رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والأربعون والأخير
زفافٌ كبير ونيرانٌ تشتعل على الجانبين أثناء زفاف جميع الشباب على نصفهم الآخر، قاعة ضخمة تضم جميع العرائس الذين يميلون بدلالٍ بين يديّ أزواجهن، أعينهم تقص كفاحًا طويلًا، وخطوط جبينهم توشم صراع دام لوقتٍ كان كالسيف على أعناقهم، لكن تلك الابتسامة المُنتصرة على فاههم تمحو تعب الحرب الناتج عن الحب!
رضوى تميل على رأس حمزة تستشعر دقات فؤاده الهادرة تحت أذنها، كم تشعر الآن بالفخر لامتلاكه، لم تكن مهمتها صعبة لسلب لُب فؤاده، لكن مهمته كانت شديدة الصعوبة، حينما حاول آلاف المرات أن يذرع بذرة الثقة في فؤادِها الذي بثقها في البداية، لكنه عاود ذرعها آلاف المرات حتى استكانت، حتى استطاع أن يُطمئنها في حالة أن تكون خائفة.
إلياس لا يُصدِّق وجود بدور بين ذراعيه كأرق ما تكون وأبسط ما تظهر، لطالما سلبته دون عناءٍ منها، والآن لن يخجل إن قال بأنه غارقٌ في عشقها، واجه الكثير وهدم الحصون والجدران حتى أضحت حُلٌ له، نظراته لها حلالٍ، بسمته لها حلالٍ، شغفه لأجلها حلالٍ، حُبه لها حلالٍ، لكن صخب فؤاده بين جنبات صدره هو الحرام! كيف تستطيع بلمسة أن تُشتت شمله! أهو سحرها أم سحر عشقها؟
و بادر، ذلك العاشق الصامت الذي تتجمد الكلمات فوق شفتاه، لكن عيناه لا تدخر وسعها في عكس لهيب مشاعره الصاخب، حبيبته الآن بين يديه تسير على رتمٍ بطيءٍ مُتناسق أثناء التصاقها بصدره، تضع رأسها فوق كتفه وكأنه الملاذ الوحيد لها في تلك الحياة، وقد كان كذلك!
فيما كان بدران ينظر ل زهراء بنظراتٍ مصدومة أضحكتها، لكن تلك البلهاء لو تعلم شعوره في تلك اللحظة! لو تعلم كَم عانى ليُحقق ذلك الحُلم الذي لم يمتنى سوى تحقيقه! يُمسِكها من خصرها برقة ليُقربها له بأرقى ما يكون، وكأنها ماسة يخشى جرحها أو خدشها، ناهيك عن أمواج نبض فؤاده التي تتقاذف بلا هوادة أو رأفة به!
و مصعب الذي لم تُفارق الابتسامة وجهه وهو يُطالع روان بهيئتها الملائكية، وبرغم تلك الرقة، إلا إنها لا تكف عن إذلاله بتصرفاتها الغبية، لكن لا بأس، هو أحبها كغبية بلهاء وسيموت على يدها لا محالة، المُهم أن تكون نهايته على يدها هي.
واجه الصعوبات، من سحرٍ ومَسٍ وتفريق، وكل تلك القُوى الخفية فشلت في إبعاده عنها، هو بدير صاحب الرأس الصلب والشخصية المرحة، يتراقص أمامها الآن لا يتحدث من سِحر جمالها، سُحِرَ بالجان مُسبقًا ولم يتأثر به، لكن سِحرها هي أوقعه في عشقها للمرة المليون بعد المليار تقريبًا، كم من قصيدة شِعر عليه إلقائها حتى يصف جمالها، أم أن الصمت في حُرم الجمال جمال؟
وبعيدًا عنهم قليلًا، حمل عمران. جنة بين ذراعيه جاعلًا قدماها لا تُلامسان الأرض، ساهيًا عن كل مَن حوله وغارقًا فيها هي! هي التي احتلت كل ما به وهو وقع في أسرها! عيناها السوداويتان اللامعة وكأنها ارتشفت سواد السماء لتزداد سوادًا، وتلك اللمعة فيهما كالنجوم تُسحره، لم يبقى فيه عقلًا ليحكمه، هو فقد عقله ومعه فقد فؤاده على يدها.
شكلهم حِلو أوي يا يعقوب.
غمغمت بها ذكرى بسعادة عارمة وهي ترى السعادة تتراقص في عيون أخواتها بعد سنواتٍ كثير من العناء، لقد رست مراكبهم التائهة أخيرًا ووجدوا راحتهم المفقودة بعد صبرٍ وشقاء، ضربها يعقوب بخفة بكتفه وهو يغمزها بمشاكسة قائلًا:
أنت اللي حِلو يا حِلو.
رفعت إليه عيناها التي ترمقانه بامتنانٍ لم يُغادر شفتيها، لكنه كان جليًا داخل مقلتيها، اقتربت ذكرى منه أكثر حتى لفت ذراعيها حول خصره دون خجل من نظرات بعض الحضور التي انتقلت إليهما، لتهمس بحبٍ عارم:
وكأن الزمن بيكافئني بيك يا يعقوب!
ضمها إلى صدره أكثر لتستشعر دقات قلبه الهادرة وهو يقول: حياتي مُرة من غيرك وعمري ميحلاش غير بيكِ.
مال على جبينها يلثمه برقة ومن ثَم غمغم مُستطردًا حديثه: يا سيدة الورود.
بعد مرور شهران.
عادةً ما تأتي النهاية سعيدة، لكن هذا ينعكس على حالتهم وهم يقفون أمام غرفة العمليات ينتظرون خروج الطبيب من داخلها حتى يُطمئنهم، التهم عمران الطُرقة ذهابًا وإيابًا وأعصابه تشتد بخوفٍ بالغ من الحين للآخر، اليوم هو يوم عملية جنة، كُلٌ خائف وكُلٌ يقف على أعصابه، مرت الساعات عليهم كالدهر، يلهثون للاستماع إلى إجابة تُريح قلوبهم، لكن كل هذا ذهب هباءًا حينما خرج الطبيب من غرفة العمليات أخيرًا وهتف بأسف: للأسف هنضطر لبتر رجليها لحد الركبة في أسرع وقت، الورم انتشر بسرعة غريبة ولو سيبناه أكتر من كدا ممكن ينتشر في رِجليها كلها.
صمتٌ. صمتٌ. صمت. هذا ما حلَّ على الجميع حينئذٍ، صنمتهم الكلمات وأصبحت أجسادهم مُتخشبة من هول الصدمة، كيف حدث ذلك؟ وكيف سيحدث هذا! من المفترض أن مؤشراتها الحيوية التي سبقت فترتها الأخيرة كانت أكثر من رائعة، لكن وبسبب الاضطرابات التي حدثت مؤخرًا سائت حالتها النفسية، ومعها سائت حالتها الجسدية كثيرًا! وأول من خرج من صدمته هو إلياس الذي تقدم من الطبيب وتسائل بصوت مُتلعثم: مش. مش المفروض هي كانت بدأت تتحسن؟
رد عليه الطبيب بأسف: دا حقيقي، بس وبطريقة غير متوقعة الورم انتشر بسرعة جدًا وحالتها النفسية السيئة وإحباطها ساعد في دا أكتر، ولو انتظرنا أكتر من كدا هنتوقع الأسوأ.
شعرت صفاء بالدوار يعصف برأسها تزامنًا مع هطول دموعها بغزارة على صفحة وجهها، فاتجهت إلى رضوى مُسرعة لإسنادها، كذلك جاورتها بدور من الناحية الأخرى تُهدهدها بأسى، تمالكَ عمران أعصابه بصعوبة بالغة قبل أن يهتف بثباتٍ فاشل:.
ولو رجليها اتبترت هترجع كويسة من تاني؟
أومأ له الطبيب إيجابًا، فغمغم عمران بحسم: اعمل اللازم يا دكتور واللي في مصلحتها.
رمقه إلياس بتذبذب وصوت ما بداخله يحثه على الرفض، لكن عقله وبخه بأن هذا الصالح والمُسالم لها، لذلك لم يجد بُدًا من الموافقة، ذهب الطبيب من أمامهم ليبدأ في عملية جديدة ل جنة، ليس لإزالة الورم من قدمها، بل لإزالة قدمها نفسها!
ذهب يعقوب للوقوف بجانب عمران الذي كان في حالة يُرثى عليها، وكذلك اتجه حمزة إلى إلياس ليؤازره في محنته، بينما بقية الإخوة كانوا يُهاتفونهم من الحين للآخر للاطمئنان على الوضع هُناك، كذلك كانت الفتيات يُهاتفن بدور ليطمئنوا على صحة جنة نظرًا لأن حالة رضوى وذكرى لا تسمح بمهاتفتهن كثيرًا.
مرت الدقائق مريرة كالعلقم على الجميع، أفئدتهم تتفتت لا مفر، والمهمة الأصعب بعد تلك هي ردة نفسها عقب علمها بما حدث لها!
يا بتاعة الديسكو!
نادى بها حازم ل مي التي استدارت له لترمقه بنظرة غاضبة، لكنه وفي الحقيقة تجاهلها حينما اتسعت ابتسامته واقترب منها أكثر، وما كاد أن يتحدث، حتى باغتته بصراخها المُعنف له:
احترم نفسك يا قليل الأدب أنا توبت! الدور والباقي عليك يا فاسق.
تنغض جبين حازم بسخطٍ وهو يُجيبها: على فكرة أنا كمان تايب بقالي فترة كبيرة، كفاية ظلم وقلة أدب بقى!
اتسعت عيني مي على آخرها من وقاحته، فعاد هو يبتسم وكأن شيء لم يحدث وأكمل حديثه بقوله الخجول: على العموم أنا مش جاي أعايرك، أنا جايلك علشان حاجة تانية.
تشنج وجهها بغيظٍ مكتوم وجزت على أسنانها غيظًا حين تسائلت من بينهما بانفعال: حاجة إيه دي إن شاء الله؟
ظهر التوتر على وجهه واحمرت أذناه خجلًا حينما هتف بصوتٍ خافت حَرِج: كنت بفكر أستر عليكِ وأتجوزك.
كان يُخفِض رأسه أثناء الحديث، لكن طول صمتها جعله يرفع رأسه لها فوجد وجهها مصبوغ بحُمرة الغضب القانية، ليبتسم بتردد قائلًا: أعتبر إن السكوت علامة الرضا!
اقتربت منه خطوة زائدة حتى باتت في مقابلته مُباشرةً، ثم همست له بفحيح أمام وجهه المشدوه: وتصدق وتؤمن بالله! أنت لو ممشيتش من قدامي دلوقتي هفرج عليك أمة لا إله إلا الله، أنت سامع!
صرخت بالأخيرة قبل أن تبتعد عنه لترحل، لكنها توقفت في مكانها فجأةٍ واستدارت له مُجددًا حينما هتفت بسخط: يا فاسق.
وبعدها اختفت من أمامه بتاتًا، في حين ظل يرمقها هو بنظراتٍ مصدومة وعدم فهم، قبل أن تتسع ابتسامته رويدًا رويدًا حتى همس لذاته بصوتٍ خفيض: شكلها بتحبني ولا إيه!
خُذني في عناقٍ يُخبرني صامتًا أنك ملجأي وَسط كُل حروب هذه الحياة.
ضمَّ بادر. سارة لصدره وهو يُربت على ظهرها بربتاتٍ خافتة حتى هدأت من بكائها تمامًا، ثم رفع رأسها بيده حتى تلاقت الأعيُن في حديثٍ صامت وطويل، تشكوه فيه حُزنها ويُطمئنها هو بدفيء نظراته.
كفاية دموع بقى! قولتلك إن هي هتبقى كويسة أنا واثق بإذن الله.
كان يتحدث عن جنة، بعدما لم يستطيعوا جميعهم الذهاب ليقفوا جانبها في ظروفها الصعبة تلك، وبعد أن عرفت آخر الأخبار لم تشعر بذاتها إلا وهي تنهار في البكاء العنيف حُزنًا وشفقة، حُزنًا على جزءٍ قد بُتِرَ من جسد صديقتها، وشفقة على حالتها بعد أن تعلم! دفنت سارة وجهها في صدر بادر الذي استقبلها دون ملل ثم غمغمت ببكاءٍ مكتوم:
صعبانة عليا أوي يا بادر، جنة طيبة أوي ومتستاهلش اللي بيحصلها.
ردعها عن قولها بحديثه المُعاتب: استغفري ربنا يا سارة، دا قدر ربنا ومينفعش إن إحنا نعترض عليه مهما كان صعب علينا إن إحنا نتحمله، بلائها كبير وشديد لكن ربنا مش بيبتلي غير العبد اللي بيحبه، وربنا بيحبها؛ علشان كدا فيه جزء منها سبقها للجنة.
استغفرت سارة بصوتٍ مسموع عدة مرات، تشعر بالندم مما تفوهت به، لكن حديث بادر الأخير أنزل الطمأنينة على فؤادها الملكوم، ورغمًا عنها وجدت ذاتها تُسبِّح وهي تستشعر عظمة المولى عز وجل، حتى والإنسان مُبتلي فهو يُجزى بصبره واحتسابه!
حلَّ السكون على تقاسيم وجهها التي كانت مضطربة، في حين ابتسم لها بحبٍ يسكن موطنه، وما كاد أن يُغازلها بكلماته، حتى استمعا إلى صوت رنين جرس الباب اللحوح، نفخ بادر بقنوطٍ وهو ينظر ل سارة التي تكتم ضحكتها، ثم غمغم بوعيدٍ حانق:
لو طِلعت أختك مي أنا هشرب من دمها.
كتمت سارة ضحكتها لعلمها بالصراع الدائم بين بادر ومي، فيما اتجه بادر نحو الباب لفتحه بخُطى مُغتاظة، ليظهر له وجه مي التي ابتسمت له بدورها وهي تقول:
إزيك يا أبيه بادر؟
كاد أن يُجيبها بشفاهٍ ملوية، لكنها تجاهلت وانزلقت بجسدها من جانبه حتى دخلت إلى المنزل، رمقها بدهشة وهو يُفسِح لها الطريق أكثر أثناء تمتمته المسموعة:
يا بنتي أنتِ عِرسة؟ وبعدين إيه الغتاتة دي هو أنا كنت مخلفك وناسيكِ عشان تنطيلي كل شوية؟
جلست مي بجانب شقيقتها التي ضمتها لها بحماية، ثم نظرت نحوه لتُشير إلى إحدى الأرائك وهي تقول بحماس: تعالى بس يا شيخ بادر اقعد ومتتكسفش عشان عايزاك في موضوع.
أقعد ومتكسفش؟ اللي اختشوا ماتوا صحيح.
غمغم بها بعد أن أغلق باب المنزل وتوجه نحو الأريكة المُقابلة للشقيقتين ليجلس عليها، ثم شبَّك كفيه معًا وهو يقول بحنق: أهو قعدت ومتكسفتش، قولي موضوع إيه بقى يا أخرة صبري اللي عايزاني فيه.
دارت مي بأنظارها بين كلٍ من بادر وسارة عدة مرات، لترفع رأسها بغرور بعد عدة لحظات من الصمت قائلة بثقة: أنا متقدملي عريس.
رمقتها سارة باندهاش، في حين أطلق بادر زغرودة غير مُتقنة تبعها قوله السعيد: ياختي ألف بركة أخير النحس انفك! دا أنتِ من ساعة ما جيتي هنا متقدملكيش كلب أجرب حتى، لحد ما شكيت إنك معمولك عمل ولا حاجة!
كان يتحدث كالعجائز في حديثه الأخير، لتعلو ضحكات مي بانطلاق تحت نظرات الدهشة المُصوبة من سارة نحو زوجها الذي تخلى عن رداء وقاره أمام شقيقتها وللمرة الأولى، فيما تابع بادر حديثه بسؤاله المُهتم:
ها قوليلي بقى! مين العريس؟
ترددت في البداية لإخباره هويته، لعلمها بماضيه من سارة التي قصت لها من قبل ما فعله ببنات عمومته، وهي كانت ترى كذلك أسلوبه الفظ، لكنها الآن ترى تغيُّره الملحوظ ومرحه المُحبب لها، وكذلك لن تُنكِر إعجابها البسيط به، قرأ بادر توترها في عينيها، وازداد يقينه بإجابتها حينما زاد صمتها، ليُعاود سؤالها بحذر:
حازم صح؟
دُهِشَت من معرفته بالأمر وخجلت من مواجهة نظرات شقيقتها المصدومة، فاكتفت بإخفاض رأسها أرضًا وهي توميء بالإيجاب، وقبل أن يرد عليها بادر بحديثٍ رزين كعادته، سبقته سارة التي هبت من مكانها وهتفت باعتراضٍ مُنفعل:
مستحيل دا يحصل، مستحيل أسمح تتجوزي واحد زي دا الله أعلم ممكن يعمل فيكِ إيه.
طالعت مي زوج شقيقتها برجاء، فوقف بادر بدوره أمام سارة ليقول بهدوء: إهدي يا سارة وخلينا نسمع للآخر.
رمقته بنظراتٍ نارية مُعبئة بسخطها وهي تهتف بغضب: نسمع إيه؟ بتقولك متقدملها وعايز يتجوزها، أنت مش فاكر هو عمل إيه زمان في بنات عمه؟
أديكِ قولتي زمان! وبعدين حازم اتغير وربنا هداه وأنا بذات نفسي شايف تغييره، ولولا كدا أنا ماكنتش هخليه يهوب ناحيتها!
يعني أنت كنت عارف يا بادر؟
هتفت بها سارة بسخطٍ تحت نظرات عدم الرضا من بادر، فيما حوَّلت أنظارها نحو شقيقتها التي تُتابع الحوار بصمتٍ مُتوتر وتحدثت بسخط:.
وأنتِ موافقة على المهزلة دي؟ لأ وجاية مبسوطة ومنشكحة أوي إن فيه عريس متقدملك، دا لو كان دكر بط كان هيبقى أحسن من سي حازم بتاعك دا!
وقفت مي أمام شقيقتها تُحاول إقناعها وهي تقول برجاء: والله يا سارة أنا كمان ماكنتش بطيقه من اللي كان بيعمله، لكن هو دلوقتي بقى واحد تاني خالص عن اللي كان عليه، وكلنا بنغلط ونتوب يعني!
جُملتها الأخيرة كانت تقصد بها حياتها العابثة التي كانت تقضيها قبل توبتها، فنفخت سارة بضيقٍ وهي تُشيح بوجهها للناحية الأخرى، قلقة؟ بل تموت رعبًا على مستقبل شقيقتها، تخاف أن تُسلمها لخائن لا يُحافظ على الأمانة كما فعلت والدتها، تخاف أن تعيش مأساة تُطفئها، شعرت بأنامل خشنة توضع على كتفها، فرفعت عيناها لتصطدم بعينيّ بادر الدافئة، والذي قال بدوره:.
متخافيش عليها، مي زي بدور عندي بالظبط، ولو قلقانة على علاقتها مع حازم فأنا هثبتلك إنه فعلًا هيحافظ عليها عشان ترتاحي.
إزاي؟
هتفت بها مي بلهفة تحت نظرات سارة المغتاظة المُسددة لها، في حين رد عليها بادر مُبتسمًا بمكر: هنرفضه.
جالسٌ هو يستند بظهره على جدران السجن ينظر للوجوه بنظراتٍ جامدة بعد أن تم نقله من السجن الإنفرادي إلى هُنا، ينفث سيجاره ببرودٍ جليدي وعيناه تلتمعان بوعيدٍ ممزوجٍ بالشماتة، جائته البُشرى الآن حينما عَلِمَ بتدهور حالة جنة واضطرار الأطباء لبتر قدمها حتى تستطيع العيش، نظر فادي للفافة تبغه بشرود وثُغره يبتسم بابتسامة خلفها ألف قصة وقصة، وأهم هذه القصص؛ أنه السبب في انتشار الورم بسرعة كبيرة في قدم جنة التي بُترت!
عاد بذاكرته للخلف حينما أمر أحد رجاله الذي كان على صلة به حتى الآن أن يجلب إليه طبيب بعينه إلى هُنا لزيارته، وبالفعل أتى إليه الطبيب الذي عَمل معه لعدة سنوات في شُحنات من الأدوية غير المشروعة، آمرًا إياه أن يأتي بمصلٍ يُزيد من انتشار مرض السرطان بسرعة كبير في وقتٍ قصير، وقد كان!
عاد من شروده حينما وقف أمامه جسدين ضخمين يرمقانه بنظراتٍ غير مُريحة، جعد وجهه بضيق وهو يهتف بهم بغلظة: أنت واقف كدا ليه يا جدع أنت وهو، وسَّع من وشي كدا.
اقترب منه أحدهم حتى بات مُلتصقًا به وتحدث قائلًا بهدوءٍ مريب: تعالى معانا الكبير عايزك.
زوى ما بين حاجبيه باستغرابٍ وهو يتسائل: الكبير مين؟
تعالى معانا وأنت تعرف.
كتم فادي أنفاسه وهو يشعر بنصل مادية الأخير يصطدم بجانبه كتهديد صريح له، فاضطر آسفًا إلى مُجاراتهم ورؤية ما يريده هذا الكبير المزعوم! وصل ثلاثتهم إلى المرحاض الذي كان فارغًا تمامًا، فنظر إليهم فادي بحذر وهو يتسائل: فين الكبير دا؟ و. آاااه.
قاطعوه عن إكمال بقية حديثه حينما غرزا كلاهما سكينهما الحادة في معدته عدة مرات تحت نظراته الجاحظة، ومع كل مرة ينغرز فيها السكين يتذكر أسوأ أعماله، كل دمعة سقطت بسببه، كل فؤادٍ تحطم بقسوته، وكل حياة دُمِرَت ب شره، وشريط حياته المؤذي يمر أمام ناظريه بسرعة البرق يجلده بسوطِ أعماله النافر، وآخر ما سمعه هو جُملة أحدهم حينما همس في أذنه بفحيحٍ كريه:
صفوت بيه باعتلك سلامه أوي.
وعقب جُملته، انغرز آخر سكين في قلبه مُنهيًا حياته بأقسى ما يكون!
أحيانًا على المرء أن يتخطى حتى يستطيع التعايش، أن يحرق قصاصات الماضي التي تُنغِّص معيشته، ويُقاوم الرياح العاتية بقلبٍ مُثقل بالإيمان، حتى لا يُفاجأ بالموج يجرفه على شواطيء الخذلان!
وقف مازن أمام منزله المُحترق، كل ما تبقى منه هو رماد أسود بذكرى مُتفحمة ظلت محفورة داخل عقله، أسفل هذا الرماد احترقت أجساد أحبته، تحت هذا الركام لفظت عائلته أنفاسها الأخيرة وهي تستنجد، لكن الضمائر كانت صمَّاء وعيون القلوب كانت معمية، خذلوا أرواحهم الطاهرة التي حلقت فوق سماء البشر المُتخاذلون، وتركوه وحيدًا يتخبط بين جدران القسوة ويتجرع مرارة الذكريات.
اشتعلت عيناه بوعيدٍ ساحق، وعادت القوة لتُسيطر على تقاسيم وجهه مُجددًا، هو المستشار مازن الأمير، لم يُعرَف بضعفٍ أو يُشار إليه بالخوف، فؤاده شامخ كالنمور، ورأسه مرفوع كالصقر، لربما انتهت قصة من حياته، لكنه الآن سيبدأ قصة جديدة بكتابٍ جديد لا تشوبه شائبة، وهذا لن يحدث قبل أن يثأر لذاته قبل عائلته بالطبع!
ترك مكانه وصعد بسيارته مُنطلقًا إلى وجهته المُحددة والأخيرة، حيث مشفى الأمراض العقلية التي اُحتِجز بها لشهورٍ شهد بها أقسى ما يُعانيه إنسان، ذلك المكان الذي شهد ضعفه وجنونه، الآن هو يعود إليه بخضم إرادته للإفتخار بحالته التي وبالرغم من صعوبتها نجحوا في ترويضها، وذلك سيحدث أمام أكبر وسائل الإعلاك والصحفيين في البلدة، لكن مهلًا، لن يوصلهم إلى طريق، بل سيُغلِق في وجوههم جميع الطُرق ويخرج هو منتصرًا من معركة ظن الجميع بأنه بها مهزوم!
وصل إلى المشفى فوجد أن التجهيزات على قدمٍ وساق داخل غرفة المؤتمرات الضخمة، يُزينونها بالورود واليافتات الجلدية المُعلقة، رمق كل هذا بنظراتٍ ساخرة مُتجاهلًا إياه، ثم سار نحو إحدى الغرف وفتحها دون استئذان، لتنتفض برعب تلك الجالسة على فراشها، والتي كان يظهر بكائها من انتفاخ عينيها، لكن مازن تجاهل كل هذا واقترب منها أكثر حتى وقف قبالتها، وقبل أن تهم بسؤاله، باغتها هو بسؤاله الذي جمدها مكانها:.
تيجي نهرب وأتجوزك؟
اتسعت عينيّ ندى بصدمة وهي تُردد: إيه! تتجوزني؟
صدمتها بحديثه كانت حقًا هائلة، هي بالأساس كانت تبكي لأنه سيتركها ويرحل لتغرق في وحدتها من جديد، ظنت بأنها ستظل ترتطم بأمواج النبذ مدى الحياة وتعود بلا مأوى مُجددًا، لكن حديثه زلزلها بالمعنى الحرفي، جعل الحيوية تنطلق في خلاياها بحُرية، وما دار بعقلها في تلك الأثناء هو أنها وأخيرًا ستنطلق بلا قيود!
وبالرغم من تلك المشاعر التي اجتاحتها بلا رأفة، إلا إنها عاندت وهتفت رافضة بوقاحة: أنا مستحيل أتجوز واحد مجنون.
انطلقت ضحكاته تدوي عاليًا في أرجاء الغرفة، الشيء الذي سحر لُب فؤادها وجعل عيناها تضوي بحالمية، طالعها بنظراتٍ مُماثلة لخاصتها بعد أن سيطر على ضحكاته، ثم اقترب منها على بغتةٍ هامسًا أمام وجهها بنبرة غريبة تسمعها منه للمرة الأولى:
طب وحياة أمك لهتجوزك.
رضاك على قدرك يجعل الحياة أكثر جمالًا، تتعسر مهما تتعسر وتخنقك الحياة برباطٍ يجعلك تكاد أن تلفظ أنفاسك الأخيرة، لكن يقينك بالمولى يفتح عليك أبواب النعيم وتتيسر بعد عُسرها.
فتحت جنة عيناها ببطئٍ وأغلقتهما مُجددًا حتى تعتاد على إضاءة الغرفة، تشعر بثقلٍ جاثم فوق رأسها من تأثير المواد المُخدرة التي حقنوها بها، وأول ما وقعت عيناها عليه هو عمران الغارق في قلقه عليها، لن تُبالغ إن قالت بأنها الآن ترى الدموع مُتحجرة داخل مقلتيه، وبرغم تلك السعادة التي تراقصت داخلهما فور استفاقتها، إلا إنها رأت توترًا مُبالغًا فيه على تقاسيم وجهه.
عمران.
هتفت بها بخفوتٍ حاد يكادُ لا يُسمع من شدة إنهاكها، لقد ظلت ساعات طويلة داخل غرفة العمليات لا يعلم أحد عددها من كثرتها، وفور أن استمع عمران لهمستها الخافتة باسمه، حتى مال على يدها يُقبلها عدة مرات بنهمٍ شديد، سامحًا لدمعته الخائنة بالهطول بعد وقتٍ عصيب مر كالدهر، ارتفع لها ثم مال على جبينها يلثمه بحنانٍ شديد حتى همس أمام وجهها بمشاعر بعثرتها الآلام:
قلب وعيون عُمران يا جنتي.
ابتسمت بخفة حتى تُخفف من توتره وهي تضغط بكفها على يده المُتشبثة بها، ثم قالت بصوتٍ خفيض تُشاكسه: مش لو كنت سمعت كلامي وبوستني ماكنش دا كله حصل!
عدوى ابتسامتها انتقلت إليه، فمسد على خصلاتها المخفية أسفل غطاء طبي خفيف أثناء استناده بجبينه على جبينها وقال بهمس: دا على كدا أنا حسابي بقى تقيل أوي!
جدًا جدًا.
هتفت بها ضاحكة، ليقول هو بعتابٍ زائف: لا إخص عليا، لازم أصلَّح غلطتي بقى!
بس بقى يا عمران بتكسف!
تعالت ضحكاته الممزوجة براحته التي سُلبت منه لساعاتٍ طويلة، والآن ها قد عادت بعودتها له، لكن وُئدت ضحكاته حينما تسائلت هي بصوتٍ مُهتز:
إيه اللي حصل لرجلي يا عمران؟
عاد الحزن يرتسم على تقاسيم وجهه وعيناه تُرسل لها اعتذارًا على ذنبٍ لا طاقة له به، كيف يُخبرها بأنها فقدت جُزءًا لا يتجزأ منها؟ كيف عليه أن يضعها في مقدمة الريح لتُواجه برودته وحدها؟ كيف عليه أن يوأد راحتها ببضعة كلمات ستوشم النيران في فؤادها الحنون؟ قاطعت حبل أفكاره حينما ابتسمت بخفة وقالت ببساطة:
بتروها صح؟
كانت تتسائل بها بثقة وكأنها تعلم صحة الإجابة، انفرجت شفتاه ليؤازرها في محنتها، لكنه أطبقهما مُجددًا حينما استطردت حديثها بقولها الراضي: أنا مش زعلانة على فكرة، لإني عارفة من فترة إن دا هيحصل.
رمقها باستغراب رغم الحزن المرتسم على وجهه، قبل أن يسألها بهدوء ويده اتخدت طريقها إلى خصلاتها ليعبث بها: إزاي؟
غامت نظراتها في سقف الغرفة بشرود، بالرغم من أنها لم ولن تتخطى هذا الأمر طيلة حياتها، إلا أنها وللعجب تشعر بالرضا في ابتلائها، تذكرت حُلمها الذي ظل يُراودها في الفترة الأخيرة، حيث كانت ترى ذاتها في مكانٍ واسع فسيح ناصع البياض، لكن ما كان يُثير حفيظتها وريبتها في الوقت ذاته هي رؤيتها لذاتها بقدمٍ واحدة والأخرى مبتورة، ظل ذلك الحلم يتردد عليها لأيامٍ عديدة، حتى علمت مغزاه، لذلك لم تكن مُتفاجئة، بل كانت راضية بقدرها رغم صعوبة الإبتلاء.
قصت ما رأت في أحلامها ل عمران الذي كان يستمع إليها باهتمام، وبعد أن انتهت وجدته يميل على جبينها يطبع عليه قُبلة طويلة أودع بها جميع مشاعره، وبالرغم من رضاها الظاهر، إلا إنها لم تمنع دموع حُزنها على قدمها التي ستفتقدها، هي بالأخير كانت جزءًا منها ولن تُنكِر حزنها على فقدها، انتقلت بأبصارها نحو عمران الذي غمغم قائلًا:.
أنا عارف إنك راضية بقضاء ربنا بس دا ميمنعش إنك تزعلي، الابتلاء صعب عليكِ إنك تتخطيه، بس في نفس الوقت مكسب ليكِ، أنتِ متخيلة إن فيه جزء منك سبقك للجنة! وفي يوم من الأيام هتجتمعي مع غايتك بس في الآخرة.
الحمد لله.
همست بها جنة راضية بوهنٍ شديد، عاود رأسها يثقل مجددًا بفعل الأدوية وعيناها تنغلق لاإراديًا منها، فأمسك عمران كفها بين يديه يُقبله بشغف هامسًا: نامي وارتاحي أنتِ يا حبيبتي.
كانت تُجازف للبقاء، لكن الوهن تملك منها وباتت في عالم آخر، لكنها لم تمنع ذاتها من الهمس بتيهة: ولما أصحى هتبوسني يا عمران.
يا ماما يعني إيه هتفضلي قاعدة في البلد عند خالي؟ هو مروان قصَّر معانا عشان تطلبي الوِرث!
هتفت بها فاطمة بانفعالٍ وهي تسير في الشارع عائدة لمنزلها بعد أن اشترت حاجايات المنزل، تفكير والدتها في الأموال طيلة الوقت يُشعرها بالنفور منها، لن تنسى بتاتًا أن طمعها كان سيُهلكها لولا ستر الله لها، والآن هي ترى والدتها تسير على نفس المسار الذي تتخذه، تهرب من المنزل لتضغط على مروان ويُعطيها وِرثها الذي ستهدره لا محالة.
أغلقت والدتها الهاتف بوجهها مما جعل فاطمة تزفر بانفعالٍ جلل، ماذا عساها أن تفعل في موقف كهذا؟ هل تترك والدتها في مهب الريح تتخبط، أم تَذهب إليها لتُقنعها؟ لكنها هزت رأسها نفيًا عِند خاطرها الأخير، إن ذهبت إلى هناك سترى مصطفى ابن خالها الحقير لا محالة، وهي تريد تجنبه بشتى الطرق.
شهقت بفزع حينما رأته يقفز من أفكارها ليتمثل أمامها في الواقع، يُطالعها بنظراته المريضة وابتسامته الحقيرة ترتسم على شفتيه، كيف كانت تعشق هذا المُسخ من قبل؟ ألتلك الدرجة كانت معمية عن حقيقته المُقززة؟ زوت ما بين حاجبيها بسخط ووقفت أمامه بشجاعة وهي تصرخ به:
أنت إيه اللي جابك هنا يا بجح أنت؟ مكفاكش اللي عملته جاي تكمل؟
رسم مصطفى ابن خالها ابتسامة لزجة وهو يقترب منها رويدًا، تشعر بأن ابتسامته كسهامٍ نارية تخترق جسدها من وقاحتها، وزاد ارتباكها حينما هتف بنبرته الغير بريئة بالمرة:
إحلويتي يا بطة!
ابتلعت مياه جوفها بصعوبة بالغة وهي ترى المكان الذي به فارغ إلا منهما، ورغمًا عنها شعرت بالخوف يخترق حاجز قوتها الواهية وهي تقول بتذبذب: أنت. أنت عايز إيه؟
عايزك.
إجابة بسيطة تحمل بين طياتها الكثير من المعاني الوحشية، عادت بخطواتها للخلف تزامنًا مع اقترابه منها وهو يستطرد حديثه الحقير: واللي مخدتوش منك بمزاجك هاخده غصب عنك يا بطتي.
تعالت وتيرة تنفسها وهي ترمقه برعبٍ جلي قائلة: اب. ابعد عني يا مصطفي بدل ما أصوت وأعملك فضيحة هنا.
ظهرت السخرية على وجهه وهو يقول بتهكم: وأنا أحب أشوف الفضيحة يا عيون مصطفى.
وأنا مش هخلي نفسك في حاجة يا نن عين عُمير.
استدار مصطفى فجأة حيث مصدر الصوت الرجولي الذي صعد من جانبه، ليُباغته عمير بلكمة قوية على وجهه أدت إلى سقوطه أرضًا بعنف ومن ثَم همس بوعيد: دا أنا هخلي اللي ما يشتري يتفرج عليك النهاردة.
أتى الموعد المنتظر ل مازن حيث سيقوم بفضح مخططات المشفى القذرة وذلك بمساعدة بدران بالطبع، في البداية فكَّر في فضح عرضهم بنفسه، لكنه هكذا سيُعرِّض حياته لخطرٍ بليغ، لذلك قام بتسجيل كل شيء على إسطوانة صغيرة وهرب هو مع ندى تاركًا أعمال المشفى المشبوهة تُعرض على مسمع ومرأى الجميع، وبالطبع كانت قوات الشرطة حاضرة، فتم القبض على كل مَن اشترك بجرائم تعذيب المرضى والعمليات الغير مشروعة التي تقوم بها المشفى، وانتهت القصة!
يعني إيه عمك مش موافق نكتب الكتاب؟ أصوَّت! دا خطفني عشان يتأكد إني بحبك وفي الآخر مش راضي نكتب الكتاب؟ ما تتكلمي أنتِ ساكتة ليه يا سامية؟
غمغم رأفت بحديثه بانفعالٍ وخاصةً عِندَ جُملته الأخيرة، لتُقلِّب ياسمين عيناها بملل وهي تقول ببرودٍ ظاهري: أهو أنا مش هفتح معاه أي موضوع غير ما تبطل تقولي يا سامية دي.
كانت جالسة على المقعد أثناء تحدثها معه، في حين كان يقف أمام النافذة وهو يتحدث بانفعال، وعقب جُملتها التفت لها ليقترب منها بسرعة حتى وقف قبالتها، وبعدها انحنى بجذعه حتى بات يُواجه وجهها بوجهه هامسًا بفحيحٍ متوعد:
عمك دا لو موافقش نكتب الكتاب أنا ه...
هت. إيه يا رأفت يا حبيبي؟
تسائل بها ماجد عقب أن دخل عليهم لتوه، واضعًا يداه في جيب بنطال بذلته الرمادية، والتي تناغمت بسحرٍ مُتألق مع عينيه الخضراوتين، تصلب رأفت في مكانه بعد أن اعتدل بسرعة، راسمًا على شفتيه ابتسامة متوترة وهو يقول:
إزيك يا عمي يا حبيبي! دا أنا لسه كنت بسأل على صحتك.
رمقه ماجد بسخرية تزامنًا مع سيره نحوهم، ثم جلس بجانب ياسمين على الأريكة والتي مالت على وجنته تُقبله بحب شديد، فيما رفع الأول نظره ل رأفت الذي يُتابعه بترقب قائلًا بتفكير:
بفكر يا سمسمة أوافق إننا نكتب كتابك على الكائن دا آخر الأسبوع!
اتسعت ابتسامة ياسمين بسعادة، في حين جحظت عيني رأفت بعدم تصديق وهو يطالع ماجد بنظراتٍ مذهولة، ظل الصمت يعم المكان للحظاتٍ عديدة، حتى قطعه رأفت بصراخه وهو يقفز في مكانه سعادةً، ثم اتجه نحو ماجد يُقبله على وجنته بقبلاتٍ واهية جعلت الأخير يضحك بانطلاق، ابتعد عنه ثم توجه نحو ياسمين في نية لإحتضانها هي الأخرى، لكنه توقف حينما صرخ به ماجد بحدة:
أنت هتعمل إيه يا حيوان؟
عاد رأفت أدراجه وطالع ياسمين التي تُقهقه بأسى، قبل أن يهتف بحماس: هبوسك بس مش دلوقتي.
احتدت عيني ماجد بعصبية جعلت رأفت يُهرول من أمامه بعد أن قال بتوتر: هروح أكلم جدي أفرحه.
تابع ماجد أثره بتشنج، ثم نظر ل ياسمين الضاحكة يسألها بسخط: بتحبي فيه إيه الأهبل دا؟
خُدي بالك يا أم رئيف.
قالها رائف وهو يسند نرجس من ذراعها ليُساعدها في هبوط درج المنزل بحذر، ضحكت نرجس بخفة وهي تضع يدها على بروز معدتها الضئيل ومن ثَم قالت بيأس:
يا رائف والله أنا زي الفل، كدا هتعودني على الدلع وأنت مش قده!
أنا مش قده؟
تسائل بها بجدية تحت نظراتها المُشاكسة التي ترمقه بها، لتعلو صرخاتها بخضة حينما مال عليها بجذعه ليحمل جسدها بين ذراعيه على بغتة، قائلًا بمكرٍ وهو يغمزها: طيب اتعودي بقى عشان من هنا ورايح مش هتشوفي غير الدلع وبس.
ضربته نرجس على كتفه أثناء استمراره في هبوط الدرج وهي تقول بصوت خفيض: بس يا رائف نزلني جدك قاعد تحت.
تجاهل رائف صرختها المُستنكر وأكمل سيره بها حتى وصل إلى الغرفة التي يجلس بها جده، والذي ما إن رآهما حتى اتسعت ابتسامته مُظهرًا عن أسنانه، ثم قال بعبث:
يا واد اختشي!
أجلس رائف زوجته على المقعد، ثم اعتدل واتجه نحو جده ليميل بجذعه على رأسه يُقبلها باحترام، رمقه عتمان بحب وهو يُربت على كتفه وهمس له: مش ناوي تسافرلك أنت ومراتك كام يوم بقى عشان تغيروا جو؟
هز رأسه نفيًا وهو يجلس على المقعد المجاور له قائلًا: لأ يا جدي، أنت صحتك متسمحش إن إحنا نسيبك لوحدك، وبعدين حمل نرجس هيمنعنا إننا نسافر كمان علشان متتعبش.
مش عايز أحس إني مقصّر من ناحيتك يا رائف!
ابتسم له الأخير ابتسامة باهتة أودع بها اطمئنانه، لقد عادت علاقته هو وجده مثلما كانت من قبل، وتحديدًا قبل وفاة والديه، اعتذر منه عتمان كثيرًا ليُسامحه على تعامله الغليظ معه، ذاك التعامل الذي جعله يظن بأنه يكرهه مثلما يكرهه عمه وزجته، لكن الآن قد أدرك حقيقة ما كان يُخفيه خلف قناع غلظته، وهو الحنان والخوف الشديد، تلك الجُملة التي استمع إليها عتمان منه عقب أن ذهب ليُعاتبه مازالت تجلده بسوطِ الندم حينما قال بضعف:.
كنت مستني منك تعوضني يا جدي بس ملقتش منك غير قسوتك.
ومن وقتها أقسم بتعويضه على كل ثانية افتقد فيها لحنانه حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.
عَلى رنين هاتف عتمان برقم رأفت، فأجابه بنزق وهو يلوي شفتيه: أنت فين يا صايع!
ضحك رائف بخفة وهو يستمع إلى حديث رأفت من الناحية الأخرى حينما قال بسعادة عارمة: اجهز يا جدي أنت و رأفت ومراته عشان هتيجوا نكتب كتابي أنا و سامية.
تعالت ضحكات رأفت وظهرت السعادة على وجه عتمان الذي أشبعه بعبارات الدعاء والفرح، في حين تشنج وجه نرجس الجالسة بجانب زوجها، والتي غمغمت بسخط:
سامية؟ عليا النعمة أنا لو مكانها ما أعبره ولا أوافق أتجوزه.
بعتذر منك يا حازم بس العروسة مش موافقة على عرض جوازك منها.
قالها بادر بأسى مصطنع وهو ينظر ل حازم الذي ضاق وجهه قائلًا: ليه مش موافقة؟ دا أنا حتى بقيت طيب وغلبان وابن حلال والله!
لوى بادر شفتيه باستهجان واجابه: ما هي بصراحة بقى قلقانة منك، هي إيه اللي يضمنلها إنك مش هترجع للطريق اللي كنت فيه تاني؟
هحلفلها بالله.
قالها بتلقائية حازمة، ليظهر الإقتناع على وجه بادر الذي رد عليه بجدية: أنا ذات نفسي اقتنعت، بقولك إيه يا واد يا حازم أنا هقنعها أنا.
اتسعت ابتسامة حازم بسعادة بالغة وهو يتسائل بعدم تصديق: قول والله!
والله. بس الله في سماه لو جت في يوم تشتكيلي منك هدعي عليك دعوة في قيام الليل تجيب أجلك.
غمغم بادر بحديثه قبل أن يتركه ويرحل تحت نظراته التي ترقص بسعادة بالغة.
إيه اللي حصل؟ ومين اللي عمل فيكِ كدا؟
تسائل بها مروان بهلع فور أن وقعت عيناه على شقيقته التي تسير بجانب عمير بأعين مُنتفخة من البكاء، ضمها مروان لصدره ونظره مُثبت على عمير الذي وضَّح له الأمر وقصَّ له ما حدث، لتشتعل عيني مروان بغضب أعمي وهو يصرخ باهتياج:
ابن ال قسمًا بالله ما هسيبه.
كان يهم بالذهاب إلى مصطفى للأخذ بثأر شقيقته، لكن أوقفه عمير الذي ابتسم له بمكر وقال عابثًا: عيب عليك يا مروان والله! أكيد مش هسيب كلب زي دا يتعرض لبنت حتتي وأنا هسكتله!
زوى مروان ما بين حاجبيه بتساؤل، ليوضح له الأخير بخبث: عملت معاه الواجب ورجالتي هترجعوا البلد على نقالة، بس أنت اتقل.
جز مروان على أسنانه غضبًا، يُريد أن يذهب ويفتك بذلك الحقير الذي تجرأ على شقيقته، يُقسِم لو كان أمامه الآن لكان قتله، ولحُسن حظه بأنه فلت من بين يديه! رفع مروان نظره ل عمير يرمقه بامتنان رغم تشنج وجهه، ثم قال شاكرًا:
تسلم يا عمير أنا مش عارف أقولك إيه.
متقولش حاجة إحنا أهل، وحمدلله على سلامتها.
قالها وهو يبتسم بهدوء، بينما فاطمة شردت في الدقائق الماضية، حينما انقض عمير على مصطفى يُبرحه ضربًا بغضب شديد، وبعد أن انتهى منه أوقفه عِنوة أمامها ثم أمرها بصرامة: خدي حقك.
رفعت أنظارها المذهولة إليه ترمقه باندهاش، لتجفل حينما صرخ بها للمرة الثانية: بقولك خُدي حقك.
وللحقيقة هي لم تنتظر، بل رفعت ذراعها على آخره، لتهبط بكفها على وجنة مصطفى بكل عنفوان، ولم تكتفي بصفعة واحدة، وإنما سددت له صفغة أشد على وجنته الأخرى تودع فيها حقدها عليه وعلى خداعه الحقير لها، أدمعت عيناها بقهر ثم رفعت عيناه ل عُمير الذي سدد لها ابتسامة صغيرة استوطنت عقلها وقال حينها:
خالصين يا ست البنات.
استفاقت من شرودها حينما وعت ذهاب عمير من أمامها مُبتعدًا عدة خطوات عنهما، لتُناديه بلهفة جعلته يستدير لها باستغراب: أستاذ عمير؟
رمقها بتساؤل، لتبتسم له بخفوت قائلة: شكرًا.
العفو يا ست البنات.
قالها وهرب، نعم هرب من دقة قلب خانته وللمرة الأولى! ظن بأنه قد فلت، لكنه ترك فؤاده مُحتبسًا داخل عينيها!
بعد مرور أسبوع.
اجتمع الجميع بغرفة جنة في المشفى بعد أن استعادت جزءًا من عافيتها، كانت الغرفة تضج بالكثير من الأحاديث الموجهة ل جنة تارةً، والأحاديث الجانبية تارةً أخرى، حتى قطع هارون هذه الجلبة بقوله الصارم رغم حنانه:
الدكتور قال إن صحتك بقت كويسة وتقدري تخرجي يا جنة يا بنتي، تحبي ترجعي على بيت جوزك ولا تروحي بيت أهلك لحد ما صحتك تبقى أحسن؟
نظرت إليه جنة بتردد، ثم نظرت نحو عمران لترى رأيه، فوجدته يُرسِل إليها رجاءًا صامتًا أن تظل معه، فشددت على يده المُمسكة بخاصتها ثم قالت بابتسامة هادئة: هفضل مع عمران يا عمو.
اتسعت ابتسامة عمران تلقائيًا، فابتسم هارون والذي قال بهدوء: حيث كدا بقى جهزوا نفسكم علشان نمشي من هنا النهاردة ونرجع نتلم في بيتنا من تاني.
دخل بدير إلى منزله مع تسنيم بعد يوم طويل وحافل قضوه مع العائلة، ليرتمي بجسده على الأريكة وهو يقول بإنهاك: بفكر نهاجر في مكان ميكونش فيه غير أنا وأنتِ وبس!
ابتسمت تسنيم بحبٍ خالص وهي تُجاوره على الأريكة، ثم مالت برأسها على صدره لتجده قد رفع ذراعه بتلقائية ليُحيط بها ويُقربها أكثر، في حين همست هي قائلة: مش هنكون لوحدنا، هيكون فيه دخيل ما بينا.
زوى ما بين حاجبيه باستغراب وهو يرمقها بتعجب، فرفعت رأسها له هامسة بحب رغم مشاكستها: فيه أب يسيب ابنه لوحده ويسافر برضه!
ابتلع ريقه بصعوبة مُحدجًا إياها بتشوش، ويبدو أن صدمة ما استمع إليه جعلته يهتف بغباء: بس أنا معنديش عيال!
بس هيبقى عندك.
قالتها تسنيم ضاحكة وهي تهم بالابتعاد عنه، لكنه سحبها دافنًا إياها بين أضلعه وكأنه يحتجزها بعيدًا عن العالم، التمعت عيناه بسعادة عارمة وهو يكاد لا يُصدق ما استمع إليه، مما دفعه ليُغمغم بتلعثم: ب. بجد يا تسنيم ولا بتهزري؟
شددت من احتضانه وهي تُجيبه بصوتٍ مُتهدج من فرط مشاعرها: بجد يا حبيب تسنيم.
استمعت إلى تمتمته المُتتابعة بالحمد، وذراعيه تبثها بالدفيء والأمان اللذان افتقدتهما، حياتها باتت آسرة وردية، مع زوجٍ جنون وعيشة هنية، والآن سيأتي طفلها الأول ليُلون حياتها معه بألوان طيفه المُشاكسة!
خطت قدماه أعتاب شقته فوجدها مُظلمة، قطب مصعب جبينه بتعجب وهو يتلفت حوله يبحث عن مفتاح الإنارة ليُضيء المصابيح، عيناه تبحث عنها لكنها غير مُتواجدة في الأرجاء، اقترب للداخل أكثر واضعًا مفاتيحه على الطاولة وهو يُفكر ما إن كانت قد ذهبت عِندَ والديها لزيارتهما، لكن لِمَ لم تُخبره كما اعتادت مُسبقًا؟
انقطعت أفكاره حينما استمع إلى صوت حركة خافتة تصدر من جهة غرفة نومهما، بدأ القلق يتسلل إلى فؤاده وهو يقترب أكثر ليرى مصدر هذا الصوت وبيده يُمسِك سلاحه واضعًا إصبعه على الزناد بتأهب، وبحركة مُباغتة فتح الباب فجأة، لتقفز أمامه روان فجأة بابتسامة واسعة، وبثيابٍ حالكة السواد وزينة وجه أقل ما يُقال عنها بأنها مخيفة، لكنها ابتلعت ضحكتها حينما رأته يُوجه السلاح في وجهها وهو يصرخ بها برعب:.
أنتِ مين انطقي وفين مراتي؟
بسطت روان كفيها بجانب رأسها برعبٍ وهي تهتف صارخة: أنت بتعمل إيه يا مصعب يخربيتك أنا روان.
دفع مصعب سلاحه جانبًا بعصبية وهو يصرخ بها: ما هو المرار الطافح دا مبقاش نافع، مش كل يوم والتاني هتطلعيلي بنيو لوك جديد وأنا اللي بقطع الخلف في الآخر!
مطت روان شفتاها بسخطٍ وهي تقترب منه قائلة بعتاب: دا بدل ما تقولي إيه القمر دا يا حبيبتي؟
قصدك إيه القرف دا يا حبيبتي!
صححها مُستهجنًا، فاحتدت عيناها المُحاطة بكُحلٍ أسود بطريقة مُبالغة، وتضع على جفنيها زينة سوداء اللون كذلك جعلت مظهرها أكثر رُعبًا، ناهيك عن ثيابها السوداء كذلك! ابتلع مصعب ريقه بتوتر ثم أمرها وهو يعود للخلف عدة خطوات:
روحي بس اغسلي وشك كويس علشان نعرف نتفاهم.
غادرت من أمامه بخُطى غاضبة وهي تزفر بسخط، فيما هز هو رأسه بيأسٍ وهو يتجه نحو الفراش ليجلس عليها، أتته بعد دقائق معدودة بعد أن محت زينة وجهها كاملة، عدا تلك الرموش المُصطنعة التي احتفظت بها، جاورته فتسائل مُستغربًا: مشيلتيش الرموش دي ليه؟
هزت حاجبيها بمشاكسة وهي تُدندن مُغنية: أنت خايف من رموشي. يجرحوك مبيجرحوشي. دول حبايبك يا حبيبي.
والله يا حبيبتي أنا خايف منك أنتِ شخصيًا مش من رموشك.
عاد وجهها يتجعد بضيقٍ مرة أخرى، فأطلق ضحكة عالية وهو يضمها إليه قائلًا من بين ضحكاته: وحياة أمك يا شيخة بلاش عمايلك السودة دي، أنا مش عايش مع ساحرة الجنوب.
بحاول أعملك حاجة كريتيف علشان متزهقش مني بعد الجواز.
بررت له موضحة، ليقول لها بلهفة: لأ والله ما ههزهق بس متعمليش كدا تاني.
صمت قليلًا ثم استطرد حديثه قائلًا بحنان: وبعدين وجودك ذات نفسه في حياتي كريتيف، هو حد يطول إن روان تبقى في حياته ويزهق؟
أسبلت روان عيناها بخجلٍ للحظاتٍ قضاها في تأملها بلا ملل، قبل أن ترفع له رأسها وتتسائل بصوتٍ خافت: مصعب باشا؟ إحساسك إيه وأنا في حياتك؟
يلا يا زهراء علشان منتأخرش على العزومة.
هتف بها بدران بعد مرور شهرٍ كامل على كل تلك الأحداث التي توالت مُتسارعة، واليوم ستجتمع جميع العائلة في منزل هارون، كُلٌ بزوجته وأبنائهم الذين مازالوا في أحشاء والدتهن.
خرجت زهراء من الغرفة بوجهٍ ضائق وقالت بسخطٍ وهي تُشير لمعدتها: أنا عايزة أعرف إيه دا؟ دا أنا حامل في حتة عيل مش في جاموسة عشان ياخد المساحة دي كلها!
ضربها بدران على مؤخرة رأسها بخفة قائلًا بحسم: ملكيش دعوة بابني ويعمل اللي هو عايزه، أنتِ عليكِ تولدي وأنا اللي هربيه.
ضيقت عيناها بشكٍ وهتفت تُردد حديثه: أنت اللي هتربيه؟ متأكد من الكلام اللي أنت بتقوله دا؟
أومأ برأسه بتأكيدٍ جاد وهو يهتف: أكيد.
ثم مال على وجنتها يلثمها برقة قائلًا: بس إيه الحلاوة دي؟ جمالك بيدوخني يا زغلولة.
اتسعت ابتسامتها على آخرها وقالت هامسة بخجل: حبيبي يا بدران.
اقترب مُحيطًا بكتفها ثم اتجه بها نحو الخارج وهو يقول مُبتسمًا: قلب بدران، تعالي ننزل يلا عشان منتأخرش عليهم.
هبط الجميع إلى الأسفل فوجدوا المكان مُشتعل بمناوشات بادر وإلياس، والذي هتف الأول قائلًا: خسئت يا إلياس، إيدك من على أختي يا جدع كدا!
رمقه إلياس بغضب صائحًا بجنون وهو يجذب بدور لصدره: أختك دي تبقى مراتي، متبقاش غتت وابعد عنها بقى!
أعاد بادر شقيقته له مرة أخرى قائلًا باستفزاز: لما تبقى في بيتكوا ابقى قول هي مراتك، لكن هي هنا في بيت أبوها ووسط إخواتها، يا نكرة.
شهق إلياس بعنف ضاربًا بيده على صدره وهو يقول بصدمة: أنا نكرة؟
أومأ له بادر برأسه ليؤكد له، فاستدار إلياس ل بدور يسألها بصدمة هي الأخرى: أنا نكرة يا بدور؟
هزت بدور رأسها نفيًا ثم اتجهت إليه بعد أن تحررت من احتجاز شقيقها لها، قائلة وهي تُربت على صدره برفق: لأ يا عيون بدور أنت مش نكرة، أنت حبيبي.
يا كبدي!
هتف بها حمزة الذي دلف لتوه بملامح وجه مُتشنجة، والذي رمق إلياس بسخطٍ قبل أن يجذب شقيقته لأحضانه يضمها لصدره بحنان، أحاطته بدور التي ضحكت بانطلاق على معالم وجه إلياس التي تجعدت باستنكار، فيما اتجهت رضوى إلى إلياس تُعانقه بدورها لتُراضيه بقولها:.
متزعلش يا حبيبي أنا كمان هحضنك، وخُد بوسة كمان.
أنهت حديثها مُنهية إياه بقُبلة على وجنته، لتتسع ابتسامة إلياس بتلقائية والذي لثم جبينها بحب قائلًا: حبيبة أخوكِ.
رفع حمزة إحدى حاجبيه إلى رضوى التي سددت له نظراتٍ متوعدة، فمال على أذنها يهمس بوعيد: بتعانديني؟ ماشي يا شمامة.
لتُجيبه هي بنفس الهمس: براحتي يا شمام يا خمورجي.
وبعيد عنهم قليلًا. كانت ذكرى تُتابع مُشاكسة الشباب بثُغرٍ مُبتسم وهي تقوم بِ رَص مزهريات الورود على سور الشُرفة بطريقة منمقة، بمختلف الألوان والأشكال، كما أنها وضعت البعض منهم على الطاولات وجوانب المنزل لتُعطيها رونقًا خاص! هي سيدة الورود كما لقَّبها يعقوب حقًا!
شهقت بخفة حينما شعرت بمن يُكبل حركتها من الخلف، لكنها هدأت حينما استمعت إلى صوت همس يعقوب لها والذي غمغم قائلًا برقة:.
بتحَلِّي أي مكان موجودة فيه، ومكان ما تكون ذكرى يكون موجود الورد، وكإنه جُزء منك!
رفعت عيناها له تأسره بنظراتها اللامعة التي تخصه، كل ردة فعل تصدر منها تكون له وإليه فقط، وكأنه الوحيد الذي يستحق أن تنشر بتلات زهورها حوله حتى تنمو زرعتها، حاصرها بعسليتيه وهو اُحتِجَزت بهما بمخض إرادتها، هي تغرق به للمرة المليون دون وجود مُسِعف، ومراكبها ترسو من حوله حيث تكمن شوائطه.
أنت اللي جزء مني مش الورد يا يعقوب، حبي ليك اتعدى حُبي لأُمنياتي، فبقيت أنت كُل أحلامي.
مال على جبينها يلثمه بقُبلة مُطولة أودع فيها عشقه اللامتناهي على عرش قلبها الأسير، ابتعد عنها ببطئٍ حينما استمعا إلى صوت نداء حنان لهما لينضما إلى طاولة الطعام، وبعد أن أخذا مكانهما، استمعت ذكرى إلى صوت هارون الضاحك يقول:
مليتي البيت ورد يا ذكرى يا بنتي.
ردت عليه ذكرى بابتسامة واسعة: علشان البيت شكله يبقى حلو أكتر يا عمو.
فغمغم هارون بحنين: البيت دايمًا هيبقى حلو بيكم وليكم، ومكان الورد دا هكون مستني أحفادي من كل واحد منكم، وساعتها هشوف زرعتي اللي على حق وهي بتكبر قدام عيوني.
الخاتمة
بعد مرور سبعة أعوام...
وكأن المنزل مازال على نفسِ الحالة، لا شيء قد تغير به سوى أن الزهور الصغيرة تبدلت إلى أطفال قصيرة كما تمنى هارون تمامًا، صوت الصخب الصادر من الأطفال يكاد أن يصم آذان جميع الجالسين، خاصةً صوت صراخ إدريس ابن يعقوب من ناحية، وصوت صراخ جنة التي تلد في إحدى الغرف من ناحية أخرى!
تأفف يعقوب بسخطٍ وهو يحمل إدريس البالغ من العمر أربعة أعوام بين ذراعيه والذي يصرخ ببكاءٍ حار، ليسأله يعقوب بغضبٍ مكتوم أثناء تربيته على ظهره بخفة حتى يهدأ:
يا حبيبي عايز إيه متخلنيش أرميك من البلكونة!
أشار إدريس إلى الخارج شاهقًا ببكاء: قطتي.
دي قطة الجيران مش بتاعتنا.
هز إدريس رأسه بعنفٍ هاتفًا وبكاؤه يتزايد أكثر: لأ قطتي.
هدهده يعقوب بطول صبر قائلًا: طيب إهدى وأنا هجيبلك واحدة بكرة.
ليهز الصغير رأسه مرة أخرى بالنفي وهو يقول ببكاءٍ عنيد وبكلماتٍ مُتآكلة: لأ دي قطتي.
كاد رأس يعقوب أن ينفجر من شدة الصرخات من حوله، سواء من صراخ ابنه، أو من صراخ أبناء أخواته، أو حتى من صرخات جنة التي هدأت قليلًا ليحل محلها صوت صرخات الصغيرة التي ارتفعت فجأة، وبعد لحظات خرج إليه عمران حاملًا الصغيرة بين ذراعيه بأعين دامعة ليقف بها أمام شقيقه قائلًا بتأثر:
جنَّات عمران هارون رضوان.
في حين رمقها الصغير إدريس بانبهارٍ جَلي بعد أن توقف عن البكاء فجأة، ليقول بثُغرٍ مُنبهر: قطتي!
ضحك يعقوب عاليًا بعد اندهاشه لثوانٍ من كلمة ابنه، ثم نظر إلى عمران ليقول من بين ضحكاته: خلاص يا معلم عرفنا جنات هانم هتبقى لمين.
رمق عمران صغيرته بابتسامة واسعة شقت وجهه المُرهق، وهو بعد عدة سنوات من الفحوصات رُزِقَ بابنته الأولى جنات، لتكون هذا حصاد عمره الماضي وثمرة حياته المُقبلة!
مرت عدة ساعات. جلست بها الفتيات مع جنة في الغرفة بعد أن نامت قليلًا، وبالخارج جلس الرجال مع بعضهم البعض في غرفة الصالون الواسعة.
إياس. تِف على عمو.
قالها إلياس لصغيره وهو يُشير نحو حازم الذي لوى شفتيه باستهجان ومن ثم قال: ونعمَ التربية يا إلياس يا حبيبي، تربية نتنة.
نظر الصغير إياس صاحب الثلاثة أعوام إلى حازم بغضبٍ وكأنه يفهم ما يتم توجيهه من كلمات نحو أباه، قبل أن يبصق بالفعل جهة حازم، اتسعت عيني حازم على آخرها وهو ينطق بنقم:
أنت ياض قليل الأدب، ولما تكبر مش هجوزك بنتي يا سافل.
نونو
غمغم بها إياس ببرائة وهو ينظر نحو نيرة ابنة حازم ذات العام الواحد، فأخفاها حازم داخل أحضانه وهو يقول بعناد: دا بعينك، روح ل فطيمة بنت بدير خليها تنفعك بقى.
وعلى ذِكر سيرة الصغيرة فطيمة، أتت إلى أبيها مُهرولة وهي تضحك بانفعال، فالتقطها بدير داخل أحضانه مُقبلًا وجنتها المُنتفخة بقوة وهو يسألها بضحك:
حبيبة قلب أبوها بتجري عملت مصيبة إيه؟
أشارت إليه فطيمة إلى أحد الأركان، لينظر الجميع حيث تُشير معًا، فرأوا ساجد ابن بادر يأتي إليهم باكيًا ومُلوثًا ببودرة الدقيق الناعمة، شاكيًا من ضرب فطيمة له، أخذ بادر ابنه داخل أحضانه ونظر إلى فطيمة هاتفًا بسخط:.
خسئتِ يا فطيمة!
والجواب أتاه على هيئة تقليد الصغيرة لصوته ثم أطلقت الضحكات العالية التي شاركها الجميع فيها، وكذلك بادر الذي يحب مشاكستها للغاية.
والمُصيبة الأكبر قد أتت، حينما دخل عليهما الطفلين مُنتصر ومُجاهد صامتين، نعم. فالمصيبة كانت في صمتهما، منتصر هو ابن حمزة، و مجاهد ابن مصعب، وكلاهما وُلِدَ في نفس اليوم، رمقهما حمزة بشكٍ وتسائل بريبة:
ولا أنت وهو انتوا ساكتين ليه؟
فجائت الإجابة من منتصر صاحب الستة أعوام يقول باحترام لا يليق به: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، أما بعد. فقررنا نحن منتصر حمزة هارون و مجاهد مصعب هارون، أن نكون مُهذبان إلى الأبد.
نظر مصعب إلى ابنه وابن أخيه بفخرٍ وقال بتأثر: يا حبايبي! ثمرتي الصالحة في الحياة!
وما إن أنهى حديثه، حتى استمعا إلى صوت طرق عنيف على باب المنزل، نظر الجميع لبعضهم البعض بريبة، فهب حمزة من مكانه ليرى الطارق، وما إن فتح الباب حتى ظهر من خلفه أحد الرجال يشكو بغضب:
ابنك وابن أخوك يا أستاذ حمزة كسروا إزاز المحل وبقى على البلاطة.
نظر حمزة إلى الصغيرين بغضب حارقٍ وردد حديثهم بتهكم: قال نكون مهذبان إلى الأبد قال! جتكم ستين خيبة على تربيتكم النتنة.
وعقب حديثه، أخذ الرجل إلى الخارج ليتفاهم معه ويُعوضه بعوائد مادية ليُصلح ما أفسده الصغار.
مال بدران على أذن مجاهد ابن مصعب يُعاتبه برفق: ينفع اللي عملتوه دا يا مجاهد؟
لتأتيه الإجابة صادمة من الصغير حينما قال: ما باسل ابنك يا عمو كان معانا.
كتم بدران فاهه بسرعة قبل أن يُلاحظ الرجال ما قاله مُبتسمًا لهم بتوتر، فدفعهم بعيدًا وهو يقول ضاحكًا: أطفال أطفال. والأطفال أحباب الله. روحوا إلعبوا يا حبايبي.
كان عُمير جالسًا معهم والذي تواطدت علاقته مع الشباب في الفترة الأخيرة بعد أن تزوج من فاطمة شقيقة مروان، ليُضيق عيناه بشكٍ وهو يسأل بدران:
الواد قالك إيه خَلَّى وشك يجيب ألوان كدا ياض!
نكزه بدران في ذراعه بقوة وهو يقول بسخط: خليك في بنتك يا عُمير وملكش دعوة بيا وبابني الملاك الطيب البريء.
طيب وبريء آه.
غمغم بها عمير بسخرية وهو يعود ببصره نحو رضيعته رودينا التي ابتسمت له بعد أن عاد ليُداعبها.
واكتملت الجلسة بقدوم مروان الذي يُمسك بيد صغيرته ميادة ومعه رأفت السائر مع ابنه كارم، جلس رأفت بجانب يعقوب ثم نظر إلى ابنه يأمره بابتسامة هادئة:
روح إلعب مع العيال يا حبيبي.
هز الصغير رأسه نفيًا وهو يقول: لأ هلعب مع ميادة بس.
تأفف مروان بسخطٍ وضمَّ ابنته له بحماية قائلًا: أنا بنتي مش هتروح في مكان بعيد عني، امشي من هنا يالا.
بس أنا عايزة ألعب مع كارم يا بابا!
هتفت بها الصغيرة بحنقٍ طفولي، ليدفعها أبيها الذي قال بحنق: روحي ياختي إلعبي مع سي زفت.
ذهبا الصغيران لينضما مع الأطفال بسعادة، بينما نظر بدران ل يعقوب الحامل لابنته ورد صاحبة العامين يسأله بشك: أومال فين ابنك؟
أي واحد فيهم؟
بلال.
هز يعقوب كتفه بجهلٍ وهو يبحث بناظريه عن ابنه البِكري بلال ذو الستة أعوام، لكنه لم يكن موجودًا على مرمى بصره.
وبعيدًا عنهم قليلًا، وقف بلال أمام ريم ابنة حمزة بعينين مُلتمعتين غريبة على صغيرٍ مثله، يمد يده لها بزهرة من اللون الأحمر، ويُنهي فعلته قائلًا بثُغرٍ باسم:
الورد للورد يا ست ريم.
كل تلك المشاهد كان هارون وحنان يُتابعونها بسعادة بالغة، اكتملت حياة أبنائهم بما ينقصهم، وجد كُلٌ منهم نصفه الآخر ورفيق دربه، ارتشفوا الحنان والحُب رشفةً برشفة، كل شيء مُتقن ومثالي كما تخيلوا بالضبط.
رفع هارون أنظاره عنهم بصعوبة بالغة وثبتها على حنان التي كانت تُشاركه النظر إلى تعب سنواتها الماضية، مدَّ يده ليُمسك بكفها، ثم همس أمام عينيها التي تُطالعانه بعشقٍ بلغ مبلغه رغم مرور كل تلك الأعوام:
لولا وجودك اللوحة ماكنتش هتكمل، شكرًا على وقوفك جنبي يا حنان.
تلك المرة لم تُجيبه حنان بلسانها، بل وقفت من مكانها واتجهت إليه حيث وقف من مجلسه هو الآخر وضمته بكل قوتها، عيناها دامعة وفؤادها يبكي فرحًا، وهو لم يدَّخر جُهدًا في مُبادلتها العناق بعشقٍ أشد، حتى همست هي أخيرًا:.
عمري في حياتي ما كنت أتخيل إني أوصل للمرحلة دي من الحب، صدقني يا هارون برغم كل السنين دي أنت مفشلتش ولا مرة إنك تثبتلي إن ربنا اختارلي أحلى نصيب، أنت النعمة الوحيدة اللي هفضل أشكر ربنا طول حياتي ولآخر نَفَس على وجودها.
ربنا يطولي في عمرك يا حبيبة روحي.
قالها وهو يلثم جبينها ومازال مُحتفظًا بها داخل أحضانه، كل ما يُريده المرء هو شريك يسير معه الدرب بلا ملل أو خوف من مغادرته.
بعد عدة ساعات.
اجتمع يعقوب مع عائلته في منزلهم الخاص، وتحديدًا في شرفة المنزل الواسعة، يجلسون على الأرض المفروشة بوسائد وثيرة لتُريحهم في جلستهم، وحولهم تتناثر الورود من مختلف أنواعها وبكل أشكالها، وأعلاهم توضع أقفاص العصافير المُلونة في مظهر مُهيب، وأمامهم توضع الطاولة الخشبية العريضة موضوع عليها المخبوزات الطازجة التي صنعتها ذكرى للتو، وجهاز المذياع القديم بأغانيه الكلاسيكية الراقية.
ضمَّ يعقوب ابنته ورد إلى أحضانه، وبجانبه تجلس ذكرى التي تستند على كتفه برأسها باسمة الثُغر، وعلى قدمها يُريح إدريس رأسه أثناء تناوله للمخبوزات التي صنعتها هي، و بلال جالس بجانب أبيه من على الناحية الأخرى يُداعب عصافيره بسعادة بالغة، لوحة فنية مُتكاملة الأوجه، من حيث الدفئ، الأمان، السعادة، الثقة، والعائلة!
أخفض يعقوب عينه نحو ذكرى ثم قال بسعادة لم تخفى على عينيها العاشقة: وصلنا لمرحلة أنا ماكنتش أتخيلها، ونس عمري مكتملش غير بيكِ.
وفرحة قلبي متكملش غير بيك.
قالتها بكل ذرة عشق تنبض داخلها، ولن تمل من قولها ما حييت، يعقوب هو الرجل المثالي في وجهة نظرها، رجولته تتمثل في حنانه، بنى لها قصرًا من عشقٍ لا يمحوه الزمان، أخرجها من ظُلمات روحها إلى نور بصيرته، أرشدها إلى الهداية بعد أن تاهت في مذلات حياتها المُشوَّبة، أنقذها من تخبطها بين جدرانها المُتشققة، حارب من أجلها وحوش روحها، والنتيجة كانت تلك. بيت دافيء وعائلة صغيرة مُشبعة بالحب.
وهُنا صعد صوت المذياع يُغني بكلماتٍ وكأنها كُتِبَت من أجلها، فبدأ يعقوب يُدندن معها وهو يختصها بكلماتها:
على رمش عيونها قابلت هوى، طار عقلي مني وقلبي هوى، وأنا يللي كنت طبيب الهوى، ولأهل العشق ببيع الدوا، من نظرة لقتني صريع الهوى، من نظرة لقتني صريع الهوى، يا يا باي، يا يا بوي.
لها ضحكة يا ويلي بلون السهر، لما الورد بيملا شفايفه قمر، لها ضحكة يا ويلي بلون السهر، لما الورد بيملا شفايفه قمر، ضحكة لها بالودن ابتسامة القدر، فوق خدود العطاش فيوم المطر، وأنا يللي كنت طبيب الهوى، ولأهل العشق ببيع الدوا، وأنا يللي كنت طبيب الهوى، ولأهل العشق ببيع الدوا، من نظرة لقتني صريع الهوى، من نظرة لقتني صريع الهوى، يا يا باي، يا يا بوي.
تمت