قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والأربعون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والأربعون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والأربعون

أخبرني يا فؤادي كيف به تعلقت؟ وتمسكت به وما استسلمت، وواجهت الصعوبات وبقوةٍ عشقت، وبترانيم الحُب واجهت وحاربت!

عاد بادر مُهرولًا إلى المنزل ليُخبر أباه عن اختطاف بدير المزعوم، لكنه توقف فجأةً بفؤادٍ يطرق صخبًا حينما أبصر سارة تقف أمام أحد المحلات لتقوم بشراء مُستلزمات المنزل، ارتسمت ابتسامة واسعة على ثُغره تلقائيًا وتوجه إليها كالمسحور، شيءٌ ما به يُجذبه فيجعله أبلهًا بلا عقل أو تفكير، أو ربما هو عاشق آسرته بأصفادها حتى بات كالأسير!

كانت قد انتهت مما أتت لشرائه، ثم حاسبت واستدارت لتذهب، ففوجئت به يقف أمامها يبتسم، طالعت هيئته حينما كان يرتدي بيچامة شتوية سوداء اللون من ماركة «Addidas» تُناسب الخروج، وتتماشى كذلك مع ذقنه النابتة والتي استطالت قليلًا وتنعكس على عيناه العسلية بأهدابها الكثيفة، كل ما به ساحر ومُرهِق لدرجة لا تُوصَف على فؤادها المُتيم بُحبه.
عيون بادر.

قالها بعد وقتٍ من الصمت استباح لعينيه النظر إليها، في حين كانت هي تشعر بدقات قلبها الهادرة في حضرته، لا تعلم كيف تُهدِّيء من صحبها لكن في الوقت ذاته تروقها! شددت سارة من الضغط على الحقائب وهي تقترب منه بابتسامة مُتوترة، ليس خجلًا، وإنما تُقاوم رغبتها العارمة في ضمه أمام الجميع لتُطفيء شُعلة اشتياقها له!

انحنى قليلًا لأخذ الحقائب منها وحملها بدلًا منها، في نفسِ ذات الوقت همست هي في أذنه ترد على حديثه: قلب سارة.
رفع بادر عيناه إليه ومازال مُقتربًا منها، يسنح لذاته أن يغوص في أمواج عينيها العابثة والتي يعشقها بحق، لترتسم على شفتيه ابتسامة ليست بريئة ومُعاكسة لطباعه المُهذبة قبل أن ينبس بمكر: أمي طول عمرها نفسها اتمسك آداب، بفكر أحققلها أمنيتها!

نظرت سارة حولها بعينين مُتفحصتين لتتأكد من عدم متابعة أحدٍ لهما، قبل أن تعود له بأنظارها وتقول بتدللٍ واضح: إحنا لسه مدخلناش دنيا لسه يا شيخ بادر عشان نخرج منها! استنى لما ندخلها الأول.
علي آخر الأسبوع.
همس بها بعاطفةٍ تُسيطر عليه في وجودها فقط، طالعته بتساؤل تنتظر توضيح معنى حديثه، ليقول لها بعدها: على آخر الأسبوع دا هيكون فرحنا، شقتي جِهزت.

اتسعت عيناها تترقرق فيهما لمعة السعادة التي اخترقت طريقها نحو فؤاده، قبل أن تكون الدهشة من نصيبه تلك المرة وهي تغمزه بدورها قائلة: وأنا كمان جاهزة.
عبثها الطبيعي أمام عبثه المُستحدث جعل من المشهد لوحة فنية غاية في العبث!

وكأن الجميع تلاشى من حولهم، صُمَّت آذانهم عن جميع الأصوات إلا من صوت عزف أوتار قلوبهم الهادرة، وكأن للعشق ترنيمة مختلفة جعلت عقولهم تائهة أو جعلتهم بلا عقول من الأساس، وفي لحظة تيهة خطرة اقترب منها بوجهه في تروٍ شديد، يكاد أن يرتكب أكبر كارثة في تاريخ حياته! وفي منطقته! وأمام المارة! لكن ما أنقذهم هو صوت أم بخيت التي خرجت من نافذتها تطل عليهم بنصف جسدها وهي تقول بصوتٍ عالٍ:
هتبوسها ولا إيه؟

ابتعد بادر كالملسوع، وكأنما لامسه سلك عارٍ من الكهرباء، والآن وعى للبلاهة التي كاد أن يفعلها، فيما نظرت سارة بغيظ إلى تلك العجوز الشمطاء التي تُثير غضبها دائمًا، اتشحت عيناها بشرٍ شديد وهي تتقدم منها بكلِ غضبٍ حتى توقفت أمام نافذتها، وبتهديد واضح أردفت أثناء ضغطها على أسنانها بغيظ:
أنتِ عارفة يا أم بخيت؟ كان فيه واحدة زيك كدا حاشرة مناخيرها في حياتي زمان، عارفة عملت فيها إيه؟

تسائلت بجُملتها الأخيرة بفحيحٍ أرعب الأخرى التي حدجتها بتساؤل صامت، لتستطرد سارة حديثها بفحيح أكبر وهي تقترب منها بوجهها: قطعتلها مناخيرها.
وتلقائيًا وضعت أم بخيت يدها على أنفها تتحسسه برعبٍ وهي بالكاد تستطيع أن تبتلع ريقها، فرسمت على ثُغرها ابتسامة صعدت مُتوترة رغمًا عنها مُتشدقة بتلعثم: ي. يوه. دا أنا كنت بهزر معاكم!

تشكلت ابتسامة قاسية على ثُغر سارة التي أردفت بتحذير: طيب متهزريش تاني بقى، واتقي شر سارة عشان محرقكيش بالسجارة.
أومأت لها الأخرى بسرعة قبل أن تدخل إلى منزلها وتُغلق نافذتها بهلع، فيما نظرت سارة لأثرها الفارغ بسخطٍ صاخب وهي تُتمتم حانقة: منك لله ضيعتي اللحظة!

تمتمت بجُملتها بهمسٍ لم يسمعه سواها ثم استدارت له مُجددًا راسمة ابتسامة ثقيلة على ثُغرها، فوجد وجهه قد احمر خجلًا وكذلك أُذنيه، وقبل أن تتقدم منه هي، أكل المسافة بينهما ثم أعطاها حقائبها تزامنًا مع هتافه الأخير: خسئتِ يا سارة.

قالها بحرج قبل أن يندفع مُبتعدًا عنها بخطواتٍ سريعة، راقبت هي أثره بوجهٍ مُتشنج وشفاه مُلتوية باستنكار، لكن ما هي إلا لحظات وتبدد الغيظ ليحل محله ابتسامة عريضة زينت وجهها، وللحقيقة قد خجلت هي الأخرى! لكن حاولت مُداراة خجلها بتصنع عدم اللامبالاة، ضمت الحقائب التي كان يحملها بدلًا عنها إلى صدرها، ثم غيرت وجهتها إلا محل آخر بعينه، ألا وهو سيدة الورود.

تجمعنا الصُدف دون إرادةً منَّا، فيتعانق فؤادين فقدا معنى الأمان والاحتواء، وكأن كُلٌ منهم جاء عوضًا للآخر، أو كروحٍ هائمة وجدت أُنسها فاتخذته مسكنًا، وبرغم الخطايا التي دنست الأرواح، يمحوها أولى خطوات الحُب المُقدسة، كأرضٍ مُحتلة حاربت ليغزوها الرُعاة، ومن ثَم حاربها أهلها فأعادتها إلى مواطنيها، فباتت الروح وكأنها وطن!

كانت مي تسير وبجانبها فاطمة شقيقة مروان، واللاتي تصادقا معًا في الفترة الأخيرة نظرًا لاقتراب أعمارهم، دخلا أحد المولات الكبيرة وظلوا يسيرون كثيرًا للبحث عن غايتهم، لكن التعب قد بلغ مبلغه وقررا الاستراحة ولو قليلًا، لذلك قررا أن تجلسا على كافيه ليُريحا أقدامهما المُتعبة، تزامنًا مع قول فاطمة الأخير:
وبس كدا، طِلع بيضحك عليا ومش عايز مني غير فلوسي، مفكرني مكنة ATM بروح أمه.

جلست مي أمامها وهي ترمقها بوجلٍ على حكايتها التي عانت بها كثيرًا، زفرت بضيقٍ ونظرها يشرد في منطقةٍ ما في الفراغ، حديث الأخرة ذكَّرها بماضٍ لا ترغب في تذكره، تحديدًا تلك الذكرى التي تُثير مشاعرها باشمئزازٍ من ذاتها، حينما أمسكتها سارة في أحد الليالي على أحد الشباب في ملهى ليلي، وبرغم ندمها، ألا أنها تشعر بحرقة تُلهِب فؤادها لتلعن غبائها.

لاحظت فاطمة شرودها من بعد صمتها الطويل، فنكزتها بخفة من كتفها وهي تقول ضاحكة: إيه يا بنتي روحتي فين؟
تصنعت مي الابتسام بعد أن فاقت من شرودها القصير، قبل أن تتحول نبرة صوتها إلى نبرة أكثر جدية وهي تتسائل بحذر: وأخوكِ مَعرِفش اللي حصل ولا بدير قاله؟
هزت فاطمة رأسها جهلًا وهي تُجيبها: مش عارفة بدير قاله ولا لأ، بس تقريبًا لأ علشان مروان مفاتحنيش في أي حاجة أو معاملته من ناحيتي اتغيرت.

طيب الحمد لله ربنا سترها معاكِ.

ظهر الأسى على وجه فاطمة التي تحولت عيناها إلى قتامة مريرة، لقد نجت بأعجوبة بالفعل، لكنها تشعر بأن روحها مازالت مُنحبسة داخل قوقعة من الذنوب اللامُتناهية تكاد أن تخنقها، تضغط على كلِ إنشٍ بجسدها فتستفز جميع حواسها لتعود لضلالها القديم، لكنها تُحارب ولم تتبين استسلامها في معركة من معاركها مع ذاتها، وبالرغم من ذلك فلازالت تشعر بأنها غارقة في مستنقع ذنوبها حتى بعد توبتها!

أنحت أفكارها جانبًا وهي ترفع رأسها ل مي تسألها بتزعزع: فِكرك ربنا هيسامحني! أنا توبت بس خايفة أرجع للي كنت فيه تاني، خايفة أدوَّر على الأمان في حد تاني، أخويا مروان طول عمره مسافر وسايبني لوحدي علشان كدا اضطريت أدوَّر على حد يحبني ويهتم بيا، فماكنش قُدامي غير مصطفي ابن خالي، مش هكدب عليكِ هو كان حنين عليا أوي ومعوضني عن النقص اللي كنت حاسة بيه، بس في الآخر دا كله طلع وهم وبيكدب عليا عشان ياخد فلوسي من ورث بابا الله يرحمه.

هبطت دمعة حارة مُعبقة بمرارة الخذلان تزامنًا مع انتهاء حديثها، مما دفع مي التي كانت تُتابعها بحزن إلى مد يدها إليها لتُشدد من الضغط على كفها وكأنها تُواسيها، جففت فاطمة دموع وجهها قبل أن تستطرد حديثها بشرود:
عارفة ومتأكدة إن أنا غلطت، بس دا كمان مش غلطتي لوحدي، كل واحد كان تايه في حياته وسايبيني لوحدي، مش ببرر غلطي، بس بأكد غلطهم هما.

رسمت مي ابتسامة شاحبة على ثُغرها كانت أقرب إلى السخرية المريرة، قصتهما متشابهة إلى حد كبير، لكن الفارق الةحيد بأن شقيقتها كانت تفعل كل ما بوسعها حتى تُعوضها عن وجود الأب والأم لتُصبِح هي كل ما تملك، لكن رغمًا عنها كانت أنظارها تتجه إلى أفعال والدتها الماجنة، فنمت بداخلها رغمة عارمة في تجربة عيشها، الشيء الذي كسر سارة لأيامٍ كثيرة شعرت بها أن حياتها ذهبت هباءً في تربيتها!

تنهدت مي بثقل قبل أن تستقر نظراتها على وجه فاطمة المُنغمس في حُزنه الوتيد، قبل أن تقول بثقة نبعت من أعماقها:
أكيد سواد السنين اللي فاتت مسيره يتحول لنور، أنا وأنتِ وغيرنا كتير غِلطنا نفس الغلطة، لكن إحنا الحمد لله فوقنا ومش هنسمح لأفكارنا وخوفنا إنه يهزنا أبدًا، وأنا واثقة أن عوض ربنا كبير، هيرزقنا بناس شبهنا تقدر قيمتنا ويمسكوا في إيدينا لنهاية الطريق.

كانت تُقنع ذاتها أولًا بحديثها هذا، توبتها جعلتها تُدرك قدرة خالقها على تحويل العُسر إلى يُسر بين ليلة وضحاها، لذلك هي مُتيقنة من استجابته لدعاء قلبها الصامت، وأمامها. تسللت الكلمات إلى فؤاد فاطمة لتُعانقه بدفئ وتُطيب به خاطرها، لذلك لم تجد جوابًا إلا أن تهمس بتمني:
ياريت.
يا بابا بنات عمي إيه اللي هجيبلهم هدوم؟ هو أنا رايح حضانة!

هتف عُمير تلك الكلمات بضجر أثناء جلوسه أمام والده على طاولة الطعام، نظر إليه حامد بطرف عينه وهو يلوك الطعام داخل فمه بتروٍ يُثير غيظ عمير أكثر حتى هتف أخيرًا بعدما ابتلع طعامه:
اللي قولته يتنفذ يا عمير، روح أحسن مكان وجيب لبنات عمك هدوم العيد، أنت عارف إن عمك حالته على قده واحتمال كبير ميقدرش يجيب ليهم حاجة السنادي.

طب ما أمي قاعدة قدامك أهي! هو مفيش غير عُمير يعني يا جدعان؟ ما تتكلمي وقولي حاجة ياما!

يكاد أن ينفجر من شدة غيظه، كل عام تقريبًا يُكلفه أبيه بتولي أمور بنات عمه، لكنه كان يرفض بعناد، لكن بعد تغييره الملحوظ لانت مُعاملته قليلًا وبات يُساعد أبيه في أغلب أعماله، وأمامه. ضحكت والدته بخفة على مشاجراتهم التي تحدث كل يومٍ تقريبًا، ف حامد يُحاول دس ابنه في كل الأشغال التي كان يتنمر عليها من قبل، لذلك هتفت من بين ضحكاتها بحنان:
اسمع كلام أبوك يا عُمير وأهو كله بثوابه يابني!

تغضن جبين عمير بانزعاجٍ أدى إلى إمساكه بكمية كبيرة من الطعام وحشرها داخل فمه دُفعةً واحدة عله يُهديء من غضبه ولو قليلًا، مما دفع إلى انطلاق ضحكات والدته بقوة، في حين حاول حامد بصعوبة أن يكتم ضحكته على معالم وجه ابنه حتى يُحافظ على جديته ولا يلين، مضغ عمير الطعام بغضبٍ حتى ابتلعه كاملًا ثم هبَّ من مكانه وابتعد ليرحل، لكنه توقف على نداء والده باسمه فاستدار له، ليقول حامد بابتسامة باردة:.

متنساش تجيب الهدوم وأنت جاي يا حبيبي.
ضغط على أسنانه غيظًا قبل أن يستدير ويرحل دون إجابته وهو يكاد أن يستشيط غضبًا، تاركًا والده الذي حرر ضحكاته أخيرًا من مخزنها!

خرج عُمير من منزله وسار نحو وجهته وهو يُفكر في تغيُّره الملحوظ، تغييرًا جذب انتباه الجميع حقًا، بعدما سُجِنَ لفترة لا بأس بها، رأى بها انهيار والدته حسرةً عليه، واضطرار أبيه الذي اعتاد الشموخ أن يحني رأسه خزيًا من أفعال ابنه الطائشة، حينها احترق فؤاده حُزنًا على حاليهما أولًا وعلى حاله ثانيًا، لن يُنكِر ذلك الكُره الذي كان يكّنه ل يعقوب في البداية، كرهٌ كاد أن يحرقه قبل أن يحرق الجميع، لكنه وجد ذاته يضع ذاته موضعه، ماذا لو ارتكب أحدهم نفس الذنب فيه! أسيكون سعيدًا بذلك ويغفر أم سيزجه بالسجن انتقامًا له؟ ويبدو أن تغييره الملحوظ كان خير إجابة على سؤاله، فبعد أن كان عمير المنبوذ من الجميع، بات الجميع يُوده الآن نتيجة للُطفه الجميع، وهذا ما كان يُريده ويحصل عليه كما حصل عليه يعقوب من قبل!

وصل إلى أحد المحلات التي قصدها بعينها، حتى صعد درجتين ووقف أمامه وهتف بتلاعب: عايز كيلو لحمة يا ريس!
كان يعقوب في تلك الأثناء مُنهمكًا في تسجل إحدى الحسابات، عندما رفع رأسه لتصطدم عيناه بوجه عُمير الذي يُحدجه بتعابيرٍ مُتلاعبة، تشنج وجهه من طلبه قبل أن يُجيبه باستفزاز: معندناش.

النظرات المُتحدية كانت تتبادل كالرصاص في أوج المعركة، ومعركة كتلك كانت بين أكثر الرجال عنادًا واستفزازًا، لذلك كان العِراك صعبًا ومُمتعًا في آنٍ واحد! ارتسمت ابتسامة جانبية على ثُغر عُمير الذي مال بجذعه قليلًا ليستند بمرفقيه على المكتب الجالس عليه يعقوب وهتف بكلماتٍ خبيثة ذات مغزىً أخبث:
هتديني طلبي ولا أروح أطلبه من غيرك؟

لم يُبالِ يعقوب بحديثه ولو لثانية، فرغم وداعته الظاهرة على وجهه، إلا أنه لا يستطيع نسيان فظاظته السابقة ووقاحته معه ومع زوجته، لذلك لن يغفر له بسهولة حتى وإن أصبح ذات خُلق! لذلك أسند ظهره بظهر المقعد الجالس عليه، ثم ربَّع ساعديه أمام صدره ليقول ببرودٍ لم يخلو من استفزازه:
بالسلامة.

وعقب كلمته، اعتدل عمير في مكانه على بغتةٍ ومن ثَم أضاف قائلًا: المرة دي جِتلك بمزاجي، المرة اللي بعدها هتيجي ورايا أنت بمزاجك، سلام يا ابن، الحج هارون.

أنهاها بغمزة من عينيه العابثتين ثم رحل وغادر، تاركًا خلفه يعقوب ينظر لأثره بنظرات استخفاف خالصة، لكن تلك النظرات تحولت إلى أخرى مُشتعلة بعد أن أبصر وجهته، حيث وقف أمام محل ذكرى ثم استدار له يُحدجه بعبثٍ وضع وقود غضبه بجانب نيران غيرته قبل أن يدلف ويختفي عن ناظريه!

انتفض يعقوب من مكانه في غضبٍ يكاد يحرق الجميع من حَوله، قبل أن يُهرول خلفه حتى يلحق به ويُفتت وجهه المُستفز هذا إلى شتات، لكن قاطع بادر طريقه وهو يقول بفزع:
إلحق يا يعقوب أخوك بدير اتخطف.
دفعه يعقوب من أمامه بعنفٍ كاد أن يوقعه أرضًا بعد أن صرخ به بعصبية: إلهي تولع أنت وأخوك سيبني في حالي دلوقتي.

تجعد وجه بادر بسخطٍ ساببًا إياه في سره، قبل أن يُنير عقله بفكرة ظنها عبقرية للغاية، ألا وهي إخبار أبيه! لذلك استكمل طريقه نحو منزله مُسرعًا حتى يُنقِذ أخيه المسكين المُختطف منذ أكثر من ساعة تقريبًا!
لما رميتُ سهام الحقائق مُصوبًا، أزعجتُ جروح قلبي النازفة، فلم أجدُ ذاتي إلا مُواجهًا، ومُحاولًا بجروحي إغلاق ثقوب سفينتي الغارقة.

وقف رائف وبجانبه نرجس شامخًا برأسه أمام صبري الذي يُصوب فوهة سلاحه تجاه رأس الأول، وبداخل عينيه رغبة عارمة في الإطلاق والتخلُص منه للأبد، وبالرغم من خطورة الموقف، اقترب منه رائف خطوة أخرى وأضاف ساخرًا بكلمات تُضيف ملحًا فوق جرحه الغائر:
إيه! هتقتلني زي ما قتلت ابنك؟

اشتعلت عينيّ أكثر من تبجحه الذي يُذكره بتبجح شقيقه سعيد، الذي قتله غدرًا هو وزوجته في حادث سيارة مُدبر منه هو وزوجته، مما دفعه ليُغمغم بحقد:
كلامك بيفكرني بكلام أبوك قبل ما أقتله، كان بِجح وعينه جاحدة زيك كدا، قبل ما أكسرهاله.

جمرتان من النيران اشتعلت بعيني رائف وهو يُطالع مَن أمامه بكرهٍ يحتل كل ذرَّة في كيانه، فمن يقف أمامه لم يكن سوى قاتل أبويه، لم يكن سوى القاسي الذي حرمه من أبسط حقوقه، لم يكن سوى حارمه من طفولته البريئة، لم يكن سوى جاحد يتباهى ويفتخر بقتل أخيه من أجل بقايا من الأموال سيُدفن دونها، ذلك الذي لو طاله الآن سينحر عُنقه حتى يفصلها عن جسده ويرميها للحيوانات لتنهش لحمها النَجِس!

لكن كل تلك الأفكار تناثرت من حوله حينما انطلقت طلقة غادرة، طلقة لم تُصوَب ناحيته! انتقل بأبصاره جهة نرجس فوجدها قد انكمشت على ذاتها وتقلص وجهها برعبٍ، ولحُسن حظه لم تُصيبها الطلقات، انطلقت صرخة مُتألمة من بُثينة التي صرخت على بغتةٍ وتناثرت الدماء من ذراعها بعد أن أصابتها الطلقات، اتسعت عينيّ الجميع بدهشة ازدادت أضعافًا حينما صعد صوت من أحد الأركان يهتف بكُرهٍ اصطبغ بحقدٍ عارم:.

أكيد هي دي الحية اللي وزتك على قتل أخوك يا زبالة.
نظر جميعهم خلفهم، فوجدوا عتمان يهبط الدرجات وعيناه تُقطر مرارة لم تفقد قوتها، اقترب منهم بهوينهة ونظراته مُثبتة على صبري الذي ارتعشت أوصاله برجفة سرت في كل جسده، حتى وقف قبالته مُباشرة، وذلك قبل أن يرفع عتمان يده على آخرها ويهبط بها فوق وجه ابنه العاق بصفعة دوت صداها في جميع أركان المنزل الفسيح.

القهرة، الغضب، الحقد، الحسرة، مشاعر مُبعثرة اجتمعت في فؤاد عتمان الوجِل، قهرةً على فُقدان غالي كان يعتبره ابن قلبه الأول، وغضبًا من تلك الأفعى الذي ظل يرعاها جاهلًا عن سُمها الذي شق فؤاده، حقدًا على زوجته التي استغلت ضعفه ووسوست له كالشياطين لقتل شقيقه، وحسرةً على تربية ظنها صالحة وكانت في النهاية منبع الفساد!

طول عمري بقول إنك عوض ربنا ليا ويمكن وجودك يعوضني ولو شوية عن موت حبيبي وابني، بس كنت بشوف منك قسوة تنفر كنت أنا ذات ننفسي بستعجبها، ربيت أحفادي وأنا عارف إن تربيتي ليهم كانت قاسية زي ما أنا اتربيت زمان وكنت بعاملهم كلهم بالتساوي، لكن أنت ومراتك فهمتوا حفيدي إني بكرهه، مكفكوش إنكم قتلتوا أبوه! لأ وكمان كرهتوا حفيدي فيا.
يابا الموضوع م.

كان صبري يُحاول التبرير بكل قوته، لكن صفعة عتمان الثانية على صدغه وأدت أي حديث كاد أن ينطقه، فيما استطرد عتمان حديثه مُكملًا بغضب مُشوبًا بالحسرة:.

شككتوني في أخلاقه وقسيتوا قلبي من ناحيته أكتر، ورغم قسوتي عليه قلبي كان بيتكوي من نار كُرهه ليا، وزي ما يكون ربنا حَب ياخد حق المسكين اللي يتمتوه بدري، ففضح بنتكم بعد ما اتقفشت مع ابن العُمدة، وساخة تربيتها كنتوا بتحاولوا تداروها إنكم تتبلوا على رائف، أنا لو هندم على حاجة عملتها في حياتي فهندم على قسوتي عليه في الوقت اللي كان محتاج فيه حضني، بس الحكاية مش هتنتهي بعتاب وكلمتين. لأ.

قال جُملته الأخيرة بحسمٍ ناقض الحزن الذي ارتسم كُرهًا داخل مقلتيه، بينما استطرد عتمان حديثه وهو ينتقل ببصره على وجه كُلًا من صبري وبُثينة اللذان ينتظران بقية حديثه بترقب، ومن ثَم قال:
مش هرتاح غير لما أشوف حسرتكم قدام عيني الأول.

تنفسا بعنفٍ مُتوتر ممزوج بالشك، لكن أنفاسهما قد توقفت عن الصعود حينما رأوْا أمامهما ابنهما الميت رأفت يقف أمامهما حي بلا أي خدوش، جاهلين عن خدوش قلبه الذي أدمى بنزيفٍ ساحق بعد ما استمع إليه، نظراته لهما كانت مليئة بالحسرة وبذور بادئة من الكُره، مَن يقفا أمامه ليسا والديه، بل إنهما مسخان مُشوهان بقلوبٍ حاقدة، لذلك اتجهت أنظار رأفت إلى وجه والدته المصبوغ بالألم تارةً، وبالصدمة تارة، وبالسعادة تارةً أخرى، ثم سألها:.

بتوجع يا أمي؟
كتمت بثينة تأوهها المُتألم وانشغلت في صدمتها به، والسؤال الوحيد الذي دار بخُلدها في تلك الأثناء؛ هل عاد الميت للحياة؟ اقترب منها رأفت راسمًا على ثُغره ابتسامة مُتألمة حتى وقف أمامها وغمغم:
مبسوطة أنتِ كدا؟ افرضي كنت مُت بجد بعد ما دبرتوا الحادثة ل رائف، الفلوس فادتك بحاجة دلوقتي؟ الفلوس فادتك بحاجة يا حج صبري؟

قال جُملته الأخيرة وهو ينظر جهة أبيه عله يلمح ندمه، لكنه و للعجب لم يرى سوى قسوة يُلاحظها لأول مرة، ربما كانت موجودة من قبل، لكنه كان مُنخدع مثل الجميع برداء الشرف الذي كان يرتديه أبيه، وغفل أن رداءه مُرقَّع بدماء ضحايا لا ذنب لهم!

ترك رائف مكانه وسار عدة خطوات حتى وقف بجانب رأفت ورفع كفه حتى استقر على ذراعه، فنظر إليه الأخير بنظرات تحمل قوة كبيرة لم تستطع إخفاء كسرته، هو يشعر بتفتت فؤاده، لكن هو أيضًا مُعذَّب بحقِ والديه، لذلك تمتم رائف بنبرة قوية وهو ينظر لعينه:
سألتني قبل كدا هعمل إيه وأنا معرفتش أجاوب، بس حقك عليا والله، دم أبويا وأمي هيفضل متعلق في رقبتي طول العُمر لو مجبتش ليهم حقهم، أنا آسف.

وعقب كلماته المُبهمة، وجد قوات الشرطة تملأ المكان وتتجه تحديدًا نحو صبري وبُثينة لإلقاء القبض عليهما، بعد أن اعترفا بجريمتهما المقصودة لقتل سعيد المحمدي، وسط اعتراض صبري وصرخات بثينة وغضبها رغم جروح ذراعها! كل شيء حدث في دقائق لا تُعد حتى بات المكان فارغًا والصمت الصاخب يعم الأرجاء عكس دقات القلوب الهادرة!

انفلتت دمعة مقهورة من عينيّ رأفت رغمًا عنه، والديه سيئان لكنهما بالنهاية والديه! ماذا عساه أن يفعل في موقف كهذا، وجانبًا له. كان رائف يشعر بنفسِ شعوره، ألا وهو شعور القهر المُمتزج بالحسرة، قهرًا وحسرةً على تفاني عُمره وحده دون وجود مَن يحميه، نشأ وتربى وحيدًا حتى وصل لِمَ فيه الآن، هو مَن أعاد إصلاح ثُقب سفينته بنفسه، ولولا قوته لكان غرق بين أمواج الحياة الهادرة!

استدار عتمان نحو حفيديه يُطالعهما بأسفٍ بالغ، انفرجت شفتيه للحديث لكنه أطبقهما مُجددًا بعد أن تركهم رائف ورحل، ليس تبجحًا أو قسوة، لكن حتى يُداري آلامه العتيدة كما اعتاد طيلة حياته، حتى يُلملم شتاته ويُداوي جروحه بنفسه دون وجود رفيق!
لو الحياة بعد الخطف هتبقى كدا فأرجوكم اخطفوني كل يوم.

هتف بدير بتلك الكلمات أثناء تناوله لأصناف الطعام المختلفة بنهم، تلك الطاولة تحوي على كل ما استلذ به المرء يومًا، ناهيك عن ذلك القصر الفسيح الذي يجلس فيه الآن، في بداية الأمر ثارت ثائرته حينما اختطفه الرجال وحملوه قِصرًا لوضعه في السيارة، والآن هو مُمتن لهم كثيرًا، وبالرغم من وجوده هُنا فيما يقرب من الساعتين، لم يتسائل بسؤالٍ واحد حتى!

مرت ساعة أخرى حتى استمع إلى صوت خطوات قريبة تدنو منه، ابتلع ما بفمه بسرعة قبل أن يقف ويرفع رأسه ليُطالع ذاك الذي يقف أمامه، شمله بنظراته التي سارت على بذلته الرمادية الآخذة، ثم انتقلت إلى وجهه المُرتسم عليه خطوط عجزٍ نقشها الدهر ببراعة، ذقنٌ منابتها قصيرة ومهذبة، وعينان خضراوتان تعكسان صراعًا طال وقته لكنها تمتزج بالقوة الخالصة، حتى توقفت على خصلاته السوداء التي غزاها الشيب كمحتلٍ سالب!

يشعر بأنه قد رآه من قبل، لكن أين ومتى؟ لا يتذكر، لذلك لم يبخل بدير على ذاته بالسؤال وهو يفطب جبينه مُستعجبًا: مين حضرتك؟
اقترب منه الرَجُل الوقور أكثر حتى وقف قبالته، قبل أن يبتسم نصف ابتسامة وهو يمد كفه لمصافحته: ماجد عاشور، عم تسنيم عاشور.

اتسعت عينيّ بدير بذهولٍ وهو يُطالع هيئته المُستحدثة من جديد، مظهره يبدو بعيد كل البُعد عن ذاك العجوز صاحب الثياب المُهترئة والجسد الضئيل الذي رآه من قبل، لكن يبدو أن للأموال سحر خاص كما يُقال!
صافحة الآخر بعد أن طال ذهوله للحظاتٍ عديدة لم يمل فيها ماجد من تحديقه به، فنظر الأخير إلى طاولة الطعام وقال مُبتسمًا بخفة: الأكل اللي أنت كلته دا كان بتاعي أنا وأنت، بس مش مشكلة، يلا بالهنا والشفا.

فدايا يا عمي، المهم إن صحتي بخير.
ضحك ماجد بخفة قبل أن يُشير له نحو أحد المقاعد للجلوس عليها، فتبعه بدير ثم جلس قبالته وانتظر بحذر لم يُبينه للسبب الذي يدعو ماجد أن يجلبه هُنا وبتلك الطريقة، وللحقيقة هو لم ينتظر كثيرًا، فلقد بدأ ماجد الحديث بجدية صريحة غير ملتوية وبدون مُراوغة قائلًا:.

تسنيم كلمتني وحكتلي عن رغبتك في الجواز منها، وطبعًا أنت مش محتاج أقولك إني بقيت في مقام أبوها الله يرحمه، ومصلحتها من مصلحتي أنا بالظبط، وللحقيقة أنا معنديش أي اعتراض عليك كشخص، خصوصًا إني سألت عنك وعن عيلتك والإجماع كان بيشكر فيك وفي أخلاقك وأخلاق عيلتك ودا ريحني من ناحيتك، دا غير إنك عارف اللي حصل معاها والأزمة اللي مرت بيها بسبب ابن عمها وبالرغم من دا أصريت برضه إنك تتجوزها.

أومأ له بدير بجدية دون الحديث مُؤكدًا على كلماته بإيماءة رأسه، مما جعل ماجد يستطرد الحديث بقوله المُحذر والممزوج بالوعيد: وللأمانة أنا ارتحتلك، لكن لو جِه اليوم اللي تسنيم تشتكي فيه إنك ذليتها بسبب ماضي هي ملهاش ذنب فيه، صدقني ردة فعلي هتكون قاسية ومش هتعجبك أبدًا.

والإجابة أتته على هيئة ابتسامة باردة غير مُبالية بكل ما قيل، بل أن نظرات بدير الواثقة جعلت الإعجاب يتراقص داخل مقلتيّ ماجد، وازداد أكثر حينما هتف الأول بهدوءٍ مُستفز وهو يستند على ظهر مقعده براحة:
أفهم من كدا إنك موافق على جوازي منها؟
مش قبل ما أسمع ردك على كلامي الأول.
الجلسة كانت عبارة عن كُتلة من الاستفزاز، فالتوى ثُغر بدير بابتسامة مُتهكمة وهو يُضيف: الكلام سهل بس الرجالة اللي تنفذ، وأنا بنفذ.

التمعت عيني ماجد إعجابًا، لن ينكر حُبه ل بدير أو شخصيته المرحة التي تُضيف بهجةً للمكان، بعيدًا عن استفزازه الآن بالتأكيد! ذلك توقف أمامه على بغتة قبل أن يقول مُبتسمًا:
حيث كدا بقى نقعد ناكل سوا قبل ما تروح تبلَّغ أبوك الحج هارون إنك عايز تتجوز بنت أخويا.

اتسعت ابتسامة بدير وهو يقف بدوره، وكأن قناع الاستفزاز الذي كان يرتديه منذ قليل قد تبدد نهائيًا ليحل محله شخصيته الأساسية! لذلك لم يُفكِّر مرتين قبل أن يُهرول تجاهه ليحتضنه بجنون وهو يُقبِّل وجهه! تعالت ضحكات ماجد بانطلاق، وما كاد أن يتحدث، حتى ابتعد بدير عنه راكضًا نحو الخارج حتى يُخبر أبيه عن موافقة ماجد وكذلك تسنيم عن الزواج!

لن يكذب إن قال بأنه يشعر الآن بالحرية، وكأنه كان حبيسًا لقفصٍ مصنوع من النيران المُلتهبة اقتصت جوانحه، وها هو يُحلِّق بجناحيه كيفما يريد دونما وجود أن عوائق! فسماء العشق التي كان يتخيلها تحتضنه برقةٍ كرضيعٍ أتى بعد طول انتظار، ومطر الغيث يسقي نبتته بعد أن ماتت ليُحييها، وشمس الحب بددت غيوم الظلام لتُنير ديجور ضلاله، وها هو يُحلِّق!
امشي قدامي. امشي يا رقاصة.

غمغم حمزة بتلك الكلمات وهو يدفع رضوى بخفة لتسير أمامه، فيما مطت هي شفتيها بحنق وهي تقول: طب متزوقش!

وصلا إلى السيارة بعد خروجهما من القِسم ثم صعدا بها، لقد كانت اللحظات الماضية عصيبة لكليهما، حينما أصرَّ ذلك الشاب تقديم محضر ضد رضوى بتهمة التعرض عليه وعلى أخيه الكفيف، الأمر الذي لم يكن ليمر مرور الكرام لولا وجود حمزة وتداركه للأمر سريعًا بحديثه المُنمق، وبعد فترة لا بأس بها من الإقناع وافقا الشابان أن يتراجعا عن المحضر بعد أن أصرَّ حمزة إصرارًا قويًا على منحهما تعويض مالي.

جلس حمزة أمام المِقود قاطبًا حاجبيه بضيق، فرمقته رضوى صامتة بريبة للحظاتٍ قبل أن تقول بحذر: أنت زعلان مني يا حموزي؟
انقبض فكه بقوة عاكسًا مدى ضيقه وسخطه منها، فابتلعت ريقها بتروٍ حتى تستدعي قوتها الهاربة، وقالت مُبررة فعلتها الحمقاء بقولها:
وأنا هعرف منين إن هو كفيف بس؟ وبعدين بدل ما تفرح إن مراتك بتحافظ على شرفها في غيابك زعلان مني؟

قالت جُملتها الأخيرة ببعض الضيق الحقيقي وهي ترمقه بعدم رضا وخوفٍ بدأ ينمو في زريعتها، ها هو أول صدام حقيقي يحدث بينهما وهي تنتظر حُكم القدر على فعلتها، لا تخافه لشخصه، بل تخاف ردة فعله التي تخشى كثيرًا أن تكون مُقاربة لردة فعل أبيها وجحوده، ولا إراديًا سرت رعشة طفيفة في جسدها وكأنها تنتظر حُكمها كمُجرم أُمسِكَ بالجُرم المشهود!

زفر حمزة بحرارة قوية قبل أن يستدير لها برأسه ويتحدث بهدوء: أنا مش زعلان منك يا رضوى على قد ما كنت خايف عليكِ، افرضي إن الولدين دول مكانوش كويسين وطِلعوا بلطجية بجد، كنتِ أنتِ هتعملي إيه وقتها؟ كنتِ هتتصدي ليهم برضه ولا كنتِ هتخافي وفرصة تحرشهم بيكِ هتبقى أكبر؟
أومال كنت عايزني أعمل إيه يعني؟

تسائلت بها بضيقٍ رغم راحتها الشديدة من ردة فعله الهادئة ومعاتبته الرقيقة لها، فأجابها بعبثٍ بعد أن تخلى عن قناع الأب الصارم الذي ارتداه من قليل، ضاربًا إياها في كتفها بمشاكسة:
اضربي واجري بس متقفيش.

شقت الابتسامة وجهها بحذر في البداية، قبل أن تتسع في كامل وجهها وهي تستشعر دفئ وجوده حولها، وكأنه قرأ ما يدور بذهنها والتقط خوف عيناها المُشبعتان بخوفٍ ظاهر بالنسبة له، لذلك أغلق نوافذ السيارة ثم استدار لها بكامل جسده قبل أن يُمسِك بكفها ويُقربه لفمه ليلثم باطنه برقة، اشتعلت عيناها بعاطفة عشقه التي لا تنطفيء مع حنانه، بل تزداد توهجًا واشتعالًا في حضرته، وذلك قبل أن يقول بعشقٍ تربع داخله:.

خليكِ عارفة يا رضوى إنك أغلى حاجة في حياتي، مكانتك من مكانة عيلتي بالظبط مقدرش أعيش من غير ولا واحد فيكم، واللي يأذيكِ يأذيني قبلك، علشان كدا مش بحب حد يقولك كلمة مش تمام، عُمري ما هاجي عليكِ في يوم حتى لو كنتِ غلطانة بس هفهمك غلطك بالراحة، حياتنا مش هتكون خالية من المشاكل، دا ممكن كمان نتخانق كل يوم خناقة برب السما ونلم علينا الجيران، بس في الآخر مش هيبقى لينا غير بعض.
أنت إزاي حِلو كدا؟

وللحقيقة هي لم تجد ما تقوله غير جُملتها تلك، بحديثه الرقيق أخذها ليطير بها إلى سابع سماء ليُحلق في سماء عشقهما الأبدية، وأد بذور خوفها وحصد محلها أمانًا واطمئنانًا، لذلك فلتت كفها من بين يديه واقتربت لتُحيط عُنقه بكل قوتها، عناقٌ عكس شكرها وامتنانها الصامت له وهو استقبل حديثها الصامت هذا برحابة صدرٍ وهو يضمها إلى فؤاده ليروي ظمأه، علاقتهما لم تكن بين عاشق وعاشقة، بل بين فتاة مُدللة وأبيها، حينما تُخبره ب أنها خائفة يُبدد قلقها بقوله أنه سيُطمئنها، لذلك لم تبخل على ذاتها بسؤاله:.

ولما أخاف يا حمزة؟
هطمنك يا رضوى.
اعمل فيكِ إيه؟ أطلقك وأخلص منك قبل ما تجلطيني؟
صرخ مصعب بتلك الكلمات وهو يُشدد من إمساك روان من ياقة ملابسها بعد أن حررها من خطفها بأعجوبة، تذهب للعبث مع مجرمين وقتلى متسلسلين وبعدها تطلب نجدته ليُنقذها، انكمشت روان على ذاتها وهي ترمقه بنظراتٍ مُذنبة، قبل أن تقول مُبررة:
يا مصعب باشا أرجوك افهمني!

هزها بعنفٍ وقال وهو مازال يهزها من ثيابها: افهم إيه ها؟ أنتِ اللي زيك لازم يموت، السلالة بتاعتك لازم تنقرض في أسرع وقت قبل ما تتكاثر.
حاولت التحرر منه وبالفعل نجحت بأعجوبة، ثم استدارت له قائلة بقوة وهي تُعدِّل من ثيابها ونظارتها الطبية التي كادت أن تقع أرضًا: على فكرة اللي أنت بتعمله دا عيب وميصحش، دا بدل ما تشكرني وتفتخر قدام الكل إن مراتك كانت السبب الأساسي في القبض على المجرمين دول!

القبض على المجرمين دول؟
هتف بها ساخرًا وهو يكاد يتذكر تلك الرصاصات التي تبادلت بين الطرفين حتى كاد أن يُصاب هو، ناهيك عن تهديد هؤلاء الرجال لها بالانتقام منها لما تسببت لهم من أذى، نفخ مصعب بسخطٍ وهو يُدلك وجهه بعصبية شديدة، قبل أن يجدها تقترب منه وتقول بصوتٍ خائف:
مصعب؟ هو الراجل اللي هناك دا بيبصلي كدا ليه؟

نظر مصعب لما تشير بعينها، فوجد رجلًا ضخم الجثة بشاربين كبيرين يُطالعها بوعيدٍ مُرتسم بصراحة داخل عيناه الصقرية، ليعود ببصره لها قائلًا بتهكم: لأ ولا حاجة، دا حيالله أنتِ مبوظاله صفقة بحوالي 12 مليون جنيه مش حوار يعني!
فِكرك هيقتلني؟

هتفت بها بخوفٍ حقيقي وهي تكاد تلتصق به، فلانت ملامحه بعد أن تشققت شفتيه بنصف ابتسامة على عفويتها التي تكاد أن تُهلكها في يومٍ من الأيام، لذلك رفع ذراعه وأحاط به كتفها ليضمها إلى صدره ومن ثَم قال بحب:
مش هسمح لحد يقتلك غيري أنا.
لربما تكون تلك الجُملة هي الأنقى في علاقتهما المعتوهة تلك، هو مُتيقن ان نهايته ستكون على يدها بالتأكيد، لكن كل هذا لا يهم، مادام هي ستُقتل معه فليذهب العالم للجحيم!

ابتعد عنها قليلًا بعد أن استمع إلى صوت رنين هاتفه يعلو، أخرجه من جيب بنطاله ونظر لشاشته فوجد أن المُتصل لم يكن سوى أبيه، لذلك أجابه باحترام على الفور:
السلام عليكم يا حج!
اتسعت ابتسامة روان وقالت بفخرٍ وهي تُطالعه بهيام: حبيبي محترم اسم الله عليه يا ولاد!

كتم مصعب ضحكته وهو يستمع إلى حديث أبيه على الطرف الآخر، قبل أن يقول بصوتٍ مكتوم من ضحكه: حاضر يا بابا، نص ساعة وهكون قدامك إن شاء الله. مع السلامة.
نظرت إليه بتساؤل بعينها البُنيتين، فدفعها أمامه وهو يقول ضاحكًا: قدامي يا مصيبة يلا عشان نروَّح.

علي المرء أن يتحكم في أفعاله حتى لا يُباغت بردات فعلٍ لا تُعجبه، لكن هذا الحقير كما أطلق عليه يعقوب للتو يُصمم على إخراج الوحش الكامن بداخله دون النظر إلى العواقب! استشاط حينما رأى عمير بابتسامته المُستفزة يطالعه بتحدٍ قبل أن يختفي من أمام ناظريه ويدلف إلى محل ذكرى، «سيدة الورود خاصته فقط ولا يحق للعامة مُشاركته فيها هي خصيصًا، لذلك لم يمنع قدميه من الذهاب خلفه مُهرولًا وكأنه يلتهم الطريق إلتهامًا، مَن يراه يكاد يُقسِم على رغبته العارمة لقتل عمير في الحال!

وعلى الجانب الآخر. كانت ذكرى تجلس مع سارة على الأريكة الجلدية الوثيرة، والتي تشكو لها من تلك المُدعاة ب أم بخيت، تلك التي قاطعت لحظتها مع بادر قلبها، لتنطلق ضحكات ذكرى تدوي في الأرجاء قبل أن تهتف قائلة من بين ضحكاتها:
إحمدي ربنا إن مفيش عربية جت شالتكم أو طبق طاير نِزل فوق نافوخكم وجاب أجلكم.

إلتوت شفتيّ سارة بعدم رضا وهي تهتف بحنق قد بلغ مبلغه منها: أنا معرفش إيه الفقر اللي راكبني دا! هو الإنسان ميعرفش يتباس من سُكات؟ لأ والموكوس التاني اتكسف وجِري وكأنه شاقطني، دا إيه الفقر دا ياربي!

تعالت ضحكات ذكرى أكثر حتى شعرت بتقلص معدتها من شدة الضغط عليها، من يرى رفيقتها الآن يقول بأن أم بخيت قد قتلت لها قتيلًا أو ما شابه، أهذا ذنبها لأنها أنقذتهم من الكارثة التي أوشك بادر على فعلها في الطريق العام!
وأدت ضحكاتها فجأةً وخيَّم الصمت على المكان حينما أبصرت عمير يقف على أعتاب المكان بعد أن حمحم بجدية، وقفت في مكانها على بغتة واقتربت من تزامنًا مع سؤالها الغير راضي:
أنت بتعمل إيه هنا!

كان قد أتى مُسبقًا لها عدة مرات ليطلب عفوها، ولن تُنكر أنها استشفت ندمه الشديد على ذنبه، لكن أي ذنبٍ يُغفَر وهو الذي جعلها كلُقمة سائغة على ألسنة أهل المنطقة، ولولا رجولة يعقوب معها لكانوا قد انتهكوها بألسنتهم الرصاصية، فيما حكَّ عمير مؤخرة عنقه بحرجٍ بالغ وهو يقول:
معنى كدا إنك لسه مسامحتنيش!
لأ لسه مسامحتكش.

هتفت بها بحسمٍ وهي تُربِّع ذراعيها أمام صدرها وترمقه بتحدٍ، اقتربت منها سارة حتى وقفت جوارها ونظرت ل عمير وقالت مُعاتبة إياه بصرامة:
ما هو بصراحة اللي أنت عملته يا أستاذ عُمير ميتغفرش بأسف ولا اتنين، يعني أنا عمري ما شوفتك داخل علينا بعلبة بسبوسة ولا فطير مشلتت، جاي بتعتذر سادة دايمًا كدا من غير أي مُقبلات!

سددت لها ذكرى نظرة نارية كادت أن تُصهرها مكانها، فيما رمقها عمير بغباءٍ لعدة لحظات، وما كاد أن يفتح شفتيه ليُجيبها، حتى شعر بمن يمسكه من تلابيبه من الخلف ويقول بغضبٍ امتزج بالسخط:
أنت إيه اللي جابك هنا؟ هو أنا مش عاجبك!
نظر إليه عمير بطرف عينيه وهو يُجيبه باستفزاز: هو أنا مش جيتلك وأنت طردتني؟ زعلان ليه بقى!
طردتك تقوم جاي لمراتي! أنت بتستهبل يا عمير ولا عندك خال أهبل؟
يعقوب إلزم حدودك! كله إلا خالي.

غمغم بها عمير بغضبٍ أعمى بصيرته، قبل أن يصمت يعقوب للحظاتٍ وكأنه يُفكر، ثم قال: بس أنت معندكش خال!
رفرف عمير بأهدابه في إدراكٍ، ثم ابتسم بتوتر وهو يقول: إيه دا تصدق صح! شكلي أ ورت شوية!
زفر يعقوب بسخط دافعًا إياه عنه لا يرضي وجوده هُنا، ثم وقف بجانب ذكرى من الناحية الأخرى وتمتم: عايز إيه يا عمير في يومك دا؟

انتقل الأخير ببصره على كليهما وقد كسى الحرج وجهه، لا يعلم كيف يبدأ الحديث أو كيف يطلب العفو من شخصين أرهقهما بسبب أفعاله الحاقدة وضميره الشيطاني من قبل، عادةً ما يسمع بأن الشياطين ليس لهم توبة، كيف وهو هزم نفسه وعاد لرُشده من جديد بعد أن كان شيطانًا قبيحًا ينبذه العالمين! سحب نفسًا مُطولًا ثم زفره على مهل وبدأ حديثه بقوله الهاديء المُمتزج بحرجه:.

عايز نبدأ بداية جديدة، صفحة بيضا مفيهاش أي غلط أنا غلطته، عارف إن ذنبي ميتغفرش بسهولة وإني كنت هدمر حياتكم بس أنا ندمان دلوقتي والله، قهرتكم ربنا وريهالي لما شوفت أمي ضهرها منحني بسببي وأبويا بيتذلل للناس، مش طالب منكم كتير بس طالب منكم تسامحوني وأنا واللهِ هكون خير صديق ليكم وجربوني.

تبادل يعقوب وذكرى النظرات وقد لانت وجوههم قليلًا، حديثه مسَّ قلبه، خاصةً هي، ذكرى التي تعلم تمام العلم أن الإنسان يولد بلا أخطاء، ثم تداركه رحلة الحياة حتى تُدنسه بخطاياها، لا يوجد شخص مهما كانت درجة إيمانه معصوم من الخطأ، لذلك غمغمت بصوتٍ خافت رقّ كثيرًا عما كان به:
خلاص أنا مسامحاك، بس ياريت بعد إذنك يا أستاذ عمير ميكونش فيه أي غلط تاني و...

قاطعها عمير بلهفة مصبوغة بسعادة لم يستطع مُداراتها: مش هيكون فيه والله أنا بوعدك، والعيل اللي يرجع في كلامه.
انتقل ببصره جهة يعقوب ليلمح هدوء وجهه الشديد، مما جعل القلق يتسرب إلى فؤاده، لكن أشرق وجهه بابتسامة عذبة حينما زفر الأخير قائلًا: ولا إن قلبي مش مطاوعني بس كله بثوابه، مسامحك يا عم.

شقت الابتسامة وجه عمير الذي اتجه إليه ليُعانقه، وتلك المرة لم يكن يحمل تجاهه أي ضغينة أو كُره، بل هو حب أخوي خالص خالٍ من الشوائب أو رتوش الكُره! بادله يعقوب العناق وهو يبتسم بصفاء، وبعد لحظات أبعده مُتصنعًا الضيق وهو يقول بسخطٍ زائف:
يلا يا عم اسرح من هنا وقتك خلص، ومتنساش تسلملي على الحج حامد وتبوسهولي من هنا ومن هنا.

ضحك عمير براحة ومرح قبل أن يستأذن من الجميع ويتركهم ويرحل، تابع أثره يعقوب وذكرى بابتسامة صغيرة، قبل أن يستمعا لصوت يأتي من جانبهم، كان مصدره سارة التي مصمصت على شفتيها بمسكنة مُصطنعة:
أكتر حاجة بحبها فيكم هي رقة قلبكم، ربنا يبارك فيكم يا كتاكيت.
استدار لها يعقوب قائلًا: روحي يا مرات أخويا كلمي بادر كان بينادي عليكِ.

علمت سارة بأنه يُحاول إصرافها، فاستكانت بظهرها على الأريكة الوثيرة وهي تقول باستفزاز: كان على عيني والله يا يعقوب بس أخوك مكسوف مني أساسًا.
لم يُريد يعقوب علم التفاصيل لكونه لا يُبالِ، لذلك قلب رأسه بملل وأضاف قائلًا: طيب روحي شوفي أختك عايزة منك إيه.
ابتسمت باصفرار وغمغمت: أختي برا مش في البيت.

نغخ بنفاذ صبرٍ حتى قال بضيق طفيف: ما تقومي يا سارة الله يكرمك وسيبينا لوحدنا، دا حتى اللي ميشوفش من الغربال يبقى أعمى!
حديثه مسها ووقفت في مكانها مُقتربة منه بعصبية، ثم اقتربت منه بمعالم وجه مُتشنجة حتى توقفت أمامه وهتفت بصوتٍ حانق: ما تقول إنك عايز الجو يخلالك مع ذكرى! ما بدل قلة الأدب دي روح علَّم أخوك اللي بيتكسف مني! يعني كلكم تكونوا متربتةش وألبس انا في المحترم اللي بيتكسف! دا ظلم دا.

قالت كلماتها الأخيرة ثم رحلت من أمامهما بخطواتٍ غاضبة، كتمت ذكرى ضحكتها بكف يدها، فيما تابع يعقوب أثر زوجة أخيه بوجهٍ مُتشنج هامسًا: دا انتوا عيلة دماغكم تعبانة صحيح!

أجنحة الحمامات رقيقة هشة كالقشة، وعيون الفراشات زجاجية بخفة النبتة، وحُرية الطيور تتسع من أجلها الروح، فما كان ذلك الشعور أن يستقر إلا بفؤاده هو، بدير الذي يسير على الأرض كما ورقة الشجر من خفتها، يشعر بنسمات الهواء العليل تُعانقه بمُباركة، أخيرًا وبعد عناء سيأخذ من يرغبها فؤاده، وكم هو أكثر من سعيد الآن!

كانت الابتسامة تشق وجه بدير الذي يسير بابتسامة هائمة غير مُباليًا بالنظرات التي تحدجه بتعجب، فساعدته الآن أبلغ من أن يصفها شعور أو تصفها عبارات، لكنها ثوانٍ ما بُتِرَ حبل أفكاره حينما قاطع طريقه عدة رجال يتساءلون بغلظة:
أنت بدير هارون؟
رمقهم بدير بنفس الابتسامة وكأنه يحمل تجاههم شعور حب أو ما شابه: أيوا أنا. اؤمر يا جميل!

نظر الرجال لبعضهم البعض بتعجب، قبل أن يهتف أحدهم بصوتٍ غليظ وهو يُوجه ماديته إلى جانب معدته بتهديد: اتفضل معانا من سُكات ومن غير أي شوشرة بدل ما أغزك.
دا عيني ليك يا عسل.
رمق الرجل صديقيه بريبة ثم عاد ليُتابع بدير الذي صعد للسيارة دون أي مقاومة حقًا، عاد بنظره نحو اصدقائه وقال بقلقٍ بالغ: الواد دا شكله مش مظبوط، دا بيقولي يا عسل!

إحنا ملناش دعوة، إحنا نعمل اللي اتقالنا وناخد القرشين ونخلع، بس مش أنا اللي هقعد معاه ورا.
ولا أنا.
فنظر كلاهما إلى صديقهما الثالث والذي هتف بعصبية: ولا أنا. دا على جُثتي.
وانتهى الأمر بصعود الأخير ليجلس بجانب بدير الذي كان يبتسم بطريقة مُريبة وبدون داعٍ من وجهة نظرهم، فابتعد الذي يجلس جواره عنه قليلًا وهو يُتابعه بقلق من الحين للآخر، حتى وصلوا إلى المكان أخيرًا!

هبط من السيارة وسار معهم حتى وصلوا جميعًا إلى المنزل، وما إن فُتِحَ الباب حتى ظهر من خلفه صُحبته القديمة، لذلك شهق بعدم تصديق قائلًا وهو يقترب منهم:
سليم ومدثر ويحيى؟ بتعملوا إيه هنا!
رفع يحيى رأسه له وقال بغيظ: أخوك يعقوب خطفنا وحالف يمين تلاتة ليخطفك أنت كمان، دا انتوا معرفتكم فقر!
جز سليم على أسنانه بغيظٍ ثم غمغم من بينهما قائلًا بوعيد: أنا أبويا مش هيسيبني ومش هيسمح للمهزلة دي تِكمل أبدًا.

قال جُملته وهو يتذكر حديث الرجال ل يزن الراوي منذ قليل، والذي استقبل خبر خطفه بهدوءٍ تام على اتفاقٍ بالقدوم للمكان، كذلك تم الأمر مع ريان الطحاوي الذي ظهر فزعه جليًا، كما تم مهاتفة قاسم طاحون ليأتي ويأخذ يحيى جلَّاب المصائب، كُتلة من البرود و البلاهة و الاستفزاز سيجتمعون معًا في مشهد مُهيب بعد قليل!

دفع أحد الرجال بدير ليجلس على المقعد المجاور ل مدثر، وما إن تم تشديد الوثاق من حوله وتثبيته بالمقعد، حتى استدار بوجهه نحو مدثر يُقبله من الجانبين مُتبعًا فعلته بقوله:
حبيب قلبي وحشتني ياض!
بادله مدثر القُبلات قائلًا: عيني يا ولا، منورنا والله، القَعدة مكانتش هتحلو من غيرك.
صعد صوتًا ساخرًا من بين شفتي سليم الذي قال بتهكم: قصدك الإهانة مكانتش هتكمل من غيره.

رد عليه مدثر بلامبالاة: أهي كلها مُسميات فارغة، المهم إنه وسطنا دلوقتي.
وللعجب ظلوا يتبادلوا الأحاديث لكثيرٍ من الوقت وكأنهم في نُزهة عائلة، قبل أن يستمعوا لصوت جلبة تأتي من الخارج، وهُنا صاح مُدثر مُهللًا: بابا جِه.
رمقه ثلاثتهم باستنكار، فتوتر من نظراتهم مما دفعه للحمحمة بتوتر ويقول بجدية زائفة: قصدي أبويا جِه.

وعقب كلمته، كان الباب يُفتَح بعنفٍ بعد أن فرَّ الرجال مُبتعدين عن المكان كما أمرهم يعقوب قبلًا، لتمر نظرات يزن الراوي عليهم جميعًا قبل أن تتوقف على ابنه المُقيد، هُنا شقت الابتسامة الساخرة وجهه ومن ثَم قال:
يا ميلة بختي في تربيتي ليك، دي أختك متتثبتش التثبيتة العِرة اللي أنت فيها دي!

تغضن وجه سليم بضيقٍ وعقله يعمل في كل الاتجاهات في محاولة لاختراع حُجة يقتنع به والده، فلم يجد من الكلمات سوى أن قال بتبرير: يا بابا خدونا على خوانة وكانوا رجالة عددهم كبير.
يكذب على يزن؟ يالخسته! ألا يعلم أن عقل والده يُوازي عقل جميع الأفاعي شديدة الخطورة؟ ألم يجد أقوى من تلك الحُجة البلهاء ليُلقيها على مسامعه؟ لذلك كانت ردة فعله باردة حينما ابتسم له باصفرار قائلًا:.

خوانة وعددهم كبير؟ ويا ترى كان عندهم جناحات وبيطيروا في الجو ولا مخدتش بالك!
هُنا زفر سليم بضيق وقد أيقن أن حديثه لم يدخل عقل والده ولو لثانية، فيما رد مدثر على حديث يزن وقال بلهفة: لأ يا عمي كان معاهم مطاوي هالو كيتي.
انتفض بدير في مجلسه وهو يتسائل بصراخ: هالو كيتي؟ سرقوا المطاوي بتاعتي ولاد الحرامية! والعَملة دي متطلعش غير من يعقوب السافل عشان يقهرني على شقى عُمري.

طالعه يزن بسخرية، قبل أن يُطالعهم جميعًا بنظرة اشمئزاز صريحة لم يُحاول تجميلها وقال: والأعور هيصاحب إيه غير ناس عورة شبهه؟
نظر بعضهم لبعضٍ عقب تصريح يزن الصادم بالنسبة إليهم، فيما اعترض يحيى بقوة: لو سمحت يا يزن باشا أنا مش أعور.
أنت مش أعور. أنت أهطل يا حبيبي.

نظر الجميع إلى مصدر الصوت الذي أتى من خلف جسد يزن الراوي، والذي لم يكن تابع سوى ل قاسم طاحون الذي دخل لتوه، جاور قاسم. يزن ثم صافحه باحترام قائلًا:
أهلًا بيك يا يزن باشا.
صافحه يزن قائلًا: أهلًا يا دكتور قاسم، اتشرفت بيك.

لم يكن يزن على معرفة شخصية ب قاسم، لكن سيطه قد وصله عن أنه من أمهر الأطباء وأفضلهم في مصر عامةً، وبالطبع كانت معرفة قاسم ب يزن من القنوات الإخبارية والإعلام، حيث أن اسمه مُنتشر بدرجة واسعة بين كبار رجال الأعمال. 10
قاطعهم مدثر بقولهم المُتسائل: أومال فين بابا مجاش ليه؟
التفت إليه يزن مُتحدثًا بنبرة باردة لم تخلو من سخطه: نايم في العربية وبيحاولوا يصحوه.

وعقب أن انتهى من حديثه، حتى دخل عليهم ريان يتمطع بذراعه في الهواء لتكاسل، وعى لذاته قليلًا ثم هتف بنعاس: جود مورنينج يا شباب!
تشنج وجه الجميع سخطًا، في حين نظر قاسم إلى ساعة معصمه وقال أثناء نظره ل يحيى: والله لو كنت أعرف إن الحوار تافه كدا ما كنت جيت، يابني أنت مش كِبرت على الحاجات دي بقى!

مط يحيى شفتيه بعدم رضا قبل أن يُغمغم بضيق: أنا معملتش حاجة دا يعقوب، وبعدين أنا مخطوف يعني المفروض أشوف نظرة خوف في عينيك دلوقتي!
لأ ما هو أنت مش مراتي، بقولك إيه أنا ورايا عملية كمان ساعة ومش فاضيلك، سلام.
أنهى حديثه مُعطيًا إياه ظهره ثم سار مُبتعدًا عن الجميع بعد أن صافح يزن وريان، فناداه يحيى بعلو صوته: رايح فين يا قاسم؟ طيب تعالى فكني طيب!

لم يُبالِ قاسم بندائاته المُتكررة وأكمل عدوه نحو سيارته، فيما نظر يزن إلى ساعة معصمه هو الآخر وتشدق قائلًا: وأنا كمان ورايا اجتماع مهم كمان شوية ولازم أمشي.
وبالفعل استدار ليرحل، قبل أن يستمع إلى صوت سليم الذي ناداه بلهفة وقال: طيب فُكني الأول يا بابا!
أنا مش أبوك.
هتف بها يزن بلامبالاة حين إكماله لسيره، فلم يتبقى سوى ريان الذي طالع ابنه بشفقة في باديء الأمر، لكن عيناه احتدت بعد ثوانٍ وقال مُعنفًا:.

مش هفكك عارف ليه؟ عشان مش ابن ريان الطحاوي اللي يتربط الربطة دي، ليه مِطلعتش زي أبوك أسد مجاله؟ إخص على التربية إخص!
وهو الآخر تركهم ورحل، جاعلًا إياهم ينظرون لبعضهم البعض في صدمة جلية، ليصعد تساؤل يحيى المُتحسر: كدا مين اللي هيساعدنا؟
والإجابة أتته من بدير الذي استعان بجُملة شقيقه يعقوب حينما قال بحسرة: هيلب يور سيلف يا روح أمك.
الورد للورد يا ست ذكرى.

همس بها يعقوب وهو يقف أمام ذكرى بعد أن ساعدها في سقاية جميع الورود حتى لا تَذبُل، مد يده لها بوردة حمراء تُشبه احمرار خديها الآن، وأخرى بيضاء تُنافس بياض قلبها، وثالثة وردية تُزاحم جمال أيامها، وجمعهم بأنشوطة رقيقة، أخذتهم منه بابتسامة سعيدة شقت وجهها، ثم ثبتت نظراتها على عينيه العسليتين وقالت:
أنا اللي يحبني يجيبلي ورد.
وأنا اللي يحبني يحب الورد.

همس بها أمام وجهها، ليرفع ذراعه ليُقربها منه أكثر ويستطرد حديثه بهمسه الآخذ: وأنتِ أجمل وردة في حياتي.

لم تبخل على أذنيها لأن تستمع إلى ترانيم دقاته، لذلك استندت برأسها على صدره وأغمضت عيناها باستمتاع وهي تُنصت لعزف نبضاته التي تصعد من أجلها، لم تشعر بابتسامتها التي اتسعت، ولا بمعالم وجهها التي ارتخت براحة، ولا بفؤادها الذي اتحد مع خاصته في ترنيمة عشق جديدة من نوعها، هي فقد ألقت جميع الهموم خلف ظهرها وبدأت بالإبحار معه في موج عشقه العالي.
الورد بيحبك أوي يا يعقوب زي ما ذكرى بتعشقك وبتموت فيك.

رفع رأسه بيدها حتى يعتقل نظراتها بخاصته، قبل أن يهمس لها بنبرة أذابتها عشقًا:
المفروض يسموا نوع ورد باسم ذكرى، بحيث يكون فريد من نوعه ومش موجود منه إلا القليل، فبدل ما يتقال أنا عايز ورد يتقال أنا عايز ذكرى.
سمحت ذكرى لأناملها بالعبث في ملامح وجهه، حينما همست بإنهاكٍ من عشقه: وأنت هتكون البذرة اللي اتزرعت بيها ذكرى، علشان كدا دايمًا يعقوب هيبقى ل ذكرى، لإن من غير البذرة مش هيبقى فيه وردة!

وكيف يستطيع أن يتحمل عاصفة المشاعر تلك أكثر من ذلك، أخذها للمنزل لتبدأ أول رحلاتهم في طريق عشقٍ زُرِعَت حدائقه ببذرة الحب يعقوب، لتنتج ورودًا نادرة النوع ك ذكرى! فُيُصبح طريقهما مليء بالنور، وحيث يوجد يعقوب. توجد ذكراه الخالدة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة