء المرير، كل شيء يضغط عليها من جميع الاتجاهات دون مُراعاتها، الكون بأكمله يتمرد ضدها، بداية من وفاة أبيها منذ صغرها، لتنال بعدها قسوة والدتها، وأخذت مكانة الأم في سن مُبكر للإعتناء بشقيقتها، ولم تكتفي الحياة عن ردعها إلى هذا الحد، بل جاء زوج والدتها ليُذيقها من العذاب ألوانًا لتحرشه المُستمر بها، فاتجهت للعمل لأخذ منزل بعيد عنه، فصُدمت بعدها بمقتل والدتها، وبعد أن ظنت أن الحياة قد ابتسمت لها أخيرًا بخطبتها من بادر ؛ عادت لتصدمها مُجددًا!

مرت دقائق ولربما ساعات ظلت فيهم جالسة على نفس وضعيتها لا تفعل شيء سوى البكاء، فلم تشعر بصوت الباب وهو يُفتح، بل شعرت بجلوس أحدهم بجوارها، رفعت رأسها فجأة لتصتدم بوجه ذكرى التي بادلتها بابتسامة حزينة وقالت بمزاحٍ استحكمته غصتها الباكية: طب والله الدنيا دي ما بتدينا غير فوق دماغنا فعلًا!

وكأنها وجدت ملاذها أخيرًا، فارتمت على صدغها تُخرج كل الآهات والآلام المحبوسة داخل صدرها، ضمتها ذكرى إليها وكفها يُهدهدها بودٍ، أتت إلى هُنا بعد أن علمت ما حدث، بينما رضوى هرعت مع إلياس نحو المشفى بعد أن أخبرهم مروان بإصابة حمزة.
مرت نصف ساعة وهُم على تلك الحالة، لا تعلم إياهم مَن تُواسي الأخرى، لكنهم بحاجة إلى بعضهما البعض، انتهت سارة من البكاء وخرجت من أحضانها تقول بكوميديا سوداء كما يقولون:.

كل ما أقول خلاص الدنيا بدأت تضحكلي اتفاجيء بإنها بتتف عليا!
ضحكت ذكرى بخفة وهي تُجفف دموعها وردت قائلة بضحك: دي أرزاق دي خلي بالك.
أومأت لها الأخرى ساخرة، فسحبتها ذكرى رغمًا عنها قائلة: المهم تعالي نقعد مع البنات برة يمكن يجيلنا خبر يفتح نفسنا ولا حاجة.
حينما ينضج العقل، ستجد ذاتك تلقائيًا تقطع علاقاتك مع الجميع.

استيقظ حازم من نومته على يدِ صغيرة تُداعب خصلات شعره بإغواء، تململ في مكانه مُستديرًا فتجعد جبينه بسخط حينما أبصر أمامه تالين بوجهها المُلطخ بمستحضرات التجميل، هي بالأساس جميلة وجمالها ساحر، لكنه تُصر على جعله جمالًا وحشيًا مُبالغ فيه، عاد حازم مُجددًا ليستلقي على معدته وهو يقول بصوتٍ ناعس:
عايزة إيه يا تالين على الصبح؟

دلكت تالين عضلات ظهره برقة وهي تقول: صُبح إيه يا حازم الساعة بقت خمسة، المهم عايزة 5000 جنيه عشان خارجة مع صحابي.
انتفض جالسًا من مضجعه ونظر إليها وإلى هيئتها بسخطٍ ومن ثَم قال: 5000 جنيه تاني؟ أنتِ مش لسه واخدة زيهم إمبارح؟
رمقته تالين بحاجبين مرفوعين وأجابته بضيق: وفيها إيه يعني يا حازم، مش أنت جوزي وأنا مسئولة منك! هطلب من مين يعني دلوقتي؟

نفخ بضيقٍ عقب تذكيرها له بمسألة الزواج التي تمت رغمًا عنه لتصليح خطأه، لقد تم عقد قِرانهما منذ أكثر من شهر تقريبًا بعد أن أجبره والده على ذلك، وإلا سيُحرَم من مسألة الميراث بعد ذلك، وفي الحقيقة هو في غِنى عن ذلك، رفع أنظاره إليها مُجددًا وقال بغلظة:
هديهم ليكِ بس روحي غيري القرف اللي أنتِ لابساه دا الأول.

تشنج وجه تالين واتجهت أنظارها تلقائيًا نحو ثوبها الأسود الذي كان يصل لركبتيها لكنه كان مُلتصقًا وبشدة على جسدها، رفعت عيناها إليه مُجددًا وصاحت به باستنكار: وماله لبسي إن شاء الله؟ ما أنت متجوزني على كدا!
صحح لها مفهومها بابتسامة باردة: تؤتؤ. دا اللبس اللي بسببه غلطت معاكِ واضطريت أتجوزك عشان أداري عملتك المهببة.

شحب وجهها عقب صراحته الوقحة وجزت على أسنانها وهي تُطالعه بسخط، فاتجهت بخطواتٍ غاضبة إلى غرفة تبديل الملابس لتُغير ثيابها، اتسعت ابتسامته بشماتة وتحدث مُضيفًا بصوتٍ عالٍ لإغاظتها: لو ذراعك ظهر من تحت الهدوم مش هتخرجي يا حُبي سامعة!

استمع إلى زجرتها الغاضبة في الداخل فكتم ضحكته من الصعود بصعوبة قبل أن يهب من مكانه ويتجه إلى خزانته لانتقاء ثياب مناسبة للذهاب إلى العمل، أخذ ثيابه واتجه إلى المرحاض ومن ثَم أخذ حمامًا دافئًا ليُزيح آلام أعصابه، وبعد أن انتهى وقف أمام مرآة حمامه لحلاقة شُعيرات ذقنه التي استطالت عما كانت عليه سابقًا.

وبدون أن يعي وجد ذاته يشرد في مظهره وسلوكه الذي تغيَّر فجأة، لقد تحوَّل من شخص مُستهتر وأناني إلى آخر جاد وعملي للغاية، التغيير الجذري لم يأتي بين ليلة وضحاها، وإنما بعد أن قضى أيامًا كثيرة يُعاني بها من وحدته وقسوة والده وإجبار الجميع له على إصلاح ما أفسده بسبب استهتاره، فقرر شق الطريق لذاته وأن يُسطر هو على الجميع بدلًا من تقريعه على طيشه طيلة الوقت.

انتهى وخرج من المرحاض فوجد تالين قد انتهت من تبديل ثيابها التي غيرتها إلى فستان من اللون النبيذي وصل إلى كاحلها وذو أكمام طويلة ومُخرز عند الصدر بقطع ماسية صغيرة، اتجه إلى درجه وأخرج منه المبلغ المطلوب مُعطيًا إياها، وتمتم بعدها قائلًا ببرود أثناء تهذيب خصلاته المُشعثة:
قبل تمانية تكوني هنا.

أطلقت صيحة مُستنكرة صارخة به وهي تُطالعه بعدم تصديق: إيه! أنت بتقول إيه لأ طبعًا مفيش الكلام دا أنا هسهر مع صحابي.
استطاعت رؤية النظرة الغاضبة التي سددها لها من خلال المرآة، لكنها لم تُبالي بغضبه، ولا حتى بحديثه الذي صعد مُتوعدًا بحدة: صدقيني لو جيت ملقتكيش هنا هاجي أجيبك أنا ووقتها ردة فعلي مش هيعجبك وسط الهوانم صحابك.

طالعته بكُرهٍ ثم تركته وغادرت بخطواتٍ غاضبة وعقلها يسوقها إلى التمرد وعدم الإستجابة لحديثه.
تم الانتهاء من تغسيل جثة رأفت ولف جسده بكفن أبيض مُدون عليه اسمه، قام الجميع بتوديعه وَسط صيحات البكاء والصرخات التي تعالت في منزل آل مُحمدي حُزنًا على فُراق واحدٍ من زينة شباب المنزل، وها هو جاء دور رائف لتوديعه!

دلف إلى الغرفة بخطواتٍ مُترددة بدموعٍ مُتحجرة داخل عيناه، أغلق الباب خلفه وجاوره على الفراش يتلمس وجهه بكفه برقة وكأنه يخشى جرحه، هبطت أول دمعة من عيناه وهو يطلب منه ضاحكًا ببكاء:
خلاص بقى يا رأفت قوم بطَّل هزار!

ظل مُنتظرًا أن يكف رأفت عن العبث معه لكن ولأسفه الشديد لم يتحرك، لم يُجيبه، ولم يُشاكسه كعادته! وكانت تلك هي النقطة الفاصلة التي جعلته ينفجر في البكاء، مال على صدره يستند بوجهه عليه وهو يطلب منه برجاءٍ مصبوغ بنحيبه الشديد:
علشان خاطري قوم وكفاية كدا، مينفعش تمشي وتروح بالسهولة دي! يالا أنت أخويا وياما قولتلي إنك مش هتخليني في الدنيا لوحدي، راح فين كل كلامك دلوقتي؟ بتغدر بيا؟ بتغدر بأخوك!

رفع وجهه المُمتليء بالدموع له يُشبع عيناه بالنظر إلى ملامحه، سيفتقده بشدة، بل وإلى حد اللعنة، ظل يُحادثه كثيرًا ويشكو له كأنما يسمعه، ليته يعود ولو دقيقة واحدة ليُخبره فيها بأنه يُحبه، ليُخبره بأنه كان بمثابة شقيق وأخ ورفيق درب، ليته يعود ليحتضنه، لكن كيف للميت أن يعود!

أين الوعد والعهد والأماني التي أسمعتني؟ أين الحُب والدفيء والطمأنينة التي وعدتني؟ أين الراحة والحنان الذي أشعرتني؟ أين العشق الذي طال هجره فأبكيتني؟

وقفت رضوى بخارج غرفة العناية تنظر للباب المُغلق بأعين شاردة وغير مُصدقة، الدموع أبت أن تهطل وتُحدق الجميع باستغرابٍ ودهشةٍ، كل شيء تغير في لحظة، فبعد أن كانت تتجهز من أجل أن تذهب معه لخِطبة شقيقه كما اعتادت أن تُرافقه، وجدت ذاتها تُهرول مع شقيقها بعد أن أخبرها بانتقاله إلى المشفى بإصابة خَطِرة!
تركت مكانها بجانب أخيها واتجهت نحو هارون بخُطى رتيبة تسأله بتيهة: هو الدكتور قالكم إيه يا عمو؟

نظر إليها هارون وأجابها بعد أن تنهد بثقل: واللهِ يا بنتي لسه محدش طمنا لحد دلوقتي، هما نقلوله دم وأدينا مستنيين أي خبر.
أومأت له ولفت انتباهها صوت نحيب بدور، فاتجهت إليها حتى توقفت بجانبها وقالت مواسية: متعيطيش هو كويس.

لا تعلم أتواسيها أم تواسي ذاتها، هي الآن تائهة بين أمواج كثيفة تُحاول أن تنتشلها لتلقفها غريقة، نظرت للوجوه من حولها علَّها تلمحه من بينهم لكن لا شيء، هو بالداخل يُعاني ويُقاوم الموت وجده، اتجهت أقدامها نحو باب العناية واستندت برأسها على زجاجه، وبهمسٍ تمتمت برجاء أبى أن يهطل معه دمعة واحدة:
قاوم يا حمزة، أنت وعدتني إنك هتطمني، متخلف بوعدك.

صافرة الإنذار بالداخل صمت أذان الجميع، لقد أعلن القلب مُفارقته للحياة بالداخل والأنفاس توقفت عن الدخول والخروج بالداخل!
صوت حركة الأطباء وهمهماتهم العالية وصلتهم، صوت الكهرباء التي حاولوا بها إنعاش قلبه المُتوقف وصلتهم، وأخيرًا الزفرة المُرتاحة التي تعاقبت خلف توقف صافرة الجهاز قد وصلتهم أيضًا ليعود القلب لينتعش مرة أخرى!

شعرت رضوى بالدوار يجتاحها فهرع إليها إلياس يسندها بذراعيه وهو يقول بقوة: إجمدي ومتضعفيش من أولها، هو كويس إهدي.
تعالت أنفاس رضوى بنهيجٍ وظلت تُردد اسمه برجاء ألا يتركها، استندت برأسها على صدر أخيها الذي ضمها إليه لكنها عادت لتنتصب في وقفتها كما حال الجميع عقب خروج الأطباء من غرفة العمليات، ليكون المتسائل الأول هي حنان التي تسائلت بنحيب: ابني عامل إيه يا دكتور؟

طالعهم الطبيب ومن ثَم تمتم بأسف: الحمد لله قدرنا نسيطر على النزيف والجروح اللي كانت في جسمه، بس للأسف المريض دخل في غيبوبة.
عاد حازم إلى المنزل بعد أن قضى ساعات قليلة في العمل، كانت الساعة قد تخطت التاسعة مساءًا ولم يجد تالين بالمنزل، يبدو بأنها نفذت حديثها بالرغم عن أنفه! تنغض جبينه بغضب فرمى محفظة أمواله بغضب وانتشل سلسلة مفاتيحه ثم اتجه إلى الخارج مُجددًا بخطى غاضبة.

اتجه إلى النادي الذي اعتادت السهر فيه مؤخرًا، دار ببصره بين الوجوه لكنه لم يجدها، لكنه لمح أصدقائها يجلسون معًا على طاولة بعيدة على مرمى بصره فاتجه إليهم مسرعًا، وتلك المرة أيضًا لم يجدها، فوجَّه سؤاله إلى إحدى صديقاتها قائلًا: متعرفيش تالين راحت فين يا رنا؟

تفاجئت رنا من وجودِ حازم أمامها فاتسعت عيناها فزعًا عقب رؤيتها له، تجلجل صوتها وهي تنظر إلى صديقاتها ليُساعدونها لكنهن فضَّلن الصمت وتحدثت هي بتلعثم: ل. لأ يا حازم م. معرفش، هتلاقيها روَّحت.
التقط خوفها بعينيّ قناص ماهر وأردف بعينين ضيقتين: بس أنا لسه جاي من البيت وملقتهاش.
معرفش بصراحة، جرَّب تتصل بيها.

كان بالفعل كان هاتفها مرارًا وكالعادة هاتفها خارج نطاق الخدمة، لذلك لجأ إلى سؤال أصدقائها عنها، أومأ ل رنا بصمت ثم شكرها بخفة واتجه مُبتعدًا عن طاولة الفتيات، لكن أذناه قد التقطت حديث واحدة منهم وهي تقول: مقولتيش ليه الحقيقة بدل ما هو سايبها كدا؟
زجرتها رنا بغضب فيما ابتعد حازم بخطواتٍ غاضبة واتجه نحو رجل الأمن، وضع بكفه مبلغ من المال وتسائل بهدوءٍ قاتم: مشوفتش مدام تالين الجداوي؟

أومأ له رجل الأمن بالإيجاب لكنه أجابه بتردد: أيوا يا حازم باشا، بس آخر مرة شوفتها فيها كانت هي ركبت مع هاني بيه عربيته.
ظن منه أن يثور أو يغضب، لكن الأخير طلب منه بهدوء وهو يُشعل فتيل سجاره: هات عنوان هاني دا.

أملى عليه الحارس العنوان فاتجه حازم نحو سيارته مُجددًا واتجه بها نحو العنوان المُملي عليه، وبعد عشر دقائق كان قد وصل إلى وجهته، توقف أمام المنزل ونظر إليه من هلال نافذة سيارته، ثم سحب من رئتيه دخان سيجاره للمرة الأخيرة قبل أن يرميها، فتح صندوق سيارته الذي أمامه وأخرج منه سلاحًا يحتوي على عدد من الطلقات وبعدها غادر السيارة وسار نحو المنزل.

توقف أمام الباب عدة لحظات بصمتٍ مُخيف، قبل أن ترتفع أصابعه لتطرق جرس الباب بكل هدوء، انتظر لدقيقة كاملة حتى فُتِحَ الباب وظهر من خلفه المدعو هاني يرتدي شورتًا قصيرًا وجذعه العلوي يُغطيه بمنشفة بيضاء طويلة، شحب وجهه عقب رؤيته ل حازم فدفعه الأخير للداخل وأغلق الباب خلفه وهو يبتسم قائلًا:
ادخل جوا يا جدع هتبرد!
أنت!

كانت همسة فزعة خرجت من فاهِ هاني وازداد فزعه أكثر حينما أبصر السلاح بين يديه، وفي تلك اللحظة خرجت تالين من إحدى الغرف ترتدي قميص نوم قصير للغاية وهي تتسائل بتعجب لتأخره: اتأخرت ليه يا ه...
قطعت حديثها بشهقة مُنصدمة عقب رؤيتها ل حازم أمامها، والذي رحَّب بها باشمئزاز: أهلًا بال، تعالي قرَّبي متخافيش.
اقتربت تالين من هاني لتختبيء خلفه وهي تقول برعب: اس. استنى يا حازم أنا هفهمك كل حاجة.

لأ أنا مش عايز أسمع حاجة، كفاية عليا اللي شايفه.
وعقب تفوهه بتلك الكلمات، كان السلاح يُوَجه نحو رؤوسهم وفي اللحظة التي تلتها استقرت الرصاصات داخل رأس كليهما دون أن يرف له جِفن أو يشعر بالشفقة تجاههما.

ضاقت به الدُنيا فلم يجد مُتسعًا إلا أحضانها، مال رائف برأسه على صدر نرجس سامحًا لذاته بالبكاء بعد ساعات قضاها في كتمان دموعه، اليوم وارى جسد ابن عمه أسفل التراب، تركه وحيدًا في قبره، الليلة الأولى له دون وجود مَن يُجاوره، الليلة الأولى التي يبيتها بعيدًا عن منزله لكن تلك المرة ستكون للأبد!
مالت نرجس على عُنقه تلثمه برقة قبل أن تقول بحزنٍ بالغ على حالته: كفاية بُكى وعياط يا رائف علشان خاطري.

أجابها مُنفطرًا بفؤادٍ يبكي كمدًا: مش قادر يا نرجس، مش قادر أتخيل إني مش هشوفه تاني، أنا عيني لو سِكتت قلبي هيفضل يبكي عليه العُمر كُله.

أغمضت عيناها بألمٍ وضمته لها أكثر ومن الحين للأخر تطبع قُبلة صغيرة ببن خصلاتها، اشتدت الأجواء بروده فنظر للأشجار التي تتحرك بعنف في حديقة المنزل مُتنبئًا بقدومِ عاصفة وشيكة، لذلك اعتدل في جلسته ومسح وجهه المُبتل وهو يقول بتحشرج: كفاية كدا، تعالي ندخل عشان متبرديش.

وقفت معه واتجها معًا نحو الداخل فوجدا الصمت القاتل يعم المكان، كُلٌ بغرفته يختلي بحُزنه وحده، صعد الدرج معها وعِند آخره نظر إليها قائلًا: روحي أنتِ أوضتنا دلوقتي لحد ما أروح لعمي الأول.
رمقته بقلق وتسائلت: عايز عمك في إيه!
ابتسم لها بشحوب وربت على كتفها بحنو قبل أن يقول: متخافيش مش هيحصل حاجة، يلا ادخلي.

وبالفعل دخلت هي إلى غرفتهم بينما هو سار إلى نهاية الرواق حيث غرفة عمه وزوجته لسؤاله عن آخر التحقيقات التي وصلت إليها قوات الشرطة حول الحادث الذي أنهى حياة ابن عمه الغالي، توقف أمام باب غرفته ورفع كفه، وما كاد أن يطرق عليه حتى استمع إلى صوت صراخ بثينة الذي صمَّ أذانه وجمَّد جسده عن الحركة:
ماكنش المفروض ابني هو اللي يموت، رائف هو اللي كان لازم يموت ونقتله زي ما قتلنا أبوه وأمه زمان.

جالسة ومنزوية في فراشها بعد أن استعادت وعيها، شعرت بآلام جسدها المُبرحة عقب استيقاظها، لأول مرة تشعر بتلك المهانة طيلة حياتها، لم يصل إليها أي حد حتى الآن، تشعر بانسحاب روحها تدريجيًا والبرودة تضرب جسدها بضراوة، انتفضت بفزع حينما رأت الباب يُفتَح ومن خلفه يظهر حسن مُجددًا، لكن ما أثار رُعبها هو حالة عدم الإتزان التي تُسيطر عليه!

انكمشت على ذاتها بهلع وهي تُراقبه يتقدم نحوها، خطوة تلتها خطوة وكانت أنفاسها تتسارع بخوفٍ مميت، اتسعت حدقتاها فزعًا حينما أبصرته يخلع عنه ثيابه فانتفضت من مكانها صارخة به: أنت بتعمل إيه يا حسن أنت اتجننت؟
شششش مش عايزك تضيعيلي الدماغ اللي عاملها وبلاش تتعبيني.

نظرت حولها باستنجاد ومن داخلها يصرخ، تُحاول أن تجد شيئًا ليُنقذها من براثنه لكن دون فائدة، ووسط عتمة تفكيرها وجدت من يُكبِّل جسدها بجسده ويميل عليها ليستبيح حُرمة جسدها، حاولت مُقاومته وضربه وهي تصرخ بانهيار لكن قوته الجُثمانية فاقتها آلاف المرات، دفعها على الفراش بقوة واعتلاها وبدأ في إكمال ما يفعله، صرخاتها لم توقظه، توسلاتها لم تُهمه، بكاؤها وصوتُها الذي جُرحَ لم يُعيره بالًا، بل انتهكها بكل شراسة، حطَّم الفراشة وجعلها رماد، جعلها جسدٌ شارد وروح ميتة،.

والنتيجة كانت؛ لقد اغتصب حسن ابنة عمه تسنيم.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة