قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث عشر

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث عشر

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث عشر

ما كان لقلبي سوى أن يتعايش على الألم، الوحدة، والفراق!
كُلٌ يُزامن الحياة مع السعادة، وأنا وحدي مَن أُقابل الحُزن بالأحضان.

نطقت بدور بكلماتها بوجهٍ واجم ونبرة حاسمة، حينما قاطعت حديث أبيها مع عمها عوض الذي أتى مؤخرًا من سفره المؤقت، حلَّ الصمت على الأجواء وارتسمت الصدمة على الوجوه، فيما رفع هارون أنظاره إليها وتسائل بنظراتٍ ثاقبة: مين دا اللي عايزة ترجعيله؟
جمراتٌ من النيران تشعر بابتلاعها الآن، ولسانها يرفض التصريح مرة أخرى عن مطلبها، لكن ورغمًا عنها أردفت: عايزة أرجع ل عادل. جوزي.

إلتوى ثُغر هارون بسخرية تزامنًا مع استناده على عصاه الخشبية والوقوف أمامه، عادت خطوتين للخلف فتحدث مُتهكمًا: وخايفة ليه؟
نظراتها كانت مُتوترة وظهورها كان واضحًا للعِيان، فأجابته بتلجلج: م. مش خايفة.
رد عليها بنبرة قوية حاسمة: لو مش خايفة مكنتيش رجعتي ورا، ومعنى إنك خايفة يبقى أنتِ عارفة اللي بتقوليه دا مش صح.

صمتت ولم تجد إجابة مُناسبة لحديثه، لكنها استدارت على صوت يعقوب الذي اقترب منها هو الآخر وتحدث بشكٍ ممزوجًا بالعصبية: إيه اللي غيَّر رأيك وخلاكِ عايزة ترجعي للحيوان اللي ذَلِّك وهانك ومَد إيده عليكِ ها؟
رمى الحقائق بوجهها دون هوادة، فيما قبضت هي على كفها علَّها تستمد منه قوتها الواهية، فتشدقت بخفوتٍ وهي تتحاشى النظر إليه: ليا أسبابي ومش هتراجع عن قراري.

وتلك المرة الحديث أتى من حمزة الذي صاح بغضب: هو إيه اللي ليكِ أسبابك؟ ما تتكلمي عِدل ورَسّينا على الحوار من غير لَف ولا دوران.
تنفست بدور بعمقٍ ولجأت إلى الحل الأسلم والذي لا يُثير سوى أعصابهم أكثر؛ وهو الصمت، جزَّ يعقوب على أسنانه غيظًا وتلك المرة صاح بها بعنف: ما تنطقي يا بدور! عايزة ترجعي للزفت دا ليه تاني؟ عايزة تذلي نفسك وتعيشينا في قلق عليكِ ليه؟ عايزة توصلي لإيه بالظبط؟

ارتعشت شفتيها رغمًا عنها وتسللت الدموع إلى مقلتيها كسريان المياه داخل مجاريها، وقفت والدتها بجانبها تُربت على كتفيها بحنوٍ وكأنها تدعمها، و مصعب اقترب مُعانقًا لوجهها وهو يقول بحب: إحكي يا حبيبتي إحنا خايفين عليكِ، ليه عايزة ترجعي ل عادل بعد ما قررتي تطلقي منه؟
عشان أنا حامل.

نطقت بها بضعف قبل أن تجهش في البكاء المرير، كان مصعب الأقرب إليها فلجأت إلى أحضانه للإختفاء عن الأعيُن، لكنها وجدت جسدها يُسحَب ويستقر داخل أحضان أبيها لًا من أخيها، تمسكت به بحماية وكأنها ترجوه بألا يتركها، وهو استجاب لدعوتها وأحاطها بذراعيه، كانت شهقاتها تعلو أكثر فأكثر وما على الجميع سوى الصمت، المصائب تأتي لهم دُفعةً واحدة دون أن تهدأ.

نظر بدران ل يعقوب بيأس، فوجد وجه واجم بقوة، ثم حوَّل أنظاره تجاه عمران فوجد يُطالع بدور بحزنٍ عميق، صغيرته الآن تُعاني بسبب الحقير زوجها، وكلما قررت الابتعاد تشعر بمن يسحبها للخلف مُجددًا، بينما حمزة نظر ل مصعب بنظراتٍ ذات مغزى، أعينهم كانت تتحد بوعيدٍ خفي لكن يحمل خلفه الكثير والكثير، و بادر وبدير اقتربوا لمُساندة شقيقتهم التي تهدأ بهويدةٍ مع مرور الوقت.

مرت دقائق غير معدودة لا يُسمع بهم سوى صوت شهقات بدور، وعندما هدأت تمامًا؛ استمعت إلى صوت عمها عوض يتحدث بصرامة: مش لازم ترجعيله، وابنك هيتربى في بيت رضوان أحسن تربية بعيد عن جوزك وتربيته اللي هتبقى زي الهباب شبه وشه.

خرجت بدور من أحضان والدها ثم كفكفت دموعها بيديها، قبل أن ترفع أنظارها إليه وتهمس بصوتٍ مُتحشرج: ابني ملوش ذنب إنه يتربى بعيد عن أبوه، أنا مش عايزاه يبقى متعقد من صُغره، وأنا قولت ل عادل وهيجي ياخدني بكرة الصبح.
تشنج وجه يعقوب الذي سألها باستنكار وهو يُطالعها بأنظارٍ حادة: يعني إيه كلمتيه عشان ييجي ياخدك؟ وأنتِ معندكيش أهل تاخدي رأيهم؟
أوقفه هارون بصرامة: خلاص أنت دلوقتي يا يعقوب.

حوَّل يعقوب عيناه تجاه أبيه قبل أن يقول ساخطًا: هو إيه اللي خلاص يا حَج هارون؟ أنا الكلام اللي هي قالته دا مش داخل دماغي بتعريفة، وصدقيني يا بدور لو طلعتي مخبية عني حاجة؛ هتزعلي مني أنتِ واللطخ اللي متجوزاه.
قال جُملته الأخيرة مُوجهًا إياها نحو بدور التي هربت بأنظارها عنه، وهُنا تيقن من إخفائها لشيءٍ ما عنهم جميعًا، وهو عليه معرفته دون شك.

جذب عمران أخيه بعيدًا للوقوف بالشرفة، بينما بقيَ هارون والبقية مع بدور لإقناعها بالصدود عن قرارها الذي سيُدمرها إن لم تتراجع عنه.
تُرى يا قلب أحببتُ مَن! هل أحببت القاسي، أم المُتجبر، أم الخائن؟ كفى عذابًا وآلامًا، كفى بالدمعِ أن يسيل، دائمًا ما تبكي وفي الطريقِ وحيدًا تسير، هل الوجدان ينعي ذاته، أم أن الحرمان كان السِر العظيم؟

حاولت ياسمين فتح الباب بشتى الطرق لكن جميع مُحاولاتها قد بائت بالفشل، نظرت حولها بعجزٍ والتيهة تُسيطر على محياها، كل شيء يجتمع ضدها في تلك الأثناء، لا تجد مهربًا ولا منفعًا من المحاولة، توقفت مكانها على بغتة وأنظارها قد تعلقت بشيءٍ ما، النافذة!

ذهبت إليها مُهرولة ولحُسن حظها بأنها مفتوحة، اتسعت ابتسامتها بسعادة من وجود طريقة للإبتعاد أخيرًا، لكن ثوانٍ ما انمحت عندما أبصرت المسافة الشاسعة بين النافذة والشارع الرئيسي، لم تتدع اليأس يُسيطر عليها، بل قررت المُجازفة وتجربة تلك المواسير الحديدية الموضوعة بجانب الشرفة والتي تصل إلى الأسفل، الأمر خطير لكن لا بأس، ستُحاول حتى تنجو.

رفعت قدمها إلى الأعلى ثم وضعتها على سور الشُرفة الحديدية، وبيدها اليُمنى استندت على الحائط؛ للثبات، تنفست بعنفٍ عندما رأت المسافة الهائلة، وبتلك اللحظة سيطرت عليها فوبيا المُرتفعات، شعرت بالدوار يجتاح رأسها، وعيناها بدأت أن تزوغ، أغمضت عيناها بعنفٍ في مُحاولة منها لتجاهل الوضع الذي تمر به الآن، رفعت رأسها للأعلى بدلًا من إخفاضها، ثم مطت جسدها قليلًا وأمسكت بيدها اليُسرى الماسورة الحديدية، ثم مدت قدمها كذلك لتقف على حوافها، وبعدها قامت بإخراج بقية جسدها بأكمله!

وعِند تلك النقطة تحديدًا هبطت أنظارها تلقائيًا نحو الأسفل، فزاد شعورها بالدوار أكثر وخفت كِلا يديها من الإمساك بالقطعة الحديدية!

كان حسن قد وصل لتوه، الشمس شارفت على الغروب ولا بُد من كونها جائعة الآن، تصنمت قدماه عن السير حينما رفع أنظاره للأعلى حيث شرفة منزله، وجدها تُحاول الهرب بطريقة غبية مثلها، ولم تمر ثانية أخرى إلا وهو يُهرول بسرعة هائلة حيث شقته الموجودة بالأعلى وهو يسبها بأفظع الشتائم بسبب غبائها.

وصل إلى شقته بعد ثوانٍ معدودة، ثم فتح بابها واتجه ركوضًا نحو الشرفة، وجد ياسمين تُجاهد على فتح عيناه وتثبيت قدميها على البروز الموجودة لتمنع سقوطها، اقترب منها حسن وتحدث بنبرة جاهد على جعلها ثابتة:
ياسمين. مِدي إيدك يا حبيبتي ومتخافيش.
طالعته بنظراتٍ زائغة ثم قالت بوهن: دايخة. دايخة أوي.

ابتلع ريقه بصعوبة الخوف ينهش قلبه، وازداد رُعبًا عندما لاحظ ترنح جسدها الواضح، فلم ينتظر أكثر حتى مدَّ نصف جسده خارج الشرفة وأمسك بها من خصرها بقوة في نفس اللحظة التي تركت بها يدها.

سقط بها حسن للخلف على ظهره وهي سقطت عليه، لكنها كانت فاقدة للوعي تمامًا، تنفس بعنف وصدره يعلو ويهبط بقوة، لا يُصدِّق بأنه كان على وشك خسارتها للأبد! اعتدل في مكانه ثم وقف حاملًا إياها على ذراعيه ووضعها بغرفتها في الداخل، مدد جسدها على الفراش ثم جلس بجانبها، عيناه تحتضنان معالمها وكأنه يروي ظمأ فؤاده، ذلك الطرق بين جنبات صدره يطرق بعنفٍ وكأنه يُعذبه، وكيف لعذابها أن يكون مُمتعًا لتلك الدرجة؟

لم يُعارض رغبة فؤاده في تقبيل وجنتها البارزة، اشتاقها واشتاق لشجاراتهم، اشتاق لتلك النظرات العاشقة التي كانت ترميها إليه في كل الأوقات، لكن الآن حل محلها البغض وبات منبوذًا من الجميع حتى منها هي!
خلع حذائه ونام جوارها، ذراعه يحتضن خصرها وكأنها والدته، وهمسه صعد مُتألمًا رغم كل محاولاته للثبات: وحشتيني أوي، نفسي أنام بقالي كتير منمتش، بس هجرب أنام المرادي في حضنك.

وبالفعل نام على كتفها وأغمض عيناه براحة، يكفي عبيرها الذي يشتمه ووجودها جواره، يكفي بأن معشوقته البعيدة قريبة الآن، هو جوارها وكفى.
أنت تعيش في هذا العالم، إذن عليك تحمُّل كل أنواع الخذلان.
نفث رائف دخان سيجاره من داخل رئتيه وعيناه مُتعلقة بالفراغ، عيناه غامضة نعم، لكن على ثُغره ترتسم ابتسامة خبيثة بعيدة كُليًا عن شخصيته التافهة.

لقد أخبره أحدهم باستكمال عمه لبناء مشروعه، وذلك بأخذ جزء كبير من أرضه الزراعية، وسيبدأ البناء بعد ثلاثة أيام من اليوم، إذن لديه فرصة مُناسبة للزواج من نرجس ثم أخذها والعودة لسوهاج.
أنهى سيجاره فرماها أرضًا ثم دعسها بتوئدة، وكأنه يتخيل مكان عائلته أسفل قدمه، لقد تركوا وشمًا داخل فؤاده لن يزول أبدًا، وهو سيقوم بوشم تلك الندبات داخل أفئدتهم مثلما فعلوا وأكثر، هي فقد مسألة وقت.

والآن هو خارجٌ من منزله وسيذهب إلى حارة هارون لشراء السجائر.
بائت جميع المحاولات بالفشل في إقناع بدور بعدم العودة إلى زوجها، لكن تصميمها كان غريبًا وإصرارها على العودة أثار غضب هارون ويعقوب تحديدًا، وقفت أمام أبيها بنظراتٍ باردة لكن تخفي خلفها آلامًا كثيرة، فصعد صوت هارون قائلًا بغضب:
ماشي ارجعي. بس لو رجعتيلي غضبانة أو رنك علقة باب بيتي هيتقفل في وشك ومش هتدخليه تاني.

نظر بدير لأبيه بصدمة وتحدث مزهولًا: إيه اللي أنت بتقوله دا يابا؟
حوَّل هارون أنظاره إليه وهو يُصيح بحدة: بقول اللي أختك عايزاه، أختك لسه بتحبه وإما صدقت تلاقي الفرصة عشان ترجعله.
برر بدير لأبيه حتى لا يتصاعد الأمر أكثر: يابا بدور لسه عيلة صغيرة ومفكرة إنها كدا ممكن تحافظ على بيتها من الخراب.
تنفس هارون بعنف ثم أردف بنبرة حاسمة: مش هتعرف بنتي أكتر مني يا بدير.

انتقل بأبصاره نحوها ثم استكمل حديثه: بعد الذل والإهانة اللي شافته على إيده لسه فيه حِتة جواها بتحبه وعايزة ترجعله، صح ولا إيه يا بنت هارون؟
تسائل بالأخيرة، فهربت بأنظارها على الفور وتحاشت تلاقي أعينهما، وتلك المرة صعدت الكلمات من فمِ يعقوب الذي تحدث بصلابة: مفيش رجوع ل عادل يا بدور، أنا لا يُمكن أسمحلك تعملي كدا.

رفعت بدور أنظارها إليه وقد تحولت عيناه وأصبحت حادة، ولأول مرة ترفع صوتها على أخيها الأكبر وتتحدث بصراخ ممزوج بالوقاحة: ملكش دعوة، متدخلش في حياتي أنت مش ولي أمري، روح شوف نفسك الأول وبعد كدا تعالى كلمني وعرفني إيه الصح من الغلط.
ولم تُكمل حديثها أكثر عندما قاطعها عمران بغضب: بدور! إلزمي حدودك وإعرفي إنك بتكلمي أخوكِ الكبير، الظاهر إنك نسيتي تربيتك عشان خاطر البيه بتاعك.

وقبل أن تُجيبه، كان صوت هارون الصارم يصعد مُعنفًا إياها ونظرات الإشمئزاز تحوم داخل مقلتاه: ادخلي أوضتك ومتطلعيش منها، مش عايز أشوف وشك لحد ما المحروس ييجي ياخدك على بيته.

كان الصمت سيد الموقف، وذلك بعد أن اتجهت بدور بخطواتٍ سريعة نحو غرفتها، بينما وجه يعقوب كان واجمًا حادًا، تلك هي المرة الأولى التي تتحدث بها بدور معهم بتلك الطريقة، غضبها كان هائلًا، يُقسم بأنه قد رأى الغِل يخرج من مقلتاها عِند حديثها معهم، هُناك شيء ما هو متأكد من ذلك.
استدار هارون على سؤال أخيه الذي قال: هتخليها ترجع لجوزها بجد يا هارون؟

رد عليه هارون بملامح واجمة: براحتها، كل واحد ينام على الجنب اللي يريحه، وأنا مش هجبرها على حاجة وخليها تدوق نتيجة اختياراتها.
تقدم حمزة من أبيه وتحدث بسخط: يعني إيه الكلام دا يابا؟ هنتخلى عنها يعني؟

وهُنا قد فاض الكيل ب هارون الذي صاح بغضبٍ بالغ: أعمل إيه أكتر من اللي عملته يعني؟ بقالي ساعتين بقنع فيها وهي في دماغها ستين جزمة ومُصرة على قرارها، والطلاق عُمره ما كان بالإجبار، زيه زي الجواز بالظبط، ولو طلقتهم بالعافية يبقى طلاقهم باطل، بس أنا مش هسكت، أنا هجيب نهاية الحوار دا قريب أوي.

قالها ثم اتجه للخارج ومعه أخيه عوض الذي لحق به، و حنان دلفت إلى ابنتها بقلبٍ مفطور، ولم يتبقى سوى الشباب ومعهم رحمة وزهراء، وانضم إليهم مؤخرًا تسنيم وروان، فتسائلت الأولى بتعجب: خير مال صوتكم عالي كدا؟
كانت جميع الوجوه واجمة والغضب يُسيطر عليها، فتحدثت روان بتفكير وهي تُطالعهم جميعًا: هو أبوكوا زعقلكم ولا إيه؟ انتوا لسه بتتعاقبوا؟

تنفس مصعب بعنف وهمس بنبرة خافتة لم يسمعها سوى مروان الواقف بجانبه: الكائن دا كل ما يتنفس بيعصبني.
نظر إليه مروان بتعجي وهو يتسائل: هي مين دي؟
أجابه ساخرًا بنفس طريقتها: روان إسماعيل من جريدة حنتيرة دلعني دوت كوم.
دي جريدة ولا كباريه؟
أشاح مصعب بيده مُتمتمًا بضجر: أهي عندك روح اسألها.

ترك يعقوب الجمع المُحتشد واتجه نحو الخارج، ثم تبعه عمران هو كذلك، ولم يتبقى سوى الخمسة شباب ومعهم مروان والفتيات، نظر بدران نحو زهراء وأردف بهدوء: خُدي البنات واطلعوا شقتكم أو اقعدوا تحت زي ما تحبوا لحد ما نخلص كلام.
أومأت له زهراء بسرعة وقد وترتها الأجواء المشحونة تلك، ورغم عدم معرفتها بُكلٍ من روان وتسنيم تحدث مُبتسمة بود: تعالوا معايا نقعد فوق في شقتنا، معايا أنا وأختي رحمة.

أومأوا لها واتجهوا نحو الخارج، لكن قبل أن يبتعدوا كُليًا؛ توقفت روان واستدارت لهم مُتحدثة باقتراح: متأكدين مش عايزين أي مساعدة مني؟ أنا صحفية شاطرة وكبيرة وممكن أساعدكم على فكرة.
وتلك المرة جائتها الإجابة من بدير الذي أجابها ساخرًا: آه صحفية شاطرة وهربانة.
طالعته روان بنظرات ساخطة وتمتمت قبل أن تتركهم وتذهب: أنا غلطانة، خسارة فيكم.

انتهوا من التجهز وأخيرًا كما كانت تتمنى، وقف مجدي أمام نرجس وسألها مُجددًا: مُتأكدة مش عايزة تيجي معانا؟ هتفضلي قاعدة طول النهار لوحدك؟
صممت نرجس على قرارها وأومأت قائلة: لأ مش عايزة آجي، أنا هفضل قاعدة هنا، مبحبش جو الأفراح أنا.
يأس من إقناعها، فأومأ لها بهدوءٍ وهو يقول بحب: طيب براحتك، خلي بالك من نفسك.

كانت فتحية ورشدي يُتابعان الحديث الدائر بين الأب وابنته بلمحة من السخط والتشنج، وحينما انتهيا من المُجاملات السخيفة انطلق ثلاثتهم من المنزل وبقيت هي بمفردها به، وأخيرًا ستنال قِسطًا من الراحة بعيدًا عن زوجة أبيها وابنها السليط.

أغلقت الباب من خلفها واستدارت للدخول، كادت أن تدخل إلى غرفتها لأخذ قِسط من الراحة لكنها توقفت فجأة عندما أنار عقلها بفكرةٍ ما، لا تعلم أستكون مُخطئة في ذلك أم لا، لكنها ستُجازف.
اتجهت بتريث نحو غرفة فتحية الموجودة بجانب خاصتها، إلتوى فمها باشمئزاز عندما أبصرت كل شيء مُلوث وغير مُرتب، لا يكفي بأنها شخصية مُتسلطة! وفوق هذا عَفنة!

دارت بأبصارها بكل إنشٍ بالغرفة، تلك كانت غرفة والدتها الحبيبة، جاءت هي وأخذتها منها، اتجهت نحو إحدى الأدراج وظلت تُقلِّب في محتوياته، كان كل شيءٍ عاديًا حتى التقطتت عيناها تلك الأوراق، ضيقت عيناها بتعجب قبل أن تمسكها بين أصابعها وتقرأ ما مُدون بها، ومع كل كلمة تقرأها يزداد اتساع حدقتاها بصدمة ثم همست:
عقد بيع لمنزل السيد مجدي السيد عبدالخالق لزوجته فتحية عيد!

جالسة هي على الأريكة لا تنطق بكلمة واحدة منذ أن أتت من الخارج، ملامحها مصدومة وشاحبة، لا تُصدق ما عايشته في الدقائق البسيطة التي جازفتها منذ قليل، وذلك حين أتتها مُكالمة من فتاة مجهولة تُخبرها بوجود شقيقتها في إحدى الملاهي الليلية بحفنة مجموعة من الشباب.

حينما هرولت سارة إلى المكان بعقلٍ مصدوم ووجهٍ مُستنكر، كيف لشقيقتها أن تفعل مثل هذا الشيء وهي التي قامت بتربيتها؟ وصلت بعد دقائق كثيرة ودلفت للمكان مُهرولة دون أن تُعير أي إهتمام لأي شيء، عيناها تبحث كالمجنونة على شقيقتها وسط مجموعة من الفسقة الذين يتراقصون بثيابٍ عارية وفجور، كانت قد مرت ثلاث دقائق تبحث بهم عن شقيقتها لكنها لم تجدها، مما جعلها تشعر بالراحة حِيال ذلك، بالطبع هذا إتصال كاذب لا أكثر!

لكن راحتها لم تدوم طويلًا عندما وجدت شقيقتها تقف بإحدى الأركان وأمامها شاب يظهر عليه السُكر، ولا داعٍ لإخباركم ماذا كانوا يفعلون!
اشتعلت النيران بفؤاد سارة ولم تشعر بقدماها سوى وهي تنطلق بسرعة البرق نحو شقيقتها، ثم أبعدت عنها ذلك الحقير المُلتصق بها حد اللعنة، وفي الثانية التي تلتها كانت تهبط على وجنتها بصفعة أدت إلى إصابة الأخرى بالدوار.

نظرت إليها شقيقتها بصدمة من تواجدها هُنا، ولم تكد أن تفتح فاهها للتحدث، حتى شعرت بجسدها يُسحب عنوة بواسطة سارة التي أعمى الغضب عينها، لكن توقفا فجأة عن أمسك ذلك الشاب بيدِ مي وتحدث بغلظة: أنتِ راحة فين؟
حاولت مي التحدث لكن لسانها لم يُسعفها، فبادرت سارة بإجابته بغضب وهي تدفع يده بعيدًا عن شقيقتها: ابعد إيدك عنها يا زبالة يا حيوان.

اشتعلت عيني الآخر بغضب من إهانتها إليه، فوجدته يقترب منها وانفعالات جسده تُوحي بأنه سيضربها أو ما شابه، لكنها وجدت جسد رجولي ضخم يقف أمام ويتصدى له وهو يقول بشر: الفنان كان هيعمل إيه؟
ليرد عليه الآخر بوقاحة: وأنت مال أمك بتتدخل ليه؟

لم يُجيبه بادر بلسانه، بل وجدت يداه الطريق إلى وجه الآخر يلكمه بعنف والغضب يترسم داخل عيناه، فيما كانت سارة مزهولة من تواجده في ذلك المكان الدنيء والذي أصابها بالإشمئزاز بحق!
لم يبتعد بادر عن الشاب سوى بفصل بضعة من الشباب عنهما، استدار نحو سارة ثم تحدث بوجوم وأنفاسٍ ثقيلة: تعالي.
اعترضت بقولها: لأ أنا همشي من...

قاطعها صارخًا وقد انعكست جميع الضغوطات في ذلك اليوم على مُعاملته معها وتعنيفه لها: قولتلك تعالي أنا مش ناقصك أنتِ كمان.
ابتلعت بقية كلماتها وحدجته بتعجب مُريب، أهذا هو الأستاذ بادر ذو الخُلق الطيب والعقل الرزين؟ تكاد تُقسم بأنه تحوَّل مائة وثمانون درجة دون مُبالغة، وها هي الآن تسير خلفه دون أن تفتح فاهها!
وصلوا إلى سيارته المركونة على أحد الجوانب، فأمرهم قائلًا: اطلعوا هوصلكوا.

لمحت سارة إحداهن نائمة على المقعد الخلفي من السيارة، لكن ما لا تعلمه بأنه أفقدها وعيها ووضعها بالسيارة حتى لا تهرب، ثم أتى سريعًا لمساعدتها عندما رأى ذلك الشاب يتعرض لها هي والفتاة التي معها، رفعت أبصارها إليه وكأنها تسأله مَن تلك! لكنه تجاهلها واستدار جالسًا أمام مقود السيارة، وهي جلست بجانبه و مي بالخلف.

وها هي جالسة بصمت منذ عدة ساعات كثيرة، بعد أن أوصلها هي وشقيقتها إلى المنزل، لم تُصدر ولا أي فعل صغير، حتى الآن لا تستطيع استيعاب ما حدث، تشعر بأنها داخل دوامة كبيرة من الأكاذيب وشقيقتها جزء منها، شقيقتها التي حاولت جاهدة في جعلها ألا تتلوث! ها هي قد تلوثت هي الأخرى.

خرجت مي من غرفتها التي ظلت حبيستها بهدوءٍ وهي تنظر بحذر تجاه سارة، لم تُعطي أي ردة فعل وهذا ما يُخيفها، اقتربت منها بتروٍ حتى وقفت على مسافة مُناسبة منها وتحدثت قائلة بتلعثم:
س. سارة؟
إجابتها كانت صمتها، وهي لم تتحرك، لذلك اقتربت شقيقتها أكثر وتحدثت بنبرة مُرتعشة: أنا. أنا...

لكنها ابتلعت بقية حديثها عندما وجدت سارة تنتفض من مكانها بغضب، ثم اقتربت منها وأمسكتها من خصلاتها بعنف، تأوهت مي بصراخ فشددت سارة من إمساكها من خصلاتها وتحدثت صارخة:
أنتِ؟ أنتِ إيه؟ أنتِ بقيتي رخيصة ومش متربية وعيارك بقى فالت.

صارحتها بكل شيء أتى بعقلها في نفس اللحظة التي رأتها بها مع الشاب، ورغم قسوة حديثها، إلا أنها أكملت وهي تهزها من خصلاتها بعنف أكبر: ليه؟ ليه تعملي فيا كدا؟ دا أنا طافحاه علشانك ومتبصيش لحد أعلى منك؟ بتستغلي غيابي وبتروحي تقضي وقتك مع شوية ناس زبالة؟ أعمل فيكِ إيه قوليلي؟ أعمل فيكِ إيه؟

صرخت بالأخيرة باهتياج وصوتٍ شعرت باستماع كُل مَن بالمنطقة له، وذلك تزامنًا مع ضربها لها في كل أنحاء جسدها وهي تُكرر كلمتها بكلِ صراخٍ وقهرةٍ، لماذا؟
كانت مي تتلقى الضربات من شقيقتها وهي تصرخ بألم مُبرح، فحاولت استجماع قوتها ودفعتها بعيدًا عنها، كانت دموع كلتيهما تهبط بعنف، واحدة بألم، والأخرى بقهر، وهُنا تسائلت سارة مرة أخرى بشر رغم الضعف المُسيطر على محياها:
ليه؟

وتلقائيًا ارتسمت القسوة على وجه شقيقتها، وجدت الحقد يتمثل على تفاصيل وجهها ببراعة أخافتها وهي تُجيبها بتبجح: ليه؟ بجد بتسألي السؤال دا؟ أنا مش عارفة أنتِ مستغربة ليه وأمك أصلًا كانت كدا.
وإحنا مش زيها.
كانت الإجابة من الأخرى كصرخة حملت فيها كل معاني الألم، لترد عليها مي بقوة وهي تسخر من حديثها: لأ زيها، الدم واحد، واللحم ميخرجش من الضافر.

كان الخمول يُسيطر على أوردة سارة التي ثَقُل تنفسها وغزا الدمع عيناها، تشعر بأن جدران المنزل تطبق على أنفاسها بطريقة أشعرتها بالإختناق، ورغمًا عنها هبطت عِبراتها بعنف أثناء مُطالعتها لشقيقتها بخزي، ثم سقطت فاقدة لوعيها!
يا زمان عُد عَلِّي أنال مطلبي!

ذهب بدران إلى المشفى مُجددًا بعدما اطمئن على سكون أحوال كُل مَن في المنزل وذهابهم إلى أعمالهم، سار بين أروقة المصحة وخاصةً إلى غُرفة المريضة التي أخبره عنها شفيع، من داخله يشعر بأن هُناك ما هو مخفي خلف الستار، لكن لا بأس، فالوقت أمامه كثير.
دخل إلى الغرفة، ليتوقف مكانه بتعجب عندما رأى أن الماكث أمامه مريض لا مريضة!

اقترب رويدًا من الذي كان يجلس بالإتجاه المُعاكس على الفراش ويُعطيه ظهره، حركاته أصابت بدران بالتعجب، يهتز للأمام وللخلف بثبات، وشفتيه لا تكف عن النطق بقولها: أربعة، أربعة، أربعة، أربعة...
اقترب بدران أكثر واستدار واقفًا أمامه، فوجد الأخير يرفع نظراته إليه بطريقة مُريبة وهو ينطق: أربعة، أربعة...
ضيَّق بدران ما بين حاجبيه أثناء تساؤله الحذر: ليه بتكرر كلمة أربعة؟

وعند استماعه للعدد يصعد من فمِ بدران، جن جنونه أكثر وبات يصرخ باهتياج وهو يضرب على وجنتيه: لأ، أربعة لأ، لأ، أربعة، لأ.
كان يخدش وجهه الحنطي بأظافره يده الطويلة والمتسخة، أسرع بدران بالإمساك به وتكبيل ذراعيه حتى يتوقف عن أذية نفسه، ثم نادى بعلوِ صوته: يا مير ت؟

كان الآخر يهتز كمن تلبسته صاعقة كهربائية سيطرت على خلايا عقله، جاءت المُدعوة مير ت مُهرولة فور استماعها إلى صراخه، فأمرها بدران بسرعة وهو يُشير بعينه إلى مكانٍ ما: هاتيلي حقنة المُهدىء بسرعة.

أومأت له سريعًا ثم هرولت إلى المكان الذي أشار إليه وجلبت ما طلبه، مال هو على المريض بكلِ جسده لتثبيته أكثر، ثم مد يده لأخذ الإبرة وقام بغرزها في ذراعه بسرعة قبل أن يتطور الأمر أكثر، ولم تمر سوى ثوانٍ معدودة وكان جسده يُرخي تمامًا!

تنفس بدران بعنف واهتز صدره بنهيجٍ قوي، شفيع لم يكذب عليه، بل أن الحالة بالفعل مُستعصية للغاية، عِلاوة على ذلك اهتياجه الغير مُبرر، ما الذي حدث له؟ وما علاقته بالرقم أربعة؟ أسئلة كثيرة دارت داخل عقل بدران الذي ثبَّت عليه عيناه بشرود.
مر اليوم بسلاسة دون وجود أي جديد يُذكر، العلاقات مُتوترة فقط لا أكثر والجميع يُعاني.

كان الوقت مُتأخرًا فيما يُقارب الثانية عشر بعد منتصف الليل، و نرجس في تلك الأثناء كانت مُتسطحة بكسل على الأريكة تُتابع أحد الأفلام، استمعت إلى صوت طرق على الباب فعلمت بقدوم أبيها ومَن معه، لذلك وضعت غطاء الرأس لتخفي خصلاتها ثم ذهبت لفتح باب المنزل.
شهقت بفزع عندما رأت أن الذي أمامها هو رشدي فقط، دون وجود أبيها أو زوجته! أمسكت بالباب جيدًا وتسائلت بنظراتٍ مُرتابة: فين الباقي؟

أجابها بابتسامة خبيثة: مش جايين، هيباتوا برا النهاردة.
اتسعت حدقتاها بهلع وسارعت بإغلاق الباب على عجالة لكنه كان الأسبق ودفعها للداخل، طالعته برعبٍ ازداد عندما رأته يُغلِق الباب خلفه، وابتسامة ماكرة ترتسم باتساع على ثُغره، عادت خطوتان للخلف أثناء تساؤلها المُرتعب: أنت. أنت قفلت الباب ليه؟
اقترب منها بخطواته وهو يُجيبها بانتشاء: عشان أعرف أعمل اللي أنا عايزه براحتي.

وهُنا تيقنت من نيته التي ينتويها لها، حاولت الهروب والإختباء منه في إحدى الغُرف لكنه كان الأسرع في الوصول إليها وتكبيلها جسدها بذراعيه القويتين، ارتفع صوت صراخها المُستنجد تطلب العون، فكمم فاهها وشرع في فعل ما نوى بتنفيذه.

لم يُعير لتلويها أسفل جسده أي إهتمام، حتى دموعها التي انهمرت بقوة تجاهلها، مُقاومتها باتت واهية أمام جسده الصلب، وكُل ما تُفكر به الآن كيف تهرب من براثن ذئبٍ يُريد هتك عرضها ونثر شرفها أرضها، صوت صرخاتها المكتوب أسفل كفه هو ما يُزيد رغبته بها، وهي الآن عاجزة بكلِ جزءٍ صغير منها.

في تلك الأثناء، كان رائف جالسًا مع هارون على المقهى بعد أن شعر بالإختناق وعدم رغبته في الصعود إلى الأعلى، لكن هذا المُزعج الذي يجلس بجانبه جعله يشعر بالضجر والسخط في آنٍ واحد، ورغم أن الضيق يظهر على معالمه؛ أكمل رائف حديثه قائلًا:.

وبعدين يا حَج هارون دا أنت ملكش بركة غير ولادك، الواد جاي يقولك عايز أتجوز يا حَج، أنت بقى عامل الليلة دي كلها ليه؟ مش بدل ما يمشي في الحرام وتروح تلمه من الشقق المفروشة والكباريهات؟ ثم إني رغم طردك ليا ورفضك إني أشتغل معاك أنا لسه بحبك فعشان كدا بنصحك، بالك أنا لو مش غرضي مصلحتك؟ أنا كنت...

ابتلع بقية حديثه عندما انتفض هارون من مضجعه وتشدق بصراخٍ ونفاذ صبر: يا أخي ابعد عن اللي خلفوني بقى! أنت جاي ليا من أي نصيبة أنا عايز أعرف! مش كفاية التيران اللي عندي، جاي أنت كمان تعصبني وتحرق دمي؟
كان رائف مازال جالسًا ويرتشف كوب الشاي بتلذذ، وعندما انتهى من حديثه رفع أنظاره إليه وتحدث ببراءة: لأ يا حَج هارون لأ، مالك يا راجل بقيت عصبي وخُلقك ضيق كدا؟

طالعه هارون باشمئزاز قبل أن يتركه ويرحل من أمامه نهائيًا، مصمص رائف على شفتيه باستنكار وهو يقول: شوف الراجل؟ دي غلطتي إني بنصحه؟
قالها ثم ارتشف رشفة أخرى من الشاي، لكنه بصق ما بفمه عندما استمع لصراخ إحداهن، والذي ميَّزه بأنه صوت نرجس، وازداد يقينه عندما وجد الكثيرون يخرجون من منازلهم ويتجهون نحو منزلها مُهرولين.

ترك ما بيده وانطلق بقدميه بسرعة يتسابق بها مع الرياح، ورغم الثبات الذي كان به، إلا أن فؤاده مليء بالضجيج والقلق، وصل إلى منزلها وحاول فتح بابه لكنه كان مُوصد من الداخل، نظر للرجال من خلفه ثم صرخ بهم بجنون:
حد يساعدني نكسر الباب دا.

أتى حينها يعقوب وأخواته بعد أن استمعوا للصرخات، فقاموا بمساعدته مع بعض الرجال لتحطيم الباب نهائيًا، وقد نجحوا، انطلق رائف للداخل يبحث عنها كالمجنون، لكنه تصنم مكانه وانقطعت أنفاسه عندما أبصرها جاثية أسفل جسد رشدي الذي كمم فمها من جديد ويُحاول الإعتداء عليها بالإجبار!

لم يشعر بذاته إلا وهو يُهرول تجاههم ويجذبه بعنف من فوقها، صُدِم رشدي وازداد هلعه من نظرات الأخير التي كان يرميها ل نرجس المُتسطحة تصرخ على الأرض بثيابٍ مُتقطعة، وشعر مُشعث، ووجهٍ مجروح، ودموع تغزو وجهها الأحمر القاني، وفي تلك اللحظة هجم رائف بكل قوته على رشدي يركله في معدته بغلٍ وعينيه معميتين بالغضب، قبضته وجدت الطريق إلى وجهه تارةً وإلى عيناه تارةً أخرى، حتى نزف الأخير من أنفه وفمه، وعلى الأغلب استمع إلى تكسير ضلعٍ من ضلوعه.

وفي تلك اللحظة قرر يعقوب التدخل والفصل بينهما، أبعد رائف المُهتاج عن جسد رشدي الذي فقد وعيه تمامًا، وذلك بواسطة عمران بعدما قاموا بتكتيفه وهو صرخ بهم: ابعدوا عني. هقتلك يابن ال، وقسمًا بالله ما هسيبك يا زبالة، هوريك يابن ال يا.
سبابه كان لاذعًا بسبب غضبه، فصرخ به يعقوب وهو يهزه بعنف: فوق بقى وروح شوف خطيبتك.

استفاق رائف على كلماته، وبسرعة اعتدل واتجه نحو نرجس التي اختبئت بأحد الأركان تبكي بهستيريا، جلس أمامها على ركبتيه وعيناه تُطالعان جسدها ووجهها بقلق بالغ، وكأنه طفل صغير يخشى فقدان والدته من جديد:
نرجس!
نطق بها بخفوتٍ لم تسمعه هي، بل ظلت على حالتها تبكي وتُهمهم بكلماتٍ غير مفهومة، لكن من الواضح بأنها ترجو أحدهم!

ولم ينتظر لحظة أخرى فجذب جسدها عنوة لأحضانه حتى يمنعها عن الصراخ، كانت تقاوم وتصرخ وتدفع جسده بعيدًا، تتخيل غيره هو مَن يفعل بها ذلك، تتخيل أحدهم وهو يُحاول الإعتداء على جسدها بالإكراه، ارتعش جسدها أكثر بطريقة مُريبة أخافته، لكنها وأخيرًا ما نطقت اسمه ببكاءٍ عنيف وهي تمسك به من ثيابه بقوة:
رائف.

شدد رائف من إحاطتها بحماية كما لو يود أن يُدخلها داخل أضلعه، وبعدها همس في أذنها بخفوت: ششش. أنا معاكِ يا عيون رائف، هحميكِ منهم ومحدش هيقدر يقربلك طول ما أنا موجود.
كانت تبكي بعنفٍ وشهقاتها تزداد لا تنخفض، لولا وجوده لكانت خسرت أغلى ما تملك، لكانت خسرت شرفها الذي جاهدت كثيرًا للحفاظ عليه، ومن بين همهماتها وحديثها الغير مفهوم التقط كلمة: متسبنيش.

أجابها أثناء دفنه لها أكثر داخل أحضانه: مش هسيبك. مش هسيبك النهاردة إلا وأنتِ على ذمتي وهتروحي معايا.
فض يعقوب وعمران الجمع الهائل وأرسلوهم إلى منازلهم، بينما بدير سحب رشدي كالبهائم وتحدث بمكر: دا هربطه لحد ما المحروسة أمه تيجي تشوف خلفتها اللي تعر.
نظر يعقوب نحو رائف المحتضن جسد نرجس وتحاشى النظر إليها، ثم أردف بقوة: همشي دلوقتي عشان أسيبك على راحتك يا رائف بس لو احتجتني رِن عليا هتلاقيني موجود.

أومأ له رائف دون أن يتحدث، فذهب يعقوب مع أخواته واتجه نحو منزلهم، لمح حمزة بطرف عينيه رضوى التي كانت تقف خارج منزلها لمتابعة ما يحدث، فاستغل الفرصة وذهب إليها وتحدث مُسرعًا فور أن لاحظ وجوم وجهها:
لو سمحتي يا رضوى اسمعيني بقى! مش هفضل تأنيب الضمير دا كتير.
وتلك المرة قررت الاستماع إليه، فربعت عن ساعديها أمام صدرها وطالعته بغضب وهي تقول: والله؟ وهتقولي إيه بقى إن شاء الله يا حشَّاش يا خمورجي؟

يا بنتي أقسملك بالله كنت سكران.
لاحظ الغضب الذي لاح على وجهها أكثر، فبرر مُسرعًا: مش بمزاجي والله، كنت في شغل وتبع مأمورية وكان لازم أشرب عشان متكشفش، ولو كشفوني هيقتلوني.
طالعته بحذر ونظرات يظهر عليها عدم التصديق، ثم قالت بتريث: دا بجد ولا بتضحك عليا؟
والله العظيم دا بجد، وأنا عمري أساسًا ما شربت ولا عملت حاجة حرام من دي، بس كنت مُضطر.

برر لها على عجالة كصغيرٍ مُذنب يطلب الصفح، ابتسمت بهدوء وهي تفك عن تقطيبة حاجبها ثم أردفت قائلة: خلاص حصل خير، مع إني لسه متضايقة مش هضحك عليك، بس مسمحاك.
اتسعت ابتسامته وزفر بارتياح أثناء وضعه لكفه على صدره دلالة على سلامة نفسه، لم تستطيع منع فضولها أكثر وتسائلت بانتباه: هو انتوا عندكوا مشكلة في البيت بتاعكم؟ أصل من كام ساعة كدا كنت سامعة صوت خناق جاي من عندكم.

توقعت أن يُجيبها، وبالفعل أجابها، لكن بطريقة جعلتها تُجعد وجهها بتشنج أثناء قوله الحانق: أنتِ بتتصنتي علينا؟ حرام عليكِ بقى! أنا مش عارفة الناس عايزة مننا إيه؟
قالها ثم رحل من أمامها تاركًا إياها تُطالعه باشمئزازٍ جَلي، هذا الرجل وقح حقًا وليس لديه أي علاقة مع الأدب إطلاقًا.

وقف يعقوب في شرفة غرفته بعد أن قرر الإختلاء بنفسه بعيدًا عن أبيه، شِجاراتهم لا تحدث إلا قليلًا، ورغم ذلك يشعر بالضيق من مخاصمته.
شعر بوقف أحدهم في الشرفة المجاورة له، ابتسم تلقائيًا قبل أن ينظر لمعرفته بهويتها، ثم أردف باسمًا: إزيك يا ست ذِكرى ؟
استمع إليها تضحك بخفة وهي تُجيبه: الحمد لله يا معلم يعقوب.
إيه اللي مصحيكِ لحد دلوقتي؟

تسائل بها وهو يُحول أنظاره إليها، فوجد الوجوم يُسيطر على معالمها وهي تُجيبه: مش جايلي نوم.
لا داعي لسؤالها عن السبب، فهي منذ ما حدث تقريبًا ولم تخرج من المنزل بتاتًا، عادت لتتحدث مرة أخرى وهي تردف بتساؤل: هو كان فيه إيه في الشارع، خناقة؟
متشغليش بالك.
علمت بعدم رغبته في الحديث، فصمتت ونظرت أمامها، ظل الصمت هو السائد لعدة دقائق قليلة، حتى قاطعه هو بتساؤل:
بقولك إيه يا سِت ذِكرى ؟ عندكوا أكل؟
أكل؟

رددت كلمته باستغراب، فأجابها قائلًا: أصلي متخانق معاهم والمفروض إنك مقموص ومدوقتش الأكل من الصبح، بس بصراحة أنا جعان.
ابتسمت باتساع وازدادت ابتسامتها أكثر حتى كادت أن تصعد بضحكات، لكنها سيطرت على ذاتها حتى لا تقوم بإحراجه وتحدث مُومئة له بلُطف: من عينيا حاضر.
قالتها ثم اتجهت نحو الداخل تاركة إياه ينظر لأثرها بابتسامة ارتسمت تلقائيًا على ثُغره، وإن كانت الابتسامة تنتقل؛ فقد انتقلت إلى عينيه!

غابت لدقائق وأتت بعدها حاملة لطبقٍ مليءٍ من الطعام، ثم مدت يدها له بحذر حتى التقطه منها، استمع إلى نبرتها المُتحمسة حينما قالت بسعادة: مبعرفش أطبخ ودي أول أكلة أعملها، دوقها وقولي رأيك.

كان طبق الطعام به رقائق من الجلاش المحشوة باللحم المُتبل، وموضوع أعلى الكثير من الأجبان المطاطة، تناول أول قطعة منها وقام بمضغها على مهل، انتظرت ثنائه على طعامها لكن لا شيء، يأخذ قضمة في الثانية في الثالثة ولا يتحدث، لذلك بادرت هي بسؤاله:
حِلو؟
كان يُغمض عيناه مُتلذذًا بالمذاق الرائع الذي يتناوله الآن، فتح حدقتاه عندما استمع إلى سؤالها، فغمز لها بمشاكسة وأردف بفخر: الحِلو من الحِلو.

اتسعت ابتسامتها أكثر وهي تتسائل بسعادة: بجد، يعني عجبتك؟
أجابها بثقة وهو يُؤكد على سؤالها: يا باشا تعجب التخين والله، دي كفاية إنها منك.
حديثه كان تلقائيًا ولا يقصد به أي شيء، لكن سبب لها الخجل والإحراج وتحدثت قائلة بخفوت: تسلم يارب، بالهنا والشفا، عن إذنك هدخل أنام أنا بقى، تصبح على خير.

قالتها ثم سددت له ابتسامة لطيفة قبل أن تتركه مع طبق الطعام وتدلف للداخل، بينما هو أجابها هامسًا بعبث لذاته: وأنتِ من أهل يعقوب هارون رضوان يا حِلو.
مرت ساعة أخرى وبعدها كان يجلس رائف ومجدي والسبعة رجال على رأسهم هارون في منزل مجدي، ومعهم المأذون الشرعي الذي سيقوم بتزويج رائف ونرجس!

نظر مجدي باتجاه رائف فوجده واجم الوجه وعابس بشدة، يتذكر المحادثة الصغيرة التي دارت بينهم عندما أتوا بسرعة بعد أن هاتفه أحد الجيران وأخبره بما حدث، حينها رفض عرض زواج ابنته بتلك الطريقة، فلم يجد جوابًا سوى غضبًا هائلًا من رائف وتكسيره لأساس المنزل بأكمله، وها هم الآن جالسون ليتموا الزواج.

كان الشهود هُم هارون وعوض بالنسبة ل رائف، و مجدي ويعقوب بالنسبة ل نرجس، وبعدها بدأ المأذون بالمراسم الطبيعية لهم.
بينما فتحية كان قلبها يتآكل قلقًا على ابنها، فحالة رائف الغاضبة واهتياجه يُشعرها بوجود خطبٍ ما ب رشدي.
مرت الدقائق ووافق الطرفان، وأخيرًا نطق المأذون بكلماته المُعتادة: بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.

وقف رائف في مكانه وأمسك بكف نرجس البارد، ثم جذبها معه نحو غرفتها، وهي سارت معه كالمُغيبة دون أن ترفع عيناها له حتى.
وبالخارج، استأذن الجميع للذهاب، لكن أوقفهم صوت فتحية التي تسائلت بلهفة: فين ابني يا حَج هارون؟
استدار لها هارون بنصف وجهه ثم أجابها بكلماتٍ ذات مغزى: بيتربى.
وبالعودة حيث رائف ووردته.

أغلق باب الغرفة خلفه ثم نظر إليها بحنوٍ بعد أن أوقفها أمامه، وأرغمها على رفع أنظارها إليه، ظنت بأنها ستجده غاضب مثلما كان منذ قليل، لكن ظنها قد خاب عندما وجدته يبتسم لها أحن ابتسامة قد رأتها في العالم وصوته يصعد بعشق: دي أجمل عيون أنا شوفتها في حياتي، متخبيهاش عني تاني.
ورغمًا عنها تسللت الدمعات إلى عينيها، فاقترب منها مُقبلًا جفنيها وهو يقول برجاء: متعيطيش عشان خاطري، أنتِ مغلطتيش في حاجة.

صمت قليلًا يُراقب ردة فعلها، ثم استطرد حديثه قائلًا: حتى لو غلطتي، فكسري وأنا هصلح وراكِ.
أنهى حديثه وأصحبه بغمزة مُشاكسة من عينه، جعلت الابتسامة تشق وجهها بخجل، اقترب منها مُعانقًا إياها بحنان ثم قال: يلا جهزي نفسك بقى.
ليه؟
تسائلت بها بتعجب، ليُجيبها بتخطيط: هنسافر سوهاج دلوقتي.

دخل هارون وأبنائه إلى المنزل، وكالعادة تسلل يعقوب من بينهم حتى يدلف إلى غرفته، لكن أوقفه مُناداة هارون له القائل بحسم: استنى عندك يا يعقوب.
توقف يعقوب عن السير واستدار لأبيه بتريث وهو يقول: نعم يا حَج؟
طالعه هارون لثوانٍ عدة، وبعدها خرج من صمته قائلًا: أنا موافق تتجوز ذِكرى .
لا يُمكننا تغيير أقدارنا بأنفسنا حتى وإن تلاقينا!

كانت كُلًا تسنيم وروان تهبطان درجات السلم بعدما انتهوا من سهرتهم مع زهراء ورحمة، كانت الجلسة مليئة بالألفة والحب، ولأول مرة يشعرن بأنهم أصدقاء منذ عدة أعوام لا ليومٍ واحد.
قابلا في طريقهم بدير الذي ذهب لرؤية رشدي مجددًا، وعندما اطمئن على وجوده عاد إلى المنزل، نظر إلى تسنيم التي تجاهلته وتحدث ساخطًا: حاسك مش طيقاني!

فتحت فاهها لإجابته، لكن لفت أنظارها تلك الورقة المطوية الموضوعة أمام باب المنزل الأرضي الذي تقطن به، تجاهلت حديثه واتجهت رويدًا حيث تلك الورقة، ثم انحنت والتقطتها وقامت بفتحها، تعالت أنفاسها برعبٍ عندما قرأت ما هو مُدون بها:
Game Over.
ومن بعد تلك الكلمة، تعالت صوت الطلقات واخترقت جسدها المسكين دون رحمة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة