رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي والأربعون
تتعثر مهما تتعثر فتظنها قابضة، فتُناجي الإل ه حين تجدها مُتعثرة، تهبط دموع عينك رجاءً فتُفاجأ بها مُتيسرة، وبعدها تتيقن أن المولى أخرَّك لتشكره.
جلس مازن في حديقة المشفى يُتابع السماء بشرودٍ بالغ، لقد اكتمل شفائه تمامًا منذ شهرين تقريبًا، لكن من الحين للآخر كانت تأتي له نوبات عصبية لم يكن بمقدوره السيطرة عليها فيُحطم كل ما أمامه، لذلك فضَّل المكوث أكثر واتباع الأدوية التي وصفها بدران له ليسير عليها، وها هو مُعافى تمامًا، لكن مُتبقي خطوة أخيرة، وهو افتخار الطبيب شفيع به وإظهاره أمام الصحافة والإعلام حتى يكسب مبالغ مالية عالية من خلف دعايته تلك، لكن مهما حدث. لن يسير على خُطى ذلك الحقير أبدًا.
(شفيع دا اللي كان شغال مع حسن وإسلام اللي قتله حسن، وكان مراهن على شفاء مازن علشان هتكون صفقة العمر بالنسبة ليه في المجال النفسي).
قطع خُلوته استماعه إلى صوت أقدام تحتك بالعُشب الأخضر القصير وتقترب منه، وبعدها قفز جسد ضئيل ليجلس بجانبه أتبعه قول الفتاة بحيوية: قاعد لوحدك ليه يا مجنون؟
قلب مازن عيناه بمللٍ من تلك الكلمة التي لم تترك فمها منذ أن رأته، فدائمًا ما تُناديه بالمجنون وكأنها عالمة ذَرة أو ما شابه! طال صمته تزامنًا مع إغماضه لعينيه فتسائلت بريبة ظهرت لذيذة منها: إوعى تكون زعلت والله أزعل منك!
فتح عيناه مُطالعًا إياها بسخرية وهو يُجيبها مُتهكمًا: أزعل منك أنتِ يا ملاك يا بريئة؟ طب يا شيخة ما تقولي كلام غير دا والله عيب!
زفرت براحة وهي تعود بظهرها للإستناد على المقعد الخشبي قبل أن تُضيف: خضتني فكرتك زعلت، المهم أنا طالعة بعد يومين، عارفة إني هوحشك بس دي سُنة الحياة يا مزموزة و...
تجاهل بلاهتها، ولم يُبالي بثرثرتها، وتركها تحلم كيفما تشاء، لكن جاء وجهه ليتشنح حينما نادته ب مزموزة وقاطعها ساخطًا: م. إيه؟ جتك مَو في جنابك يا شيخة هي كانت ناقصاكِ؟ بقولك إيه يا ندى اتكلي من هنا اللي يكرمك مش ناقصة مجانين على المسا.
لم يستمع إلى إجابتها، بل إلى شهقتها السوقية التي أتبعها حديثها الصارخ بغضب: مجانين؟ قصدك إن أنا مجنونة؟ تصدق وتؤمن بالله إنك قليل الزوق؟ وأنا غلطانة أصلًا إني جاية أودعك يا ناكر للجميل والأصول، أنا ماشية.
أنهت حديثها المُتعصب ثم هبت من مكانها بكل غضب واتجهت عدة خطوات مُبتعدة عنه بحدة وهو يُتابعها باندهاش، وقبل أن تبتعد تمامًا استدارت له وصرخت بعصبية مُكملة وصلة حديثها: وأهو أنت اللي مجنون وستين مجنون.
هرولت مُسرعة إلى غرفتها وهي تُتمتم ببعض الكلمات التي لم يفهمها لكنه تيقن من سبها له، وبعد أن اختفت من أمامه ترك العنان لضحكاته بالانطلاق عاليًا، لقد شابهت الصاروخ المُنفعل بعد أن أخبرها بأنها مجنونة ولمرة واحدة فقط، ماذا عنها وهي التي تُناديه هكذا باستمرار منذ أن رأته! هز رأسه يائسًا وتمتم من بين ضحكاته قائلًا:
طب والله مخها طاير مش مجرد كلام!
لستِ عادلة أيتها الحياة، ولستِ مُنصفة بل أنتِ مُعاناة، التقطتِ مني حياتي فتشتتت، وتبعثر فؤادي الهزيل المُتبعثرُ، ارئفي بمسكينٍ مثلي وكوني ورديةٌ، وأُزيل ديجور مُعيشتي الداكنة.
أرسل يعقوب رسالة ما قبل أن يرحل مع الضابط بصمتٍ دون جدال، لم يرَ أيًا من أخواته أو والديه فرجَّح بأنهم لم يعودوا من الخارج بعد، نظر لأوجه العساكر بضيقٍ وعاد بذاكرته ليشرد فيما حدث منذ عدة ساعات مضت، حينما اتفق مع كلًا من بدير وعمران لاختطاف فادي وإبعاده عن حفل الزفاف حتى يعقد قرانه هو و ذكرى، كذلك كلَّف حمزة ومصعب بالقبض على خيري حتى لا يمنع ما خططوا له، وقام بتهديد رؤوف كذلك بتدميره كُليًا إن عارض مُخططه، لكن عن أي قتلٍ يتحدثون هؤلاء؟ ومن ذا الذي قام بالأبلاغ عنه هو تحديدًا؟
زفر مُجددًا وهو يشعر بشيءٍ غريب يحدث من حوله، نظر بعينيه على مرمى بصره فوجد السيارة قد أخذت طريق مُعاكس إلى مكان أكثر غرابة وسكونًا، نظر للوجوه من حوله بحذر فوجدهم يُطالعونه بعدوانٍ، ورغم ذلك لم يخاف أو يتراجع، وإنما تسائل بصوتٍ غليظ: دا مش طريق القِسم، انتوا رايحين بيا على فين؟
والإجابة أتته حينما أخرج أحدهم سلاحه ووجهه ناحية وجهه قبل أن يُهدده بشر: صوتك مسمعهوش يا جدع أنت لحد ما نوصل بدل ما أخلص عليك.
والآن تيقن يعقوب من شكه، لم يُقتَل أحد، تلك لم تكن سوى مؤامرة للإيقاع به وللأسف الشديد قد نجحوا في ذلك، تراجع عن هجومه وتزحزح جسده للخلف مما جعل الأخير يظن بأنه قد أرهبه فأخفض سلاحه، حينها كان يعقوب يجلس في نهاية السيارة من الخلف، فأخرج هاتفه بتسللٍ وعانى لعدة دقائق حتى يبعث لرسالة لأحدهم، وأخيرًا قد نجح في ذلك!
مرت دقائق أخرى حتى توقفت السيارة أخيرًا أمام منزل صغير تقليدي يكاد يتكون من غرفتين وصالون صغير، لكن ما بث الشك في فؤاده أن تلك المنطقة لا يوجد بها سوى ذلك المنزل الصغير ويُحيطها الفراغ الساشع!
هبط الأربعة رجال من السيارة وخلفهم يعقوب الذي يسير معهم بكلِ هدوء، إن قاوم الآن فالخسارة ستكون فادحة ومن نصيبه، وإن لم يُقاوم فمن الممكن أن ينجو إن توصل إليه أحد أشقائه، دلفوا إلى المنزل فكان يخلو من الغرف تمامًا عكس ما كان يظن، بل كان عبارة عن مكان واسع وفسيح يكون به فراش وأريكة وتلفاز صغير، أجلسوه عِنوة على أحد المقاعد الخشبية ثم قام أحدهم بربطه جيدًا حتى لا يفلت منهم.
خليك هنا بقى لحد ما الباشا يجيلك.
نبس بها أحد الرجال ضخم الجثة والذي كان يرتدي حُلة رسمية سوادء بأكملها، وكذلك كان مَن معه، وردًا على حديثه قال يعقوب بسخرية: يجي يا حبيبي وماله، أديني مستني.
رمقه الأخير بهدوءٍ، قبل أن يُكمِل يعقوب حديثه مُنهيًا إياه بغمزه من يُسراه: وبمزاجي.
حكمت المحكمة حضوريًا، على المتهم يعقوب هارون رضوان، بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا مع الأعمال الشاقة، رُفعت الجلسة.
تلك الكلمات صعدت من خلف أحد الأركان من ذلك الذي ظهر فجأة يتقدم ومعه صديقيه اللذان يُطالعون يعقوب بشر! فتح يعقوب عيناه على وسعهما حينما أبصر مَن أمامه، لكن دهشته تحولت إلى غضب حينما وعى لِمَ فعلوه به في ليلة زفافه، مما جعله يهتف باسمه من بين أسنانه بحقد:
ابن الراوي؟
تقدم منه سليم حتى وقف قبالته ونكزه بالعصى الخشبية الغليظة في كتفه بقوة طفيفة وهو يُعدِّل من حديثه: اسمها ابن يزن باشا الراوي بيه يابن الحاج هارون.
رمقه يعقوب بغضب وصاح به مُستنكرًا وهو يتحرك بعنفوان على مقعده: أنت اتجننت يا سليم؟ جايبني هنا في مكان زي دا وفي ليلة فرحي؟ دا أنا هخلي ليلة أبوكوا سودة أنت واللطخين اللي معاك دول.
اشتعلت عينيّ اللطخ. أقصد مدثر الذي كان يتناول رقائق البطاطس المقرمشة باستمتاعٍ شديد وكأنه لم يشترك في خطة اختطافه، ثم اتجه إليه بخطواتٍ غاضبة حتى توقف قبالته صافعًا إياه على مؤخرة عنقه وهو يُعنفه بتوبيخ:
اخرس يا قليل الأدب يا تربية ديرتي، هو أبوك معلممش إزاي تتكلم مع اللي أكبر منك؟
هاجت ثورته وزادت موجة اهتياجه عقب فعلته، فهدده بقوله الصريح: قسمًا بعرش ربنا يا مدثر لو ما فكتني لهعلقك على باب الجزارة، واللي اتعمل فيكوا زمان هعمله النهاردة.
كان يقصد بحديثه ذلك ما حدث منذ عدة أعوام سابقة، حينما عنَّف سليمان أحد الأطفال والذي بكى بعنفٍ، فذهب هو وأخواته للأخذ بثأر الطفل، وبعدها قرر مدثر وسليم وبقية الشباب الإنتقام منه هو وأخواته وذهبوا ليتشاجروا معهم، لكنهم قد هُزموا لجُبنهم!
قطب مدثر جبينه بانزعاجٍ من تذكير يعقوب له بتلك الذكرى، فتحدث ساخطًا: لأ يا حبيبي فوق، مدثر اللي قدامك دا غير مدثر بتاع زمان، أنا دلوقتي أقوى وأقطعك أنت وإخواتك الأندال.
ضحكة ساخرة خرجت من جانب فم يعقوب الذي رمقه بانفعالٍ غُلِّف بالاستنكار، وما كاد أن يتحدث ويُجيبه، حتى قاطعه صوت يحيى الذي مد يده ل مدثر وقال بفمٍ مُمتليء: خُد ياض يا مدثر دوق طعم الشيبسي دا! دا بالفِجل والجرجير.
استدار له مُدثر مُسرعًا وانتشل منه رقائق البطاطس المقرمشة ليتزوقها، وعقب تذوقه لها اتسعت عيناه انبهارًا وهو يقول: دا طعمها طعمية!
انكمش حاجبي يحيى ونفى برأسه قبل أن يقول: طعمية إيه يا عم! بقولك فِجل وجرجير.
وعلى مقربةٍ منهم، جز سليم على أسنانه بغيظ وهو يرى شجاراتهم التي تُماثل شِجار الأطفال أو أكثر قليلًا، لعنهم في سِره وأرسل إليهم نظرة نارية تجاهلوها وهما يتناقشان في ذلك الطعم الحربي الذي توصلا إليه، لذلك قرر أن يُهديء من روعه حتى لا يُصاب بأزمة قلبية تضر من صحته، واستدار مُجددًا نحو يعقوب الذي يرمقه بشماتة، مما دفع سليم ليقول بغيظ:
بتضحك على إيه أنا عايز أفهم؟
تحركت رقبة يعقوب على الجانبين حتى استمع إلى صوت فرقعة فقراتها، ثم ضيَّق عيناه بخبثٍ مُردفًا بكلماتٍ توحي بخطته: أنت عارف إنك لو مفكتنيش ودلوقتي حالًا يزن باشا هيوصله خبر إن ابنه المصون الشريف العفيف بيشرب سجاير وبيقضي يومه مع تجار مخدرات!
ابتسم باردة ارتسمت على شفتي سليم، تلك الابتسامة التي تُشبه خاصة أبيه، حتى نفس ردة الفعل واللامبالاة القاتلة، قبل أن ينحني ويقترب منه بوجهه فبات مُقابلًا له مُباشرةً، ومن ثَم قال:
قوله.
استغل يعقوب اقترابه هذا وعاد برأسه للخلف ثم صدمها برأس سليم بقوة أدت إلى تأوهه بعنفٍ شديد، وأعقب فعلته بضحكة سمجة وقولٍ بارد: هقوله يا ابن الراوي.
اشتعلت عيني سليم بغضبٍ جامح، فاعتدل شامخًا في مكانه بعد فعلة يعقوب التي أتت على بغتة، وابتسم بشرٍ جعل الأخير يُطالعه بحذر، فكَّ أزرار ساعده وبدأ في طيها وهو يتحدث بهمسٍ يعكس ما سيفعله بعد لحظات:
يعني في المرة الأولى اتجوزت وقولنا معلش جَت فجأة ومعاه عُذره، لكن المرة التانية تتفق وتخطط وترتب ومتعرفناش؟ يبقى أنت كدا صاحب لموأخذة.
هو مين دا اللي مقالكش؟ هو مش بدير أخويا قالكم وانتوا اللي مجيتوش؟ يبقى مين اللي من حقه يزعل دلوقتي، أنا ولا أنت يا بجح!
رمقه سليم باستغراب وكذلك انتبه كلًا من مُدَّثِر ويحيى لحديثه، قبل أن يتشدق مدثر بتفكير: إيه دا هو بدير بيكلمني عشان يعزمنا؟
اتسعت عيني سليم للحظات وبانَ فيهما الإندهاش، كذلك حدجه يحيى بسخطٍ بعد أن ابتعد عنه، ابتلع مدثر ريقه بتوتر قبل أن يرسم ابتسامة بلهاء على وجهه ويتبعها بقوله: يقطعني يا شباب دا أنا نسيت أقولكم!
دا أنا هخلي ليلة أهلك طين النهاردة على دماغك.
صرخ بها سليم بعنفوانٍ في وجه مدثر الذي عاد للخلف عدة خطوات، وقبل أن يتجه سليم ناحيته للكمه، استمعوا جميعًا إلى صوت جلبة صدر من حولهم في المكان، نظر بعضهم لبعض بتعجب، وقبل أن يتسائل أحدهم عن سبب تلك الضجة، كُسِرَ الباب بعنف ودخل عدد كبير للغاية من الرجال، يكاد عددهم يتعدى العشرون رجلًا، لطم يحيى على وجهه وصرخ في المقابل:
يالهوي هيموتونا، هيموتونا.
أمسك سليم العصى الخشبية الغليظة وشدد من الضغط عليها صارخًا بمن يُقابله: لو حد قرب هكسر دماغه.
ارتسمت ابتسامة استهزاء على وجه الرجال، وعلى حين بغتة. وجد سليم جسده يعود للخلف بعنف حتى اصتطدم ظهره بالحائط من خلفه، اشتعلت عيناه غضبًا، وما كاد أن يأخذ أي ردة فعل أخرى، حتى شعر بجسده مُكبل بواسطة رجل ضخم البنية، تلوى صارخًا وساببًا لكن الأخير لم يُعيره أدنى إهتمام، فيما صرخ مدثر على مَقربة منه وهو يُهدد:.
اللي هيقرب منه هقطعه، أنا قولتلكم أهو!
صاحب العينان الرمادية يُهدد! هذا من عجائب الدنيا الثمانية حقًا، لكن بالطبع لم يُعيره أحد أدنى إهتمام وتم تكبيله ك سليم و يحيى وارتموا أرضًا، مما جعل يحيى يوبخهم بعنفوان: انتوا اتجننتوا؟ انتوا مش عارفين أنا مين ولا إيه؟
رمقهم يعقوب بشماتة قبل أن يذهب إليه أحد رجاله ويقوم بفك وثاقه، وقف في مكانه شامخًا واقترب منهم تحت نظراتهم المذهولة، أثارت حالتهم ضحكاته فهتف هازئًا:
أصبح المخطوف هو الخاطف، اشربوا بقى.
زوى سليم ما بين حاجبيه قبل أن يسأله بحذر: هي الرجالة دي تبعك؟
أومأ له يعقوب مُتصنعًا قلة الحيلة، وانتقل بأبصاره على كُلٍ منهم على حدة، قبل أن تتسع ابتسامته ويقول: بس أنا مش هعمل فيكم حاجة، عارفين ليه؟ عشان عاذركم، بس هخليكم هنا شوية حلوين، وكمان هبعتلكم أخويا بدير يونسكم في القعدة المُشرفة دي.
فكني يا يعقوب ما بلاش جنان، دا إحنا كنا بنهزر معاك يا جدع!
هتف بها مدثر بضيق تحت شماتة يعقوب الواضحة، ومن ثَم أضاف مُقترحًا بلهفة: أو فكني أنا و يحيى بس وخلي سليم، هو أصلًا صاحب الفكرة من الأول وأنا فضلت أقوله يا سليم عيب ميصحش بس هو مسمعش كلامي.
أيد يحيى حديثه بقوله المؤكد: أنا أدعم الكلام الجميل دا، اخطف سليم أو حتى اقتله إحنا معندناش إعتراض، بس سيبنا إحنا عندنا عيال وعايزين نربيهم.
صوت ضحكة ساخرة خرج من بين شفتي يعقوب الذي تمتم ساخرًا: تربية؟ ومنك أنت يا يحيى؟ يا شيخ اتوكس.
تجعد وجه يحيى بضجرٍ ومن ثَم قال: لأ عندك، أنا ولادي متربيين أحسن تربية، دا كفاية إن أنا أبوهم.
تجاهل يعقوب قوله الأخير بابتسامة صغيرة واقترب من ثلاثتهم حتى بات على مسافة صغيرة للغاية منهم، وعلى بغتة انحنى وانتشل هاتف سليم من جيب بنطاله تحت صرخات الأخير المُستنكرة: .
قول إنك طعمان فيا يا ندل يا حقير.
التمعت عينيّ يعقوب بخبثٍ بالغ، وارتسمت ابتسامة غير طيبة تمامًا على ثُغره، قبل أن يعبث بهاتف سليم تزامنًا مع قوله الماكر: يا ترى هيكون إيه رد فعل يزن باشا لما يعرف إن ابنه الوحيد اتخطف؟
ازدادت تقطيبة جبين سليم الذي رد عليه بسخرية: وأنت مفكر إن محدش هيجي يساعدنا؟
لتكون الإجابة الحاسمة من يعقوب هي:
هيلب يور سيلف يا روح أمك.
وعلى الجانب الآخر، كانت ذكرى تأكل المكان ذهابًا وإيابًا بعد أن منعها يعقوب بصرامة من اللحاق به، هبطت دموعها بعنفٍ بعد أن عجزت عن الوصول لأيٍ من سكان المنزل، فبالرغم من تأخر الوقت إلا أنهم لم يأتوا حتى الآن، حتى هاتف أخيها لا يمكنها الوصول إليه، يبدو أن هذا الخبيث استغل انشغال الرجال عنه واستفرد بالجلوس مع بدور.
سارت للصالون وأمسكت بعدة محارم ورقية لتُجفف دموعها، وفي تلك الأثناء أهداها عقلها للمحاولة مرة أخرى بالإتصال على هارون، وبالفعل اتجهت مُسرعة إلى هاتفها وعبثت به قليلًا حتى أتت برقم هارون، وانتظرت لثوانٍ مرت كالدهر عليها وهي تنتظره ليُجيب، وبالفعل أجاب ولحُسن حظها، فتحدثت بلهفة:
إلحقني يا عمو يعقوب اتقبض عليه.
كان هارون في تلك الأثناء جالسًا مع حنان في أحد المطاعم المُطلة على النيل، ورغم شعبية المكان إلا أنه يبث الدفيء في النفوس، مع صوت المذياع الذي يُلقي على مسامع الجميع أغانٍ قديمة الطراز، كُلٌ مع عاشقه و هارون يُحاط بقُدسية وجوده مع حنان!
كان هادئًا، لكن بعد أن استمع إلى حديث ذكرى قطب جبينه بقلقٍ وتسائل بتروٍ في محاولةٍ منه لِفهم ما حدث بالضبط: اتقبض عليه إزاي يعني؟ إهدي يا ذكرى واحكيلي اللي حصل بالراحة عشان أعرف أتصرف.
كلماته جذبت كلمات حنان التي انتفضت مُعتدلة في مكانها وتسائلت بفزع: مين دا اللي اتقبض عليه؟ إيه اللي حصل يا حج؟
أشار لها هارون بيده كعلامة للسكوت، ثم انتبه إلى حديث ذكرى التي بدأت تقص له كل ما حدث، وبعد أن انتهت قطب هارون جبينه بريبة وتمتم قائلًا: طيب خلاص إهدي ومتقلقيش، أنا هكلم حمزة وهفهم منه كله حاجة.
هبطت دموع ذكرى بتسارع على صفحات وجهها الذي لُطِّخَ بفعل مساحيق التجميل، وقالت برجاء: ابقى طمني يا عمو اللي يخليك.
أومأ برأسه وقال يُطمئنها قبل أن يُغلق الهاتف معها: حاضر يا بنتي متقلقيش، اقفلي أنتِ دلوقتي لحد ما أفهم الحوار وهرجع أكلمك تاني.
وما إن أغلق الهاتف مع زوجة ابنه، التقطته حنان بسؤالها القلق: إيه اللي حصل يا حج؟ ابني ماله.
أجابها تزامنًا مع عبثه في هاتفه للبحث عن رقم أحد أبنائه: ذكرى بتقولي إن يعقوب اتقبض عليه، هكلم حمزة أو مصعب يتابعوا الموضوع لحد ما أروحله أنا بنفسي.
لطمت حنان على صدغها برعبٍ وعيناها جاحظة بعدم تصديق وهي تهتف قائلة: يا مصيبتي؟ اتقبض عليه؟ ليه عمل إيه؟
رد عليها هارون بنفاذ صبرٍ ناتج عن توتره وقلقه: معرفش يا حنان، معرفش.
وضع هاتفه على أذنه وانتظر للحظاتٍ مرت كالدهر، توتره يفوق كُل تحمله الآن، لم يُخبر زوجته عن سبب القبض عليه كما أخبرته ذكرى، لكنه يشعر بنبضات فؤاده تكاد أن تُغادر صدره، تلك النبرة الجريحة التي تحدثت بها ذكرى أعلمته عن خطورة الوضع، كانت كطائرٍ ينزف وينتظر موعد صعود روحه، وهو تأثر بحالتها تلك!
ألو يا حمزة؟ أخوك اتقبض عليه تابع معاه القضية لحد ما أجيلك.
وعلى الناحية الأخرى، كان حمزة مُستلقي على ظهره بكل راحة وبجانبه تجلس رضوى تأكل الذرة المقلي بنهمٍ شديد، ربت على ظهرها بحنوٍ تزامنًا مع إجابته على أبيه:
لأ يا حج متقبض عليه ولا حاجة، هما بس صحابه حبوا يهزروا معاه هزار تقيل حبتين وعملوا فيه مقلب.
ظل هارون صامتًا لثوانٍ وكأنه يُحاول استيعاب الكلمات التي أُلقيَت فوق مسامعه، أي مزاحٍ هذا الذي يدفع الشباب لأخذ عريس في ليلة زفافه من عروسه؟ أهذا مزاح حقًا أم إنه طيش شباب تكاسل أهلهم عن تربيتهم كما تكاسل هو في تربية أبنائه؟ لكن هو لم يتكاسل في تربيتهم والجميع يشهد بذلك، أخلاقهم مُنحطة بدون سبب، لذلك يبدو أن هؤلاء الشباب كذلك أيضًا!
ضيَّق هارون عيناه بشكٍ وهو يسأل ابنه بحذر ممزوج بالوعيد: وأنت كنت عارف؟
شعر حمزة بالريبة من نبرة والده، فاعتدل جالسًا في مكانه وهو ينبس بتردد: آه.
وعقب كلمته البسيطة للغاية، أغمض عيناه بحذرٍ وهو يتلقى الشتائم والسباب من أبيه، يصرخ ويلعن وجوده هو وأخواته كما في المعتاد، يشكو ربه منهم ويعود لسبه وشتمه من جديد، فيما حرَّك حمزة شفتيه يمينًا ويسارًا وهو يعلم أن ليلته لن تسير سير الوفاض، وإنما سيهدم أبيه المنزل فوق رأسه إن استطاع، وما أكدَّ له حدسه هو إنهاء هارون الحديث بقوله:
اتفوخس عليك وعلى تربيتك أنت وإخواتك، أشكال تجيب الهم والفقر.
وعقب كلماته المشحونة بالغضب والناتجة عن خوفه، أغلق الهاتف بوجه حمزة الذي نظر إلى شاشته باستياء، فيما كانت تُراقب حنان الوضع بقلق أمومي فطري، وقبل أن تسأله عما حدث تمتم هارون بضيق:
ابنك كويس ومتقبض عليه ولا حاجة، ولادك بيحبوا يستعبطوا.
أرسلت له نظرة مُتسائلة فقصَّ عليها ما حدث باختصار تحت انكماش ملامحه بسخط، هدأ قلقها قليلًا زافرة بحرارة مُشتعلة، أولادها سيظلوا أطفالًا مهما امتدت سنون عمرهم، تلك البقعة الطفولية التي تفرض سيطرتها على شخصهم اليافع لطالما سبب لها هي وزوجها القلق، لكنها تعود وتسعد حينما ترى سعادة أبنائها المُنعكسة داخل أعينهم.
لفت انتباهها ملامح وجه هارون التي مازالت مُنقبضة بعدم رضا عن أفعال أبنائه الطائشة، فمدت يدها تُمسِك بكفه لتضغط عليه وهي تقول بابتسامة هادئة:
متزعلش نفسك يا حج، ولادنا هيتدلعوا على مين يعني لو متدلعوش علينا؟
زفر هارون قبل أن يقول بعدم رضا: مابقوش صغيرين يا حنان على لعب العيال دا، فيه حاجات ينفع نعديها وحاجات لأ.
معلش متزعلش أنت نفسك بس وكل حاجة هتعدي والله.
وأمام حنانها هذا لم يجد سوى أن ثُغره يبتسم لها وبسببها فقط، لطالما كانت كلماتها كالبلسم وتأخذ من اسمها معانيها، حنان. وهي تلك الحنونة التي تُغدق الجميع بأمواج عاطفتها وحُبها اللامحدود، شدد من الضغط على كفها بعد أن هدأ غضبه ولم يعد يرى سواها، وعيناها تأخذه لأعوامٍ عديدة مضت عاشا فيهم بنعيم جنتها المُحرمة في البداية، ولاإراديًا وجد ذاته يسألها بحنين:
فاكرة بداية جوازنا كانت إزاي يا حنان؟
خرجت ضحكة مُنطلقة من بين شفتيها رغمًا عنها، ضحكة ضحكت مثلها حينما بدأت تقع في شباك عشقه اللامحدود، وعبرت عن مكونات صدرها بجُملتها البسيطة في ظاهرها والتي تحمل معانٍ كثيرة في باطنها:
وهو اللي بينا يتنسي مع الزمن يا هارون؟
وعقب انتهائها من عبارتها، عادت ذاكرة كلاهما لنقطةٍ ما في الماضي، وتحديدًا ليلة زفافهما في منزل الزوجية خاصتهما، حينها كانت عروس يافعة تحمل من الجمال أسمى معانيه، لكن ما عكَّر جمالها هي تلك النظرة الشائكة التي سددتها له قبل أن تقول بحدة:
اسمع يا جدع أنت، كلها كام شهر وتطلقني وتقول إن اللي بينا قسمة ونصيب.
زفرة مُشتاقة أطلقتها حنان بعد أن غامت عيناها بتلك الذكرى في أول ليلة لهما، قبل أن تُعانق عينيّ هارون التي كانت تحتضن كل إنشٍ في وجهها دون الإقتراب، ومن ثَم قالت:
لو كنت أعرف إن قسمتي ونصيبي هيكونوا معاك أنت ماكنتش عملت اللي عملته زمان.
ابتسامة مُشاكسة ارتسمت على ثُغر هارون قبل أن يدفنها أسفل قناع الطِيبة الزائف وهو يقول بمسكنة: حد كان يتوقع إن العروسة ترفع السكينة على عريسها في ليلة فرحهم؟
اتسعت ابتسامتها حتى بانت نواكزها، فتعالت ضحكاتها بخفة قبل أن تنكزه في كتفه وهي تقول: قلبك أبيض يا هارون أنت لسه فاكر؟
أنتِ قولتيها من شوية، اللي بينا مستحيل يتنسي مع الزمن يا حنان.
ومع نُطقه لاسمها عادت ذاكرتهما ليومٍ ثانٍ في بداية زواجهما، حينما ارتدى ثيابه وقال أثناء ترتيبه لخصلاته أمام المرآة: أمي وإخواتي جايين يزورونا النهاردة، إعملي حسابك في أكل زيادة.
مبعملش أكل.
هتفت بها حنان ببرود وهي تستند بظهرها على الوسادة من خلفها ونظراتها الجامدة تستقر على وجهه الذي انكمش باستغراب من ردها، استدار لها واقترب منها على مهلٍ أثار توترها وجعل نظراتها تهتز، وقف قبالتها مُباشرة وانحنى قليلًا حتى أصبح وجهه مُقابلًا لوجهها الحَسن وهمس بنبرة بثت التردد في أوردتها:
قولتي إيه؟
ابتلعت ريقها ونظرت إليه باهتزاز من قُربه المُبالغ فيه، لذلك قررت التراجع عن عنادها بقولها: م. مفيش رُز أعمل بيه الأكل.
ابتسم لها باستفزاز قبل أن يرفع كفه ويُربت به على جانب وجهها برقة ثم أردف: هجيبلك يا حياتي مفيش مشكلة.
خرجت حنان من شرودها على ضحكة هارون الخافتة وهو يقول: عنادك كان سبب أغلب مشاكلنا، وعصبيتك كانت نار في حياتنا.
حنيتك عليا وقت غضبي كانت بتطفيه.
قالتها بحبٍ وهي تتذكر عصبيتها المُفرطة بعد زيجتها من العامل البسيط لدى أبيها، حينها كانت مثل أغلب الفتيات تتمنى فارس يأتي بحصانٍ أبيض لينتشلها من حارتهم البسيطة، لكن أتى الواقع ليضرب بأحلامها عرض الحائط وتتزوج من رجل فقير ليس لديه سوى قوت يومه! رفضت وثارت وأعلنت رفضها في البداية، لكن أبيها أصرَّ على زواجها من هارون بسبب حُسن أخلاقه، وللحقيقة هيشاكرة لقدرها أولًا ولأبيها ثانيًا.
ومقابلًا لها كان هارون يُفكر بنفس الشيء، حينما كان شابًا في مقتبل الحياة، يضطرب بين جدران الطريق الشائك دون وجود مَن يُنجيه أو يأخذ بيده، لكنه صبر واحتسب أجره على الله، كان الأكبر بين ثلاثة رجال ووالدته، فكان الحِمل ثقيلًا فوق كاهله خاصةً بعد وفاة أبيه، وما كان يُؤرقه حقًا هو خوفه من زواج أميرته بعيدة المنال، كان يعشقها سِرًا، يكتفي بمتابعتها من بعيد، يُحدثها داخل قلبه ولا يقدر على البوح، ولِمَ لا وهو كان مُجرد عامل لدى والدها! لكن بعد عدة أشهر قرر المُجازفة وطلب يدها، وللعجب وافق والدها بسهولة جعلته يستغرب لها بحق!
رمش هارون عدة مراتٍ قبل أن يعود لواقعه الجميل بوجودها، أطلق زفيرًا مُرتاحًا قبل أن يقول بامتنانٍ سخي: اخترتك من وسط الكل وقت ما كنت تايه.
ككل مرة يُغازلها بها تشعر وكأن مشاعرها مازالت عذراء لم تشوبها شائبة، كصبية في مُقتبل حياتها تنتظر من يسقي بتلات زهورها لتنمو من جديد، ليكون ردها على حديثه أن قالت بتمني:
ياريت أكون أنا الاختيار في حياتك دايمًا يا هارون.
كنتِ وهتكوني أول وآخر اختيار في حياتي يا حنان.
حادث هارون زوجة ابنه منذ نصف ساعة ليُطمئنها على يعقوب، فأخبرها بتبرير: جوزك جايلك يا ذكرى يا بنتي وهينام في بيته الليلة دي متقلقيش.
شكرته بعد أن هدأت دقات فؤادها الصاخبة، كم شعرت بأن أمانها يُسحب منها مُجددًا، سرت الطمأنينة في أوردتها ثم دخلت إلى غرفتها لتبديل فستانها بثياب شتوية ثقيلة ناسبت الأجواء الباردة من حولها، كانت ذات فرو نبيذي قاتم، كذلك استكملت روتين بشرتها بعد أن أهملت في ذاتها لفترة لا بأس بها، وبعدها وضعت مرطب شفاه ثم تركت لخصلاتها العنان لتستقر خلف ظهرها بحرية.
نظرت لذاتها بأعيُن راضية، هي جميلة ولا شكٍ في ذلك، لكن ملامحها كأغلب الفتيات ليس بها شيء مُميز، لكن يعقوب وللعجب يراها أجمل نساء الأرض! تنهدت بارتياح بعد مكالمة هارون لها، واصطبغت عيناها بالمشاكسة وهي تُتمتم ضاحكة:
عيني عليك وعلى حظك يا حبيبي! مبتلحقش تتهنى.
دارت بعينيها في محتويات الغُرفة التي انتبهت لها للتو، لقد غيَّر كل شيء بها حتى أثاثها، بدَّله لآخر أكثر حداثة ورُقي، فقام بطلاء الغرفة بلون كريمي هاديء ومُريح، وتوسط الغرفة فراش كبير أخشابه طُليَت باللون الأسود الراقي، وعلى الجانب حيث ثوجد الشُرفة، وضع ستار كبير مكون من قطعتين، واحدة بيضاء شفافة بها نجوم صغيرة، والأخرى تعلوه إلا من المنتصف من اللون الزيتوني القاتم، كذلك كان لون الأريكة الموضوعة جانبًا زبتونية اللون.
ابتسمت ذكرى مُعجبة بذوقه الرفيع في انتقاء الأثاث بكلِ حرص، يتشابهان معًا في كل تفصيلة تمر في حياتهما، حتى في اختيار أثاث منزليهما، فهي تُفضل الألوان المُريحة عن القاتمة الأكثر أناقة، كذلك هو أيضًا!
تركت الغرفة وبدأت بالتجول في أرجاء المنزل، بداية من الصالون الواسع الفسيح، حتى غرفة الأطفال التي تضم فراشين صغيرين ويتوسطهما كومود صغير من اللون الأبيض، وحوائط الغرفة من اللون السماوي الهاديء والمرسوم عليها نجوم صغيرة ذهبية اللون، تركت الغرفة بنفسٍ راضية ومن ثَم اتجهت إلى غرفة الضيوف، أثاثها راقٍ بشكلٍ أثار حواسها، والسؤال الوحيد الذي دار بخُلدها في تلك الأثناء هو:.
هو يعقوب وارث وأنا معرفش ولا إيه؟
مطت شفتيها بتفكيرٍ جَلي وهي تستكمل رحلة الاستكشاف، أثار انتباهها المطبخ المُضيء بإناراتٍ خافتة، اتجهت إليه بخُطى ً وئيدة ثم مدت أناملها لفتح مقبس الإضاءة، وما حدث بعدها أنها فتحت عيناها بانبهارٍ شاسع، فما تراه أمامها لم يكن سوى تحفة فنية بالمعنى الحرفي، فهو كان عبارة عن مطبخ كلاسيكي مصنوع من الخشب المطلي بلون البنفسج، وأطرافه من اللون الزيتوني الفاتح، كما كان يتوسطة طاولة مستديرة حديدة ويعلوها رُخام أبيض اللون، وكل رُكن به مليء بالزهور، لن تُبالغ إن قالت بأن المكان كان عبارة عن حديقة مُغلقة بها أدوات الطبخ لا أكثر وفُرن كبير الحجم لصُنع مخبوزاتها كيفما تشاء!
وضعت كفها موضع قلبها علها تُسيطر على دقاته الهادرة، هذا ال يعقوب لا يفعل شيء سوى أنه يُغرقها في أمواج عشقه كل يومٍ عن ذي قبل! وللحقيقة المكان استفز الطاقة الكامنة داخلها فشمرت ساعديها وتأهبت لصُنع فطيرة التفاح! دلفت أول خطواتها للداخل، فالتقطتها رائحة الزهور التي تُعبيء المكان، مما دفعها إلى إغماض عينيها باستمتاعٍ شديد، ثم فتحتهما مُجددًا بحيوية أكثر واتجهت نحو البراد لتُخرج مكونات الكعكة التي بدأت في إعدادها.
وبعد ما يقرب من العشرين دقيقة، انتهت من صُنع كعكتها ثم وضعتها في الفرن حتى تنضُج، رمقتها بابتسامة مُفتخرة من خلف الزجاج وبدأت في تخيل ردة فعل يعقوب حينما يتذوقها، مما جعل ابتسامتها تتسع أكثر حتى بانت نواجزها، اعتدلت في وقفتها ثم خلعت المريول عنها وقفازات الطبخ وخرجت حتى تستكشف تلك الغرفة التي لم تدخلها بعد.
وهُنا. حيث تلك الغرفة. كان كل شيء قديم وباهت لكنه مُريح في الوقتِ ذاته، فمساحة الغرفة كانت واسعة ولا بأس بها، في الأمام موضوع كومود كبير نسبيًا ويعلوه جهاز المذياع القديم ومُرتص بجانبه شرائطه والتي تحوي أغانٍ مُختلفة لفنانين شتى، وعلى الجانب الأيمن يوجد شُرفة صغيرة للغاية يوجد بها مقعدين وطاولة صغيرة للغاية وجميعهم باللون البُني الداكن، والجانب الأيسر هو أكثر ما جذب انتباهها، حيث مُعلق على حوائطه أوراق جرائد قديمة ومُعلق عليها آلة الجيتار الخاصة ب يعقوب، مما استفز خلاياها لتجربة الغناء بها!
التقطتها ثم اتجهت بها إلى الشُرفة لتجلس على مقعدها، وببطئٍ وضعت آلة الجيتار على قدمها، ثم أمسكت بها من طرفها بيد، وباليد الأخرى بدأت أناملها بالعزف كما تعلمت منذ عدة سنوات، عزفها لم يكن مثاليًا، لكن ما كان مثاليًا بحق هو صوتها الشجن والسالب للدقات وهي تُغني:.
إلا إنتَ، فيها إيه الدنيا ديَّا إلا إنتَ، إلا إنتَ. كل غالي يهون عليا إلا إنتَ، وابتساماتي وآهاتي منك إنتَ، واللي حبيته في حياتي هو إنتَ، فيها إيه الدنيا. فيها إيه الدنيا ديَّا إلا إنتَ
كلماتٌ استمعت إليها بأذُنيها من قبل، لكن الآن فقط تُغنيها وتسمع بقلبها، لا يوجد في الدنيا سواه. يعقوب، لا أغلى من عيناه، ولا أنقى من قلبه، ولا أجمل من ضحكاته، هو يعني لها كل شيء، هو كيانها باختصار!
كانت غافلة عن ذا الذي احتل خُلوتها، يقف مُستندًا بكتفه على طرف الباب ويُربع ساعديه أمام صدره، عيناه تُعانقها دون الاقتراب، وصوتها يحتله بلا إنذار، لطالما كان كُل شيء بها ساحر لدرجة مُفرطة، وهذا ما يُرهق قلبه المسكين، ضحكتها، ابتسامتها، عفويتها، حيويتها، حديثها، بكائها، حُبها، وعشقها اللامُتناهي، هي ك لوحة فشل فنانٌ بارع في رسمها فصوَّرها.
اقترب بهوينهة حتى بات خلفها، ثم انحنى بجسده حتى بات وجهيهما مُتلاصقان، الأمر الذي جعلها تنتفض بخضة لولا أنه ثبتها في مكانها وضمها من الخلف وهو يقول بمشاكسة:
صوتك حِلو بس عزفك يقرف.
أبعدت يداه ووقفت في مكانها وهي تُطالعه بذهولٍ دام للحظاتٍ قبل أن تتسع ابتسامتها تدريجيًا فرحةً بعودته وتنطلق إلى أحضانه، وهو لم يدخر وسعًا في إحاطتها، بل شدد في ضمها إلى صدره وكأنها الغاية الوحيدة له في تلك الحياة، ولم يستعجب من حالة فؤاده الذي يُرفرف عند ضمها، فمن قبل أزهرت حياته بوجودها، والآن ينضج ثمار نبتة الحب التي سقتها بعشقها.
بينما هي كانت في وادٍ آخر تضمه فيما كانت مشاعرها تتضارب بأحاسيسٍ مُتبعثرة، رأت فيه الزوج، وكان نِعمَ الزوج، رأت فيه الصديق وهو أفضل صديق، رأت فيه الخليل واتخذته هو الرفيق، رأت فيه الأب وانتشلها من حرمانها الوئيد، عوضها عن أشياء كثيرة رأت بها القسوة من قبل، وهو جاء ليُقدمها لها على طبقٍ من ذهب!
أخرجت وجهها من بين ثنايا عنقه حيث كانت تدفن وجهها، وأحاطت بوجهه بكلتا يديها ومن ثَم قالت بدموعٍ مُتحجرة وجدت صداها في فؤاده:
متسبنيش تاني يا يعقوب، أنا كنت تايهة من غيرك.
عَلِم أن الوقت هو وقت المواجهة، لكن عتابه لم يكون قاسيًا كما توقعت، بل كان كملمس يدٍ حنونة تُطيب جروحها حينما قال:
يعلم ربنا إن توهتك دي كانت على عيني، وبُعادي عنك ماكنش غير ليكِ وعشان خاطرك.
خاطري مكسور بعيد عنك.
أمسك بكفها ثم قبَّل باطنه قبل أن يقول: سلامة خاطرك من الكَسرة.
ابتسمت له نصف ابتسامة لم تصل إلى عينيها، وتركت العنان لنظراتها لتتشرب معالم وجهه التي اشتاقتها حد الجنون، بلا خجل أو أي حدود، هو اليوم زوجها أمام العالم بأكمله، دون فضيحة أو حتى إجبار، اختارها رغم خطيئتها، وعفى عنها رغم جحودها، رقيق القلب ونقي الروح أصبح زوجها من جديد!
وتلك المرة أخذت هي الخطوة الأولى لتلثم وجهه بقُبلة مطولة أودعت بها عشقها وامتنانها اللامتناهي له، اتسعت ابتسامة واقترب ليطبع قُبلته الخاصة هو الآخر، لكنه انتفض على شهقتها وهي تصرخ بجزع:
الكعكة في الفرن!
راقب هرولتها بوجهٍ مُشنج وعينين تُطلق سخطًا، قبل أن يهمس مع ذاته: كعكة؟ دا أنتِ وش فقر صحيح!
لم تكن الوعود إلا للأقوياء، والحُب ما هو إلا سِمة للأنقياء، ودائمًا ما كان الطيبين للطيبات.
استغل إلياس انشغال الجميع وأخذ بدور لأحد المطاعم العادة حتى يتناولا العشاء، كان ينظر إليها من الحين للآخر، وفي كل مرة يسقط في عشقها من جديد!
لاحظت بدور نظراته المُوجهة إليها فابتسمت بخفة وهي تسأله بخجلٍ فطري: بتبصلي كدا ليه؟
تشرب معالمها في نفس الوقتِ الذي هربت هي من نظراته حرجًا، عضت على شفتيها وهي تستمع إلى تصريحه العفوي والغير مُفتعل بالمرة: مستغرب إزاي ربنا ممكن يخلق حد جميل كدا في كل حاجة!
شبَّكت بدور أناملها معًا وهي تضغطهما بقوة ولا تعلم بما تقول أو تتحدث، لم تكن المرة الأولى التي تستمع فيها لمغازلات الجميع من حولها، لكت تلك المرة تحديدًا تشعر بمدى صدقها خصيصًا منه هو، لذلك تشدقت بصوتٍ هامس:
بس يا إلياس مينفعش كدا!
استمعت إلى زفرته الحارة والتي أعقبها قوله: لو تعرفي إزاي أنا كنت مانع نفسي عنك طول الأيام اللي فاتت هتعذريني، كنتِ قريبة مني بس في نفس الوقت بعيدة ومش قادر أقرب منك، كنت خايف عليكِ أسببلك أي مشاكل بسببي، علشان كدا كنت بعيد، بس قلبي كان عايزك ومعاكِ طول الوقت، من أول يوم شوفتك فيه وأنا حاسس بحاجة غريبة من ناحيتك، لحد ما قربتي أكتر وحبيتك أكتر وأكتر، بس للأسف كان فيه ألف حيطة سد ما بيننا ولو قربت أنتِ أول واحدة هتتأذي.
وبرغم حرجها، إلا أنها ابتسمت بخفوتٍ وهي تقول بهدوء ممزوج ببتلاتٍ من العشق الذي بدأ ينمو داخلها تجاهه:
كنت حاسة إن فيه مشاعر عندك من ناحيتي علشان كدا كنت ببعد نفسي عنك أغلب الوقت، أينعم ماكنتش مرتاحة في جوازي الأول وكان شِبه راجل، بس أنا ماكنتش عايزة اتحط في خانة إني أكون خاينة حتى لو اللي معايا ميستاهلش.
حديثها زاد من مكانتها في عينه، تلك الفتاة تُشبه العنقاء في قوتها والطير في رقته، مزيجٌ لذيذ لرجلٍ مثله يهوى القوة والرقة والسلام، وهي بطبيعتها الفطرية احتلته ولفت حول عنقه أغلال حُبها الآسر، اقترب منها بجسده مُستندًا بمرفقيه على الطاولة أمامه وهو يتشدق بنبرة بها لمحة من الفخر:
أوقات بسأل نفسي مين الراجل الغبي اللي ممكن يضيعك من إيده، بس برجع وبحمد ربنا إنه ضيعك علشان تكوني من نصيبي أنا.
وأمام موجة مشاعره تلك لم تمنع نفسها من سؤاله: مش هيجي يوم وتخليني أندم على جوازي منك صح؟
هز رأسه نفيًا وهو يُجيبها: مينفعش أضيعك، أبقى غبي لو ضيعت حلمي بعد ما مسكته بإيدي.
رفرفرت بأهدابها بسعادةٍ جلية، تشعر بأن فؤادها يطير الآن في سماء العشق الوردية وعيناها ترقص طربًا، لذلك اتسعت ابتسامتها حتى ظهرت نواكزها قائلة بعد أن تنهدت براحة:
حيث كدا اطلبلنا نص خروف عشان أنت فتحت نِفسي على الأكل.
مضى الليل رائقًا وأتى النهار مُتعكرًا على قلوبِ البعض!
حسم أمره للعودة والمواجهة، ليرى أوجه مَن كانا السبب في قتل والديه، مَن تسببا في قتل طفولته ووأد برائته، مَن زرعا داخله بذور الحقد والحرمان، نظر رائف إلى ابن عمه بنظرة مُبهمة لم يفهمها الأخير، والذي كان مُتوترًا من هذا اللقاء المُحتم، الكثير من الحقائق ستظهر الآن دون وجود أي عوائق، والصدمة الكُبرى ستكون من نصيبه هو بالتأكيد.
دلف رائف أولًا كما كان اتفاقهم ومعه نرجس التي أصرت على عدم تركه وحده معهم، ليدور بناظريه في المكان بحثًا عن صبري عمه و بثينة زوجة عمه، فلفت نظره الضوء المُنبعث من غُرفة الصالون فاتجه إليها، حينها كان كُلًا من صبري وبثينة جالسان على الأريكة والوجوم يحتل وجهيهما، ناهيك عن ذلك الانتفاخ المُزين أسفل عين زوجة عمه، والتي ما إن رأته حتى سددت له نظرة كارهة تعكس حقدها له.
حتى أنا كمان يا مرات عمي والله، بكرهك زي ما بتكرهيني بالظبط.
قالها وهو يتقدم منهما حتى جلس أمامهما على المقعد المُقابل لخاصتهم، فيما اتجهت نرجس إلى طاولة الطعام لتجلس على أحد مقاعدها، ثم انتشلت ثمرة من التفاح الموضوع أعلاها وبقيَت تُتابع بانتباه، بينما بُثينة احتدت عيناها بكُرهٍ لم تستطع مُداراته وهمست بفحيح:
ابعد عني دلوقتي وإلا قسمًا بالله ه...
وإلا هتقتليني زي ما أنتِ وجوزك قتلتي أبويا وأمي زمان؟
قالها تُزامنًا مع وضعه لقدمٍ فوق الأخرى بكل غرور وهو يستند بظهره على ظهر المقعد الوثير ونظراته تنتقل بشماتة على وجهيهما الذي اصطبغ بصدمة لم يتكلفا جهدهما في إخفائها، معرفته بالجريمة التي فعلوها وأخفوها طوال تلك السنوات كانت كالصاعقة التي هبطت فوق رأس كليهما وليس لدى أحدٍ منهم سبيل للإنكار!
أنت. أنت إيه الجنان اللي بتقوله دا؟
نبس صبري بتلك الكلمات بعدما خرج من صدمته المؤقتة وعيناه جاحظة بخوفٍ عكس القوة التي يدَّعيها، بينما رائف هز رأسه نفيًا وهو يقول ببرود:
تؤ تؤ. دا مش كلامي يا عمي، دا كلامك أنت والمحروسة مراتك، تحب تسمع!
إن كان الخوف في قلوبهم مائة، فالآن أصبح ألف، حينما أخرج هاتفه من جيب بنطاله وعبث به قليلًا حتى أتى بالدليل الذي يُدينهما، حينما كانت بثينة في أوج غضبها وحُزنها على ابنها وهي تصرخ بهستيريا وبدون وعي:.
مش ابني اللي كان المفروض يموت، رائف هو اللي كان لازم يموت ونقتله زي ما قتلنا أبوه وأمه زمان.
كلماتٌ استمع إليها من قبل آلاف المرات، وفي كل مرة كانت جروحه تزداد ودمائه الخفية تسيل أكثر عن زي قبل، ابتلعت بثينة مياه فمها بصعوبة كالجمرِ المُشتعل، وبعدم تصديقٍ تسائلت وهي ترمقه بأعيُن جاحظة:
أنت جايب التسجيل دا منين؟ ال. الكلام دا. ك. كدب. أنا معملتش حاجة.
التوى ثُغره بمرارة قاتلة وهو يتمنى حقًا لو لم تكن هي الفاعلة، قرأت نرجس الألم واضحًا على سطور وجهه المخفية، فقررت مُساندة زوجها في خطته لتمحو همومه ولو قليلًا، مما جعلها تهب من مكانها وتتجه نحو بثينة حتى وقفت في مواجهة لها، وتشدقت بقوة وهي تُرسِل لها إشارات غاضبة بعينيها:
اعترافك موجود بصوتك ومتحاوليش تنكري، أنتِ مش بتكلمي عيال بريالة هتضحكي عليهم بكلمتين والمفروض إن إحنا نصدقك!
انفرجت شفتي بثينة حتى تُبرر كذبًا علها تنجو من تلك الكارثة، لكن نرجس وأدت كلماتها بقولها القاسي وهي تقترب منها أكثر: أي كلام هتقوليه دلوقتي وفريه لإنه مش هيبقى ليه لازمة قدامنا، وفريه عشان تقوليه قدام البوليس وقولي ما بدالك هناك.
جديتها أخبرتهم بأنه لا مجال للمزاح أو التراجع أبدًا، خاصةً تحت نظرتها الحاسمة والتي تطابقت مع نظرات رائف التي قست أكثر، ليهمس صبري بصوتٍ مُرتعب: بوليس؟
انتشت نظرات نرجس وكساها الشماتة رغمًا عنها وهي ترى الرُعب يتربع في عينيّ مَن كان السبب في مُعاناة زوجها، لتكون إجابتها على سؤالها بالتأكيد وهي تُضيف بسخرية مُفرطة:
أكيد مش هنوديك دريم بارك يعني يا عم صبري! بس متقلقش إحنا ناس كريمة برضه وهنوصي عليك بزيادة حبتين تلاتة.
لا تعلم مَن أين أتتها كل تلك القوة، لربما اكتسبتها من رائف الذي ساهم بنسبة كبيرة في تكوين شخصيتها الجديدة تلك، وللحقيقة هي فخورة بذلك الإنجاز، بينما رائف استعاد رباطة جأشه وجاور زوجته حينما همس بمكر وكلماتٍ مُنتقاة بعناية:.
دا غير إني بفكر إيه ممكن تكون ردة فعل جدي لما يعرف إن ابنه الصغير قتل ابنه الكبير ومراته علشان الفلوس؟ ومش بس كدا لأ. دا كمان كان عايز يقتل حفيده بس للأسف ماجتش فيه وابنه هو اللي مات!
لتأتيه الإجابة من نرجس بتفكيرٍ عابث وهي ترد عليه: أكيد هيسحب منهم الوِرث وهيكون باسمك، وبكدا تكون ملكت ثروة كل بيت عيلة ال مُحمدي.
خياران لا ثالث لهما في تلك المباراة النهائية، إما أن يُقتل رائف وزوجته الآن، وإما يذهبا للسجن ويُحكَم عليهما بالإعدام، هذا ما فكر به صبري الذي أخرج مسدسه من جيب عبائته الداخلي ووجهه في وجه كُلًا من رائف ونرجس اللذان طالعاه بكلِ ثباتٍ دون أن يرمش لهما جفن!
هقتلك يا رائف.
جلس حمزة بإنهاكٍ على مقعده في مكتبه الخاص بعد أن عاد من مأمورية استنهكت كل جهوده وطاقته، لكن وكالعادة عادَ منها مُنتصرًا بعد أن ألقى القبض على اللصوص الذين استباحوا سرقة محلات الصاغة من البائعين، ليكتشف في النهاية بأنهم لم يكونوا سوى عصابة تُتاجر في كل شيء ليس سرقة فقط! وبالطبع كان ليفشل سوى وجود مصعب والذي يُنقذه في اللحظة الأخيرة دومًا.
استند برأسه على مقعده الجلدي الوثيري وهو يتأوه بخفة، لكن راحته لم تدوم طويلًا حينما استمع صوت طرق خافت على الباب، تبعه دخول العسكري الذي بسطَ يده بجانب رأسه ليؤدي التحية العسكرية قبل أن يقول:
فيه رجلين برا متصابين ومعاهم سِت مقدمة فيهم بلاغ يا حمزة باشا.
اعتدل حمزة في جلسته آمرًا إياه بهدوء: دخلهم يابني إما نشوف إيه حكايتهم دول كمان!
أومأ له العسكري قبل أن يذهب من أمامه ويغيب لعدة ثواني، ثم عاد ومعه الرجُلين واللذان كانا ينزفان من رأسيهما بقوة ومعهم والمرأة، انتفض حمزة من مكانه بذهولٍ وعدم تصديق حينما رأى أن المرأة لم تكن سوى رضوى التي ما إن رأته حتى اتجهت إليه وتحدثت ببكاء:
إلحقني يا حمزة كانوا عايزين يتحرشوا بيا.
في موقف غير هذا كان ليُبرحهما ضربًا دون شفقة، لكن مظهر الرَجُلين جعله يتراجع في رأيه ويعود بأنظاره نحوها ليتسائل بشك: مُتأكدة؟
كفَّت عن البُكاء ورمقته بضيقٍ تزامنًا مع سؤالها الحانق: إيه دا أنت مش مصدقني ولا إيه؟ بقولك كانوا عايزين يتحرشوا بيا!
وللمرة الثانية عاد حمزة إلى وجه الشابين اللذان يتأوها بخفوتٍ، وبين الحين والآخر يُرسلان نظراتٍ حارقة جهة رضوى تكاد أن تُصهرها حية، وبنظرته العميقة في الرجال، رجَّح بأن هذان الشابان لم يفعلا شيئًا كما تزعم رضوى، لذلك سألها مُجددًا:
متأكدة يا بنتي؟ إن بعض الظن إثم!
احتدمت عيناها بغضبٍ جم فصاحت بحدة: هو أنت مش مصدقني يا حمزة؟ بقولك زقوني ووقعوني على وشي وعوروني وبهدلوني وأنت مش عايز تصدقني!
انتقل حمزة ببصره على هيئتها من أولها لآخرها فلم يجد بها شائبة أو ذرة غُبار واحدة تدل على اعتدائهم عليها، لاحظت رضوى تشنج وجهه فابتلعت ريقها ببطئٍ وانفرجت شفتاها لتتحدث، لكنها أطبقتهما مُجددًا حينما تحدث أحد الشابان قائلًا بتألم:.
بعد إذنك يا حضرة الظابط إحنا عايزين نقدم فيها بلاغ في تعرضها لينا، ولولا إنها واحدة سِت إحنا كان هيبقى لينا تصرف مش تمام معاها، علشان إحنا مش عيال صغيرة قدامنا عشان هي تعمل اللي عملته دا قدام الناس كلها.
رمق حمزة الشاب بتمعن فوجد أنه يتحدث بجدية بنبرة يشوبها الغضب الشديد، وحديثه الخلوق مُعاكس تمامًا لاتهام رضوى له هو وصديقه الصامت منذ أن أتى، في حين استدارت له رضوى بحدة وصرخت به في المقابل:.
انت بني ام دم كداب وقليل الأدب، لإني أكيد مش هتبلي عليك أنت وصاحبك من غير أي سبب.
أنهت كلماتها ثم استدارت ل حمزة وبدأت بقص كل ما حدث معها بكل عصبية وهي تشرح له بيدها حتى كادت أن تُدخل أصابعها داخل عينه أثناء تحدثها:
أنا كنت واقفة أسحب فلوس من ATM لقيت البني آدم دا بيحط إيده على ضهري.
اشتعل الغضب بعيني حمزة الذي وجَّه أبصاره جهة هذا الصامت، وللحق كان سيذهب لتفتيت وجهه لولا تبرير الشاب الآخر بضيق: يا آنسة دا أخويا مش صاحبي وهو كفيف، علشان كدا ماشفش حضرتك وأنتِ واقفة.
ألجمت الصدمة لسانها، وودأت سيل السباب الذي كانت ستنطق به في لحظة غضب، نظرت ل حمزة مصعوقة، فيما سدد هو نظرة مُعاتبة لها، قبل أن يعود ببصره نحو الشابين ومن ثَم قال برفق:
اتفضلوا اقعدوا وخلونا نحل المشكلة دي سوا.
العشق يزرع نبتته في القلوب، وحصاد الروح يمحي الندوب.
جلس كُلًا من بدران ومروان على المقعد المقابل ل زهراء ورحمة في شقة عوض والد الفتيات، ليبدأ بدران الحديث بقوله في محاولةٍ لإقناع الفتيات:
يعني انتوا تقنعوا أبوكوا إن إحنا نكتب الكتاب آخر الشهر، وفي نفس الوقت أنا أقنع أبويا عشان يوافق.
نظرت زهراء إإلى شقيقتها باستغراب قبل أن تعود بأنظارها نحو بدران وتقول: طيب ما كدا كدا كتب الكتاب متحدد بعد تلت شهور، مستعجلين على إيه نفسي أفهم؟
زجرها بدران بعينيه مُتمتمًا: أنتِ تسكتي خالص، أنا بقالي قرن عايز أتجوزك وأنتِ اللي كنتِ عديمة الإحساس.
رفعت له إحدى حاجبيها مُرددة بغرور أنثوي بحت: على فكرة أنت محاولتش علشاني عشان تخليني آخد بالي منك.
بكوباية الشاي وهحميكِ لو مستكتيش.
تشدق بها بدران بسخطٍ وهو يُطالعها بعينين حانقتين، بينما هي كتمت ابتسامتها بكفِ يدها وأشاحت بوجهها للناحية الأخرى، كذابة هي لا محالة، لقد حاول من أجلها آلاف المرات وحارب جميع الظروف حتى تكون له وحده، في الوقتِ ذاته هي كانت مُنشغلة بمن فطرَ قلبها حُزنًا وجعلها تتجرع سقاية القهر والخذلان، ودوائها كان أمامها، يُداوي دائه الذي يتسبب في شق قلبه الملكوم بحُبها، لكن الشيء الجميع بعد كل تلك المعاناة؛ أنه ربح قلبها وأخيرًا!
ومعهما كانت رحمة هي مَن تزجر مروان بنظراتها، مما جعله يقطب جبينه باندهاش وهو يسألها: مالِك بتبصيلي كدا ليه؟
وبدلًا من أن تُجيبه رحمة، رد عليه بدران بسخرية وأنظاره تتوجه نحو زهراء التي تُربع ساعديها أمام صدرها وتُراقب الوضع باستمتاع:
أصل أنت كمان شبه حد أعرفه، حلوف عديم الإحساس.
تأففت رحمة وتململت في مكانها مُتصنعة عدم الراحة، ومن ثَم قالت بتفكير: لأ أنا مش مرتاحة للجواز السريع دا، أنا لسه عايزة أتعرف عليك أكتر، مش يمكن تكون الزوج اللي مش بتمناه.
تشنج وجه مروان بسخطٍ وقال ساخطًا: لأ هو أنا الزوج اللي بتتمنيه إيش عرفك أنتِ، قولي لأبوكِ بس واقنعيه وملكيش دعوة.
هفكر.
قالتها وهي تنفخ في أظافرها مُتصنعة اللامُبالاة تحت نظراته الغاضبة التي يُرسلها لها، فيما استند بدران على الطاولة واقترب بجسده من زهراء يقول لها بصوتٍ خافت راجٍ لم يسمعه سواها:
عشان خاطري يا زغلولة اقنعي أبوكِ بقى!
تشابكت أعينهما في حديثٍ طويل فشل لسانهما عن البوح به، وهي سُحِرَت بعينيه، فلم تجد جوابًا يُريح فؤاديهما سوى أنها أماءت بالإيجاب مأخوذة بسِحر طلته التي تسلبها كل مرة تراه فيها وكأنها المرة الأولى!
ليس لي سواكِ محبوبتي، فلتتحملي من أجل عشقنا اللامُنتهي، ضُميني لصدركِ أو حتى ضُمي فؤادي لكِ، دعيني أنتزعُ منكِ آلامك، وأعيدي لي بسمتي!
جلس عُمران بجانب فراش جنة في المشفى، تأخذ الآن جُرعة الكيمياوي التي لا تعرف عددها، وماذا تعد بحق الله؟ هل تعد آناتها! أم تعد دمعاتها! أم شهقات بكائها! أم تحسب كم مرة أردفت بها أن تتخلص من كل تلك المُعاناة؟
مال عُمران على كفها يُقبله برقة، يحتويه بين كفيه وكأنه يُخبئه عن تلك الإبر التي نكزتها عشرات المرات، مُنتهكة هي؟ نعم، ليس انتهاك جسد، بل انتهاك مرضها على حُرمة جسدها الذي أغواه ليتفتت ويتناثر إلى أشلاء، روحها الآن رمادية وعيناها ذابلة، لكن ببضعة كلمات منه يسطتيع أن يُعيد إليها حيويتها لتُشاكسه قليلًا ثم تعود لتأوهها المُحتم من جديد.
مرت دقائق أخرى كثيرة حتى دلف الطبيب إليهم بابتسامة هادئة ولحقت به المُمرضة التي فكت المحلول عنها، تنهدت براحة قليلة أنها وأخيرًا تخلصت من ذلك السُم المُعالج لها، وانتبهت للطبيب الذي تحدث مُبتسمًا وهو ينظر للتقارير الطبية بين يديه:
لأ عال أوي، المؤشرات والتحاليل زي الفل وفيها تحسُن كبير جدًا وملحوظ كمان.
نظر عمران إلى الطبيب بلهفة قبل أن ينتفض من مكانها حتى يُواجهه، ومن ثَم قال بسرعة: بجد يا دكتور؟
أومأ له الطبيب بالتأكيد ومازال مُحتفظًا بابتسامته وهو يُضيف: أيوا بجد، الحالة النفسية بتاعتها كويسة جدًا وإرادتها قوية، ودا ليه دور كبير أوي في حالتها الصحية، مضى الكثير وتبقى القليل بإذن الله.
دمعت عينيّ عمران بسعادة فاقت الحدود، ثم استدار جهة جنة التي هبطت بعضًا من عِبراتها وهي تستمع إلى حديث الطبيب الذي أعاد لها الأمل مُجددًا بعد أن كادت أن تفقده وللأبد، لكن سعادتها لم تدم طويلًا حينما استطرد الطبيب حديثه بقوله المُتحفز:
بس فيه عملية مهمة لازم تتم بعد كام جلسة كيماوي تانيين، ودا علشان نضمن إن الورم ميتمددش في الأنسجة وينتقل للرجل التانية.
نظر إليه عمران بقلق وهو يتسائل: والعملية دي صعبة يا دكتور؟
رد عليه بعملية شديدة: مفيش حاجة في الدنيا دي سهلة، لازم نكافح علشان نحس بلذة الوصول.
لم يُعطيه إجابة تُطمئن قلبه، فشعر به الطبيب وبقلقه المُبالغ مما جعله يُربت على ذراعه قائلًا: نسبة نجاح العملية أعلى من فشلها، الإعتماد الأكبر دلوقتي على الدعاء والحالة النفسية وتراعي أكلها عشان صحتها، وقبلها بأسبوع هبلغك عشان تصوم قبل العملية بيوم.
أومأ له عمران وقد بدأ شعاع الأمل يتغلغل إلى خلاياه مرةً أخرى، تركهم الطبيب وغادر على وعد اللقاء مُجددًا لكن في حالٍ أفضل وأخبار مُفرحة، في حين استدار عمران ل جنة التي كان وجهها يتأرجح بين القلق والراحة، الأمل واليأس، والشُكر والعجز، مشاعر مُبعثرة تفاوتت داخلها ولا تعلم أيهما الأصح، شعرت بأصابع عمران تُربت على وجهها ويُديره ناحيته ليرى عيناها، قبل أن يهمس لها بثقة:.
هنعديها سوا زي ما عدينا كل حاجة قبلها.
أنا خايفة.
هتفت بها لتُعبر عن مكنونات صدرها، كلمتان يخفيا خلفهما الكثير من المشاعر الثائرة وأمواج الخوف البالغة، مال عمران على جبينها يلثمه برقة فيما أضاف قائلًا:
مش عايزك تخافي طول ما أنا معاكِ، همحي أي ذرة خوف جواكِ بس قاومي، وأنا واثق إنك هتحاربي علشاني، صح يا جنة؟
أنهى حديثه بسؤالٍ بسيط لكن إجابته ستكون المُنجية بالنسبة إليه، أمسكت بكفه المُستقر على وجهها وشددت من الضغط عليه وهي تقول بحب:
أنت الوحيد اللي تستاهل الحرب يا عمران، وهكسبها علشانك.
انتشى صدره بشعور الارتياح وطالعها مُمتنًا، وللحقيقة هي لا تعلم من فيهما المُمتن للآخر، هو مَن يُجازف من أجلها، فلِمَ يمتن؟ هو مَن يُحارب لربحها، فلِمَ يمتن؟ هو مَن يحمل الألم فوق كاهلها، فلِمَ يمتن؟ مَن فيهما يشكر الآخر؟ أخرجها من شرودها به صوته الماكر وهو يُردد على مسامعها بعبث:
عارفة لو خفيتي؟ هبوسك.
اتسعت ابتسامة بسعادة لم تغفل عن عينيه العابثتين، لكن للعجب عيناها كانت الأكثر عبثًا منه! فاعتدلت في مكانها ببطئٍ شديد وقالت تزامنًا مع غمزتها العابثة:
طب ما تبوسني دلوقتي وأهو تاخد ثواب إدخال السعادة على قلب مُسلمة!
يا واد يا تَقي!
قالها عمران قبل أن تنطلق ضحكاته تصدح صداها في الأرجاء من وقاحتها التي لا تدخر وسعًا في إخفائها ولو قليلًا، شاركته الضحك ومن ثَم ضربته على ذراعه قائلة بخجل:.
بس بقى يا عمران بتكسف!
اسمعنى بس أنا لو روحت لتُجار الأسلحة دول واتفاهمت معاهم هننتقل نقلة تانية خالص!
لستم بحاجة للتفكير في هوية المُتحدث، أو لنَقُل المُتحدثة الغبية! قلب مصعب عيناه بنفاذِ صبرٍ وهو يكاد ينفجر من روان وأفكارها المُهلكة مثلها، ليس غزلًا. وإنما مُهلكة بالمعنى الحرفي! ليتشدق بتهديدٍ صريحٍ وصارم لها:.
اسمعي أنتِ وركزي في اللي هقولهولك كويس عشان لو اتعمل عكسه هلزق دماغك في الحيطة، ملكيش دعوة بالقضية دي نهائي، ملكيش دعوة بأي قضية من الأساس، أو أقولك! قدمي استقالتك وسيبي الشغل وأبوكِ ما هيصدق أصلًا.
انكمش وجه روان بعدم رضا وتمتمت ساخطة: قصدك إيه يا مصعب باشا؟
دلكَّ وجهه وهو يُحاول أن يجد حديثًا مُناسبًا حتى يسترضيها، وفي الوقت ذاته يُلهيها عن تلك القضية التي ظهرت من العدم، لذلك رسم على ثغره ابتسامة هادئة وهو يقول بإعجاب:
قصدي إيه الحلاوة والشياكة دي كلها؟
لانت ملامحها تمامًا واتسعت ابتسامتها حتى شقت وجهها وهي تسأله: بجد عجبتك؟
أنتِ على طول عجباني.
قالها بصراحة نطق بها قلبه قبل لسانه، لتصطبغ وجنتاها بالخجل وهي تُسبل عيناها للأسفل، ومن ثَم أجابته بخفوت: الله يسترك.
قولي يا يعقوب صحيح! أنت وارث ولا إيه؟
هتفت بها ذكرى التي كان يستقر رأسها على صدر يعقوب، وتحديدًا موضع قلبه، أثناء جلوسهما معًا في الشُرفة المملوءة بالورود، استمعت إلى ضحكته الخافتة التي خرجت من بين شفتيه وبعدها قال:.
لأ ما أنتِ تعملي حسابك إننا هنعيش على العيش المبلول بعد كدا، لحد ما أسِّد لأبويا الفلوس اللي خدتها منه عشان أعملك المحل.
خرجت من أحضانها رامقة إياه بصدمة وهي تقول بذهول: أنت فعلًا واخد الفلوس من عمو هارون عشان تعملهولي؟
أومأ لها مُبتسمًا دون الحديث، فعاتبته وهي تشعر بالذنب يتخللها: ليه كدا يا يعقوب؟
علشانك.
ياله من مُختال؟ أذاب عتابها وكلماتها بكلمةٍ واحدة، وكم تعشق المعنى الآتي من خلفها، أن يُحاول أحدهم من أجلك فقط ولأجل سعادتك لهو شيءٍ عظيم! أعادها يعقوب مكانها موضع قلبه ثم تحدث بصوتٍ هامس:.
تعرفي يا ذكرى؟ كل الناس بيحاولوا يقلدونا، أصل قصة حبنا دي تحسيها صعبة بس في نفس الوقت سهلة، زي الشمس في عز الشتا، الشمس بتحاول تثبت وجودها بس في النهاية بتبقى زي السراب ملهاش لازمة وبتختفي تحت الغيوم، والمطر ونسمات الهواء هي اللي بتبقى طاغية، وإحنا اللي فوق، فوق أوي
رفعت ذكرى رأسها له بعد أن ابتعدت عن أحضانه قليلًا وتسائلت بخفوت: يعني الشمس ملهاش لازمة؟
هز رأسه نفيًا وأجابها بشرود وهو يستند برأسه على الحائط من خلفه بعد أن أعاد رأسها لموضع قلبه، تزامنًا مع بصره الذي تعلق بالسماء:
ملهاش لازمة، على الأقل في حياتنا.
كادت أن تُعاود سؤاله عن معنى حديثه، لكنه أكمل قائلًا: برغم كل الظروف اللي عديناها كان الليل هو أنيس وحدتنا دايمًا، ولما يجي النهار كنا بنضطر نخبي حُزننا ورا ابتسامة زايفة علشان كُل واحد فينا يبين للتاني إنه مش مهتم، رغم إن قلوبنا دايمًا حاضنة بعض!
رفعت ذكرى رأسها له وتمتمت بحب: بحبك يا يعقوب.
وأنا بموت فيكِ يا ست ذكرى.
أمسكت بهاتفها الذي كان يُجوارها وفتحته لتعبث به قليلًا، ثم فتحت تطبيق الواتساب وأتت بالحالة التي قام بنشرها، صورتهما معًا التي التقطها لهم بدران بأثواب زفافهم، مكتوبٌ أسفلها جُملة دارت بذهنه واحتلت كيانه، ابتسم يعقوب وهو يضمها إليه أكثر وكأنه يحتجزها، ثم ألقى على مسامعها تلك الجُملة بصوته العذب الآجش:
عادت إلى أحضاني رفيقة قلبي وونيسة داري.
كان كُلًا من بادر وبدير يسيران معًا بعد أن انتهيا من تحصيل الأموال الخاصة بالتُجار، لكنهما توقفا على بغتةً حينما قاطع طريقهما سيارة سوداء هبط منها أربعة رجال ضخام الجثة ووقفوا أمامهما، ثم تحدث أحدهم قائلًا:
مين فيكم بدير هارون؟
وبسرعة البرق أشار بادر جهة أخيه قائلًا: أهو يا باشا، هو دا بدير.
سحبه رجُلين من ذراعه و بدير يُطالع أخيه بغضب تزامنًا مع صراخه به: يا حقير يا حيوان، بتبيعني؟
راقب بادر شقيقه بعينين قلقتين وهو يُبرر موقفه: خسئت! دا علشان أنقذك يا غبي، مع السلامة يا حبيبي، 13
ظل بدير يطلق السباب والشتائم على أخيه و بادر يُتابعه بقلق حتى صعد في السيارة مع الرجال واختفى من أمامه كُليًا، وفي تلك الأثناء أدرك بادر الكارثة التي وقع بها شقيقه، وذلك حينما ضرب على صدره شاهقًا بصدمة وهو يقول:
يا مصيبتي دول خطفوه!
كان مصعب جالسًا في غرفة مكتبه في القِسم يُتابع أعماله ويُلقي نظرة على القضايا المرمية فوق كاهله، حينما رنَّ هاتفه برقم روان فأجاب بهدوء:
آلو يا روني؟
وصله همسها الخافت وكأنها مُختبئة من شيءٍ ما: إزيك يا مصعب باشا؟
قطب جبينه بقلقٍ من همسها مما دفعه لسؤالها بريبة: مصعب باشا؟ الكلمة دي متطلعش إلا لو كان فيه مصيبة، انطقي عملتي إيه!
ابتلعت روان ريقها بصعوبة وهي تنظر حولها بحذرٍ بالغ، ثم عادت لتتحدث بنفس الهمس الخفيض: خير اللهم اجعله خير أنا شكلي مخطوفة.
هبَّ من مكانه بانتفاضة وهو يصرخ بها: أنتِ برضه نفذتي اللي في دماغك صح؟
ابتسمت ببلاهة وهي تُجيبه بإجابةٍ تمنى لو يستمع لغيرها: آه.
روحي يا شيخة منك لله، ربنا يقصر عمرك زي ما أنتِ مقصرة عُمري يا بعيدة، أنتِ عارفة لو قتلوكِ! أنا هشكرهم وهبوس دماغهم على المعروف اللي عملوه فيا.
كانت تلك كلماته الصارخة المُندفعة بعد إجابتها له، تلك الفتاة ستُصيبه بجلطة أو شللٍ لا شك في ذلك، فيما كانت هي تستمع لتقريعه بصمتٍ رغم سخطها، حسنًا. هي أخطأت، كان عليها الاستماع لحديثه تلك المرة وعدم السير خلف غبائها، وبسبب عنادها قد تكون تلك نهاية المصير لها، وحينما طال صمتها سألها بغضب:
أنتِ فين دلوقتي؟
أملته مكانها بصوتٍ هامس، وحينما انتهت أمرها بصرامة: خليكِ مكانك وبلاش تعاندي فيهم واسمعي اللي هيقولولك عليه، وخبي التليفون في أي مكان بلاش تظهريه أنتِ فاهمة؟
أومأت له وكأنه يراها، وقبل أن يُغلق نادت اسمه مُسرعة: مصعب باشا؟
يا نعم!
أجابها بنفاذ صبرٍ وهو يُجهز سلاحه، فيما اتسعت ابتسامتها بغباءٍ وهي تسأله بخجل نابع من فطرتها:
إحساسك إيه ومراتك مخطوفة؟
لتكون إجابته الحاسمة عليها قبل أن يُغلق الهاتف بوجهها: هطلقها.