رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني عشر
تَجَهَّز لرد الدين الذي فعلته في حياتك، فالحياة تدور وتُطيل في ظلامها، وما أسقيته لغيرك ستتجرع من كأسه.
كان الرجل كمَن يلفظ آخر أنفاسه تحت يدِ يعقوب الذي تخلَّى عن هدوئه وسيطر عليه وحش مُخيف يصعب السيطرة عليه، حتى رائف الذي أراد مُشاركته في أخذ حقه، تراجع عندما رأى قوته الكامنة والمُختبئة خلف قناع بروده، وعندما أوشك الرجل على فقد وعيه؛ اتجه رائف إلى يعقوب مُسرعًا لإبعاده، لم ينجح في ذلك من المرة الأولى، لكنه نجح بعدة عدة محاولات كثيرة.
كان صدر يعقوب يتحرك صعودًا وهبوطًا بنهيجٍ غاضب، يود الإكمال والفتك به للأخذ بحقه وحق ذِكرى ، لكن عليه أخذ إجابات الأسئلة التي أتى من أجلها أولًا، حوَّل أنظاره جهة رائف الذي تحدث بهدوءٍ غير مُلائم للموقف: ارتحت كدا؟
وإجابة يعقوب الحاسمة كانت: لأ.
ارتسمت ابتسامة جانبية على فم رائف الذي أجابه بثقة: ناخد منه المُفيد وبعد كدا اعمل اللي أنت عايزه.
عيناهُ كجمرتين من الأخشاب المُشتعلة، يود تدمير كل ما حوله وتهدأة فؤاده الذي يأمره بالذهاب إلى عمير وقتله، كان الرجل يتأوه بألم وهو يتمدد على الأرضية الصلبة وبجانبه ترتمي نارجيلته، اقترب منه يعقوب بخطواتٍ مُتريثة حتى بات أمامه، وبعدها انحنى بجذعه ليجلس القرفصاء أمامه، طالعه الأخير برعبٍ وحاول فتح فمه للحديث، لكن الألم كان لا يُحتمل ومنعه من الإستكمال.
تحولت نظرات يعقوب إلى نارجيلته وأمسك بالفوهة التي يوضع عليها الفحم المُشتعل، ثم ضيَّق عيناه بتفكير وهو يتسائل بجدية: يا ترى بتلسع؟
إل. إلحقوني.
همس بها الأخير ببكاءٍ وألمٍ لم يعد يحتمل، ليرد عليه يعقوب بنفس جُملته المُعتادة: هيلب يور سيلف يا روح أمك.
صمت يُتابع وجهه بظفر، وبعدها استطرد حديثه قائلًا: هسيبك بس بشَرطي أنا، وبمزاجي أنا، وهتقول كل اللي عايزك تقوله.
وكأنه وجد طوق النجاة أخيرًا بعد مُعافرة دامت طويلًا، ليقول بلهفة غلفتها البكاء: ه. هقول. والله العظيم هقول.
ومن بعد إجابته تلك، اتسعت ابتسامة رائف التي تمتم بهمسٍ مُستمتع: دا أنت هتتدلع.
صعدت بدور إلى منزلها بعد أن أنهت حديثها مع إلياس، حديثه شل عقلها وجعلها تخاف من القادم، نظرت إلى باب منزلهم المفتوح بريبة، لقد تأخرت والساعة الآن تعدت الثانية عشر بعد منتصف الليل، تخشى أن يُوبخها أبيها أو أحد أخواتها.
دلفت إلى المنزل بتريث وهي تنظر حولها بقلق، لكنها توقفت مكانها بتعجب عندما وجدت أن الجميع مازال مُستيقظ ويلتفون حول إحدى الفتيات، اقترب منهم مُقطبة الجبين ثم تسائلت باستغراب وهي تنظر لهيئتها: مين دي؟
التف إليها الجميع، فبادرت روان بإجابتعا بابتسامة واسعة: أنا روان إسماعيل من جريدة حنتيرة دلعني دوت كوم.
ليُكمِل مصعب حديثها بتهكم ساخر: وهربانة من تُجار أسلحة.
فيما أضافت تسنيم إلى حديثهم ضاحكة: وجلطت أبوها وجاية تكمل على الباقي.
جاءت إليهم حنان ومدت يدها نحو روان بكوبٍ من المياه الباردة وهي تقول بحنوٍ بالغ: خُدي اشربي يا حبيبتي، ولو جعانة قولي ومتتكسفيش وأنا هعملك اللي تطلبيه.
أخذت منها روان كوب المياه وهي تُطالعها بامتنان، ثم قالت بعد أن ارتشفت القليل منه: تسلم إيدك والله يا طنط، بس أنا كَلت قبل ما أهرب الحمد لله.
أجلستها حنان بجانب تسنيم على الأريكة، ثم جلست هي قبالتهم وهي تتسائل بانتباه: تُجار أسلحة إيه اللي أنتِ هربانة منهم، دا أنتِ باين عليكِ كتكوتة خالص ومش بتاعة مشاكل!
أخفضت روان رأسها بتأثر وهي تقول بصوتٍ خفيضٍ حزين أدى إلى تشنج وجه مصعب باستنكار: والله يا طنط أنا مش عارفة ليه بيحصل معايا كدا! دا أنا حتى طيبة وفي حالي ومليش في المشاكل!
وتلك المرة تحدث حمزة مُتهكمًا: يا كبدي!
تجاهلت حنان سخرية ابنها الوقح وتسائلت باهتمام: طب وأبوكِ حصله إيه؟
تنهدت روان بثقل وهي تعود بظهرها للخلف: محجوز في المستشفى بعد ما عِرف يا عيني، أصلي كتبت اسمه هو كمان في المقال.
وضعت تسنيم يدها على فاهها لتُخفي ابتسامتها، لا تعلم لِمَ تأتي في الأوقات الخاطئة وتود أن تضحك، لكن غباؤها مُثير للضحك حقًا، بينما مصعب فرغ فاهه وهو يُطالعها بصدمة، وبعدها تحدث بذهول:.
جلطتي أبوكِ وجاية تجلطيني كمان يا اللي منك لله؟
تجعد وجه روان بضيق وهي تُجيبه: على فكرة لو حضرتك عايزني أمشي؛ همشي، أنا بس قولت بما إنك أنت وأخو حضرتك ظُباط فهتقدروا تِحموني.
أشاح مصعب أمام وجهها قائلًا بسخط: أنا أصلًا هقدم استقالتي من الشُغلانة الهباب دي.
يعني أمشي؟
تسائلت بها بجدية وهي تهب من مكانها، ليأتيها الرد على الفور من بدران قبل أن يقوم مصعب بإحراجها: لأ طبعًا ميصحش تمشي، مصعب ميقصدش يا آنسة روان وأكيد هنلاقي مكان تباتي فيه.
وهُنا تدخلت تسنيم قائلة بسرعة: تعالي باتي معايا تحت، المكان واسع عليا وكمان بفضل طول اليوم قاعدة لوحدي.
طالعتها بدور بتحذير من طرف عينها، لتتراجع تسنيم عن قولها بابتسامة بلهاء: و بدور بتيجي تسليني برضه.
ايوا كدا اتعدلي.
نظرت حنان نحو روان التي تُتابع حديثهم بابتسامة هادئة، ثم قالت بود: خلاص يا حبيبتي إنزلي وباتي مع تسنيم، الوقت اتأخر وعارفة إنك عايزة تنامي دلوقتي.
وقفت الفتاتان معًا، فاقتربت روان من حنان ثم احتضنتها بحب أثناء قوله المُمتن: تسلميلي يا طنط، شكرًا أوي الحقيقة.
ربتت حنان على ظهرها بتودد، وبعدها هبطت الفتاتان إلى الأسفل لينالا قسطًا من الراحة.
بينما كُلًا من عمران وبادر كانا قد غطَّا في نومٍ عميق على الأريكة الموجودة بالصالة المُقابلة، و حمزة ومصعب دلفا إلى غرفتهما، و بدران وبدير جلسا بجانب والدتهما التي هتفت بقلق:
أبوكوا وأخوكوا لسه مرجعوش لحد دلوقتي.
ربت بدران على كفها ليبثها الطمأنينة، ثم تحدث بنبرة هادئة: متقلقيش يا أمي عليهم، الحج هارون عاقل كفاية إنه يتصرف في المواقف اللي زي دي.
ردت عليه حنان بتنهيدة ثقيلة: بس أخوك يعقوب!
ليُجيبها بدران بثقة: و يعقوب كمان عاقل ومش بيعمل أي تصرف طايش إلا لما يكون مخططله كويس، وأنا وأنتِ عارفين إنه مش هيسكت أو يهداله بال غير لما يرد كرامته بين أهل المنطقة.
زفرت حنان بضيق وهي تقول بنبرة حزينة: أخوك رغم طيبته وحنيته بس غضبه يخوَّف، واخد كل طباع أبوك حتى في عصبيته.
حاول بدران تخفيف توترها وخوفها، فرد عليها بنبرة عابثة: حُبك للحج هارون خلاكِ تجيبي أول عيل نسخة منه.
ابتسمت حنان بخفة وهي تنظر له، ثم قالت بابتسامة مُحِبة: أبوك مفيش منه، ووجوده في حياتي هو اللي مخليني متقوية بيه.
رفع كفها إلى فمه يُقبله بحبٍ بالغ، وبعدها أردف قائلًا: ربنا يديم وجودكم معانا دايمًا يا ست الكل.
ربتت على كتفه بحب وعادت لتتسائل باستغراب: بقالك كام يوم مش بتروح شُغلك ليه؟
امتعض وجهه بحنق وهو يُجيبها بوجوم: فكرتيني ليه بس! على العموم أنا هرجعله من بكرة، كنت واخد إجازة يومين بعيد عن المستشفى عشان جابتلي إحباط.
ضحكت حنان بخفة، وما كادت أن تفتح فاهها لتُجيبه، فوجدت بدير يستدير لها وهو يتحدث بامتعاض: هتفاتحي أبويا في موضوع العروسة إمتى ياما؟
نظرت إليه حنان باشمئزاز، قبل أن تقف من مكانها وتبتعد عنه تمامًا، طالعها بدير باستغراب، ثم تمتم بتعجب شديد: هي مالها بتبصلي بقرف كدا ليه؟
تشنج وجه بدران هو الآخر، ثم تركه وذهب بعد أن دفعه وهو يُتمتم بغيظ: يا شيخ غور أنا مش عارف بيبصولك على إيه دول!
انتظريني، لعلي أروي شوق قلبي بلُقياكِ، أو تُشفى جراحي، أو يترك قلبي داري ليأتي لديارك.
في صبيحة اليوم التالي.
استيقظ يعقوب بكسلٍ بعد أن أتى للمنزل في ساعة مُتأخرة، وبالطبع لم يتركه رائف في حالته المُزرية التي كان عليها، بل ظل بجانبه جسدٍ بجسد حتى اطمئن عليه وهدأ قليلًا، أرجع خصلاته المُشعثة للخلف وبأصابعه يُدلك فروة رأسه التي تُؤلمه، كانت أحداث الليلة الماضية مُؤرقة ولعينة، لذلك تحامل كل شيء داخل رأسه.
فتح نافذة غرفته وطلَّ منها بنصف جسده، المارة يتأرجحون ذهابًا وإيابًا والشارع مُكتظ بالسُكان والباعة، لفت نظره ذِكرى التي تروي ورودها على الجانب الآخر، وذلك رغم التعاسة المُرتسمة على وجهها، لاحظت وقوفه فابتسمت له ابتسامة لم تصل إلى عيناها، فبادلها هو بسمتها وهو يقول بخفة:
صباح الخير على عروسة الهنا.
إلتوى ثُغر ذِكرى عن ابتسامة جانبية، ثم تحدثت بنبرة مُتهكمة ومازالت مُستمرة في روي زرعها: ويا ترى هتجوزني لأي واحد من إخواتك المرادي؟
أجابها ضاحكًا وبنبرة مُشاكسة: هتجوزك أنا.
ورغم علمها بكل هذا ليلة أمس؛ إلا إنها أخفضت رأسها خجلًا وشعرت بالحرج، لم يُريد يعقوب أن يُطيل معها في الحديث، لذلك استأذن منها قائلًا بهدوء: عن إذنك.
ابتسم بخفة ثم قالت: اتفضل.
ومن بعدها تركها يعقوب وعاد لغرفته مُجددًا لتبديل ثيابه، وارتدى تيشرت بنص أكمام من اللون الأسود، وبنطال من الچينز الداكن، كذلك قام بتسريح خصلاته الهوجاء وإرجاعها للخلف بطريقة فوضوية لكنها باتت جميلة مع ذقنه النابتة بحيادية وعينيه العسليتين.
نظر إلى مظهره برضا ثم خرج إليهم، فوجد الجميع مُتجمعين على طاولة الإفطار ووالدته على وشك مُناداته، لم ينظر أبيه إليه، وكذلك لم يُحييهم هو كذلك، بل جلس على مقعده دون أن يفتح فاهه بنصف كلمة، نظر إليه أخواته بحيرة، وأول مَن تسائلت هي بدور التي وضعت يدها على كتفه ثم قالت بريبة:
أنت كويس يا يعقوب؟
همهم يعقوب قائلًا باختصار: كويس.
لم يقتنع أيًا منهم بإجابته، وهي جلست مكانها بعد أن رأت الوجوم يُسطِّر على معالمه، كان هارون غاضبًا من مُعاملته الجافة تلك، لا يكفي بأنه أخطأ! وفوق ذلك حزين لأنه وبَّخه على خطأه.
نظرت حنان إلى زوجها وابنها بعدم راحة وقلق، يبدو بأنه هناك ما هو مخفي عن الجميع وحدث بينهم، بدأ هارون بتناول الطعام وبدأ بعده الجميع عدا يعقوب، والذي جعل الطعام بأفواههم ثم تحدث على بغتة وبنبرة باردة:
عايز أتجوز.
توقف الطعام بحلق الجميع ونظروا إليه بأعيُن مُنصدمة، كان الذهول مُرتسم على وجه الجميع عدا هارون الذي أكمل طعامه ببرود وكأنه لم يستمع لشيء، نظر إليه يعقوب بطرف عينه مُنتظرًا إجابته وردة فعله التي لم يُظهرها حتى الآن، لكن الإجابة هي نفسها؛ الصمت واللامبالاة.
مال حمزة على أذن بادر يهمس بقلق: بقولك يا شيخ بادر، ما تقرألنا قرآن يمكن الشيطان يغور من القعدة اللي هتولع نار دي!
رد عليه بادر بريبة هامسًا: خايف أتكلم يحدفوني بطبق البتنجان في وشي.
عض حمزة على شفتيه ليمنع خروج ضحكته وهو يُتمتم مع ذاته: الله يخربيت دماغك.
قررت حنان التخفيف من توتر الأجواء وتسائلت مُستعجبة: عايز تتجوز مرة واحدة كدا يا يعقوب؟ دا أنت كنت رافض الموضوع دا دلوقتي!
أجابها يعقوب وهو يهز كتفه بلامبالاة: عادي هو الجواز بقى حرام؟
عاد الصمت ليعم مُجددًا، الجميع ينظر لبعضهم البعض بريبة، و يعقوب ينتظر إجابة أبيه التي طالت كثيرًا، قلب عينه بملل وهو يُعيد قول جُملته مُجددًا: بقولك يا حَج هارون عايز أتجوز.
لم يقل أبي، بل قال يا حَج هارون، إذن هو غاضب منه، رفع هارون أنظاره له يُطالعه ببرود أثناء سؤاله: بتكلمني أنا؟
إلتوى ثُغره بابتسامة جانبية مُتهكمة وهو يُؤكد: أيوا أنت يا حَج.
ترك هارون الطعام من بين يديه ثم شبَّك كفيه معًا أثناء تثبيت أنظاره على خاصته التي تُطالعه بتحدٍ مُماثل له تمامًا، وكأنها فولة وانشطرت لنصفين كما يُقال!
وهُنا تسائل هارون ببرود: ويا ترى بقى مين دي اللي عايز تتجوزها.
ذِكرى .
إجابة مُختصرة لا يوجد بها أي نوع من أنواع المُراوغة، لكنها جعلت أنظار أبيه تحتد بطريقة مُبالغة، ضرب على طاولة الطعام بكفيه ثم هب من مكانه واقفًا، وبعدها نادى على ابنه بغضب: يلا يا عمران على شُغلنا بلا لعب عيال.
قال جُملته ثم أمسك بعصاه التي يستند عليها وقفطانه وذهب من المنزل بأكمله، احتدمت عيني يعقوب بغضب بالغ، وكاد أن يفتح فاهه للتحدث؛ لكنه توقف أثر إمساك عمران لذراعه وقوله الهاديء: خلاص يا يعقوب متحاولش دلوقتي، أنت عارف إن أبوك مبيحبش لوي الدراع واللي حصل هيخلي الكل يتكلم، فأنت من واجبك تعذره.
دفع يعقوب يده بعيدًا وهو يصرخ به باهتياج: وأنا مين يعذرني؟ ما أنا زيي زيكم صحيت لقيت نفسي لابس في مصيبة أنا مليش أي دخل فيها، وبعدين أنا مبقتش صغير.
وهُنا جائه الرد من بدران الذي أجابه بوجوم رغم هدوئه: لأ كلنا صُغيرين يا يعقوب، إحنا مش يوم ما هنكبر؛ هنكبر على أهلنا.
سدد له يعقوب نظرة نارية مليئة بالغضب، بالأساس ما حدث أتلف أعصابه وجعله يتخلى عن هدوئه، زفر بضيق وهو يحك وجهه بنفاذ صبر، فاستمع إلى صوت مصعب الذي تحرك ووقف بجانبه:
بُص. إحنا عارفين إن أنت مخنوق، وإحنا مش هنسيبك متضايق كدا، فهتضحك بما يُرضي الله ولا نضحكك إحنا بما لا يُرضيك؟
طالعه يعقوب باشمئزاز ثم أردف بحنق وهو يبتعد عن الجميع: غور يالا من وشي أنت وإخواتك، ومش عايز دلع وقلة أدب بدل ما وأقسم بربي أطلَّع غضبي كله عليكم.
قالها ثم اتجه نحو الخارج وأغلق الباب خلفه، بينما بدور وضعت كفها أسفل ذقنها وهي تتسائل بتفكير: هو قصده إيه بالكلام دا؟
أتاها الرد من جميع أخواتها معًا قائلين: اسكتي أنتِ يا غلطة.
أحيانًا تُعاتبك الأيام على إهمالك، وأحيانًا أخرى يُعاتبك الفؤاد على هُجرانك، وأنت في المنتصف تنتظر أي يأتي أحدهم وينتشلك من ظلامك.
تمددت زهراء على ظهرها ودموعها تشق طريقها نحو وجنتها، صدمتها كانت كبيرة وصعقتها لم تكن بالهينة، حتى الآن مازال يُعاد ذلك المقطع داخل عقلها، فؤادها ينكوي بالألم وعبراتها لم تجف من الحسرة، منذ ليلة أمس وهي على حالتها تلك، تشعر بأن جدران غرفتها ملت من بُكائها وحُزنها الذي لم ينقطع، هي هُنا تبكي بحسرة، وتترك عاشق ينكوي من تجاهلها.
دخلت عليها شقيقتها رحمة التي تنهدت بضيق على حالتها تلك، تقدمت من فراشها وجلست بجانبها وهي تقول بأسى: كفاية بقى عياط يا زهراء! ليه مُصرة تتعبي نفسك وتتعبي كل اللي حواليكِ بسبب واحد أنتِ عارفة إنك بالنسباله أخته!
اعتدلت الأخرى جالسة، تضم ركبتيها إلى صدرها وتُحيط بها ذراعيها بحماية، ثم قالت بصوتٍ مليءٍ بالقهرة: خلاص يا رحمة بالله عليكِ أنا مش ناقصاكِ.
وضعت شقيقتها كفها على كتفها تُربت عليه بحنوٍ وهي تقول: يا حبيبتي صدقيني أنتِ مستقبلك مش مع يعقوب، يعني سايبة اللي بيحبك داير وبيحفي وراكِ وراحة تحبي يعقوب؟
رفعت زهراء أنظارها تجاه رحمة تُطالعها بتعجب، توقفت عن البكاء وعقلها يعمل في كل الإتجاهات، تُرى من هذا الذي يَحبها وهي غافلة عنه؟ لم تترك ذاتها أكثر وتسائلت باستغرابٍ شديد: مين اللي بيحبني؟
ضجرت رحمة من غباء شقيقتها، لذلك واجهتها بالحقيقة أكملها وهي تُجيبها بانفعال: بدران يا زهراء هو اللي بيحبك.
صُدمت من حديثها وظلت لبضعة ثواني تُطالعة بتشنج، وبعد قليل من الوقت استفاقت مُجيبة إياها وهي تُنكر حديثها: لأ طبعًا إيه الهبل اللي أنتِ بتقوليه دا؟ أنا و بدران قُريبين من بعض آه ودا عشان اتربينا سوا مش أكتر.
إلتوى ثُغر رحمة بابتسامة هازئة أثناء قولها المُستنكر: واحد مش بيهون عليه زعلك ولا دموعك، بيفضل يراضي فيكِ وقت حُزنك، بيحاول يعمل كل جُهده عشان تبقي مبسوطة، دايمًا بيسأل عليكِ وعلى أحوالك، بيبقى شبه المسروع لما تبقي تعبانة، فِضل إمبارح يرن عليكِ لما داخ وراكِ ولما زِهق طِلع عشان يسأل ويشوفك كويسة ولا لأ، وبعد دا كله عايزة تفهميني إنه مش بيحبك؟
رمشت زهراء بأهدابها عدة مرات وكأن عقلها يرفض الاستيعاب، ابتلعت ريقها بتوتر ثم أجابتها بتلعثم: م. ما أنا قولتلك. يمكن عشان قُريبين من بعض واتربينا سوا.
اعترضت رحمة على حديثها وهي تقول بقوة: لأ عشان بيحبك يا زهراء، فوقي لنفسك وشوفي سعادتك هتبقى مع مين، سيبك من قلبك وفكري بعقلك هتلاقي كل حاجة اتغيرت في نظرك، بدران ميستاهلش منك كدا، بدران بيحبك وأنتِ اللي مُغفلة.
رمت لها جميع الحقائق دُفعة واحدة واتجهت نحو الباب لتُغادر، لكنها توقفت واستدارت لها ثم هتفت بتذكر: ويلا قومي غسلي وشك عشان أبوكِ زمانه جاي من البلد، وكمان مروان معرفش ييجي إمبارح وزمانه على وصول دلوقتي.
نظرت إليها زهراء بتذبذب ثم أومأت لها بتيهة، لتتركها رحمة وتغادر جاعلة إياها تُفكر بتريث فيما ألقته على مسامعها.
تخبطنا في دروبِ الحياة حتى بِتنا مرضى، مرضى نفسيين نحمل داخل طياتنا الكثير من الألم.
سار بدران في أروقة المشفى بثقة واضعًا كفيه داخل جيب معطفه الطبي الذي يرتديه، دخل إلى غرفة مكتبه وأغلق الباب خلفه بهدوء، نظراته كانت باردة وبروده كان مُخيف، قرر أن يفعل ما خطط إليه، قرر إنقاذ جميع المرضى من بين براثن ذئاب بشرية.
ارتمى على كُرسيه وعاد ليتذكر الحديث العابر الذي دار بينه وبين رجب منذ قليل، و رجب هو مدير الكاميرات الذي ساعده في تهريب تسنيم من قبل.
إيه اللي حصل في غيابي اليومين اللي فاتوا يا رجب؟
أجابه رجب بجدية: مفيش حاجة حصلت يا دكتور، بس إسلام مختفي ومش باينله أي أثر، أهله بلغوا البوليس ودلوقتي في تحقيقات بتتعمل مع الكل عشان يقدروا يوصلوا ليه.
كان بدران يستمع إليه بانتباه، اختفائه المُفاجيء أثار حفيظته وزاد من تركيزه، ليُضيِّق ما بين حاجبيه بتعجب وهو يتسائل: مختفي إزاي يعني؟
هز رجب كتفيه بجهلٍ، فيما شرد الأخير في الأحداث الماضية حتى توصل عقله إلى نقطة هامة للغاية، رفع أنظاره نحو رجب مُسرعًا وتسائل على عجالة: هي تسنيم من عيلة إيه؟
وللمرة الثانية يُطالعه رجب بجهل وهو يردف بحيرة: مش عارف والله يا دكتور، أنا مش عارف أي معلومات عن أي مريض هنا في المستشفى.
هز بدران رأسه بشرودٍ ثم قال: ماشي يا رجب، روح أنت شغلك وأنا هتصرف.
عاد من شروده على صوت طرق الباب بضرباتٍ مُتساوية، فاعتدل في مكانه ثم سمح للطارق بالدخول، دخل شفيع بعدها وتحدث بابتسامة خافتة: أهلًا أهلًا دكتور بدران. كل دي غيبة يا راجل؟
لا يُطيق وجوده؟ نعم، مُشمئز من حضوره؟ نعم، لكنه وبالرغم من ذلك تصنع الابتسام ووقف ليُصافحه وهو يقول بود مُصطنع: أهلًا يا دكتور شفيع، اتفضل.
جلس شفيع على المقعد المُقابل لمكتبه، فشبَّك بدران كفيه معًا وهو يتسائل بانتباه: إيه سر الزيارة الجميلة دي؟
ابتسم له الآخر بمُجاملة، ثم نظر له بجدية وتحدث قائلًا: طبعًا أنا عارف يا دكتور بدران إنك دكتور مُحترم ومُجتهد في شُغلك، عشان كدا أنا جيتلك مخصوص.
حديثه المُزين لم يُزيده إلا ريبة، فماذا يُريد مُدير المشفى منه هو تحديدًا، لم يحتفظ بسؤاله لذاته، وإنما تسائل به بانتباه: خدمة إيه يا دكتور؟
ليأتيه الجواب منه على الفور بقوله: مريض جِه جديد وكنت عايزك تتابع حالته بنفسك، الحالة دي مهمة جدًا بالنسبالي، واخدها تحدي ولو اتعالجت المستشفى بتاعتنا هيكون ليها سيط عالي وسط المستشفيات الكبيرة.
وإشمعنى اخترتني أنا تحديدًا؟
نطق بها بدران بهدوء مُغلف بخطة خبيثة، ليُجيبه شفيع بابتسامة واثقة: ما أنا قولتلك، معنديش غيرك أثق فيه وواثق من خبرتك وقدرتك على مُعالجة الحالة دي تحديدًا.
لم يدخل الحديث عقله، لكنه أصرَّ على مُعالجة تلك الحالة تحديدًا لمعرفة ما يُخبأ خلف ستارها المخفي عن الجميع، لذلك رد عليه بابتسامة مُتكلمة ونبرة واثقة تخفي خلفها الكثير: تمام يا دكتور، اعتبر إن الحالة دي بقت بتاعتي وخلال مُدة قصيرة جدًا هتكون اتعالجت إن شاء الله.
وقف شفيع من مكانه مُسددًا له ابتسامة واسعة تعكس فرحته، ثم مد يده لمصافحته وهو يقول بثقة: وأنا واثق من دا يا دكتور بدران، بالتوفيق يا بطل، عن إذنك.
قالها ثم غادر من الغرفة بأكملها، تاركًا إياه يجلس على مقعده المُتحرك يهتز به يمينًا ويسارًا وهو يقول بمكر: إما أشوف إيه اللي وراك يا دكتور شفيع.
لعل الصدفة تجمعنا دون محض إرادتنا؛ ونلتقي!
خرجت نرجس من منزلها بعد أن تجاهلت جميع الموجودين فيه، بدايةً من فتحية حتى ابنها الذي يُطالعها بنظراتٍ لا تُريحها بالمرة.
اتجهت نحو محل الجزارة التابع لعائلة هارون والذي يقف به يعقوب تحديدًا، اقتربت من بخطواتٍ مُتريثة حتى وقفت أمام الحائل الخشبي الذي يفصل بين كليهما، كان يعقوب في ذلك الوقت يُتابع أعماله ويُشرف على الرجال، فذهب إليها عندما انتبه لوجودها وسألها بابتسامة طفيفة:
أقدر أساعدك بحاجة؟
طالعته نرجس بخجل وهي تتسائل بصوتٍ خفيض: بتصل ب رائف من إمبارح مش بيرد عليا، هو فيه حاجة؟
قطب يعقوب جبينه بتعجب وهو يُجيبها: بس هو كان معايا بالليل، ممكن تليفونه يكون فصل شحن ولسه نايم لحد دلوقتي عشان كدا مردش.
تنهدت بضيق وظهر العبوس واضحًا على وجهها، ليُعاود سؤالها بحذر: عايزة أي خدمة أعملهالك لحد ما ييجي بنفسه؟
هزت رأسها بالنفي وهي تشكره بخفوت: لأ لأ شكرًا، عن إذنك.
شكرته ثم ابتعدت عنه عدة خطوات، لكنها توقفت مرة أخرى على ندائه لها، استدارت له، فوجدته يمد يده لها بكيس بلاستيكي أسود اللون ويقول: خُدي دا رائف كان موصيني عليه أديهولك.
إيه دا؟
تسائلت بها بتعجب، ليُجيبها ضاحكًا: أنتِ جاية محل جِزارة، أكيد مش هديكِ شيكولاتة يعني!
ابتسمت له بحرج، فعادت إليه لتأخذ ما يُعطيه إليها، ثم شكرته قائلة قبل أن ترحل من أمامه: تسلم يا معلم يعقوب، سلام عليكم.
وعليكم السلام.
غادرت بهدوء مثلما أتت، لكن عقلها مازال مُنشغلًا مع رائف الذي يغيب عن ناظريها، لا تعلم لِمَ تعلقت به إلى تلك الدرجة! لكن الشيء الوحيد الذي تعلمه هو أنها لا تشعر بالأمان إلا في وجوده.
دخلت منزلها فوجدت أمامها يجلس كُلًا من فتحية ورشدي، لوت شفتها بسخطٍ فور وقوع أنظارها عليهما، ليلتوي وجه رشدي الذي أردف باستنكار حقيقي: مالك قلبتي وشك أول ما شوفتينا كدا ليه؟
وببرودٍ ردت عليه نرجس قائلة: ميخصكش.
استشاط من وقاحتها معه وود لو يذهب إليها ويُبرحها ضربًا، لكن ولأسفه الشديد يده مُضمدة نتيجة ضرب رائف له بشراسة ليلة أمس، كذلك يشعر بألام مُبرحة في عظام صدره.
اتجهت أنظار فتحية نحو الكيس الأسود الذي تحمله نرجس، لتتسائل بفضول وأنظارها مُثبتة عليه: إيه اللي في إيدك دا؟
في تلك الأثناء كانت نرجس تُمسك بهاتفها وتقوم بمُهاتفة رائف الذي لم يُجيب على اتصالاتها حتى الآن، لترد عليها بلامبالاة قاتلة: دا كيس لحمة رائف باعتهولي.
تجعد وجه فتحية بسخرية وتهكم، ثم مصمصت على شفتيها بحركة شعبية وهي تقول بنبرة مُهينة: وأخيرًا هناكل لحمة؟ دا أبوكِ معملهاش لحد دلوقتي!
رفعت نرجس أنظارها تُطالع فتحية بغضب، ورغم ضيقها من أبيها إلا أنها دافعت عنه بكل استماتة قائلة بعصبية: واللهِ اللي مش عاجبه يورينا عرض كتافه، وبعدين دا أنتِ لحم كتافك من خيره، هو أنتِ كنتِ لاقية تاكلي أنتِ والمحروس ابنك اللي متلقح جنبك دا؟
استشاطت نظرات فتحية بغضب وهبت من مكانها ذاهبة إليها بخطواتٍ تعكس اشتعالها، وبعد وصولها أمسكتها من ذراعها غارزة أظافرها في لحمها وهي تهتف بحدة: أنتِ لسانك طِول يا بت أنتِ وشكلك محتاجة اللي يربيكِ من أول وجديد.
دفعت نرجس كفها بعيدًا بقوة، ثم تحدثت بتهديد صريح: اصطبحي يا مرات أبويا بدل ما أعمل رد فعل مش هيعجبك، مش شحات وهيتأمر كمان! ما هو دا اللي ناقص.
قالتها ثم ذهبت من أمامها مُتجهة بخطواتٍ سريعة إلى غرفتها، وفور أن أغلقت بابها؛ انتفضت بفزع عندما أتاها صوت رائف من الهاتف يقول بنبرة مُفتخرة: ابقي فكريني لما آجي أديكِ بوسة من الخد اليمين وبوسة من الخد الشمال يا قلب رائف.
تنشأ الوقاحة من أشخاص يرتدون رداء العِفة، لكن البشر هُم مَن يستفزونهم.
جلست جنة أمام شقيقاتيها حاملة لهاتفها الجوال بين يديها، كانت أنظار كُلًا من ذِكرى ورضوى تُطالعها بانتباه، وازداد أكثر حينما جاءت الإجابة من الطرف الآخر:
وديني وما أعبد لهندمكوا كلكوا بس الصبر، متصلة ليه يا حقيرة؟
كانت تلك الإجابة تصعد من فاهِ حازم المُتسطح على فراشه الآن بعظامٍ مُتكسرة، اشتعلت النيران داخل حدقتي ذِكرى فور استماعها لسبابه لشقيقتها، فانتشلت منها الهاتف وأجابته بعصبية أعمتها:.
الحقيرة دي تبقى أمك يالا.
أنتِ...
نطق بها بصراخ، لكنها قاطعته بقوة وهي تهتف: إحنا مش متصلين بيك عشان نطمن عليك ولا عشان خاطر جمال عيونك، إحنا بس متصلين عشان نشمت فيك مش أكتر، ونفكرك إن أي وقت هتحاول تلعب فيه بديلك كدا أو كدا؛ هيحصلك نفس اللي حصل إمبارح، سلام يا عسول.
قالت كل ما تكتمه داخلها وبعدها أغلقت بوجهه دون حتى أن تستمع له، نظرت الفتيات لبعضهن البعض بصمتٍ لعدة ثوانٍ، قبل أن ينفجرن في الضحك فجأة.
مالت رضوى على ذِكرى قائلة بصعوبة من بين ضحكاتها: زمانه لعن الساعة اللي رد فيها عليكِ.
أجابتها ذِكرى ضاحكة: أحسن يستاهل، واد ملهوش أي تلاتين لازمة هيقرف اللي جابونا ليه؟
انتهين من الضحك بعد دقيقتين تقريبًا، فصعد صوت جنة المُعاتب برقة مُصطنعة: بس دي مش أخلاقنا على فكرة! إحنا متربيين عن كدا.
لوت ذِكرى شفتيها بتشنج وهي تُجيبها: آه طبعًا، حتى شوفتي احترامنا وصلنا لفين؟
كان خلف حديثها الكثير من المعاني التي فهمتها شقيقتيها على الفور، تنهدت رضوى بضيق على تلك الأحداث العصيبة التي تمر على منزلهم، ثم أردفت بهدوء بعد أن هبت من مكانها: أنا هقوم أحط مانيكير.
قالتها ثم اتجهت إلى درجها لتجلب طلاء أظافرها الذي تضعه كلما شعرت بالاختناق، لكن يدها قد توقفت عن العبث بأشيائها عندما استمعت إلى صوت جنة المكتوم بألم: أنا رجلي بدأت توجعني تاني أكتر من الأول.
استدارت لها ذِكرى على الفور ثم سألتها بقلق وهي تُمسك بكفها: خدتي أدويتك؟
أومأت لها جنة بالإيجاب والتي أردفت بخوف: أنا خايفة الورم ينتشر أكتر بسبب إني مش باخد الكيماوي.
تركت رضوى ما بيدها محله، ثم عادت لتجلس أمامها مُجددًا وقالت بجدية: أنا معايا 30 ألف اللي خدتهم من تالين وقت خناقتنا.
شاركتها ذِكرى بحسم: وأنا معايا 20 ألف فاضلين من حساب المحل.
وأنا معايا 70 ألف كنت راكنهم بعيد عن حساب العيلة.
هتف بها إإلياس الذي دلف لتوه وجلس بجانب أخواته، طالعتهم جنة بأعين دامعة وهي تقول بتردد: بس. بس دي فلوسكم وانتوا تعبتوا فيها ومن حقكم.
ضربها إلياس على ذراعها قائلًا بنذق: أنتِ هتقلبيها دراما ليه يا بت أنتِ؟ هو إيه اللي فلوسي وفلوسكم والكلام الأهطل اللي أنتِ بتقوليه دا؟
سيطر على جنة مشاعر كثيرة في تلك الأثناء كان أغلبها الحب والامتنان لعائلتها الجميلة، وجدت شقيقها ينكزها بكتفه بمشاكسة وهي يهتف بمزاح: طيب بذمتك أنتِ معكيش فلوس كدا ولا كدا كنتِ بتقلبيها أيام العِز؟
ضحكت جنة بخفة ثم قالت بعبث: معايا 40 ألف بس كنت عايزة أجيب بيهم موتوسيكل جديد.
وهُنا تدخلت والدتها التي كانت تُتابعهم منذ البداية وقالت بحنوٍ وهي تقترب منهم: وأنا هبيع دهبي وأرض أبويا وأضمهم لفلوسكم عشان نبدأ الجلسات من بكرة.
فُوجئوا بوجود والدتهم، فاقتربت منهم صفاء أكثر وأكملت قائلة: دهبي كتير والدهب دلوقتي غالي، يعني هييجوا في حدود 100 ألف، والقيراط ونص هبيعهم بحوالي 100 ألف زيهم يبقى أنا كدا هشارك ب 200، على ال 160 ألف اللي معاكم يبقى كدا 360 ألف جنيه، وبإذن الله هيقضوا وهتكوني بألف سلامة.
هبطت دموع جنة رغمًا عنها بعدما رأت تضحية عائلتها بكل الأموال الموجودة معهم من أجلها فقط، هبطت من على الفراش بتروٍ ثم ذهبت جهة والدتها وارتمت داخل أحضانها تبكي بعنفٍ وتُهمهم بكلماتٍ غير مفهومة.
عانقتها والدتها بحنان مُربتة على ظهرها بحنو، ورغمًا عنها أدمعت عيناها، ثم همست بتحشرج: أنا بحبك أوي.
بينما إلياس رسم ابتسامة صغيرة على ثُغره قائلًا وهو يقترب منهم: كفاية عياط بقى! وبعدين الحمد لله إن ربنا حلها من عنده وإلا كان زماننا محوجين للي يسوى واللي ميسواش.
ابتعدت جنة عن أحضان والدتها وجففت دموعها بهدوء، اقترب من أخيها ثم قبَّل حبينها بحب أثناء همسه المُشاغب: وبعدين أنا ليا عندي خبر جميل زيك.
رفعت جنة أنظارها الدامعة تُطالعه بتعجب، ثم تسائلت بصوتٍ مبحوح: خبر إيه؟
كان الجميع ينظر إليه بفضول مُنتظرين ذلك الخبر الذي سيرميه على أذانهم، وبالفعل بدأ بالحديث مُتريثًا وهو يقول: عمران ابن الحَج هارون لمَّح بطريقة غير مُباشرة إنه عايز يخطبك بس أنا فهمته، بس شكله مستني اللي حصل يهدى شوية وهيتقدم بطريقة رسمي.
كانوا يُطالعونه ببلاهة وكأنهم لا يُصدقون ما يتفوه به، وخاصةً جنة، تلك التي تصنم جسدها وشُلَّ لسانها عن الحديث تمامًا، صعدت ضحكات إلياس عاليًا وهتف من بين ضحكاته قائلًا: مالكوا تنحتوا كدا ليه؟ هي أول مرة جنة يتقدملها عريس؟
وأول مَن خرجت مِن ذهولها هي صفاء التي تسائلت بجدية: هو قالك إنه عايز يتقدملها على طول كدا؟
هز إلياس رأسه بالنفي وهو يُجيبها: لأ، بس كلامه كان واضح وباين أوي، وأنا فهمت تلميحاته خصوصًا إني راجل زيه وفاهم دماغه.
نظرت إليه صفاء نظرة جادة ثم تشدقت بصرامة: الموضوع دا ميتفتحش تاني يا إلياس، لو فعلًا عايزها يبقى ييجي يتقدملها رسمي من غير تلميحات ولا كلام فاضي.
تنهد إلياس زافرًا بهدوء، بينما كانت الصدمة الكُبرى من نصيبهم عندما أخبرتهم ذِكرى بهدوء مُميت: و يعقوب عايز يتجوزني.
كان يعقوب يُتابع عمله في تقطيع اللحوم وتقسيمها إلى شرائح ليبيعها إلى الزبائن الكُثر الذين يرتصون أمام محله، أتى في تلك الأثناء عُمير راسمًا على ثُغره ابتسامة شامتة، ثم وقف أمام محله وأردف بصوتٍ عالٍ يحمل بين طياته الخُبث:
بقى يعقوب ابن المعلم هارون يطلع منه كل دا؟ يا راجل طب على الأقل احترم مكانة أبوك هنا في المنطقة!
كان يعقوب يُعطيه ظهره عندما أتى، لكنه استدار عندما استمع لحديثه الذي أخرج غضبه الذي حاول دفنه بصعوبة، ترك ما بيده ثم خرج له ليكونا في مقابلة لبعضهما البعض، ابتسم له يعقوب ابتسامة لم تصل لعينيه ومن ثَم أجابه باستفزاز: والله كُل واحد ينام على الجنب اللي يريحه، أنا وأبويا مبسوطين من عملتي جدًا، أنت مش مبسوط ليه بقى؟
رفع له عُمير إحدى حاجبيه وهو يقول بتهكم ساخر: محدش هنا مبسوط في الحارة يا يعقوب، وبصراحة بقى إحنا مش مأمنين على عيالنا في وجود واحد زيك هنا وسطهم.
مط يعقوب شفتيه بتفكير وهو يقول: اممم معاك حق فعلًا، خلاص اللي مش عاجبه ياخد عياله ويمشي من الحارة، مالك مصعَّب الموضوع كدا ليه؟
وهُنا تحدث إحدى رجال عمير قائلًا بوقاحة: هي هتبقى ماشية بالبجاحة ولا إيه؟ يعني الحِتة كلها شافتك في وضع لموأخذة مع واحدة إياهم وكمان مش هامك؟ فين الرجولة وتربية الحج هارون ليك؟
موجودة يا ننوس عين أمك.
قالها قبل أن يلكمه بقوة في أنفه بكل عنفوان وغضب، ليَدفعه عمير بعيدًا وهو يُصيج به بصراخ: هو أنت محدش مالي عينك يا جدع أنت؟
لأ.
كانت إجابة مُختصرة من يعقوب قبل أن يُسدد له لكمة قوية هو الآخر أدت إلى سقوطه أرضًا بطريقة مُهينة، كان جميع القاطنين بالمنطقة مُتجمعين حول الشجار الناجم بين كُلًا من يعقوب وعُمير، وفي تلك اللحظة ظهر هارون من وَسط هذا الحشد الغزير ومعه ابنه عمران، الغضب كان مُرتسم ببراعة على وجه أبيه، والذي صاح بنبرة غاضبة:
إيه اللي بيحصل هنا دا؟
عم الصمت المكان فلم يُسمع سوى صوت الأنفاس الغاضبة، ليتوقف عُمير من مكانه بعد أن مسح الدماء التي سالت من أنفه ورد بعصبية: اللي بيحصل إن ابنك غِلط وغلطه كبير يا حَج هارون، وفوق دا كله بيبجح ومش عاجبه كلام حد، إيش حال ما كان الفيديو كل الحارة شافته وشافت فضيحته هو وال.
لم يستطيع إكمال حديثه بسبب اللكمة الثانية التي سُددت له، لكن تلك المرة لم تكن من يعقوب، بل من عمران الذي صاح ببرود: مش يعقوب بس هو اللي بِجح، وكلمة كمان في حقه مش هخليك تشوف بعينيك الحلوين دول.
وضع عمير يده على وجهه مُتأوهًا بألم، فتجهز رجاله لنشب عِراك عنيف بين الطرفين، لكن قاطعهم وقوف هارون بكل هيبته أمام الجميع ونطق بصوتٍ صارم أنهى الهمسات الدائرة بينهم:.
قريب أوي هتعرفوا إن الفيديو اللي اتبعت لكل أهل المنطقة مش حقيقي وملعوب فيه، وقتها هجيب اللي عمل كدا وهخليه يسف تراب الأرض من اللي هعمله، لإن مش ولاد هارون رضوان اللي يقعوا في غلطة زي دي يابن حامد.
كانت نبرته مُهددة وعنيفة أوحت بالكثير، فنظر للجمع المُحتشد من حولهم وأمرهم بصرامة: كل واحد يروح يشوف أشغاله يا رجالة.
ومن بعد كلمته تلك تفرقت الجموع ولم يبقى سواهم، نظراتهم مُتوعدة وعيونهم حارقة، فضيَّق يعقوب عيناه وهو يقول بكلماتٍ ذات مغزى: بكرة. بكرة بالكتير والحقيقة كلها هتبان، واللي عمل عملته دي مسيره ييجي يترجاني أرحمه.
قصدك إيه يا يعقوب؟
تسائل بها عمير بحدة، ليرد يعقوب باستفزاز قبل أن يتركه كالحشرة ويذهب: اللي على راسه بطحة يا حبيبي.
ألقى هارون نظرة مُحذرة إلى عمير، فلم يتبقى سوى عمران الذي تحدث بشفقة: بالك لو طِلعت أنت اللي ورا اللي حصل يا عُمير! هنزفك زي العروسة بس بطريقتنا.
تمتم بها ثم لحق بشقيقه وأبيه، تاركًا عُمير يبتلع ريقه بصعوبة خشية من ثقتهم تلك.
كان الجميع يبحث عن الحقائق ودليل براءة أخيهم بكل ما يملكون من قوة، ف مصعب وحمزة قاموا بتفريغ كل كاميرات المُراقبة الموجودة في المنطقة لرؤية الدخيلة التي دلفت لمنطقتهم، وبعدها عرضوها على ذِكرى التي تعرفت على الفتاة على الفور، ليأتي هُنا دور بادر الذي سيتخلى عن أخلاقه السامية قليلًا، ويبدأ بالبحث عن تلك الفتاة.
وهُنا، حيث وجود ذلك الملهى الذي يتراقص به العديد والعديد من الشباب؛ دخل هو، مُرتديًا قميص من اللون الأزرق السماوي وبنطال من الجينز الأسود الداكن، خصلاته مُهذبة وذقنه كذلك، كان وسيمًا رغم وقاره واحترامه، لكن لا بأس من بعض العبث.
عيناه السوداويتين تدوران في أرجاء المكان بحثًا عن الفتاة التي علم هويتها بعد بحث متواصل من أخيه مصعب، اتجه إليها بملامح حادة واجمة حينما كانت ترقص وسط الكثير من الشباب دون خجل أو حياء، ثم أمسك بها من ذراعها غارزًا أظافره في لحم كتفها وهو يجذبها خلفه.
سار بها عدة خطوات وسط مقاومتها وصراخها به، لكنه توقف عندما شعر بسحب أحدهم إليها، وبالرغم من ذلك قبض على ذراعها أكثر ونظراته تُرسل تحديًا للشاب الذي تحدث بتهكم: إيه يا باشا أنا مش عاجبك ولا إيه؟
دفع بادر كفه بعيدًا في غضب وهو يصرخ به: غور يالا من هنا بدل ما أهينك.
استفز حديثه الآخر، فلم يشعر بذاته إلا وهو يُدفع للخلف بقوة كادت أن تُسقطه أرضًا، سيطر على توازنه قبل ارتطامه بالأرضية الصلبة، ومن ثَم اتسعت ابتسامته بشر جَلي وهو يهمس بفحيح: دا أنت هتتفرم النهاردة.
قالها ثم هجم على الآخر بكل عنفوان يلكمه بقوة في كل جزء من وجهه حتى تعرقلت قدماه ووقع أرضًا، لم يُشفق بادر على حالته، وإنما صعد فوقه وسدد إليه عدة لكمات أخرى حتى استسلم الآخر وتوقف عن المُقاومة، ابتعد عنه وصدره يعلو ويهبط بنهيجٍ وتعب أثر المجهود الذي بذله، نظر حوله للجمع المُحتشد والذين لم يُكلفوا أنفسهم للتفريق بينهم، ابتسم بتهكم لكن ما دق ناقوص الخطر داخل عقله هو التقاط عيناه لهروب الفتاة بعيدًا عنه!
هرول خلفها قبل أن تخرج من الملهى وحاصرها مُجددًا بإمساكه لها، طالعته برعب ثم تشدقت بفزع: أنت عايز مني إيه؟
أجابها ساخرًا: أكيد مش هكون عايزك يعني، أصلي مليش في الرمرمة.
ابتلعت ريقها بخوفٍ من نظراته الحادة التي يرميها إليها، ابتسم بادر لنجاح خطته، لكن تلك الابتسامة انمحت تدريجيًا حينما رأى آخر شخص توقع وجوده هُنا، وبهمسٍ مُنصدم تمتم بعدم تصديق: سارة؟
عاد بادر إلى المنزل مع عمران بعد احتجزوا الفتاة في مكانٍ آمن، ليتفاجئوا بعودة مروان ابن عمهم من سفره الذي دام لأربع سنواتٍ كاملة، كان الجميع مُتجمع داخل منزل هارون، وبالطبع لم ترفع رحمة أنظارها من عليه طيلة الجلسة، تشتاقه عينها قبل فؤادها، وهو أبله لا يشعر بها.
بينما زهراء كانت تتحاشى النظر جهة بدران طوال الوقت، لا تعلم أهو بسبب خجلها أم توترها، وعلى عكسها تمامًا، كان بدران يرميها بنظراته العاشقة من الحين للآخر، حتى نكزه بدير وهمس بعبث: عينك ياض عيب كدا!
دفعه بدران بغيظ هاتفًا: خليك في حالك يالا وسيبني أنا في حالي.
بينما مروان كان جالسًا بجانب يعقوب يستمع لما حدث بإنصات، وأول ما أتى بباله هو: اوعوا تكونوا اتخانقتوا من غيري!
ضرب يعقوب على قدمه باطمئنان قائلًا: متخافش ياض، الضرب هيبقى للركب بكرة بس اجهز أنت بس.
ازداد حماسه وأردف بابتسامة واسعة: أنا جاهز من دلوقتي لو عايز.
وعلى بُعدٍ قريبٍ منهم، كان حمزة جالسًا بملامح وجه مُنكمش حينما تذكر محاولة تحدثه مع رضوى للإعتذار منها، لكنها وكالعادة صدته بقولها: ملكش دعوة بيا يا حشَّاش يا خمورجي.
ومن وسط تلك الجلسة المليئة بالحب، خرجت عليهم بدور بملامح وجه واجمة وتحدثت بنبرة جادة للغاية: أنا مش عايزة أتطلق يابا، وهرجع لبيت جوزي من بكرة.
وعلى الصعيد الآخر، كان رائف يستمع للطرف الآخر بجدية مُفرطة، وحينما انتهى أردف بتساؤل خبيث: يعني عمي عايز يبني المشروع على الأرض بتاعتي من غير علمي ويحطني قدام الأمر الواقع؟
وحينما أتاه الجواب مؤكدًا، رد عليه رائف بمكر: طب أنا جاي سوهاج قُريب، ويا مرحب بالحرب العالمية التالتة.