قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والأربعون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والأربعون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والأربعون

آهٌ. تنبعث من الروح قبل الفاه، يُناجي بها الفؤاد قبل اللسان، تصرخ بها العيون قبل الحناجر، ويتوسل بها الشريد فاقدٌ للمأوى!

بعد مرور شهران.

ضم عمران زوجته إليه وهو يكاد يبكي على حالتها التي ساءت فجأة، هو في لحظة وجدها تصرخ من الألم، كل إنشٍ في قدمها يتوسل الخلاص، روحها أُنهِكَت واستنزفت كل قوتها، ولأول مرة يشعر بذلك العجز، بكاؤها يخترق كل ذراته بسهامٍ مسمومة من الخوف، يرتعد هلعًا من فقدانها، أن يُحرَم من جنته التي زُجَّ بها بحضرتها، يكاد يجزم بأن دموعها انتقلت إليه حتى شعر هو بألمها، فمال على جبينها يلثمه برقة وهو يرجوها بكلماته: استحملي علشان خاطري، آخر مرة استحملي.

تهدج صوته يوشِك على بكاءٍ يكتمه بكل قوته، فيما عضت جنة على ثيابه بعنفوانٍ وهي تهمس من بين أسنانها التي كادت أن تتحطم من شدة ضغطها: مش قادرة يا عمران، والله العظيم ما بقيت قادرة.

ضمها إليه بأرق ما يمكن وأقسى ما يكون، حالتها تزداد سوءًا ولا مفر من جراحة عاجلة ترفضها هي، وكأنها ترى فيها لحظاتها الأخيرة في تلك الحياة! أغمض عمران عيناه بألمٍ وهو يستشعر أنفاسها التي هدأت حتى انتظمت بعد عناء، منذ ثوانٍ لا تُعَد كانت تصرخ ألمًا حتى تمزقت أحبال حنجرتها الصوتية، والآن بعد أن تسرب المُهديء إلى أوردتها حتى نامت أخيرًا.

أعاد عُمران جسدها للخلف لتنام براحة على وسادتها، لكنها شددت من الضغط على كفه بدعوة صامتة ألا يتركها وحدها، هبط على يدها يلثمها بحبٍ امتزج بخوفه الشديد، وسواس شيطانه لا ينفك أن يتركه فيُهيء له الكثير من السيناريوهات القابضة، استغفر بصوتٍ مسموع قبل أن تستقر عيناه على ملامحها الحبيبة، وكأنه يغرزها غرزًا داخل فؤاده، رفع أنامله ليتلمس وجهها بحنانٍ لا يُفارقه، وهُنا تشققت شفتاه بابتسامة باهتة، فبالرغم من الإرهاق الواضح على ملامحها إلا إنه يراها كأجمل امرأة رآها في سنون عمره كاملة، ومن مثلها جنة؟

استقرت أنامله على جفونها المُغلقة وكأنه يدعوها لفتحهما مُجددًا، هي تخفي أسفلهما أجمل قمرين قد يراهما بشر يومًا، بتلك النظرة الآسرة التي تختصه به هو، لطالما كان يسمع عن حديث العيون، والآن أيقنها، بعد أن رأى داخلهما اللآلاف من كلمات الحب لم يبوح بها اللسان، وعند خاطره الأخير اتسعت ابتسامته أكثر، ليهمس بما يُشبه الوعد:
هتتعالجي يا جنتي وهتفضلي جنة عمران في الدنيا والآخرة.

وعقب كلماته أطبق الصمت للحظات، قبل أن يستمع إلى صوت طرق الباب ليسمح للطارق بالدخول، فأتبعه ظهور كُلًا من إلياس وذكرى، فثبتت ذكرى حدقتاها على شقيقتها رامقة إياها بأعين مُنتفخة أظهرت بكائها المتواصل وهي تُوجِّه حديثها ل عمران:
نامت إمتى؟
ليُجيبها الأخير بعد أن تنهد بحرارة: بقالها خمس دقايق.

استدارت ذكرى لتجلس بجانب شقيقتها من الناحية الأخرى، طالعت ملامحها الشاحبة بأسى شديد وحزنٍ أكبر، لقد باتت كالأموات أو أشد قسوة، تستيقظ من نومتها لتُعاني وتصرخ ثم تعود وتنام مُجددًا بعد أن تُحقن بمهديء سريع المفعول، هبطت دموعها وهي لا تكاد تُصدق ما يحدث مع شقيقتها، وكأن عالمها الوردي الجميل انهار ليقع فوق كاهلها، والحل الوحيد هو المُجازفة أو البتر!

اتجه إليها إلياس بعد أن ألقى نظرة أخيرة على جنة تعكس اختناقه المُحتبس أسفل قناع قوته الواهي، ثم أسندها من كتفها وهمس في أذنها بهمس: كفاية كدا ويلا عشان تمشي مع جوزك.
هزت ذكرى رأسها نفيًا وهي تُعارضه بصوتٍ مبحوح نتيجة لبكائها: أنا مش هروح في مكان، مش هسيب أختي في الحالة دي لوحدها.

رمقها أخيها بضيقٍ قبل أن يهتف بعدم رضا: جنة دلوقتي مش محتاجة حاجة غير إننا نسيبها ترتاح علشان عملية بكرة، وجودنا هنا مش هيفيدها بحاجة.
فتحت ذكرى فاهها للإعتراض مُجددًا، لكنها أطبقته مجددًا حينما غمغم إلياس بصرامة أشد: ذكرى أنا مش عايز عناد دلوقتي الله يكرمك، اسمعي الكلام وتعالي بكرة مع جوزك، محدش هيبات هنا في المستشفى غير أنا و عمران، إحنا أقنعنا إدارة المستشفى بالعافية أساسًا.

استسلمت ذكرى لحديث شقيقها ولم تُطيل في الأمر، هي ترى بأم عينها مُعاناته وصخب روحه الصامت الذي يُخفيه خلف قناع جموده، ولو نظرت داخله لرأته غريق أمواجٌ من بحرٍ هائج يطلب الإستغاثة من هلاك أفكاره، طبعت قُبلة أخيرة على جبين جنة، ثم اتجهت للخارج غصبًا مع شقيقها، تاركة عمران يغوص في ذكرياته مع جنة!

استقبل يعقوب زوجته التي كانت في أشد حالاتها وهنًا، لم يسبق له ورأى انهيارها هذا من قبل، نَحِلَ جسدها وكذلك شحب وجهها وكأنها تُشارك شقيقتها المُعاناة، وصلت ذكرى إليه فما كان عليه سوى أن تستند بجبهتها على صدره بكل ضعف، وثوانٍ حتى استمع إلى صوت نحيبها الخافت الذي اخترق حدود قلبه، ضمها إليه حين استقرت شفتاه أعلى رأسها، يُتمتم بكلماتٍ بدت لها بعيدة لكنها اخترقتها، وكأنها تذهب لتُلقي بحمولها عليه فيُفتتها هو إلى فتات.

بينما حالة إلياس لم تكن أقل منها، لكنه يخفي انفعالاته أسفل قناع جموده ليبقى صلدًا قويًا مع شقيقتيه، اتجهت إليه بدور التي أصرت على الوجود معهم للاطمئنان على حالة جنة المرضية، وحالة إلياس النفسية، لكن وللأسف الشديد لم يُطمئنها القدر على حالة كليهما! رفعت كفها لتُربت به على ذراعه برقة ومن ثم تمتمت بخفوت: .
متقلقش ربنا هيحلها من عنده.

كلماتها كانت مواسية قليلة، لكنه اتخذها كطوق نجاة لغريقٍ أوشك على الهلاك، رفع عينه التي مُلِئَت بالدموع لها وقال بحسرة: الدكتور قال لو العملية منجحتش هيضطر يبتر (يقطع) رجليها!
وككل مرة تستمع فيها إلى مثل هذا الحديث تُصيبها رعشة قوية من قسوة الكلمات، ما أبشع أن ينتظر الإنسان مصيره على شعرةٍ من رأسه، ينتظر أن يهلك أو يموت، وفي كلتا الحالتين فالرجاء هو المطلوب!

خانته مشاعره تلك المرة وسمع لنفسه بالضعف، لم يستطع الإخفاء أكثر من ذلك، لقد امتلأت القِدرة على آخرها ولم يعد يتحمل الابتلاء، لذلك هبطت دموعه على وجنتيه تخترق سدودًا من المقاومة حاول السيطرة عليها، استُنزِفَت مشاعره كاملةً وودَّ لو يُلقي بها في بئرٍ عميق لوأدها، فما كان على بدور سوى أن تضمه وهي تراه بكل هذا الضعف، تبًا للقوانين ولتذهب العادات للجحيم، هو يحتاجها الآن وهي ستُلبي النداء!

الخوف يظل أقوى عدو للإنسان، تظل أنت تبني حصونًا حولك تظنها تحميك، فتأتي رياح عاتية لتُدمر كل ما بنيته، لتكتشف أن بناءك لم يكن سوى قشٍ تذروه الرياح!

وقفت تسنيم أمام مرآتها تنظر لانعكاس هيئتها، لقد تم خطبتها ل بدير الأسبوع المُسبق، لن تُنكِر سعادتها وفرحتها العارمة وقتها، خاصةً وأن عمها ماجد عوضها بحنانه هي وشقيقتها عن غياب والديها، لكن تظل هناك غصة تقف بحلقها تمنعها عن استكمال سعادتها، تخاف أن يتغير بدير معها بعد الزواج، أن تؤثر محنتها عليه كرجل، تخشى أن يعود لتذبذبه القديم، بل تهلع أن يُجافيها بمُعاملته لها!

استفاقت من شرودها على صوت رنين هاتفها الذي عَلى فجأةً ليصدح في الأرجاء، مسحت بأناملها دمعتها التي شقت صفحة وجهها ثم اتجهت إليه، نظرت إلى شاشته بتفحص فوجدت اسم بدير يُزينه، ترددت في الإجابة في البداية وسط كومة مشاعرها المُتخبطة تلك، لكنها حسمت أمرها في الرد عليه.
السلام عليكم!

غمغمت بها بقوة تتعاكس مع هشاشة مشاعرها، هي الآن تتأرجح بين حُبها له وخوفها منه، كانت تريد ردًا يُريح بالها ويُسكِّن موجة مشاعرها، وللحقيقة هو لم يبخل في ذلك، بل قال بحنانٍ مُعاتب بعد أن أجابها بتحية السلام:
يعني لو متصلتش أنا أنتِ مترنيش؟

ابتلعت ريقها بتوتر بعد أن استشعرت عتابه الخفي لها، لكن ماذا عساها أن تُجيب؟ هل تُخبره بتكدس أفكارها الشيطانية وخوفها منه رغم حبها وتعلقها الشديد به؟ أم تتحجج بأي شيءٍ آخر حتى لا تُثير حُزنه؟ لكنه سبقها في الحديث وكأنه قرأ شتات أفكارها المُبعثرة قائلًا بصوته الحنون الذي يُلملم كل الأمان بين ذراته:
قوليلي الحقيقة يا تسنيم، مالِك؟

سؤاله لها بكل تلك الرقة أشعرها حقًا بالضعف، هي التي عانت ضياع الطريق طيلة حياتها، معه تشعر بأنها تملك كل الاطمئنان دون خوف، لكن ماذا عن مستقبلها؟ تسللت العِبرات رغمًا عنها داخل مقلتيها، وتهدج صوتها مُنذرًا بالبكاء وهي تُجيبه:
عايزة أشوفك يا بدير لوسمحت.

استمعت إلى صوت إنغلاق الإتصال من الناحية الأخرى مما جعلها تقطب جبينها بتعجب وهي ترفع أناملها لتجفيف دموعها التي تسابقت على صفحة وجهها، أطلقت زفيرًا حارًا من بين شفتيها وموجة خوفها تعود لابتلاعها مرة أخرى، لكن أنظارها حامت حولها بنظرة أخيرة، تُلقي نظرة على محتويات الغرفة وأثاثها الراقي قبل أن ترمي بجسدها على الفراش من خلفها، وعيناها تتعلقان بالسقف بشرود، لقد عادت إلى القصر مجددًا هي وشقيقتها بعد إجبار ماجد لهم بذلك، كما أنه أقنع لقمان بصعوبة على العودة معهم، شعوره بالخزي من أفعال أبيه وأخيه كسر شيئًا ما بعينيه، وما أقسى ذلك شعور! لكنها تعود وتُذكر نفسها بأن حسن وطارق نالا النهاية التي يستحقانها، الأول كان السبب في دمارها كُليًا، ولو كان حيًا لقتلته ألف ألف مرة لتُطفيء نيران غِلَّها منه، والثاني كان سبب دمار جميع العائلة، فليحترق في الجحيم.

استفاقت من شرودها للمرة الثانية على التوالي على صوت نفير سيارة قوي يأتي من الأسفل، هبت من مكانها مسرعة واتجهت نحو شرفتها لترى بعينها بدير يستند على سيارة أخيه التي سرقها منه ليأتي بأقصى ما يملك، ثم أشار لها بيده لتهبط، وهي لن ترد يده فارغة بالطبع!
خرجت من غرفتها بسرعة لتُقابل في وجهها لقمان الذي تحدث ساخرًا رغم هالة الحزن التي تحيط به: انزلي يا ستي ل سي روميو بتاعك خليه يبطّل زَن عايزين نتخمد.

تشققت شفتي تسنيم بابتسامة واسعة قبل أن تضربه على كتفه بخفة، ثم استكملت هبوطها ل بدير الذي أزعج الجميع تقريبًا!
وصلت إليه تزامنًا مع إبعاده ليده لنفير السيارة، قبل أن يفتح لها كلتا ذراعيه في دعوة لعناقها، قائلًا بابتسامة واسعة: روح قلبي وصلت.
دارت ضحكتها بصعوبة بالغة قبل أن تتصنع الجدية وهي تقول: بس يا بدير عيب إحنا لسه مخطوبين.

ظهر اليأس على ملامح وجهه التي تشنجت فجأة، ثم غمغم بضيقٍ حانق: ما أنتِ لو كنتِ وافقتي نكتب كتابنا مع بدران ومروان وإلياس ماكنش بقى دا حالي.
ما هو دا اللي كنت عايزة أكلمك فيه.
قالتها ببعض التردد الذي لم ينتبه إليه، بل صاح بسعادة وهو يكاد يقفز في مكانه: وافقتي نكتب كتابنا ودلوقتي؟
هزت رأسها نفيًا أثناء مُتابعته لردة فعله التي تغيرت كُليًا عقب أن قالت: عايزة نأجله شوية.

امتقع وجهه بسخطٍ مُفاجيء أثناء نظره لها، فيما ابتلعت هي ريقها ببطئٍ وانتظرت إجابته بفارغ الصبر، توقعت منه أن يثور أو يصرخ، لكن وجدت منه هدوئًا مريبًا بث الريبة في نفسها، قبل أن يُضاعف دهشتها أكثر بسؤاله: لحد إمتى مثلًا؟
مش عارفة.
هتفت بها بتخبط استقبله هو ببرودٍ استفز كل ذرة في حواسها، وما زاد غضبها منه أكثر هو قوله اللامبالي لها: براحتك.

رمقته بضيقٍ خانق لم تعلم سببه، أو ربما هي تعلم لكنها تتصنع اللامبالاة، من المفترض بها أن تكون سعيدة الآن، لكن لِمَ تشعر بالاختناق الآن؟ لربما لأنها ظنت بأنه سيُعارضها، كانت متوقعة منه أن يُخبرها بأنه مُتعجل للزواج منها، أن يروي ظمأ أنوثتها، لكنه ضرب بتوقعاتها تلك ضرب الحائط، فصاحت به باستنكار جلي:
أنت بتعاملني كدا ليه يا بدير؟
أنتِ عبيطة يا تسنيم؟ هو أنتِ مش طلبتي وأنا هنفذلك طلبك؟

غمغم بها مُتوقعًا انفجارها الحتمي في أي لحظة، وقد كان بالفعل! حينما ثارت ثائرتها وصاحت مُهللة بصراخٍ كتمته لأيامٍ طويلة:
قول بقى إنك ما صدقت وعايز تخلص مني بأي طريقة! أنا عارفة من الأول إنك مش هتستحمل علشان كدا أنا كنت عايزة نأجل فرحنا لوقت أطول، بس كنت متوقعة منك تجادلني مش توافق بسرعة ولا كإنك كنت مستني الفرصة! كان لازم أفهم إن اللي حصلي مش هيعدي بالساهل، وإنك مش هتنسى إن حسن اغت...
اخرسي خالص!

قاطعها بانفعالٍ وكل ذرة في جسده كانت تتفاعل معه الآن، هو بالفعل توقع انفجارها هذا، لكن أن تذكر هذا الجزء من حياتها، هو ما لم يتوقعه بتاتًا، هو بالكاد يحاول نسيانه للتأقلم، وضعها هي كشخص في المقدمة ولم يُبالي بأي شيءٍ آخر، وصدمته الحقيقية بها بأنها مازالت تُفكِّر بذاك الأمر، مازالت تُعاني وتُحارب أفكارها بضراوة!

طالعته تسنيم بعينين غاضبتين رغم تكون الدمع فيهما، تقهقرت قوتها الواهية مع أول صدام بينهما وارتعشت شفتيها توشك على بكاءٍ عنيف، فيما زفر بدير بسخطٍ وهو يجذب خصلاته بقوة حتى كاد أن يقتلعها، قبل أن يُعاود النظر إليها مُجددًا ويُحدثها بتهديد:
الموضوع دا لو اتكلمتي فيه تاني أنا مش هكون ضامن ردة فعلي وقتها.
بس أنا عايزة أتكلم فيه يا بدير.

غمغمت بحديثها بضعفٍ قبل أن تستسلم لانهيارها وتبدأ في البكاء، هي تُريد الاطمئنان، أن تتأكد أن طريقها معه سيكون أمانًا غير شائكًا بضرر ماضيها، تروس عقلها كادت أن تتعطل من شدة التفكير في هذا الأمر، لذلك كان عليها المواجهة وإن كانت صعبة!

ظل بدير يرمقها للحظات قبل أن يبدأ لتهدأتها بكلماته، يعلم تمام العِلم صراعها مع ذاتها، لكن هو ك رجُل يصعب عليه الاستماع لما تقول، وأمام انهيارها هذا هُزِم، وبدأ في محاولة إرضائها حتى قلَّ نحيبها نسبيًا، رفعت تسنيم عيناها له فاصطدمت نظراتها بابتسامة الواسعة ومن ثم قال:
ماكنتش هوافق على كلامك بس كنت باخدك على قد عقلك، أنا لو عليا أكتب عليكِ النهاردة قبل بكرة.

ظهر التردد داخل مقلتيها مُجددًا فعاود الحديث بقوله: أنا عارف الصراع اللي جواكِ دلوقتي، لكن صدقيني يا تسنيم أنا لو كنت متردد خطوة واحدة في جوازي منك أنا ماكنتش طلبت إيدك من عمك ولا اتحايلت على أبويا يوافق على جوازنا السريع، أنا عايز أتجوزك علشان أنتِ تسنيم وميهمنيش أي حاجة حصلت معاكِ قبل كدا.
لانت ملامحها قليلًا حتى ظهر الارتياح على تقاسيمها، فعادت لتقول بتوتر: يعني مش ه...

قاطعها برده المازح: لأ مش ه، أي حاجة واسكتِ بقى عشان أنتِ شكلك نكدية وأنا اتخميت فيكِ، وأنا اللي كنت جاي علشان حاجة تانية!
مسحت دموعها بأناملها ونظرت إليه بسخطٍ وهي تسأله: وكنت جاي ليه إن شاء الله؟
امتلأ وجهه بالعبث قائلًا وهو يقترب منها أكثر: يعني قولتيلي تعالى وفكرت إن البيت فاضي وبابا راضي وبتاع!
تصبغ وجهها بحُمرة خجلة، وكادت أن تجيبه بوقاحة، حتى استمعت إلى صوت يأتي من خلفها يصرخ قائلًا:.

أنت يا قليل الأدب!
كان هذا صوت ماجد الذي ظهر من العدم، يرمقه بعينيه الخضراوتين بغضبٍ ضاري نتيجة لوقاحته وقلة حيائه، جحظت عيني تسنيم بهلع، فيما توترت معالم بدير الذي قال بتذبذب:
ع. عمي! متفهمنيش غلط. دا. دا أنا كنت جاي أوصيها على الالتزام في الصلاة!
اقترب منه ماجد أكثر حتى أمسكه من تلابيبه وقال ساخرًا: ألف لا بأس عليك يا حبيب عمك، وشك مشفهوش هنا تاني بقى.

نبس بحديثه الأخير وهو يدفعه بعيدًا، وهُنا لاذَ بدير بالفرار وهرب سريعًا بسيارة أخيه ينطلق بها، فيما نظرت تسنيم لعمها بتوتر، وما كادت أن تشرح له حتى هتف هو قبلها:
وأنتِ كنتِ بتشرحيله كيفية الوضوء ولا إيه؟

احمرَّ وجهها أكثر وفرت من أمامه بسرعة دون أن تُضيف كلمة واحدة تاركة ماجد يبتسم بيأس على أفعالهما، لكن عاد وجهه للوجوم مُجددًا عندما رن هاتفه وظهر على شاشته اسم المتصل المنتظر، وبالفعل أجابه وانتظر لثوانٍ قبل أن يقول بغموض:
هاتهولي.

جلس رأفت في حديقة المنزل ينظر لكل شيءٍ حوله، حتى استقرت عيناه على نقطة ما فارغة شرد بها، لقد تم الحكم على والديه بالسجن المؤبد، لا يعلم أينعي نفسه أم يلومها، هو كان سببًا أساسيًا فيما حدث لهما، لكن عتمان هدَّأ ثورة ضميره حينما أخبره أن فِعلته كانت صحيحة، ولو كان أخفى الحقيقة لكان إثمٍ عليه، أطلق تنهيدة حارقة من بين شفتيه عبرت عن جزء ضئيل للغاية لمكنونات صدره، عزاؤه الوحيد لنفسه بأنهما مازالا على قيد الحياة ويمكنه في أي وقت زيارتهما.

لن يُنكِر أن حالته النفسية تحسنت كثيرًا عن ذي قبل، لكن في الوقت ذاته تمنى لو كان أبويه شخصين صالحين، زفر مرة أخرى باختناق وهو يُخرِج هاتفه من جيب بنطاله، عبث به قليلًا حتى توقفت عيناه على اسمٍ بعينه، تردد اصبعه قليلًا في الضغط على زر الاتصال، لكنه حسم أمره وضغط، انتظر قليلًا حتى استمع لرد الطرف الآخر بلهفة، قبل أن يُشعِل العبث عيناه الحزينتين ويقول:
سامية معايا؟

ابتسمت ياسمين بدورها على الطرف الآخر وهي تستمع لصوته الذي اشتاقته حد الجنون، فكرت من قبل في مهاتفته، لكن كبريائها العنيد منعها من ذلك، فردت عليه بنبرة مُعاتبة: والله لسه فاكرني؟
تصنع رأفت عدم التذكر وغمغم قائلًا بجهلٍ مُصطنع: فاكرك؟ مين حضرتك؟
استمع إلى صوت ضحكتها الخافتة فتنهد بحرارة قبل أن يقول بصراحة: وحشتيني.

سرت رجفة قوية في جسد ياسمين وهي تستمع لاعترافه البسيط بمثل تلك الحرارة، لكنها تجاهلت كَلِمته التي شحنتها بالطاقة أكملت عتابها الرفيق له قائلة: كنت فين دا كله؟
غامت عيناه بمرارة قاتمة وهو يُجيبها بسخرية تعكس نقمه: كنت بعاني، ومازلت بعاني، ولسه هعاني.
قطبت جبينها بقلق وهي تُعاود سؤاله: مالك يا رأفت إيه اللي حصل؟

فكَّر مليًا في إخبارها، هو من الأساس لا ينفك عن التفكير بها وكأنها أضحت جزءًا من روحه، يفكر بجدية لو يتخذها رفيقة درب تُشاركه حُلو العمر ومرارة الطريق، لذلك انفرجت شفتاه للحديث لكنه أطبقهما بفزع حينما شعر بشيءٍ يُكمم فاهه ويمنعه عن الحديث، وبعد لحظات غاب عقله عن الواقع بفعل التخدير!

وعلى الناحية الأخرى، نظرت ياسمين للهاتف بتعجب تتأكد من استمرار الإتصال، اندهشت من صمته المُفاجيء لذلك عاودت وضع الهاتف على أذنها وتحدثت باستغراب: رأفت أنت نِمت؟
الدهرُ يسري ووحدُكِ أنتِ ثابتةٌ، وسهمُ عيناكِ ما يجعلني صريع.

نظر هارون ل حنان التي انتهت لتوها من مهاتفة صفاء والدة جنة للإطمئنان على زوجة ابنها، هي بالتأكيد هاتفت عمران للإطمئنان عليها وكذلك ذكرى ورضوى، لكن لا بُد من قضاء واجبها نحو العائلة بأكملها، ثبتت نظرها على هارون ثم هتفت بأسى:
ربنا يسترها على مرات ابنك والله يا حج، لما روحت عشان أزورها النهاردة قلبي وجعني عليها يا حبيبتي، دا مبقاش فيها حيل لدا كله!

أومأ هارون بإيماءات خفيفة وهو الآخر يقلق بشدة على جنة، تلك الفتاة الجميلة والمليئة بالحيوية باتت أقرب للموتى بوجهها الشاحب وشفاهها البيضاء، حينما رأها انقبض فؤاده بقلق لأجلها، يشهد الله أنه يعتبرها كابنته تمامًا ويخاف عليها كما يخاف على بدور بالضبط، لذلك لا يدخر وسعًا لمساعدة عمران في تكاليف علاجها الغالية للغاية، زفر بتنهيدة حارة قبل أن يقول بتمني:.

ربنا يجعل تعبها دا في ميزان حسناتها ويشفيها في نهاية الطريق، هو اختبار صعب ولا بُد نتحمله.
الحمد لله.
هتفت بها حنان بحزنٍ أثناء انهماك عقلها في أمرٍ يؤرقها وبشدة، لذلك لم تخفي على هارون ما يُخيفها حينما عادت لتهتف بخوف غريزي: طيب يا حج لو حصلها حاجة بعد الشر عمران مش...

قاطعها هارون على الفور بصرامة رغم لين نبرته مانعًا إياها من استكمال حديثها المتشائم: تفائلي بالخير تجديه يا أم يعقوب، ادعيلها أنتِ بس والنصيب هو اللي هيصيب.
غطت وجهها بكفيها ومن ثم هتفت بنبرة مختنقة: لا حول ولا قوة إلا بالله، استغفر الله العظيم يارب، والله العظيم مش قصدي يا حج.

تشققت شفتي هارون عن ابتسامة حنونة وهو يمد يده ليُزيح كفيها عن وجهها، ليلمح الدموع المُلتمعة داخل بمقلتيها، مما دفعه ليقول بعتاب: كدا برضه يا حنان بتعيطي؟ مش قولتلك قبل كدا إنك دموعي بتوجعني؟
مش وقته كلامك دا يا حج العيال في المستشفى.
غمغمت بها حنان بوجهٍ قد اصطبغ بحُمرة الخجل، لتنطلق ضحكات هارون عاليًا والذي قال عابثًا: طب ما دا عِزه يا روح الروح!

نكزته حنان في ذراعه بخفة وهي تُشيح بوجهها عن نظراته العابثة، ليقول بعد أن هب من مكانه: هسبقك على البلكونة اعمليلنا اتنين ينسون بإيديكِ الحلوين دول وتعالي ورايا.

أومأت له بطاعة مُحببة لقلبه ثم ذهبت لصُنع ما يريد، بينما هو راقب رحيلها بأعين تُطلق عشقًا يُرهقهُ ويزداد يومًا بعد يوم، وكأنها تتربع داخل صدره وموصومة بغراء قوي، اتسعت ابتسامته وهو يتجه نحو النافذة ليجلس على كُرسيها بتروٍ، قبل أن ينظر للقمر المُكتمل في منتصف الشهر ويهمس:
وكإنه أنتِ يا حنان!

راقب يعقوب زوجته التي تمددت على الفراش بإرهاق بعد عودتهما من المشفى، عيناها مُنتفختان ووجهها شاحب بقوة، تحمل همًا ويأسٍ لا يُحتمل، وكيف لا وقد هرب أبيها بالأموال التي أخذها من منزل خيري بعد أن استغل غيابه؟ لم يهمه حالة ابنته القابعة بالمشفى ولا حالة زوجته التي دخلت في حالة انهيار قوي، ناهيك عن حالة أبنائه التي تتخطى الصفر بقليل!

صعد جوارها على الفراش بعد أن بدَّل ثيابه لأخرى مريحة، ثم مد أنامله ليغرسها داخل خصلاتها وبدأ في تدليك فروة رأسها برقة، منذ أن علمت عن هرب أبيها قبل سويعات قليلة وهي على تلك الحالة تلك، لا تتحدث أو تُعطي أي ردة فعل لأي شيءٍ حولها، فقط صامتة! زاغت نظراتها نحو وجه يعقوب الذي اكتفى بالصمت أثناء تثبيته لنظره عليها، رفعت أناملها لتُمسِك بكفه الأخرى ثم همست بكلمة يتيمة وجدت صداها داخله:
متسبنيش أنت كمان!

شدد من الضغط على أناملها وكلماتها تؤلمه، عن أي ترك تتحدث عنه؟ أيهجر الشريد وطنه بعد أن حارب المحتل ليمتلكه؟ مال على جبينها يلثمه بحنانه المعهود، قبل أن ينظر داخل عيناها ويهمس بحب:
عُمري في حياتي ما هسيبك، لآخر عُمري، ولآخر نَفَس.
التمعت عيناها بدموع حسرتها وهي تهمس بنبرة مُتهدجة تُهددها على البكاء: بابا هِرب، سابنا ومشي علشان خاطر الفلوس، مهوناش عليه ولا التفت لينا، ولا كإنه سايب لحمه وعرضه وراه!

مسح الدموع التي خانت عيناها ثم نبس يقول بتعقل: مش هلومك على زعلك عليه، ومش هلومك على حِسرتك من عملته، بس أنا عمري ما شوفت عمي رؤوف بيتعامل معاكم بما يُرضي الله، على طول كل كلامه زعيق وشتيمة يا إما ضرب، يمكن هروبه يكون فيه مصلحة ليكم عشان متكرههوش أكتر.
ويمكن يكون غدر وخيانة.

تمتمت بها بقسوة لا تعلم من أين أتت وكيف نطقت بها، كل ما يدور بخاطرها الآن هو غدره لها ولوالدتها ولأشقائها، أحاديثه المُهينة تتصارع الآن داخل عقلها، سبابه ولعانه يتردد داخل مسامعها، ضربه المُبرح لها يدوي صداه على بشرة جسدها، لا تتذكر معروفًا واحدًا له، علَّها كانت تنتظر منه ندمًا لذلك حزنت لرحيله، ولعلها كانت تريده شماتةً بحاله المسكين، هي لا تعلم ماذا تريد الآن، هي فقط تائهة.

ضمها يعقوب إليه بعنف، فتشبثت هي بثيابه بكل قوتها، تطلب منه البقاء دون أن تطلب، ترجوه عدم الخذلان دون أن ترجو، تبكي خوفًا دون أن تبكي، كل مشاعرها المُبغثرة تلك انعكست على انفعالات جسدها القابع بين ذراعيه، لذلك شدد من ضغط جسدها أكثر ثم قال بحنان ممزوج بمزاحه:
كفايا دموع يا ست ذكرى، عينيكِ الحلوين هيبوشوا من كُتر البُكى.

استطاع أن يختطف ابتسامة خافتة من بين شفتيها، ابتعدت قليلًا ثم قالت باسمة: كلامك مش في محله يا معلم يعقوب.
كلامي ليكِ أنتِ بالذات في محله في أي وقت وفي أي مكان يا عيون المعلم يعقوب.
غزت الراحة أوردتها، فاستندت برأسها على صدره وكأنه أمانها الوحيد، ثم أغمضت عيناها وهمست بما يُشبه الرجاء: كل حاجة هتبقى كويسة صح؟
كل حاجة هنعديها سوا.

ما يقرب من الخمسة عشر دقيقة وهي على تلك الحالة، تعلو ضحكاتها تارةً وتمتزج بدموعها تارةً أخرى، و حمزة يقف يُتابعها بصمتٍ حتى تنتهي، نظرت رضوى نحو حمزة ورددت للمرة المائة من بين ضحكاتها الهستيرية:
رؤوف الجداوي هِرب! الجبان. كان لازم يهرب. ربنا ياخده. ربنا ياخده.

صرخت بالأخيرة بكل قوتها غير عابئة بتلك الأنظار التي تحولت إليها، توقفت ضحكاتها فجأةً مثلما بدأت فجأة، وبدأت وصلة بكاؤها المرير الممتزج بصرخاتها المقهورة، تبكي كما لم تبكي قبلًا، وتصرخ مثل مَن فقدت عزيزًا، لكن الأمر في تلك النقطة يختلف، هي لم تفقد عزيزًا، بل فقدت أبيها الحقير المادي الذي تخلى عنهم من أجل حِفنة حقيرة من الأموال، الخائن النذل رماهم كما كومة اللحم وهرب!

دعاؤها عليه صعد من أعمق نقطة داخل صدرها، كم تتمنى في تلك اللحظة لو يتذوق تلك المرارة التي تشعر بها، كم تتمنى لو يُعاني أشد الويلات، كم تتمنى لو تراه يبكي بدلًا من الدموع دمًا لتُشفي غليل صدرها، كم تتمنى لو تراه يصرخ بكل قوته ألمًا وقهرةً في الوقت ذلك، تلك النيران لم تنطفيء حتى تراه يتعذب أمام ناظريها، لطالما أبكى عيونها، لطالما حسرَ قلبها، لطالما وأد فرحتها، تُريد أن تُذيقه كل تلك المشاعر دُفعةً واحدة حتى يتعذب.

لم يتحمل حمزة رؤيتها بتلك الحالة المُبكية لقلبه، فجذبها عنوة داخل أحضانه وسط مقاومتها العنيفة، لكنه لن يسمح بابتعادها، دفن وجهها داخل صدره وتمسكت هي به بعد أن كانت تُقاوم، ترجوه بصمتٍ أن يُظلل على فؤادها بأوراق خريفه، أن يُمطِر على ذاكرتها بأمطار شتائه ليُزيلها، لكن كل هذا يزول مع أول مشهد يمر على بالها وهي تتذكر ضرب أبيها المُبرح لها على جسدها بحزامه الجلدي الأسود لخطأٍ لا يُذكر!

تسابقت دموعها بعنفٍ على صفحة وجهها التي ترسم خطوطًا من المعاناة والألم، حتى خفت نحيبها أخيرًا مع هدهدته الحنونة لها، وما إن صمتت كُليًا حتى أخرجها من أحضانه يسألها بابتسامة هادئة: أحسن دلوقتي؟
حمزة أنا تايهة.
تمتمت بها بضعفٍ شديد وهي تُخفي رأسها داخل صدره الذي احتواها بسخاء، قبَّل حمزة أعلى رأسها ثم هتف بعقلانية: حبيبتي أنا مقدر اللي أنتِ فيه دلوقتي، بس متنكريش إنك كنتِ مستنية خطوة زي دي من باباكِ!

غامت نظرات رضوى بحزنٍ شديد وعقلها يُؤكد ما يقوله، ماذا عساها أن تتوقع من رؤوف الجداوي مثلًا؟ يعود نادمًا ويلتقفها بين أحضانه؟ أو باكيًا يطلب منها المغفرة؟ اختنقت أنفاسها بأفكارها وهي تستعيد معالم وجه والدتها الجامد حينما علمت، لم تُبدي أي ردة فعل وكأنها كانت متوقعة، حظها العسير أوقعها في طريق رجل لا يعرف معنى النخوة وكان عليها أن تتحمل من أجل أبنائها، والآن ها قد رحل.

خرجت رضوى من أحضان حمزة تُجفف دموعها بتروٍ، قبل أن ترفع أنظارها الدامعة إليه قائلة بصوتٍ مبحوح من صراخها المتواصل: عايزة أروَّح لماما زمانها تعبانة دلوقتي.
أومأ لها قبل أن يميل على جبينها يلثمه بحنان ثم همس لها بحب: دا أنا عيني ليكِ.
سددت له نظرة أخيرة ممتنة قبل أن تصعد لسيارته ويليها هو ليستقل مكانه أمام المقود، وبعدها اتجه مُسرعًا نحو منزل رضوى في حيهم القديم، حي هارون.

انقشع رداء الليل وحل محله النهار يغزو الأرجاء، لينسل شعاع ضوء من نافذة السجن ليُداعب جفني فادي الذي استيقظ بانزعاج، أغمض عينه فتحها عدة مرات حتى اعتاد الوضع، قبل أن يستدرك المكان الذي فيه، سجنٌ انفرادي مُوصى به على أعلى كفاءة، وثيابٌ بيضاء نظيفة تلائم أمثاله، بعد أن تم القبض عليه في بيع المواد المُخدرة في إحدى المناطق المهجورة، وبالطبع كان وراء تلك العملية صفوت الذي قرر استدراجه يوم زفافه!

لكن ما يثير الشك في نفسه هو أن يعقوب ذهب للزواج من ذكرى في نفس ذات الوقت، تُرى هل اتحد مع صفوت كي يلوذ بها؟ جز على أسنانه بحقد قبل أن يُفتَح باب الزنزانة ويدخل من خلفها العسكري الذي هتف بنبرة خشنة:
قدامي يا مسجون فيه ليك زيارة.

وقف فادي في مكانه بسرعة وهو يتخيل أن الزائر هو والده، لربما قد أتى ليُخرجه من هُنا، فطيلة الأيام الفائتة لم يكن ليأتيه أحد سوى أخيه المُغفل حازم، والذي اصطدم بثوب أخلاقه الجديد كُليًا، وصل إلى الزائر فاحتدمت عيناه حينما رآه يقف أمامه بابتسامته المُستفزة، نعم. لقد كان يعقوب الذي تقدم منه خطوتين قائلًا وعيناه تمران على ثيابه الجديدة:
الأبيض هياكل منك حِتة يا جدع!

التهم فادي المسافة بينهما مُمسكًا إياه من تلابيبه بقوة، ثم تشدق بغِلٍ لم يُداريه: أنت إيه اللي جابك هنا؟
مطَّ يعقوب شفتيه وتصنع التفكير لثوانٍ، قبل أن تتسع ابتسامته وهو يُجيبه بسلامة نفس: جاي أشمت فيك.
دفعه فادي للخلف بعنف وهو يقول بصراخ: وأنت مفكر إن مفيش حد هيساعدني أخرج من هنا وأنتقم منك؟ تبقى بتحلم.
اصطبغت عيني يعقوب بعبثٍ ماكر مُغمغمًا بشفقة مصطنعة:
هيلب يور سيلف يا روح أمك.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة