رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي عشر
وما بين حبٍ وحب أُحبكِ أنتِ،
وما بين واحدة ودعتني وواحدة سوف تأتي،
أُفتش عنكِ هُنا وهُناك، كأن الزمان زمانُكِ أنتِ،
كأن جميع الوعود تصب بعينيكِ أنتِ!
كان حسن في تلك الأثناء يجلس داخل غرفة مكتبه أمام العميل الذي دعاه هُنا، شبَّك كفيه معًا أمامه على المكتب، ثم تحدث بنظراتٍ ثاقبة تخترق الذي أمامه:
يعني إيه البوليس عِرف ميعاد الشُحنة؟
هز الجالس أمامه كتفيه بجهل وهو يقول حائرًا: والله يا حسن باشا ما عارف، الظابط اللي شغال تبعنا هناك هو اللي قالنا، وكمان مجهزين قوات خاصة لليوم دا تحديدًا عشان يقبضوا على كل الموجودين في المينا.
همهم حسن بغموض وثبت أنظاره في نقطة فارغة من الغرفة، مرت ثوانٍ والجالس أمامه يشعر بالتوتر يجتاحه، صمته لا يُزيده إلا قلقًا، لربما ينفجر في أي لحظة ويقضي عليه، وهذا أكثر ما يخشاه في الوقت الحالي، يخشى غضبه!
رفع حسن عيناه له مُجددًا ثم تحدث بصوت جامد يحمل بين طياته الكثير: عايزك تعرفلي مين اللي سرَّب ميعاد الشُحنة وفي أسرع وقت.
أومأ له الآخر بعملية وهو يقول بثقة: هخلي واحد من رجالتي يدوَّر وراهم، وخلال يومين بالظبط الخبر هيبقى عندك.
هز حسن رأسه بالإيجاب وعلى وجهه يرتسم البرود ببراعة، حمحم الرجل بحرج ثم وقف من أمامه مُستئذنًا: عن إذنك يا حسن باشا.
سمح له حسن بالذهاب وجلس هو يُفكر مليًا فيما آلت إليه الأمور في الفترة الأخيرة، كل شيء مُنكب فوق رأسه وكأن العالم يتفق ضده، زفر بضيق وهب من مكانه وهو يُتمتم مع ذاته بنذق: أبو دي عِيشة.
وقف أمام نافذته يتطلع إلى المنظر الخلفي للحديقة بكل بشرودٍ، حتى وصلت أفكاره إلى أعمق نقطة داخل ذاكرته.
Flash Back: يا ماما بعد إذنك إلعبيلي في شعري!
هتف بها حسن بضجر أثناء جلوسه على الأرض الخضراء في الحديقة أمام مقعد والدته، لتدفعه أسمهان بغيظ وهي تُتمتم حانقة: هو كل شوية إلعبيلي في شعري؟ كنت خلفتك ونسيتك أنا؟
تشنج وجه حسن الذي استدار لها مُطالعًا إياها بشفتين مرفوعتين أثر استنكاره، ثم رد عليها قائلًا: أيوا بتتبري مني ولا إيه مش فاهم؟
طالعته أسمهان بلامُبالاة وهي تعود بأنظارها نحو هاتفها مما أثار غيظه، لذلك هب من مكانه وانتشل منها هاتفها ثم هرول به بعيدًا، شهقت والدته بفزع، وفور أن تداركت الأمر وقفت محلها ثم صرخت به بغضب: هات يا حسن التليفون أكمَّل المسلسل.
رد عليها حسن باستفزاز وهو يُحرك حاجبيه بمشاكسة: كنت خلفتك ونسيتك أنا؟
حاولت التحلي بالصبر وإدّعاء الهدوء قائلة وهي تقترب منه: هات يا حبيبي التليفون خليك ولد شاطر.
حدجها باستنكار عائدًا بظهره للخلف، ثم أجابها بنبرة مُتهكمة: أنتِ بتكلمي واحد عنده ستة وعشرين يا أمي، مش لقمان أنا عشان تكلميني كدا.
تقدمت منه والدته بملامح واجمة وهي تقول بتهديد: يا حسن هات التليفون بقى المسلسل واقف على حِتة مُهمة.
وباستخفاف أجابها قائلًا: خلاص قعديها هقهقهق.
تشنج وجهها من مزحته الثقيلة، لكن هو توقف فجأةً عندما شعر باصطتدام ظهره بشيءٍ ما وصعود صرخة أنثوية مُتألمة، استدار بسرعة ليجد ذاته قد اصطدم ب ياسمين وقام بالدعس على قدمها، وهُنا استغلت والدته انشغاله معها وانتشلت الهاتف من بين يديه وهي تهتف بشماتة:
علي الله تتلم بقى أهي جاتلك اللي هتربيك.
قالتها ثم ضحكت بخفة وتركتهم يقفون معًا وسط الأشجار الخضراء والزهور الباهية، طالعته ياسمين بعتابٍ، بينما هو نظر لفستانها الأبيض المُزخرش بالورود الحمراء، والذي يصل لبعد ركبتيها بقليل، وأكمامه قصيرة، غمز لها بعبثٍ وهو يهتف بمشاكسة: يا خرابي عالحلاوة والشقاوة، ويا بختي بالجمال والدلال!
ضربته على كتفه بخجل أثناء قولها المُعاتب: بس يا حسن!
اقترب أكثر هامسًا أمام وجهها بشغف: كمان حسن وهنتمسك بفعل فاضح.
أخفت ضحكتها عنه ثم ابتعدت عنه وهي تقول بيأس: قليل الأدب والله.
تبعها سيرًا وهو يهتف بعلو: يا عم الحلاوة دي متسبنيش وتمشي.
ذهبت ياسمين للجلوس بجانب أسمهان، فمالت عليها تُقبلها بقوة قبل أن تقول بمرح: إبنك دا تبيعيه وتجيبي بداله غسالة أو تلاجة.
استمع حسن إلى حديثها عِند وصوله، فضربها على مؤخرة رأسها وهو يقول بتشنج: ما هو مفيش غيرك اللي مقوياها عليا، كل إما أقولها تلعبلي في شعري تسيبني وتمشي.
شعر بضربة تأتي له على ظهره وصوت تسنيم يصعد مُحذرًا: إيدك ياض متتمدش على أختي بدل ما توحشك، وبعدين مش مكسوف من نفسك وأنت أهبل وطويل وعايز اللي يلعبلك في شعرك؟
نظر حسن نحو تسنيم بقرف، ثم ذهب للجلوس بجانبها لكن بترك مسافة مناسبة بينهما، وبعدها أردف بحذر: برضه مش عايزين تقولولي كنتوا بتتخانقوا إمبارح ليه؟
كان يقصد بحديثه الأخير كُلًا من تسنيم ووالدته، امتعض وجه تسنيم ولم تُجيبه، فيما بررت له والدته بتوتر بعد أن خشت من كشف الأمر: مفيش حاجة خناقة عادية، وهو إحنا أول مرة نتخانق يعني يا حسن؟
أومأ لها حسن بصمت، لكن لم يخفى عليه المُعاملة الجامدة التي كانت بين كلتيهما طيلة الجلسة، حتى أنه شعر بتوتر ياسمين وريبتها من الموقف برمته.
Back: خرج من شروده على صوت حارسه الشخصي الذي أتى وتحدث بهدوء: الآنسة اللي في مخزن عمالة تصرخ يا حسن باشا وعايزة تشوفك.
ظل حسن على حالة الثبات التي كان عليها، ثم أجابه دون الإلتفات أو الإستدارة إليه: أنا جاي.
تمام يا باشا.
قالها الآخر ثم تركه ورحل، فيما أصبحت عسليتاه داكنتان من فرط التفكير في الأمر الذي أقسم على نسيانه، والمقصود بالأمر هو؛ حُبها الملعون!
صادق مَن قال أن الحزن دخيلٌ يطرق باب الفؤاد فجأةً، وعُمقُ حُزني كالجبالِ أتحدثُ، يا مَن عادوت قلبي رفقًا، فقد خضع الوجدان وتذللَ.
رسائل نصية مصحوبة بفيديو مدته لا تزيد عن دقيقة واحدة قلبت المكان رأسًا على عقب، كان الجميع يجلس على طاولة العشاء يتناولون الطعام في جو عائلي هاديء ليس هاديء كثيرًا، فاستمعوا جميعهم إلى أصوات هواتفهم، كانت بدور الأسرع وأمسكت هاتفها لرؤية محتوى الرسالة خوفًا من أن يكون زوجها، لكنها وبعد عدة ثوانٍ، شهقت بفزع مما تراه، ثم رفعت أنظارها ل يعقوب الذي يُطالعها بتعجب مع بقية أخواته ثم تسائلت بعدم تصديق:.
أنت اشتغلت في قناة أفلام سيكو سيكو؟
لم يفهم أحد شيئًا مما تقوله، فأجابها يعقوب ببلاهة: لأ مبتفرجش على كرتون أنا.
طالعه أخواته بتشنج وهو علم السبب، لقد كان يخشى أن يكون ما يُفكر به هو الصحيح، وتأكدت شكوكه عندما اقتربت منه بدور ووضعت الهاتف أمام عيناه وهي تقول بريبة: خُد شوف.
امتلأ المنزل بالتوتر، و هارون مد يده تجاه بادر يحثه على إعطائه هاتفه ليرى ما يشاهدون، نظر بادر ليده المُمتدة ثم قال بقلق: ما بلاش يا بابا.
سدد له أبيه نظرة أخرسته، فمد بادر يده له ثم أعطاه الهاتف بتردد واضح يظهر على معالمه، بدأ هارون بمشاهدة الفيديو الذي يجمع بين يعقوب وذِكرى في وضع غير لائق بتاتًا، مرت عدة ثوانٍ ورمى هارون الهاتف على الطاولة بعنفٍ وهو يصرخ بغضب: إيه اللي بيحصل دا؟
قالها تزامنًا مع وقوفه وضربه بكفيه على الطاولة، ذهب إليه حمزة ووقف بجانبه قائلًا بقلق: أكيد فيه حاجة غلط يابا، يعقوب مستحيل يعمل كدا.
أكد مصعب على حديث شقيقه وأيده بقوله: ال يديو دا متفبرك أنا مُتأكد، وبعدين إيه اللي هيجيب بنت عمي رؤوف ل يعقوب؟
فكَّر الجميع في حديثه، بينما يعقوب كان ينظر لل يديو بصدمة حقيقية، صدمة شلت كل أطرافه وجسده! ابتلع ريقه بصعوبة بالغة وتهدجت أنفاسه حتى باتت تخرج بصعوبة، رفع أنظاره تجاه أبيه فوجد ملامح وجهه واجمة وغاضبة، حاجبيه مضمومان فيعكس ذلك ضيقه وسخطه، نظر إليه أبيه بصمتٍ لعدة ثوانٍ بنظراتٍ مُبهمة، بينما يعقوب بادله إياها بأخرى مُترجية بألا يُصدّق ما يراه، وأخيرًا قرر هارون الخروج عن صمته القاتل وتحدث قائلًا:.
تعالى ورايا.
قالها ثم اتجه نحو غرفته تاركًا الجميع ينظر إليه بحيرة، تنهد يعقوب بأسى وحزن، ليس حُزنًا على ذاته، وإنما على أبيه الذي عمل جاهدًا للحفاظ على سُمعته حتى عُرِفَ بكل مكان باحترامه وتربيته الصالحة، وانتشار مقطع كهذا سيَهدم كل هذا فوق رأسه!
شعر بربتة خفيفة على كتفه وصوت والدته يصعد ببكاء: قوم يا حبيبي روح لأبوك ومتوطيش راسك أبدًا، أنت ابني يا يعقوب، وأنا متأكدة إن ابني عمره ما يعمل حاجة زي دي.
أمسك يعقوب بكفها ثم قبَّله بحنو وهو يبتسم لها، ثم وقف من مكانه وأردف بشموخٍ بعد أن أفاق من صدمته: متقلقيش يامّا، يعقوب ابن الحَج هارون ميوطيش راسه أبدًا، وحقي هجيبه من اللي عمل كدا.
ابتسمت حنان من وسط دموعها وهي تقول بفخر: هو دا ابني اللي أعرفه، يلا روح لأبوك زمانه مستنيك، وبالراحة يا يعقوب بلاش تتخانقوا سوا.
سدد لها يعقوب نظراتٍ مُطمئنة، ثم اتجه نحو غرفة أبيه ليرى ردة فعله على المقطع الذي نُشِرَ بين الجميع.
وبالخارج. نظر عمران إلى جميع أخواته بصمتٍ وعقله لا يتوقف عن العمل، ظل السكوت مُسيطر على الجميع، إلا أن قاطعه عمران بنبرة متوعدة: لو اللي في دماغي صح هخلي يوم أبوهم مش معدي النهاردة.
طالعه بدران بغموض وتسائل وهو يُضيِّق ما بين حاجبيهم باستفهام: قصدك إيه؟
رفع عمران أنظاره إليه مُجيبًا إياه بابتسامة جانبية مُلتوية وتخطيط مُهلك: ورانا طَلعة.
وأنا جاي معاكم.
نطق بها بدير بقوة وإصرار، فنظر إليه كُلًا من عمران وبدران في محاولة لإستشفاف أكان يمزح كعادته أم يتحدث بجدية، لكنهم وجدوا معالم وجهه مُمتلئة بالإصرار لذلك وافقوا على الفور.
وهُنا تدخل حمزة قائلًا بشر: وأنا كمان معاكم.
أوقفه مصعب ناظرًا إليه بنظراتٍ ذات مغزى: لأ إحنا ورانا طالعة تانية عايزك فيها.
طالعه مصعب بتعجب، فأومأ له حمزة وهو يُرسل إليه إشارات فهمها الآخر على الفور، و بادر تحدث قائلًا بابتسامة واسعة وشخصية عنيفة غير المُسالمة التي تخصه: أما أنا بقى فعندي طالعة تالتة خالص.
ابتسم جميع الإخوة باتساع، ليست ابتسامة مرحة مُمازحة، إنما ابتسامة تحمل بين طياتها الكثير من الشر، دمارٌ هائل على وشك البدأ، المعركة مازالت مُستمرة، أبناء هارون اتحدوا معًا وهذا ما يهابه الجميع.
علي أحد جُدران مصحة نفسية، كتب أحدهم: كُنا نحيى لولا الآخرون.
ارتعشت أوصال نرجس فور رؤيتها لمصدر كوابيسها وهلاكها السابق، دفعت تلك اليد التي قبضت على معصمها بقوة وهي تعود للخلف بخوف، بينما تشكلت ابتسامة خبيثة على ثغر رشدي الذي طالعها من رأسها لإخمص قدميها بمكرٍ وهو يقول: لأ وإحلويتي يابت!
وهُنا صعدت الدماء إلى وجه نرجس التي قالت بقوة واهية: إيه اللي جابك؟ بتعمل إيه هنا؟
اقترب رشدي خطوتان منها وهو يتحدث بعتابٍ مُصطنع: وحشتيني يا نرجس، هو أنا موحشتكيش ولا إيه؟
لأ وحشتنا كلنا يا روح أمك.
تلك الكلمات صعدت من فمِ رائف الذي أتى خصيصًا لرؤية ردة فعلها على هديته، لكنه فُوجيء بشخصٍ غريب يتوقف أمامها ويتفوه بتلك الكلمات التي جعلت الغضب يتصاعد إلى رأسه، استدار رشدي بتعجب لرؤية المُتحدث، ولم يكد يستوعب ما يحدث، حتى وجد لكمة عنيفة تُسدد إلى وجهه بكلِ عنفٍ وغضب.
شهقت نرجس برعبٍ وهرولت لتتوقف خلف رائف لتتخفى عن أنظار رشدي، شعر رائف بخوفها مما زاد الغضب داخل فؤاده، فاستدار لها سائلًا إياها بعصبية: عمل فيكِ إيه الحيوان دا؟
كانت أطرافها ترتعش ولسانها لُجِم ولم تستطع التحدث، فيما صرخ هو بها بغضبٍ مُبالغ: انطقي بدل ما أروح أفشفش دماغه دلوقتي.
فتحت نرجس فاهها للتحدث، وبصعوبة بالغة تحدثت بدموع: م. معملش حاجة والله.
لم يرى رائف ذلك الذي وقف وانشغل بالحديث مع نرجس، فشعر بلكمة قوية تُرَد له تُشبه خاصته، أسندته نرجس بصراخ وهو تحامل على ذاته، ثم نظر للأخير بشر وهو يبتسم له بشيطانية:
متجيش تعيط.
قالها ثم هجم عليه راكلًا إياه بمُباغتة، حاول رشدي التصدي له لكن رائف كان كالمعمي لا يرى أمامه، وبسبب تلك الفوضى وصوت الشِجار، خرجت فتحية من الداخل بسرعة لرؤية ما يحدث، وفور أن وقعت عيناها على ابنها الذي يجثو أسفل جسد رائف، صرخت بفزع وهي تدفعه بعنفٍ من كتفه:
إبني؟ أنت بتعمل إيه يا جدع أنت، إبعد بقولك.
جاء في تلك الأثناء والد نرجس الذي وقف يُربِّع ذراعيه أمام صدره وبدأ بمراقبة ما يحدث باستمتاع.
بينما رائف ابتعد عن رشدي وصدره يعلو ويهبط بنهيجٍ أثر المجهود القوي الذي فعله، ناهيك عن خصلاته التي تبعثرت بعشوائية على وجهه، وأزرار قميصه الأولى التي تقطعت، نظر إليهم ثم حذرهم بفحيحٍ وهو يُشير إليهم بإصبع سبابته: ربي ابنك يا فتحية بدل ما أربيهولك أنا.
كانت فتحية تضع رأس ابنها الدامي على قدمها وهي تُطالعه بخوفٍ بالغ، وبعد استماعها إلى حديثه رفعت رأسها إليه تُطالعه بشر وهي تقول بتوعد: أنت اللي بدأت خليك فاكر.
حديثها لم يُزيده إلا اشتعالًا، فصرخ بها بغضب وهو يهم بالهجوم عليها: يا ولية متعصبنيش عليكِ.
أمسكت نرجس به من ذراعه تمنعه من الإسترسال، ثم قالت برجاء: خلاص يا رائف عشان خاطري كفاية فضايح.
توقف رائف عن ما كان ينويه، ثم رفع أنظاره تجاه والدها وكاد أن يتحدث، لكن مجدي قاطعه بابتسامة واسعة وترحيب: تعالى يابني أدخل واتفضل، بيتك ومطرحك.
لن يُنكِر بأن ردة فعله أثارت تعجبه، لكن لم يُبالي بكل ذلك ونظر ل نرجس آمرًا إياها بصرامة: تعالي ورايا.
قالها ثم دلف للداخل وهي تبعته ومعهم مجدي، تاركين رشدي مُتسطحًا على الأرضية التاربة، وصوت فتحية يصعد بهمس: وديني لهندمكم كلكم بس الصبر.
في منزل رؤوف.
كان رؤوف في تلك الأثناء خارج المنزل ولم يعد حتى الآن، و إلياس ذهب كعادته للبحث عن عملٍ جديد، بينما كُلًا من ذكرى ورضوى جالستين في غرفة واحدة معًا يتناقشون حول أمور عِدة، وبالطبع وصلت إليهم الرسائل لكن لم يفتحوها حتى الآن.
استغلت جنة انشغال الجميع وقامت بالتسلل وخرجت من المنزل، فقامت بمقابلة والدتها التي كانت تشتري بعض الأغراض للمنزل، والتي بدورها تسائلت بتعجب: راحة فين كدا؟
توترت من ظهور والدتها فجأة، فأجابتها بتلعثم وهي تُحاول التبرير: م. مخنوقة فخارجة أتمشى شوية.
اعترضت والدتها على ذلك وتحدثت برفض: لأ مفيش خروج في الوقت دا، أبوكِ زمانه جاي ولو عِرف هيزعق.
ترجتها جنة وهي تُمسك يدها: عشان خاطري يا ماما، دي هي نص ساعة بس واللهِ ما هتأخر.
نظرت إليها والدتها ببعضٍ من التردد خاصةً عندما وجدت الدموع بدأت تتجمع داخل عينيها، ولعلمها بحالة ابنتها السيئة وافقت بنذق وهي تُحذرها: ماشي، بس إياكِ تتأخري أنا قولتلك أهو، أنا مش ناقصة مشاكل مع أبوكِ.
أومأت لها جنة بلهفة قائلة بموافقة: حاضر والله مش هتأخر، سلام.
قالتها وهي تُهرول بعيدًا قبل أن تعود في قرارها، وبعد أن ابتعدت مسافة كبيرة عن منزلها أخذتها سيرًا، توقفت أمام أحد المناطق أمام إحدى صديقاتها القُدامي التي عانقتها باشتياق، وبعدها تسائلت بتحفُز: ها جيبتي اللي قولتلك عليه؟
أومأت لها الأخرى التي تحدثت بيأسٍ من عناد صديقتها: جيبت اللي أنتِ عايزاه، بس مش عايزة تقوليلي عايزاه ليه؟
أجابتها جنة على عجالة وهي تبتعد عنها: هقولك بعدين، بس معنديش وقت دلوقتي.
قالتها ثم وقفت أمام دراجتها النارية السوداء «موتور / موتيسكل سبق» تُطالعه باشتياق، ثم صعدت عليه ووضعت خوذتها السوداء على رأسها قبل أن تنطلق به بسرعة كبيرة.
وبعد دقائق عديدة مرت، توقفت في منطقة راقية للغاية وسط الكثير من ال ِلل الشاهقة والكبيرة، ابتسمت بسخرية وهي تجول بأنظارها في الأرجاء، ذلك المكان الكئيب والبارد هو الذي كانت تقطن به هي وعائلتها قبل أن يستولى عمها على مُمتلكاتها، هبطت من على موتورها ثم خلعت خوذتها ووضعتها على المِقود الغليظ، عدَّلت من حجابها ثم سارت بكل ثقة نحو إحدى البيوت ونظراتها داكنة مُتوعدة، وعِند رؤية الحارس لها حياها باحترام:.
أهلًا يا جنة هانم اتفضلي.
قالها ثم فتح الباب الكبير لعلمه بهويتها، سددت له ابتسامة صغيرة لم تصل إلى عينيها ثم أكملت السير نحو الداخل، هدأت خطواتها السريعة عندما وجدته أمامها ويتقدم منها بابتسامة مُتسعة، نعم إنه هو، حازم الخائن، تجعد وجهها باشمئزاز ولم يُبالي بنظراتها تلك، بكل تحدث وهو يفتح ذراعيه لها:
يادي النور يادي النور! والله يا جنجون وما ليكِ عليا حِلفان ليكِ وحشة!
إلتوى ثغر جنة بابتسامة مُلتوية وهي تُكمِل تقدمها منه، قبل أن تقول بنبرة ساخرة: وهي تالين مش مكفياك ومالية عينيك ولا إيه؟
توقفا أمام بعضهما البعض ثم أجابها بثقة وهو يضع كفيه داخل جيب بنطاله: لأ ما أنا سيبتها.
تصنعت الأسى ورسمت الحزن على وجهها، ثم ردت عليه بنبرة مُشفقة: يبقى أكيد أنت اللي مش مالي عينيها.
اختفت الابتسامة من على وجهه تمامًا أثر حديثها المُهين، فيما أكملت هي فرد سطوتها عليه بحديثها اللاذع: عشان كدا سابتك وراحت لأخوك، صح ولا إيه يا حَزّومي؟
اعتدل حازم في وقفته ثم تحدث بغلظة: احترمي نفسك يا جنة أحسنلك، أنا لحد دلوقتي مراعي إنك بنت عمي ومش عايز أأذيكِ.
تهكمت بقولها الساخر: كتَّر خيرك والله، دا أبوك معملهاش وهو بياكل حقنا وكان جاي يقاوح بكل بجاحة!
عايزة إيه يا جنة؟
نطق بها بعصبية، فردت عليه بغضبٍ بعد أن تخلت عن برودها: عايز إيه من أختي يا حازم؟ مش كفاية عليك اللي عملته فيا! جاي تعمله أنت كمان في أختي؟
وهُنا تسلل المكر لعينيه، وبخبثٍ اقترب منها أكثر وهو يتسائل بعبث: دا أنتِ لسه بتحبيني بقى ومش قادرة تشوفيني متجوز أختك؟
تجعد وجهها باشمئزاز وهي تُجيبه بصراحة: لأ بقيت أقرف منك، ومش هقبل إن أختي تقبل بواحد زيك، سِمج وبجح ودمك تقيل، ملهاش ذنب تلبس في خِلقتك العِكرة دي.
كانت الغضب قد بلغ مبلغه داخل فؤاده، لذلك قرر رد الإهانة لها أثناء مُطالعته لها بشفقة: على أساس إن فيه حد هيقبل يتجوز واحدة مريضة زيك؟
حسنًا، كلماته أصابت فؤادها بسهامٍ سامة، لكنها لم تُظهِر هذا، بل رسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها ثم أجابته قائلة: مش من الصعب إن واحد يتجوز واحدة مريضة، لكن مفيش واحدة هتقبل تتجوز راجل منسون.
رمت إليه كلماتها ثم رمت إليه نظراتٍ مُشمئزة قبل أن تتركه وتذهب، تركته ولم ترى ذلك الاشتعال داخل عينيه، تركته وغفلت عن روح الإنتقام التي بدأت بالنمو داخله، وقبل أن تذهب كُليًا استدارت له وحذرته على بُعد مسافة كبيرة: ابعد عن أختي أحسنلك يا حازم، صدقني أنت لسه مشوفتش نار جنة، وأنا ناري قاسية وبتحرق.
شهقة مُنصدمة وصرخة عالية صعدت من فاهِ ذكرى بعد أن أمسك بها رؤوف من خصلاتها، أمسكت ذكرى كفه القابضة على خصلاتها وهي تصرخ بتأوه: آه يا بابا سيب شعري.
جذبها رؤوف نحو الخارج ثم رماها أمام قدم صفاء التي كانت تأتي مُهرولة على أثر الصراخ، ثم أشار لها وهو يهتف بغضبٍ بالغ: تعالي شوفي بنتك يا ست هانم، مستغفلانا وماشية على حل شعرها.
رفعت ذكرى أنظارها إليه وهي تُطالعه بعدم تصديق ودموعها تنزف بغزارة، بينما رضوى تسائلت بصدمة وهي تنظر لأبيها بعدم تصديق: إيه اللي أنت بتقوله دا يا بابا؟
التف رؤوف حوله كالمجنون حتى وجد ضالته، أمسك بهاتفه ثم فتحه ورماه لها وهو يصرخ: خُدي، خُدي شوفي الفضايح والعار اللي أختك جابتهولنا.
طالعته ذكرى بشلل وتوقفت أنفاسها عن الصعود، أو بمعنى أصح كُتمت من هول ما تسمعه، عن أي عار يتحدث عنه؟ وقفت من مكانها بعد أن أسندتها والدتها، وذهبت نحو شقيقتها التي كان يظهر على وجهها أثار الصدمة، ثم انتشلت الهاتف من بين يديها لرؤية ما تراه.
مرت الثواني، وتصنم جسدها من الصدمة، وكأن ما تعيشه هو كابوس بشع وعلى وشك الاستفاقة منه، تتمنى لو كان كابوسًا بالفعل، لكن. ماذا يُفيد التمني في مثل ذلك الوضع؟ ثقلت أنفاسها وهزت رأسها بالنفي، ثم رفعت أنظارها نحو أبيها تُطالعه بعينين دامعتين وهي تقول برجاءٍ وانكسارٍ لأول مرة:
مش أنا. مش أنا متصدقش. لأ. مستحيل.
وكأن القسوة أعمت عيناه عن رؤية رجاء ابنته، لو كان غريبًا لرفق بحالتها، لكن هو لم يفعل ذلك، بل اتجه إليها بكلِ غضب وهبط بكفه الصلب فوق وجنتها بكل قوته، أغمضت عيناها بألم وشعرت بتخدر وجهها وكذلك جسدها، حدجته بنظراتٍ زائعة فلم تجد منه سوى نظرات الاشمئزاز، وصوت والدتها يصعد مُدافعًا عنها باستماتة:
أنا بنتي متعملش كدا يا رؤوف، في حاجة غلط في الموضوع.
ارتسمت القسوة على وجهه وهو يُجيبها بسخرية ممزوجة بالغضب: ما هو دا أخرة دلعك ليها، اشربي بقى.
أنت إيه اللي بتعمله دا يا رؤوف؟ دا بدل ما تحاول تعرف الحقيقة وتساعد بنتك رايح تتشطر عليها هي؟
حوَّل رؤوف أنظاره نحو صفاء والشر يُسطِّر معالمه، ثم اقترب منها أثناء صراخه عليها: أساعدها دا إيه؟ بعد ما حطت راسنا في الطين؟
تدخلت رضوى في الحديث بعد أن أغضبها قول أبيها عن شرف شقيقتها، ثم قالت بقوة: أيوا تساعدها، حتى لو الفيديو دا حقيقي واللي فيه دي أختي ذكرى، لازم تقف جنبها لحد ما تعرف الحقيقة كلها ومن بعدها ليك حرية التصرف.
كانت أنفاس رؤوف تصعد بغضب وعقله على وشك الانفجار، لم يُبالي بحديثِ أي منهم، بل استدار جهة ذِكرى التي تعالت شهقاتها ببكاءٍ عنيف داخل أحضان والدتها وتحدث مُصممًا: حازم ابن عمك اتقدملك رسمي والمفروض الخطوبة كانت تبقى بعد بكرة، بس بلاها الخطوبة بقى.
ارتاح فؤادها قليلًا عقب قوله، فيما استطرد حديثه بما شلهم عن الحديث: جهزي نفسك لكتب كتابك.
عم الصمت المكان ولم يتبقى سوى صوت أنفاسهم العالية، خرجت ذِكرى من أحضان والدتها ونظرت إليه بعدم تصديق لثوانٍ معدودة، حتى خرجت الكلمات من فاهها أخيرًا وهي تتسائل بذهول: أنت بتقول إيه يا بابا؟
أجابها رؤوف بنظراتٍ قاسية: اللي سمعتيه، كتب كتابك على حازم ابن عمك بعد يومين.
وصلت جنة في تلك الأثناء والتي استمعت إلى حديثِ أبيها الأخير، فردت عليه بثقة وهي تقترب منه: مش هيتجوزها، هو اللي قالي.
استدار الجميع جهة جنة التي أتت لتوها، وأتاها الرد مُسرعًا من حازم الذي تبعها وأردف بمكر: أنا مقولتش حاجة، كل اللي قولته إني هتجوزها، بالرغم من سُمعتها اللي بقت زي الهباب.
وإحنا مستغنيين عن خدمات روح أهلك ومش عايزين من وش اللي خلفوك حاجة.
نبس إلياس بتلك الكلمات فور أن جاء واستماعه للإشاعات والأقاويل التي صعدت على شقيقته مع أحد جيرانهم، فُوجيء حازم من إجابته الوقحة تلك، وازدادت دهشته عندما وجد إلياس يقترب منه مُسددًا له ركلة عنيفة في معدته أدت إلى انحنائه وتأوهه الشديد.
أعدله إلياس في وقفته ثم أمسكه من ياقة ملابسه وقرَّبه منه أثناء همسه له: لو جيبت سيرة أختي بأي كلمة تانية ورب مُحمد ما هتطلع من هنا إلا على نقالة.
جز حازم على أسنانه بألم وهو يُطالعه بشر، استعداد بعض من قوته المهدورة ثم دفعه بعيدًا وهو يصرخ به بتهديد: مش أنا اللي أتهدد يا إلياس، وبعدين العيب مش عليا، العيب على أختك اللي أنت سايبها تتسرمح يمين وشمال وأنا اللي جاي ألم وراها.
وهُنا وصل الغضب إلى ذروته في فؤاد إلياس، واشتعلت النيران داخل جسده، ولم يشعر بذاته إلا وهو يهجم عليه ويسبه بسبابٍ نابي: يا ابن ال أنا هوريك، وديني وما أعبد لهقتلك يا زبالة، أختي دي أشرف منك ومن اللي خلفتك يا حيوان يابن ال.
كان يتحدث ويده لم تتوقف عن تسديد اللكمات له، اجتمع الجيران على صوت الصراخ ودخل الرجال ليفضوا ذلك الاشتباك العنيف، لكن إلياس كان كمن أُعميَ عن واقعة وظهر الآخر ليُنفس به عن غضبه، وبعد عدة مُحاولات عديدة؛ نجح رؤوف ومعه بعض الرجال في إبعاده عن حازم الذي فقد وعيه تقريبًا!
تنفس إلياس بعنف وهو ينظر ل حازم المجثي على الأرض بشر، يود أن يذهب إليه مُجددًا لقتله تمامًا تلك المرة، لكن الرجال يُحاصرونه من كل مكان، استدار برأسه نحو ذِكرى التي تجلس على الأريكة وصوت بكائها يعلو في الأرجاء، ليصرخ بها بعنفٍ وأعصابه تكاد أن تفلت:
متعيطيش أنتِ معملتيش حاجة.
احتضنت صفاء ابنتها وشاركتها في البكاء، بينما أتى هارون ومعه بادر وبدير وكذلك بدور التي اتجهت تلقائيًا نحو ذِكرى لمساندتها.
أخرج هارون الرجال من المنزل وبقى هو وأولاده وعائلة رؤوف ومعهم حازم فقط، كانت ملامح وجه الجميع غاضبة، واجمة، متوترة، وخائفة، الموقف بأكمله لم يخطر على بالِ أيٍ منهم ولو بالصدفة، استدار هارون جهة إلياس وتحدث قائلًا:
إيه اللي أنت عملته دا يا إلياس؟
نظر إليه إلياس بغضب وهو يُجيبه بصراخ: الوسخ بيغلط في شرف أختي، بيجيب سيرتها بالباطل وهي بريئة.
نظر هارون نحو الفتيات وأمرهم بلطف: خدوا ذِكرى وادخلوا أوضتها دلوقتي.
وبالفعل ذهبت جميع الفتيات ولم يتبقى سوى الرجال ومعهم صفاء التي رفضت الذهاب، تقدم بادر من إلياس، ثم ربت على كتفه مُهدئًا إياه وهو يقول: إهدى يا إلياس وكل شيء هيتحل إن شاء الله.
وتلك المرة أجابه رؤوف بسخرية بعد أن أخرج صوتًا مُتهكمًا من بين شفتيه: هتتحل؟ هو إيه اللي هيتحل إن شاء الله؟ ما المحروسة ضيعتنا كلنا بعملتها المهببة.
نظر إليه هارون بذهول قبل أن يرد عليه: أنت إيه اللي بتقوله دا يا رؤوف؟ إزاي تستجرأ تقول الكلام دا على بنتك من الأساس أنت اتجننت؟
رد عليه الآخر بغلظة: لأ متجننتش، ما أنت من حقك تقول كدا، ما ابنك راجل ومش هيتحاسب على عملته، إنما أنا! هيفضل العار ملازمني طول عُمري بسبب بنتي.
أغمض إلياس عيناه بغضب أثناء تحدثه من بين أسنانه بحقد: بلاش. بلاش أنا لحد دلوقتي مراعي إنك أبويا ومش عايز أغلط فيك!
شدد بادر من الضغط على كتفه ثم مال عليه ليهمس له بصوتٍ غير مسموع: بس يا إلياس عيب اللي أنت بتقوله دا.
وبالفعل صمت إلياس رغمًا عنه، خاصةً عندما أخذ هارون مهمته وبدأ ينهره بعنف: وأنت مش واثق في تربيتك للدرجادي؟ مش عارف أخلاق بنتك؟ ولا أنت الفلوس عمت عينك وشغلتك عن تربية ولادك وبعدتك عن عيلتك، اسمع إما أقولك يا رؤوف، ذِكرى دي تتشال فوق الراس ومتوطيش راسها أبدًا، لكن باللي أنت بتعمله دا هتكسرها، ومحدش هيكسرها غيرك وابقى قابلني لو بصت في وشك تاني.
صمت رؤوف أمام قسوة حديثه، فيما أكمل هارون قائلًا: ال يديو اللي اتبعت للمنطقة كلها متفبرك ومش حقيقي، وطبعًا مش محتاج أقولك إن قُريب الحقيقة كلها هتنكشف وهنجيب اللي عمل كدا مذلول ولازم يتحاسب.
وأنا هعمل إيه بالكلام دا كله؟
نطق بها رؤوف بعصبية، ليرد عليه هارون بخيبة: إعمل أب.
قالها هارون ثم نظر ل حازم المجثي كالجثة الهامدة على الأرض، ثم رفع أبصاره نحو إلياس الواقف بملامح مُتشنجة، ثم ردد فخر: راجل.
تبعه قوله هذا رحيله، بينما بدير انحنى حاملًا حازم للخارج قبل أن يقول بابتسامة خبيثة: ودا هوصله لحد بيته بكل احترام.
فشاركه بادر بقوله: وأنا هاجي معاك وهتعامل بنفس الاحترام.
عيني تُعانق عيناك براحةٍ، دمع المحبوبةُ للمحبوبِ كشوكةِ، احترق الفؤادُ بدمعكِ فرأفةٍ، هل من مُجيبٍ عليَّ لأسعدُ؟
جلست نرجس على المقعد المُجاور ل رائف الغاضب، تُلاحظ سخطه ورميه لها بنظراتٍ حانقة وكأنها مُذنبة، فتخفي هي وجهها عنه لتضحك، وجدت الزجاجة البلاستيكة تصتدم بها وصوته الساخط يصعد مع قوله:
اضحكي اضحكي، ما أنتِ مش حاسة بحرقة الدم اللي أنا حاسس بيها.
عضت نرجس على شفتيها لتمنع صعود ضحكاتها بصعوبة، ثم ردت عليه بصوتٍ خافت وهي تقول: وأنا عملت إيه يعني يا رائف الله؟
رد عليها بغيظ وهو يكاد يشتعل: ما هو المشكلة إنك معملتيش حاجة، أنا نفسي لما حد يضايقك تشوطيه بأي حاجة قدامك تفتحيله دماغه.
ابتسمت له نرجس ابتسامة لطيفة وهي تُجيبه بما أزاح ستار غضبه: أنت موجود معايا دايمًا، ابقى افتح أنت دماغهم براحتك.
انتقلت ابتسامتها إليه وكأنها عدوى، فابتسم لها تلقائيًا وتحدث بشغف: فعلًا معاكِ حق، هفضل موجود معاكِ دايمًا واللي يزعلك نزعَّل أهله.
دلف في تلك الأثناء مجدي والذي تحدث قائلًا بعد أن طالت جلسته: الساعة 12 يا رائف.
رد عليه بلامبالاة: آه ما أنا عارف.
رفع مجدي حاجبيه باستنكار وهو يقول بسخط: عارف إيه! عايزين ننام.
طالعه رائف باستفزاز قبل أن يتمدد على الأريكة بكل أريحية أمام أنظارهم المُندهشة، ثم أردف ببساطة: لأ ما أنا مش ماشي.
أخفضت نرجس رأسها للأسفل ضاحكة بدون صوت، بينما اقترب مجدي من رائف وقال بتشنج: هو إيه اللي مش ماشي؟ يا جدع بقولك عايزين نتخمد!
رد عليه رائف باحترام: ما تتخمد يا عمي وأنا مالي!
طالعه مجدي بحاجبين ضيقين، فاستطرد رائف حديثه بعناد: ما هو أنا مش همشي طول ما الحيوان التاني دا موجود هنا في البيت.
متقلقش هو هينام مع أمه.
سخر منه بمسكنة: حبيب أمه!
زفر مجدي بضيق وتحدث بعد أن ذهب ل نرجس وأحاط بها من كتفيها بحماية: متقلقش نرجس هتبات معايا في أوضتي، وأظن أنت مش هتخاف على بنتي أكتر مني!
اختفت البسمة من على وجه نرجس عقب فعلة والدها، هي بالأساس لم تُسامحه حتى الآن، وهو يأتي ليتعامل معها بكل أريحية وكأنه لم يقسو عليها من قبل، قسوته لم تكن دائمة، لكن مجدي من نوعية الأباء التي تُحب أولادها لكن لا يظهر هذا على أفعالها، وللأسف تلك النوعية موجودة بكثرة في زمننا هذا.
شعر بتململها أسفل يده فأبعد ذراعه عنها وأكمل حديثه مع رائف لعدة دقائق حتى اقتنع بالذهاب أخيرًا، استمعت نرجس إلى رنين هاتفها، فاستئذنت منهم ثم دلفت إلى غرفتها ونظرات رائف تُطالعها بشغف، وبعدها حوَّل أنظاره نحو مجدي وتحدث بحسم:
أنا عايز أكتب الكتاب على طول يا عمي.
وكأن الضيق بات كصديقٍ لي في وحدتي، وكأنني بِتُ كالغريق فأجازفُ، أضحى الفؤاد بالمرارةِ مُمتليء، والعين تشكو من بكاها تتألمُ.
ارتدى حسن ثيابه ثم خرج من المنزل إلى حيث يُخبيء تلك المُزعجة، لقد قرر التأخر عليها ليُقنع فؤاده بأنه لم يعد يُفكر بها، وإن أقنع فؤاده؛ كيف يُقنِع عقله الذي لا يتذكر إلا هي؟
دخل إليها بخطواتٍ واثقة فوجدها مازالت مُستيقظة، تجلس على الأريكة بكلِ شموخٍ حتى أنها تجاهلت وجوده، إلتوى فمه بسخرية وهو يُناديها لتلتفت له: أنتِ يا نيلة؟
عايز إيه يا زفت؟
علاقتهما مليئة بالإحترام ولا شكٍ في ذلك، تقدم منها بابتسامة جانبية حتى جلس بجانبها، ثم وضع قدمًا فوق الأخرى أثناء قوله الساخر: واللهِ أنتِ اللي عايزاني، أنا مجيتش ليكِ بمزاجي.
تصنعت العبث بأظافرها لعدة ثوانٍ، ثم رفعت أنظارها إليه وهي تقول باستفزاز: ابقى استنضف في الأكل اللي بتجيبه.
رد عليها حسن ببراءة: وأنا بجيب إيه يعني؟ دا أنا موصي عليهم مخصوص يحضرولك اللي أنتِ بتحبيه.
تنغض جبينها بانزعاج وهي تُجيبه: بس أنا مبحبش الكوسة.
رد عليها باستفزاز: وأنا بحبها.
استغلت ياسمين وجوده واقتربت منه حتى التصقت به، ابتلع ريقه بصعوبة ووجهه يشتد بجمود في محاولة إخفاء مشاعره التي طغت عقب قُربها، فيما تمتمت هي بهمسٍ كاد أن يُطيح بعقله: وبتحبني.
ابتسمت بانتصار حينما ظهر أثر ضغطه على أسنانه، وبعدها وجدته ينتفض من مكانه مُبتعدًا عنها وتحدث بعصبية: يلا نمشي.
وتلك المرة ردت عليه بتعجب: نمشي نروح فين؟
ميخصكيش.
قالها ثم أمسك بها من معصمها بقوة وجرها خلفه دون ترك لها أي فرصة للحديث، دفعها داخل السيارة بغضب انعكس على معاملته لها، بينما هي حاولت بشتى الطرق أن تمنع ضحكتها خوفًا من بطشه، انطلق بسرعة عالية نحو وجهته وطيلة الطريق كان وجهه واجم ولم يتحدث، لذلك قررت قطع الصمت بتساؤلها المتعجب:
إحنا رايحين فين؟
وبالطبع لم يصدر منه أي إجابة، بل ظل على وضعه صامتًا حتى وصلوا إلى عمارة كبيرة فخمة يُحطيها الكثير من العمارات الأخرى، نزل وهي معه، ثم أمسكها من معصمها وجرها خلفه، قلبت عيناها بملل من فعلته المُستفزة تلك، فصاحت به بحنق:
ما تسيب إيدي يا حسن الحركة دي بتضايقني.
ما تضايقي!
نطقها ببرود قبل أن يصعدا معًا بالمصعد الكهربائي إلى إحدى الشُقق بالطابق السابع، دلفا معًا فكانت الشقة عبارة تحفة فنية بالمعنى الحرفي، بألوان الحائط الكريمية الهادئة وأثاثها الأسود اللامع، أغلق الباب خلفه ونظر إليها مُتمتمًا بتبرير عندما ابتسامتها الهادئة التي تُسددها إليه:
الشقة دي عشان بابا ميحسش بوجودك، وأنتِ مُزعجة وبتحبي الدوشة وهتفضحينا.
رفعت ياسمين حاجبيها تُطالعه بسخرية وكأنها تقول له «حقًا؟ »، ثم اقتربت منه وهي تقول بعبث: يعني مش عشان أنا صعبت عليك؟
نفى بقوله القوي: لأ.
تنهدت ياسمين بحزن ثم اقتربت منه أكثر مُمسكة بكف يده برجاء: بلاش تكون كدا يا حسن، ارجع زي ما كنت ومتخليش القسوة تعمي عينيك، عايزة أشوف حسن حبيبي من تاني، مش حسن اللي بقت إيده مليانة بالدم.
دفعها حسن بقسوة للخلف ثم تشدق بعصبية: أنا وأنتِ عارفين كويس إني لا يمكن أرجع حسن القديم، حسن القديم مات يوم موت أمه، اليوم اللي أختك قتلت أمي فيه أنا لا يمكن أنساه، وأنتِ شاركتيها في الجريمة دي، خبيتي عليا الحقيقة وحرمتيني منها، مُجرمة زيك زيها.
فتحت فاهها للدفاع عن نفسها لكنه سبقها واتجه نحو الخارج دون أن يُعطيها فرصة للحديث، أغلق الباب من الخارج ثم تركها وغادر، بينما هي جلست مكانها تبكي بقهر عما آلت إليه الأمور، كل شيء هُدِم فوق رأسها بين ليلة وضحاها، خالتها قُتلت، وشقيقتها مُتهمة في قتلها، حسن قد تحول لشخصٍ آخر لا تعرفه، و طارق ألقى بسطوته على الجميع.
كان يعقوب يسجن ذاته داخل غرفته، بعد أن وصل به النقاش مع والدته إلى الشِجار، وقف في شرفة نافذته يُحاول أن يأخذ أنفاسه، الأمر قد ضايقه وأغضبه لأبعدِ الحدود، وغضبه كالنيران ستُطيل مَن شارك في تلك الجريمة، ونيران يعقوب هارون رضوان فريدة من نوعها، بإمكانها إحراقك وستظل حيًا تتلوى من مرارة الذل والألم.
عاد بذاكرته إلى عدة سويعات عندما دلف مع أبيه إلى الغرفة، الأمر الذي جعله يشعر بالضيق والإختناق...
Flash Back:
جلس هارون على مقعده الموجود في منتصف الغرفة وبجانبه جلس يعقوب، لينظر إليه يعقوب وهو يُتمتم بتبرير: ال يديو دا مش...
قاطعه هارون بلين في المرة الأولى هاتفًا بما أراحه: مش حقيقي أنا عارف، ودا حصل في اليوم اللي جيت فيه مغمي عليك.
أومأ له يعقوب وطالعه بشكٍ فيما يُريد قوله بعد ذلك: بس وقوفك مع بنت رؤوف كتير هو اللي حقيقي.
دُهِشَ يعقوب من حديثه وأردف بتشنج: أنت بتقول إيه يا حَج؟
وتلك المرة رد عليه هارون بعصبية: بقول الحقيقة اللي كنت غافل عنها يا كبير يا عاقل، نسيت نفسك ونسيت دينك ونسيت تربيتي ليك وسمحت للشيطان يدخل ما بينكم، قولتهالك قبل كدا وكنت برددها ليك ولإخواتك، اللي متسمحهوش على أختك متسمحهوش على بنات الناس، تقدر تقولي ردة فعلك هتكون إيه لو شوفت بدور وواقفة مع أخوها، أنا معرفش نوعية الكلام اللي حصلت ما بينكم، بس تسمح للكلام دا مع أختك؟
صمت يعقوب يستمع إلى حديث أبيه يُفكر به مليَّا، هو بالأساس لم يتجاوز في الحديث معها إلا ليلة أمس عندما أهداها زهرة، حسنًا لقد أخطأ، لكن هل خطأ واحد سيمحو جميع حسناته؟
رفع عيناه نحو أبيه وتحدث بوجوم: أنا متكلمتش معاها غير إمبارح بس يا حج، روحت عشان أشكرها على مساعدتها وحصل ما بينا شوية كلام وخلاص، لكن قبل كدا أنا مكنتش برفع عيني عليها من الأساس.
زفر هارون باختناق ثم تحدث بحسم: أنا مش عايز كلام يحصل دلوقتي ولا بعدين يا يعقوب، لا معاها ولا مع أي بنت تانية.
Back:
استفاق يعقوب من شروده على صوت همهمات تأتي من جانبه، حوَّل أنظاره نحو الصوت فوجد ذِكرى تجلس على المقعد وصوت شهقاتها يصعد بانكسار، غزا الغضب فؤاد يعقوب أكثر وزفر بضيق شديد، لن يُمرر تلك الفعلة مرور الكِرام، سيقلب المدينة رأسًا على عقب حتى يصل للفاعل.
طالعها بتردد لعدة ثوانٍ قبل أن يحسم أمره ويُناديها: سِت ذِكرى !
توقفت ذِكرى عن البكاء ورفعت أنظارها حيث مصدر الصوت، وقفت من مكانها ثم تقدمت لتقف عِند طرف الشرفة ونظراتها تلتحم مع خاصته بضعف، ليتنهد بعدها بضيق قبل أن يخرج صوته بودٍ وكأنه يعتذر لها عن مرارة الأيام: حقك عليا.
رفعت كفها لتمسح به دموعها، ثم أجابته بصوتٍ مبحوح: مش ذنبك أنا عارفة.
انتقل بأبصاره نحو السماء الكحيلة وهو يُتمتم بضيق: مش ذنبنا إحنا الاتنين.
صمتت ولم تجد ما تقوله له، فوجدته يعود بأبصاره لها أثناء وعده إليها: هجيبلك حقك وهجيبلك اللي عمل كدا لحد رجليكِ.
لم تشعر ذِكرى بذاتها إلا والدموع تغزو عيناها بكثرة، وصوتها يصعد مُتألمًا من بين شفتيها: عايزين يجوزوني غصب.
قالتها ثم أخفت وجهها بكفيها لتنفجر بعدها في البكاء، نظر إليها يعقوب باندهاشٍ لبضعة من الوقت حتى خرج صوته أخيرًا وهو يستدير لها بكامل جسده: يعني إيه عايزين يجوزوكِ غصب؟
أجابته بوجهٍ مُملتيء بعبراتها بعد أن أزاحت يدها: عايزين يجوزوني لابن عمي، أنا مش عايزاه ولا بطيقه أصلًا، وهو انتهز الفرصة ووافق عشان يذلني ويكسرنا كلنا.
نظر إليها يعقوب بعجزٍ ولا يعلم ما يجب قوله في مثل تلك المواقف، لكنه اقترح بتلقائية وبدون وعي: طيب أتجوزك أنا؟
ابتلعت بقية بكائها داخل حلقها وتوقف عن التنفس من دهشتها، حاول إصلاح الحماقات التي تفوه بها فتفوه بحماقة أكبر: لو مش عايزاني ممكن تاخدي أخويا بادر أهو محترم.
اتسعت حدقتاه أكثر فتحدث مُسرعًا: لو مش عاجبك بادر خُدي حمزة يقضي الغرض برضه.
كانت صدمتها تزداد شيئًا فشيئًا حتى احتار منها وهتف بتشنج: لأ ما أنتِ تنطقي كدا وتشتغلي معايا بدل ما أنا واقف أكلم في نفسي!
رفرفت بأهدابها لعدة لحظاتٍ مُتناسية حزنها وسبب تعاستها لبعضٍ من الوقت، حتى هتفت أخيرًا بقوة وكأنه آخر طوق نجاه لها من ابن عمها المُتجبر:
أنا موافقة أتجوزك.
كانت الفتيات تجلسن على الفراش بعد أن تركن ذِكرى تشتم بعض الهواء قليلًا، كانوا يقصون كل شيء على مسامع بدور، والتي تركت كل شيء وهتفت بتعجب:
وهو حازم دا ابن عمكم ولا ابن خالتكم؟
ردت عليها رضوى بسخط: ابن خالتنا وابن عمنا.
ودا حصل إزاي دا؟
وضحت لها جنة بقولها: خالتي اتجوزت عمي وخلفوا لينا الكائن دا.
مصمصت بدور على شفتيها وهي تقول بشفقة: يا عين أمه! وأنا اللي بقول الواد طالع مُتخلف ليه؟
قاطع حديثهم صوت طرق الباب وتبعه دخول إلياس بعد أن سمحوا له، وبعدها تحدث بوجومٍ إلى بدور قائلًا: تعالي ثواني عايزك.
وصل كُلًا من بدير وبادر إلى ال يلا التي تعود إلى عائلة حازم، وذلك بعد أن أخذوا مفاتيح سيارته وقاموا بإيصاله، فتح الحارس البوابة الحديدية ظنًا بأن مَن في الداخل هو ابن رب عمله، لكنه فوجيء عندما هبط شابين آخرين منها وصوت بدير يصعد وهو يُشير نحو حازم النائم في السيارة باشمئزاز:.
ليكم أمانة عندنا وإحنا رجعناها، أصلها طِلعت بايظة وريحتها فاحت.
وجدوا أنفسهم يُحاوَطون بالرجالِ الكُثر فجأة، أربعة مقابل اثنان ليس عدلًا أبدًا، أشار لهم بادر بإصبعه بأن ينتظروا قليلًا حتى يُشمر عن ساعديه ولا يتسخ قميصه الأبيض، عاتبه بدير برفقٍ وكأنهم ليسوا على أعتاب معركة ستُقام الآن:
كدا يا بادر ياخويا؟ حد ييجي يتخانق بقميص أبيض برضه؟
رد عليه بادر بقلة حيلة وهو يُجيبه ببراءة: وأنا إيه اللي كان هيعرفني بس إن إحنا هنتخانق!
قالها تزامنًا مع هجوم أحد الرجال عليه، فتخطى الضربة وأمسك به من ذراعه ثم ثناه ليقوم بكسره على الفور، بينما بدير هو الذي بدأ بالهجوم وأعطى لأحدهم ركلة عنيفة في معدته أدت إلى انحنائه، وبعدها قام بتسديد ركلة من قدمه إلى وجهه ليقع أرضًا على الفور، لاحظ اشتباك أخيه مع اثنين أخرين فذهب إليه ليُسانده، فأخذ واحدًا و بادر تولى أمر الآخر، وبعد دقيقة أخرى كان الاثنان يقعان على الأرض بجانب أصدقائهم الآخرين.
ضرب بدير كفه بكفِ بادر بحماس وهو يُتمتم ضاحكًا: عاش ياخويا.
قهقه بادر عاليًا، ثم نظر إلى الأجساد المُستلقية وهو يقول بأسف: عاجبكم كدا؟ طلعتوا شخصيتي اللي متربتش من جوايا؟
نهره بدير قائلًا: ولد! اخرس. قطع لسان اللي يقول عليك متربتش، الناس هما اللي متربوش وإحنا هنا عشان نربيهم.
مالك يا بنتي ساكتة كدا ليه؟
تفوهت بها حنان التي كانت تجلس على الأريكة بجانب تسنيم، لتنظر إليها الأخرى بحيرة وهي تُجيبها: واللهِ يا طنط أنا أول ما عرفت اللي حصل جيت عشان أواسيكم، بس أنتِ عندك سبع رجالة أحلى من بعض فمش عارفة أواسي مين ولا مين!
طالعتها حنان بذهول ثم أطلقت ضحكات عالية عقب مزحتها التي خففت من همها، فأتى الرد ل تسنيم من بدير الذي أتى لتوه: تعاكسيني أنا طبعًا مش محتاجة كلام.
حول كُلًا من تسنيم وحنان أنظارهم إليه عقب تحدثه، فتحول وجه تسنيم للعبوس وهي ترد عليه: دا أنا أعاكس الكل ولا أعاكسك أنت أبدًا.
تشنج وجه بدير بسخطٍ مُجيبها وهو يتخصر مكانه: ومتعاكسنيش ليه إن شاء الله؟ مشبهش ولا مشبهش؟ أنتِ عارفة أنا متقدملي كام لحد دلوقتي؟
ظنت تسنيم بأنه يمزح فتسائلت بسخرية: كام إن شاء الله؟
أربعة.
أجابها بجدية، فأكدت حنان على حديثه ضاحكة: على فكرة متقدمله عرايس بجد مش بيهزر.
طالعتها تسنيم بذهول ثم حوَّلت أنظارها نحو بدير وهي تُردد بعدم تصديق: دا بجد؟
أجابها بفخرٍ وهو يُعدِّل من ياقة ثيابه: أومال أنتِ مفكرة إيه؟
ومالك فخور كدا ليه جتك وكسة؟
صعدت تلك الكلمات من فمِ مصعب الذي أتى لتوه مع حمزة الذي ارتمى على الأريكة بانهاك، لينظر إليه بدير باشمئزاز وهو يقول: مش بقولك حقود وبتغير مني!
قاطع حديثهم صوت طرقات الباب الذي علت بطريقة مُفاجئة، فكان الأقرب إليه هو مصعب الذي ذهب لفتحه مُسرعًا، وما إن رأى الطارق؛ حتى أغلق الباب مرة أخرى دون إعطائه فرصة للحديث!
نظرت إليه والدته بدهشة وتسائلت: مين اللي بيخبط يا مصعب؟
رد عليها مصعب بلامبالاة: متشغليش بالك.
عادت الطرقات مرة أخرى بإصرار، فأبعد حمزة شقيقه عن طريقه وهو يهتف بسخط: يا أخي إبعد دا أنت تنح.
قالها ثم فتح الباب لرؤية من الطارق، فوجدها روان تقف أمام بملامح وجه مُبتسمة، تنغض جبينه بتعجب ثم تسائل باستغراب: بتعملي إيه هنا في الوقت دا؟
أجابته ضاحكة بغباء: هربانة من تُجار أسلحة.
وعلى الطرف الآخر، سار يعقوب إلى نهاية الشارع وعيناه قاتمتان بسوادٍ حالك، اختلط سواد الليل مع سواد يومه حتى بات الغِل هو المُسيطر عليه، وقف أمام منزل قديم مُتهالك وطالعه بعينين حادتين، ثم دخله بخطواتٍ مُتريثة واثقة، وقف أمام بابه ثم دفعه بقدمه حتى فُتح على مصرعه، فظهر من خلفه رجُلٍ يجلس على حصيرة قديمة وينفث دخان نارجيلته بتلذذ، وما إن رأى يعقوب يقف أمامه، حتى رمى ما بيده واعتدل مُسرعًا وهو يُردد اسمه بفزع:.
معلم يعقوب؟
ارتسمت ابتسامة شيطانية على ثغر يعقوب الذي رد عليه بفحيح وهو يُشمر عن ساعديه: آه المعلم يعقوب، اللي مش هيخلي في جِتتك حِتة سليمة دلوقتي!
عاد الرجل بظهره للخلف وهو يُطالعه برعبٍ بالغ، فتح فاهه ليصرخ بملامح يرتسم عليها الهلع وهو يقول: إل. إلحقوني.
اتسعت ابتسامة يعقوب أكثر أثناء اقترابه منه، ثم همس بشر: هيلب يور سيلف يا روح أمك.
قالها ثم قبض على عنقه بعنفٍ وألصق بظهره في الحائط ولكمه لكمة مُرتدة أدت إلى اصطتدام رأسه في الحائط، ليُقاطع فقرته قدوم رائف الذي أدهش يعقوب بوجوده، ثم تحدث بمكرٍ وهو يُشمِّر عن ساعديه هو الآخر: مينفعش تطلع الطالعة دي وأنا مش موجود فيها.