رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والعشرون
ما أبشع الشعور بأنك وَسط نارين نهايتهما الموت وأنت على وشك لفظ أنفاسك الأخيرة، هذا ما أحسه يعقوب حينما حُوصِر بين أربعة رجال ضِخام الجثة ويمسكون بأيديهم أسلحة بيضاء حادة، نظر حَوله مُسرعًا علَّه يلمح أي مخروج يستطيع الهرب منه لكنه لم يجد، والآن هو في مأزق حقيقي، لن يُنكِر بأنه سيستطيع مواجهتهم والدفاع عن نفسه، لكن كثرتهم ستغلب قوته بالتأكيد وسيُصيبونه بأذى.
لذلك لجأ إلى حلٍ نتيجته ضعيفة للغاية لكنه سيُجازف، اقترب من أحدهم واخترقه بنظراته الحادة الذي رسمها ببراعة ثم تسائل بغلظة: انتوا عايزين مني إيه؟
أجابه أحدهم بابتسامة أظهرت أسنانه الصفراء القاتمة: عايزين نعلَّم عليك.
والآن اتضحت له الفكرة، لقد أتوا خِصيصًا له وليسوا مُجرد مُلثمين عابرين، لقد تم استئجارهم ومن المُتضح بأنهم لن يذهبوا إلا بعد أن يُنهوا مهمتهم، توقف عقل يعقوب عن العمل للحظات، وازداد تأهبه عندما أبصر اثنين منهم يقتربان بماديتهم، طالعهما بشراسة رغم الموقف الذي يوضع بهم، ثم صاح فيهم بغضب مُغلف بدهائه: طيب خلونا نعتبر إن انتوا علمتوا عليا وبعد كدا هربتوا، إخواتي هيسيبوكم؟ البوليس مش هيلاقيكم؟
طالعهم بنظراته التي تخترقهم ثم تمتم بفحيح بث الرعب داخل أفئدتهم: والأدهى من دا كله أنا هسيب حقي؟
رأى نظرات أحدهم التي اهتزت ونظر لزعيمه، ومن المُتضح بأنهم يعلمون مَن هم أولاد الحَج هارون، وكيف لا يعرفونهم وهُم ذات سيطٍ واسع ومعروف في المنطقة والمناطق المُجاورة!
لم يُبالِ ثالثهم بحديثه أو بتهديده، وإنما صرخ بأصدقائه مُهددًا: بتفكروا في إيه! إحنا مينفعش نرجع عن السبوبة وإلا المعلم هيخلص علينا كلنا.
وبالفعل ازداد تصميمهم أكثر واقتربوا منه لإنجاز ما أتوا لأجله، تأهب يعقوب للعراكِ وتحفزت كل ذرَّة بجسده وعيناه تدرسان كل حركة تصدر منهم، إلا أن توقفوا جميعًا حينما استمعوا إلى صوت صافرات الشرطة تنطلق في الأرجاء! نظر جميعهم لبعضهم البعض بفزع، وحينما رأوا الأنوار قادمة من على مُقدمة المنطقة، تركوا العنان لأقدامهم وانطلقوا يُسارعون الرياح للهرب.
أخرج يعقوب أنفاسه المكتومة وتنهد براحة شديدة، لقد أتت له المُساعدة الإلهية في الوقت المُناسب وإلا كان قد. قُضيَ عليه الآن، توقف أمامه سيارة الشرطة وتسائل الضابط الذي بها بصرامة: إيه اللي موقفك هنا يابني.
استدار له يعقوب ليُجيبه، فصاح بعدم تصديق قائلًا: إبراهيم؟
يعقوب؟ بتعمل إيه هنا في الوقت دا يخربيتك؟
تفوه بها المدعو إبراهيم فور رؤيته لوجه يعقوب الشاحب قليلًا، ليُجيبه يعقوب بنبرة مُستنكرة: عربيتي عِطلت وتليفوني فصل شحن والمفروض أكون في البيت دلوقتي، بس طِلع عليا شوية بلطجية كانوا عايزين يثبتوني ويعلموا عليا.
قطب إبراهيم جبينه باستغراب مُرددًا وهو ينظر حوله: بلطجية! هما فين دول؟
الحمد لله يا عم إنك جيت في الوقت المُناسب، وإلا كان زماني دلوقتي في خبر كان.
ابتعد إبراهيم قليلًا حتى جلس بالمقعد المُلازم للسائق، ثم أشار للمقعد الآخر وقال: طيب تعالى أوصلك واحكيلي في الطريق.
وبالفعل صعد يعقوب بجانبه وانطلق السائق لمنزله، وفي الطريق قصَّ يعقوب ل إبراهيم كل ما حدث له مع هؤلاء المُجرمين وحديثهم المُبهم الذي تفوهوا به، ليقطب الآخر جبينه بتعجب ثم سأله بشك: طيب أنت مش شاكك في حد؟
التقط عقل يعقوب كُلًا من عادل وعُمير، لكنه أبعد عُمير عن شكوكه نظرًا لأنه سيتحرر من سخنه في الغد، فلم يتبقى سوى عادل الذي أراد الانتقام، وبالرغم من تأكده من أنه الفاعل؛ نفى برأسه وتمتم بشرود: لأ.
أومأ إبراهيم برأسه بتفكير، ثم تمتم: خلاص أنا هحاول أوصل للي عمل كدا في أقرب وقت.
ربت يعقوب على قدمه بامتنان وهو يُسدد له ابتسامة صغيرة، ثم تسائل بعدها: أنت بقى كنت فين وبتعمل إيه هنا في الوقت دا؟
حك إبراهيم مؤخرة عنقه بحرج وهو يقص له سبب وجوده: والله أنا المفروض كنت في مهمة والمفروض أقبض على تجار مخدرات، بس نسيت وشغلت سرينة الإنظار وهربوا، والمجرمين كلهم هربوا.
علت ضحكات يعقوب عاليًا وعيناه تُطالعه بعدم تصديق، ليتشدق من بين ضحكاته بمزاح: حمزة طول عمره بيحكيلي عنك وعن مُغامراتك اللي بتوديك في داهية كل مرة، بس أنا كنت بقول إنه بيبالغ، دلوقتي بس اتأكدت.
مطَّ إبراهيم شفتيه بسخط وتمتم بعدم رضا: أنا مكنتش عايز أبقى ظابط، أبويا هو اللي جبرني عشان هو لواء وعمي وزير، وأخويا مُستشار، فلازم أبقى ظابط وبتاع، عيلة فارغة.
قطب يعقوب جبينه بتعجب وسأله بضحك: أومال أنت كنت عايز تكون إيه؟
وبسلامة نفس أجابه الآخر: مُدرس ألعاب.
قهقه يعقوب بصخبٍ وشاركه إبراهيم تلك المرة، وظلت الأحاديث تدور بينهما إلا أن وصل يعقوب أخيرًا إلى منزله بعد أن ودَّع إبراهيم وشكره، واعدًا إياه في القدوم لزيارة إلى هُنا في وقت لاحق.
وبعدين!
كلمة قالتها نرجس الجالسة على العُشبة الخضراء أسفل شجرة كبيرة، ومُستندة بظهرها على جذعها، و رائف يرمي برأسه على قدميها ويقص عليها تفاصيل حياته منذ أن وُلِدَ حتى تلك اللحظة، فتنهد بعدها يلتقط أنفاسه وقال مُكملًا:.
بعدها مرات عمي حبت توقع بين أمي وجدي، خدت عقد الدهب بتاع جدتي الله يرحمها من خزنة جدي وحطته في دولاب أمي بين هدومها، جدي طبعًا قوَّم الدنيا ومقعدهاش، إزاي عقد مراته وآخر ذكرى منها مش موجود! فتَّش الأماكن كلها وركن ركن في البيت حتى أوض الخدامين وملقهاش برضه، لحد ما مرات عمي اقترحت إنه يدوّر في الأوض الأساسية بتاعة ولاده، نظرتها لأمي عُمري ما هنساها أبدًا، شمتت فيها بعد ما جدي لقى العُقد في دولابها واستغل غياب أبويا عن البيت وشتمها وهانها، عُمري ما هنسى لما قضت الليل كله عمالة تعيَّط وأنا قاعد جنبها أطبطب عليها عشان تهدى، اعتذرتلها كتير وكأني أنا الغلطان عشان تسكت بس ومتعيطش، وبسبب حالتها دي أنا مسكتش وقررت أجيبلها حقها.
كانت عيني رائف دامعة بعد تذكره لوالدته الحبيبة، وكذلك نرجس التي استشفت حُزنه من حشرجة صوته أثناء تحدثه، لكن جُملته الأخيرة أثارت انتباهها ورفعت من فضولها، لذلك تسائلت بتعجب: عملت إيه!
خرجت ضحكة صغيرة من فاهه وهو يُخبرها ضاحكًا: تاني يوم الصبح صحيت قبلهم كلهم ودخلت المطبخ خدت إزازة الزيت بتاعة الأكل وقلبتها على السلم، وقتها سلمنا كان سيراميك مش رخام يعني بيزحلق بسرعة، وطبعًا عمي ومرات عمي كانوا ساكنين في الدور اللي فوقنا على طول، سمعت صوت الباب بيتفتح فجريت بسرعة واستخبيت ورا الحيطة وبصيت بنص وشي كدا عشان متشوفنيش، وقتها سمعت أحسن حاجة ممكن أسمعها في حياتي، مرات عمي وهي بتعيط من وجع رجليها بعد ما اتزحلقت واتكفت على وشها زي قالب الطوب.
ضحكت نرجس عاليًا وانكمشت عيناها حِيال ذلك، وشاركها رائف الضحك وأكمل مُقهقهًا: من وقتها كل ما تضايق أمي أضايقها أنا عشر أضعاف وأوقف حالها بالأسابيع.
انحبست أنفاس نرجس داخل صدرها من قوة ضحكاتها، وبسبب الصمت الذي يعم الأرجاء كان صوت ضحكاتها هي و رائف يتردد صداه في الحديقة الجالسين بها، رفعت كفها لكتم صوتها الذي عَلى فجأة رغمًا عنها، وباليد الأخرى دفعت رائف من على قدمها وهي تقول بأنفاسٍ لاهثة: حرام عليك هتموتني.
نظر رائف حوله بترقب وانتهز فرصة عدم وجود أحد، ثم مال على وجنتها يُقبلها بحُنوٍ شديد، ابتلعت نرجس بقية ضحكاتها داخل حلقها وطالعته بخجلٍ وهي تردف بخفوت: بس يا رائف عيب!
لم يُبالِ رائف بحديثها، وإنما غيَّر موضع الحديث كُليًا وانتقل إلى لونٍ آخر وهو يُمسِك بكفها: أنا عايز أقولك حاجة.
انتبهت له حواسها لجدية نبرته، ثم أومأت له تحثه على الإكمال، وبالفعل اعترف بما خبئه داخل صدره لأشهرٍ عديدة:
نرجس أنا بحبك.
كان وقع كلماته على أذنيها كالسِحر، سلب عقلها بعدة كلماتٍ بسيطة نجحت في جعلها كالطائر الحبيس الذي نال حُريته للتو، ك قطٍ شريد وجد مئواه الدافيء بعد ليالٍ قاسية من البرد القارص، أو ربما ك ظمئانٍ أوشك على الموت عطشًا حتى تجرع من المياه ما يُحيه، عدة تشبيهات قليلة للغاية لا تصف ما تشعر به الآن، لا تصف ما يشعر به فؤادها الذي يطرق بين أضلعها بعنفٍ.
تجمعت الدموع داخل مقلتيها رغمًا عنها وبدون إرادةٍ منها، وبتسلل هبطت دمعة شاردة على صفحة وجهها الملساء، رفع هو كفه لوجهها ومسح دمعتها بإصبعه وادخله حزن دفين ظنًا بأن حديثه هو ما يُبكيها، مال بثغره على عينيها يُقبلهما كل منهم على حِدة، حتى همس أخيرًا بما أوقفها عن سيل الدموع:
أنا أسف.
تفوه بها ثم وقف سريعًا واتجه بخطواته نحو الداخل، المُغفل يظن بأنها تبكي حُزنًا بإعترافه، لا يعرف بأنها تطير فرحًا في لحظتها تلك، أغمض عيناه بألمٍ وعقله يُصور له بأنه قد رُفِضَ للمرة المئة من مَن يُحب، لتتسلل الدموع داخل مقلتيه خِلسة حُزنًا على حاله!
تيبست قدماه عن السير وشُلَّ جسده عن الحراك عندما شعر بجسدٍ ضئيل يحتضنه من الخلف، وأدرك بأنها هي حينما لفت ذراعها حول خصره ليظهر كفاها المُميزان له، تُشدد من احتضانه بقوة وكأنه آخر سبيل للنجاة، وكأنه بطلها وحاميها الوحيد، حاول إبعاد ذراعها عنه ليلتف لها، لكنها لم تسمح له بذلك، وإنما قبضت على خصره أكثر وهمست بما روى فؤاده العاطش حُبًا:
وأنا كمان بحبك.
كلماتها كمعزوفةٍ ولحنٍ عزف على أوتار قلبه، أغمض عيناه بتلذذٍ أثر وقع كلماتها على أذنه، ظنَّ بأنه قد وصل لأعلى درجات العشق، لكن بعد أن استمع لاعترافها؛ ازداد حُبها أضعافًا مُضاعفة داخل وجدانه.
نجح في الفكاك من حصارها الذي أدهشه، واستدار لها ليُقابل عيناها، وآه من عيناها التي تُسحره، عيناه التي تلتمع لأجله فقط الآن، عيناها التي روَت ما لم يرويه لسانها، عيناها التي داوت جروحًا لم تكن بصاحبتها، عيناها التي نطقت بصراحةٍ عن عشقها له، كل هذا كان حديثٍ صامت دار بين العيون فقط، ومَن يَقُل أن العيون لا تتحدث؛ جاهلٌ لم يشعر بلذةِ الأحاديثِ.
لحظة فارقة بين كليهما قد غيرت الوضع تمامًا وأدخلها هو داخل أحضانه، يُخبرها بطريقته بأن لولاها ما كان أصبح هُنا، لم يكن ليُجازف أو يذق لذة النعيم بها، مال على عُنقها يُقبِّل جانبه بقُبلةٍ أطاحت بالمُتبقي من عقلها، حملها صاعدًا إلى غرفتيهما ثم أغلق بابها وأنزلها برفقٍ لتُصبح بمُقابلته، أمسك بكف يدها الأيمن ثم رفع باطنه لثُغره يلثمه برقة قبل أن يهتف بشجن:.
عايز أقولك إني كنت تايه ومليش مَرسى، كنت حاسس إني منبوذ ومليش حد في الدنيا دي، وكأن الدنيا كلها قررت تفارقني.
كان يقصد حياته الهوجاء التي قضاها ينتقل هُنا وهُناك بحثًا عن عمل، لكن قدره أوقعه بالنهاية في طريق مختار الأرماني وعمل معه، بينما هي نظرت إليه بابتسامة حزينة، فيما أكمل هو بعشق:
وفي الوقت اللي الدنيا كلها خاصمتني فيها لقيتك أنتِ اللي بتمديلي إيدك عشان تصالحيني.
لم تعلم بما تُجيبه، هي فقط رأت الألم يرتسم بوضوح داخل مقلتيه، لتُكرر جُملتها السابقة بحبٍ وكأنها تُرمم شروخ فؤاده: أنا بحبك يا رائف.
ومن هُنا لم يتحمل أن يمنع ذاته عنها أكثر، بل اقترب ليأخذها في جولة من جولات عشقه الذي يزداد بوجودها ودعمها لحزنه، قرر أن يُرافقها في رحلة الأحلام، رحلة لا يوجد بها سوى هُما فقط، سيبثها شوقه وعشقه وهي تستقبل منه كلماته وكأنها ألحانٍ موسيقية رائعة، وأُنزِلَ الستار على عاشقين قررا المُجازفة معًا وتخطي العوائق، عاشقان أقسما على البقاء والمُحاربة معًا في رحلة الحياة، وتلك المرة الرحلة لن تكون فردية أبدًا، بل زوجية بوجود كليهما بها لكن بفؤادٍ واحد قد التحم بعد عناءِ الطريق.
صعد يعقوب إلى المنزل بهدوءٍ وتعب فوجد ذكرى تُقابله على الدرج وعلى محياها يرتسم القلق، تعجب من حالتها وكاد أن يتحدث؛ لكنه صمت عندما وجدها تقف أمامه وتتحدث برعب:
أنت كنت فين دا كله يا يعقوب؟ عمالة أرن عليك بقالي ساعتين وتليفونك مقفول، فكرت حصلك حاجة أو اتخطفت أو أي نيلة، كنت نازلة أقول لعمو بس...
قاطعها ضاحكًا وهو يُحيط بكتفها وأخذها صاعدًا للأعلى أثناء قوله المُمازح: بس بس إيه دا كله! تعالي بس نطلع شقتنا وأنا هفهمك كل حاجة.
طالعته بضجرٍ لابتسامته التي تشق وجهه في حين أنها قلقة عليه وبقوة، لترفع ذراعها وتنكزه في معدته بشدة آلمته وهي تقول بسخط: أنت بتضحك على إيه؟
تأوه بخفة ولم تُمحى ابتسامته بعد مما أغاظها أكثر، ولو تعلم بأن ضحكاته تلك بسبب قلقها عليه ستصمت للأبد، كان مُتعبًا، مُنهكًا، وما إن استشف خوفها؛ تبدد كل ذلك ليحل محله الإنتشاء والسعادة.
دلفا إلى المنزل فخلعت إلى حجابها رامية إياه على الأريكة، ثم استدارت له بعنف وتخصرت مكانها وهي تسأله كمُتهم تم القبض عليه: قولي بقى يا أستاذ كنت فين واتأخرت لحد دلوقتي ليه؟ وطالما هتتأخر متصلتش تطمن الزفتة اللي قاعدة مستنياك في البيت ليه؟ ولا هو.
قاطعها مُبديًا ضيقه من حديثها: متقوليش على نفسك زفتة.
صمتت عن الحديث مُفرغة فاهها بصدمة، ليُضيف مُبتسمًا بخفة: كمَّلي.
ومن بعد كلمته تلك، تحولت ابتسامته إلى فزع فور أن استمع إلى صرختها العالية: يعقوب أنت بتهزر؟
انكمش وجهه بسخطٍ وتخطاها سائرًا نحو المرحاض: بقولك إيه يا ذكرى اصبري أدخل آخد دُش وبعد كدا نتكلم براحتنا.
وبالفعل دلف إلى غرفته أولًا لينتقي ثيابًا نظيفة، ثم توجه إلى المرحاض ليأخذ حمامًا ساخنًا يُريح به عضلات جسده المُتيبسة بتعب، مرت الدقائق حتى انتهى وبعدها خرج، ليجدها قد جهزت له الطعام ووضعته على الطاولة رغم الوجوم والضيق المُرتسم جليًا على قسماتها، ابتسم بحنوٍ واقترب حتى توقف خلفها مباشرةً، ثم مال على وجنتها يلثمها برقة مُتبعًا فعلته بقوله المُعاتب:
علي فكرة أنتِ وحشتيني!
حاولت ألا تلين وتظل على موقفها رغم ضربات قلبها التي علت فجأة، ضيقها منه نابعًا من قلقها وخوفها الصاعد عليه، وليس لتصعيد المواضيع إلى شِجارات، كانت تُريد منه أن يُطمئنها فقط لا غير، والآن هو لا يترك طريقة حتى يحصل على مُصالحتها، نظرت إليه بطرف عينها وقالت بنفس النبرة المُعاتبة:
لو كنت وحشتك صحيح كنت رديت عليا ومسبتنيش الوقت دا كله وأنا هموت من الخوف عليك.
جلس على المقعد أمام الطاولة وأجلسها على المقعد المجاور، ثم أردف ووضح لها بهدوء: أولًا أنا المفروض كنت أرجع هنا على عشرة بالكتير أوي بس العربية عطلت مني وقعدت جنب الميكانيكي شوية لحد ما يصلحها، ولما الساعة جت 11 قالي إنها هتاخد شغل كتير عقبال ما تتصلح، عشان كدا اتصل بأي حد عشان ياخدني بس للأسف التليفون كان فصل شحن، وفوق دا كله ملقتش مواصلات عشان المنطقة اللي كنت فيها كانت مقطوعة حبتين، وزيدي بقى إني اتثبت وكانوا هيموتوني لولا رحمة ربنا عليا كان زمانهم بيكلموكوا من المستشفى عشان تيجوا تاخدوا جثتي، وقتها بقى كنتِ هتتأرملي قبل حتى ما أبوسك بوسة واحدة تفتكريني بيها.
حاول أن يُمازحها في نهاية حديثه، لكنها تركت كل هذا وسألته برعبٍ وهي تُطالعه بحدقتين مليئتين بالقلق: إيه! اتثبت! طيب عملوا فيك حاجة؟ حصلك إيه؟
رفع كفه أمام وجهها في محاولةٍ منه لطمئنتها، ثم تحدث براحة: متخافيش أنا كويس وزي الفل قدامك أهو.
ابتلعت ريقها وهي تُطالع كل إنشٍ به، فضرب كتفه بخاصتها وأردف بمشاكسة وهو يغمز لها: خوفتي عليا ها! قِري واعترفي.
ابتسمت بخفة ورفعت كفها تدفعه بعيدًا وهي تنفي بكذب: لأ مخوفتش.
ابتسم ضاحكًا وبعدها بدأ في تناول الطعام الذي أعدته مع حنان نظرًا لأنها لم تتعلم بعد، كان يُطعمها من الحين للآخر بضعة لُقيمات معه رغم اعتراضها، وبعد دقائق معدودة كانت تُدخِل الصحون الفارغة إلى المطبخ وهو اتجه نحو الغرفة وتحديدًا فِراشه ليتمدد عليه بتعبٍ وإنهاكٍ شديدين، لمحها تدخل الغرفة بعده وجلست بجانب جسده المُمدد، وقبل أن تتحدث بكلمةٍ واحدة؛ وجدته يُمسِك بكفها ويضعها على خصلاته لتبدأ في تدليك فروة رأسه بحنان.
ابتسمت ذكرى بخفة على فعلته، بينما هو رفع رأسه لها طالبًا: حِبيني.
وتلك المرة لم تجد ردًا سوى أنها ابتسمت بألم وتقول: ياريتني أعرف محبكش يا يعقوب، ياريتني.
لم ينتبه إليها، فكان التعب والإنهاك قد بلغ منتهاه منه وذهب في ثُباتٍ عميق، تاركًا إياها تنظر لتقاسيم وجهه بتمعن، أخفضت وجهها على جبينه ثم قبلته بحبٍ قبل أن تهمس مرة أخرى لكن بوجعٍ أشد: ياريتني.
انتهى الليل وحلَّ النور بدلًا من حلكته المُصيبة بالتشاؤم، ومع بزوغ الشمس كانت قدمي عُمير تطأ خارج السجن بعد أن قضى عشرة أيام كاملة داخله، عيناه تُطالع الحارة التي حُرِمَ من رؤيتها لعدة أيام بتمعن، ومُنِعَ من مواظبة عمله بها بسبب يعقوب اللعين، كانت الأقدام التي تسير بها قليلة للغاية نظرًا لأن الساعة لم تتخطى السادسة حتى الآن، وبالرغم من حالة الصفاء التي من المُفترض أن تعم قلوب الجميع في الصباح، إلا أن قلبه كان مُمتليء بالسواد، السواد وفقط!
سار عدة خطواتٍ للأمام حتى وصل إلى المقهى التي تتوسط المنطقة، جلس على كُرسيها وعيناه تُطالعان منزل يعقوب المبني أمام ناظريه بكل غِل، وكأن حقد العالم كُله قد تمثل داخل حد حدقتيه في تلك اللحظة تحديدًا، أقسم على الدمار، يعقوب الذي لا ينفك في مُلاحقته وإثبات أنه الأفضل دائمًا سيجعله يتذوق من العذاب ألوانًا، وغدًا سيرى.
أتى إليه صبي القهوة المدعو ب ريشة يُرحب به بتهليل: أهلًا أهلًا يا معلم عمير، نورت المنطقة من جديد.
رفع عمير أنظاره يُطالعه بهدوء، لكن ثوانٍ ما احتدت حينما أكمل ريشة حديثه قائلًا: كفارة يا معلم.
دفعه عمير بعيدًا وردد بضجر ممزوج بالغضب الشديد: غور من وشي يالا.
وأمام موجة غضبه رحل من أمامه بالفعل، ليزفر هو بضيق وشعور الإختناق لا يتركه أبدًا، وما زاد الطين بلة هو رؤيته ل عمران يسير من أمامه، والذي توقف فور رؤيته جالسًا وتحدث باندهاش مُغلف بالشماتة وهو يتجه ناحيته: الله! عمير! مش تقول يا جدع إنك خرجت من السجن! على الأقل كُنا فرشنا الأرض شوك من فرحتنا بيك يا راجل والله.
امتلأ صدر عُمير بالحقد عقب استماعه لحديثه الشامت، وبالرغم من ذلك تصنع البرود وهو يرسم على ثغره ابتسامة صفراء وحديث يُبطنه التهديد: لأ مفيش داعي، خَلي الشوك دا ليك ولإخواتك، هتشربوه مع المُر اللي هدوقه ليكوا قُريب.
تقدم عمران منه خطوتين حتى باتت المسافة بينهما مُنعدمة تقريبًا، ثم انحني لجسده له ليُصبح وجهه في مواجهة خاصته وتمتم مُشمئزًا: المُر دا اللي أبوك هيشربه عليك يوم ما تفكر تمس شعرة من عيلة هارون رضوان يا روح أمك.
تبادلا النظرات الحارقة، فاستكمل عمران جُملته مُنهيًا إياها: يا أقذر مَن أنجبت البشرية.
قالها ثم اعتدل واقفًا بشموخٍ يليق به واستدار تاركًا إياه بعد أن سدد له نظرة مُتهكمة، والآخر يُطالعه بشر وفؤادٍ يُقسم على الدمار والإنتقام من تلك العائلة بأكملها.
حينما تسقط في دوامة من الخطايا، ستظل تُجازف وتُقاوم في محاولةٍ منك للنجاةِ والإفلات من قدرٍ مجهول، وعدم معرفتك له تُزيد من هيبتك وخوفك من المستقبل.
انتفضت تالين من على فراشها بفزع عندما شعرت بباب غُرفتها يُفتَح على مصرعيه بعنف، هدأت ضربات قلبها حينما أبصرت حازم يقف أمامها بعينين ينطلقان منهما الشرر والبغض، وفي أقل من ثانية كان واقفًا أمامها ويُمسك بها من ذراعها بقوة أثناء صراخه عليها: أنتِ قولتي لأخويا فادي عن اللي حصل بيننا!
ورغم خوفها الداخلي، أظهرت الثبات وهي ترد عليه بكل قوتها مُتجاهلة الألم الذي عصف بذراعها نتيجة إمساكه لها: أيوا قولتله، ما هو أنا مش هشيل المصيبة دي لوحدي وسيادتك عايش حياتك ولا همَّك، من حقي أنا كمان أعيش حياتي بالطريقة اللي أنا عايزاها، وطالما غلطنا سوا يبقى نتحمل نتيجة أفعالنا برضه سوا.
لم يتحمل هُرائها هذا، وإنما صاح بها باهتياجٍ غير مبالٍ لاستماع أحدٍ إليهم: كل اللي حصل بينا كان برضاكِ وبمزاجك، مغصبتكيش على حاجة ولا روحت قولتلك احملي مني في الحرام عشان تلبسيني الليلة كلها.
ردت عليه بتحدٍ وقوة مُماثلة: أهو الحرام دا جِه من وراه طفل، طفل بيتكون جوايا دلوقتي ومُضطر إنك تقبله، سواء بمزاجك أو غصب عنك.
وبتصميمٍ وتحدٍ كبير بان في نبرته تفوه قائلًا: يبقى اللي في بطنك دا لازم ينزل وفي أسرع وقت.
أجابته مصدومة: قولتلك إنه مينفعش، فيه خطر على حياتي وممكن أموت لو.
قاطعها بقسوة وهو يتحدث بإصرار: ميخصنيش، اللي في بطنك دا ينزل في أقرب وقت، يا إما هنزله أنا بمعرفتي.
كانا يتحدثان وقد غفلا عن الخادمة التي استيقظت بعد سماعها لصوت الشِجار العالي، وحينما تتبعت الصوت وجدت ذاتها تقف هُنا، والآن تضرب بكف يدها على صدرها لاطمة وهي تهمس بصدمة وعدم تصديق: يا نهار مش معدي النهاردة؟ خيري بيه لو عِرف هيقلب ال يلا على اللي فيها.
ارتعش جسد الخادمة حينما أبصرت ظل حازم يتوجه نحو الباب، فأسرعت تختبيء خلف الحائط حتى يبتعد عن المكان تمامًا، وفور ذهابه، نظرت لأثره مُتمتمة لذاتها بصدمة: خيري بيه لازم يعرف في أسرع وقت.
تململ يعقوب في نومته بأرق، لكنه شعر بشيءٍ غريب يقبع أسفل رأسه، فتح عيناه بكسل واعتدل بتروٍ لرؤية ماهيته، ليُدهش بأنه ظل نائمًا على قدم ذكرى طيلة الليل وهي لم تود إزعاجه، لذلك اختارت أن تنام أثناء جلوسها واستندت بظهرها للخلف، نظر إليها بإشفاق وهو يرى نومتها التي أتعبتها بالتأكيد، لذلك اعتدل مُسرعًا ثم مال عليها قليلًا ليفرد قدميها، ومدد جسدها كاملًا على الفراش لتستريح قليلًا.
انكمش وجهها بانزعاج وعادت لتنام على جانبها وبكلتا يديها قامت بإحاطة خصره بهما، ابتسم بخفة على فعلتها ويبدو بأنها ظنته وسادة أو ما شابه، قرر عدم إزعاجها والثبات هكذا، فمال يستند بوجهه على كفه وذراعه يحمل كليهما، وقضى وقته في التطلع والنظر إليها فقط.
رفع أصابعه يُبعثر خصلات شعرها المُرتبة بعناية وعلى ثُغره ترتسم ابتسامة مُشاكسة، لو كانت مُستيقظة لأبدت ضيقها وضجرها من فعلته كما تفعل دائمًا، يُحِب خصلاتها مُشعثة، تجعلها تبدو كالأطفال في بداية أعمارهم، خاصةً وأن معالم وجهها صغيرة للغاية، مال على جبينها يلثمه برقة، تؤسره حتى وهي نائمة! ليهمس لذاته بحسرة لقد أحببتها وانتهي الأمر يعقوب.
وأثناء شروده بها، وجدها تفتح عيناها بكسل وانزعاج، مما جعله يهتف بمشاكسة وهو يقرص وجنتها: أحلى واحدة منعكشة تصحى من النوم.
وتلقائيًا رفعت يدها على خصلاتها تتحسسها فوجدتها بالفعل مُبعثرة، لتعتدل في مكانها بسرعة وهي تردف بجزع يشوبه الحرج: والله أنا كنت مسرحة قبل ما أنام.
تصنع الجدية وهو ينظر لها بأسف: مش عارف بصراحة، دا أنا حتى صحيت من النوم واتخضيت لما لقيتك كدا.
بجد؟
تسائلت بحزن، فعاد ليؤكد لها حديثه مومئًا برأسه، وبعدها أضاف قائلًا: ابقي سرحيه كويس، مش كل يوم هصحى مخضوض كدا، راعي إني راجل في مُنتهى الحساسية.
تشنج وجهها عقب حديثه أثناء مُطالعتها له باستنكار، فيما تصنع هو البراءة وهو يقف من مضجعه ويتجه نحو الخارج: أنا هدخل آخد دُش قبل ما أنزل الشغل بقى، أصلي راجل نضيف وبحب النضافة والنظام.
كتم ضحكته بصعوبة وكان على ثقة بأن نظراتها الآن تحرقه لا محالة، ويقينه هذا لم يكذب، فقد تابعت أثره بغضب وبعدها هبت من مكانها واتجهت بسرعة نحو المرآة لتنظر إلى مظهرها، تجعد جبينها بقرف وهمست لذاتها وهي تُطالع هيئتها: طب والله معاه حق، حد يصطبح بالخلقة دي ويقول غير كدا!
لكنها ثوانٍ ما رسمت على وجهها ابتسامة واسعة وهي تقترب من المرآة وتُقبِّل إنعكاس صورتها قائلة برضا: بس ولا يهمك يا بت يا ذكرى، أنتِ قمر وهتفضلي طول عمرك قمر.
انتفضت من مكانها بفزع عندما استمعت إلى صوته يأتي من خلفها ويقول بمشاكسة: لأ. أنت حلو وهتفضل طول عمرك حِلو يا حِلو.
طالعته بدهشة وأشارت جهة الخارج مُرددة بخضة: هو أنت مش دخلت الحمام؟ إيه اللي خرجك؟
أجابها ببساطة وهو يتجه نحو الخزانة: نسيت هدومي، ويا بختي إني نسيتها.
أتبع جُملته بغمزة من عينيه المُشاكستين، وتلك المرة تسبب في إخجالها بالفعل، استدارت مُتصنعة تجاهله وبدأت في تصفيف خصلاتها بدلًا من النظر إليه وإرباكها بحديثه الوقح، لكنها فوجئت به خلفها وعلى حين غُرة مال على وجنتها يُقبلها بحب وتابع قائلًا: قولتي لنفسك صباح الخير بطريقتك، وأنا دلوقتي بقولهالك بنفس الطريقة، بس طريقة مُحترمة حبتين.
كتمت أنفاسها داخل رئتيها وجحظت عيناها بصدمة، ومثلما جاء فجأة، ذهب فجأةً أيضًا ورحل، راسمًا على ثُغره ابتسامة صغيرة كادت أن تُهلِك فؤادها المسكين، تنفست بعنفٍ عقب ذهابه، وبعدها همست: دا باسني! أنا لازم أتطلق.
خسارتك لحياتك أفضل مِن اتحاد الأقرب إليك مع عدوك اللدود.
توقف رؤوف أمام فادي في مكانٍ خالٍ والهواء يضرب بأجسادهم من كل مكانٍ، وبرغم حرارة الأجواء، إلا أن الطبيعة قررت أن تُعلن عصيانها وتتحد الحرارة مع الهواء في مشهد عاصف، ضيَّق رؤوف عينه وتسائل للواقف أمامه:
خير يا فادي طلبت تقابلني ليه!
أتاه الرد من فادي الذي وقف أمام بهيبة واضعًا كفيه داخل جيب بنطاله الأسود، ولسانه ينطق بثقة: عندي استعداد أرجعلك فلوسك وشركاتك اللي أبويا خَدها منك وعليهم زيادة كمان.
تأهبت حواس رؤوف وانتبهت له كل ذرة بجسده وهو يتسائل بلهفة: إزاي؟
أتجوز ذكرى.
انكمش وجه رؤوف باستنكار وهو يُجيبه ساخطًا: بس ذكرى متجوزة.
وببساطة شديدة رد عليه الآخر وهو يهز كتفيه بلامبالاة: يبقى تطلق.
الحديث لم يُعجِب رؤوف ولو بنسبة واحد بالمئة، لذلك صاح به بحدة وهو يُشيح بيده أمام وجهه: أنت اتجننت يا فادي؟ ذكرى مين دي اللي تطلق؟ وبعدين دي مكملتش شهر متجوزة.
ظهرت السخرية جليَّة على تقاسيم وجه فادي الذي رد مُتهكمًا: ومن إمتى الحمقة دي على ولادك يا عمي؟
لم يُجبه رؤوف وظل يُطالعه بنفس نظراته الغاضبة مُنتظرًا ما سيقول، وبالفعل أكمل فادي بقية الحديث بقوله الخبيث: لو يعقوب عِرف الحقيقة المستخبية أعتقد مش هيخليها على ذِمته ثانية واحدة.
أجابه رؤوف بتهكم: وأنت إيه اللي ضمَّنك إن ذكرى تكون مقالتلوش! مش يمكن حكتله وأنت اللي مُغفل؟
تجاهل فادي الإهانة الأخيرة وهز رأسه بالنفي وهو يقول بشرود: لأ محكتلوش، مفيش راجل هيرضى على نفسه إنه يكون استبن ويفضل ساكت.
فكَّر رؤوف قليلًا في حديثه ووجد أن معه حق، والآن هو بين نارين لا ثالث لهما، إما أن يُحافظ على سر ابنته وشرفها ويخسر أمواله وثروته، وإما أن يقوم بفضحها أمام زوجها لإعادة أمواله إليه من جديد، وذلك السر لا يعلمه سوى هو وأخيه و فادي وذكرى فقط.
رفع رؤوف أنظاره نحو وتحدث بجدية: يعني أنت عايز إيه دلوقتي.
يعقوب يطلق ذكرى.
قالها وانتظر قليلًا علَّه يستشف ردة فعله، وبعدها أكمل بخبث: وفي المقابل فلوسك وشركاتك هترجعلك من تاني واسم رؤوف الجداوي هيفضل موجود في السوق.
زاغت نظرات رؤوف وتنفس بعنف وهو يُجيبه بتنهيدة ثقيلة: سيبني يومين أفكر وبعدها هرد عليك.
ولم يعطي له فرصة أخرى ورحل من أمامه على الفور، تاركًا نظرات فادي الماكرة تتبعه إلا أن ذهب.
طرقاتٌ خفيفة على باب المنزل انتهت بفتح مي له، والتي قطبت جبينها فور أن رأت أحد الرجال التي رأتهم من قبل لكنها لا تتذكر اسمه، لذلك تسائلت بهدوء: أيوا؟
حمحم مصعب بهدوء وتسائل بجدية: روان موجودة؟
أومأت له مُبتسمة بهدوء ثم قالت بود: أيوا موجودة، ثواني أناديها وهاجي.
هز رأسه بالإيجاب ودخلت هي لمُناداة روان التي أتت بعد ثوانٍ حاملة طبق من السلطة وهي تقول بابتسامة واسعة: أهلًا يا مصعب باشا اتفضل.
نظر لمظهرها بجزع وهو يهتف باستنكار: إيه يا بنتي اللي أنتِ عاملاه في نفسك دا؟ ليه دافنة نفسك بالحيا كدا؟
كان معه كل الحق، وذلك حينما وجدها ترتدي خِمارًا طويلًا أحمر به فصوص لامعة ويصل إلى بعد ركبتيها، ومن أسفله ترتدي بيچامتها خضراء اللون، وعلى وجهها تضع نظارتها الطبية الكبيرة وفمها مُمتليء بالطعام، مما أعطى لها مظهرًا مُضحكًا ومُخيفًا في ذاتِ الوقت.
ابتلعت ما في حلقها ونظرت لمظهرها بجهل وهي تسأله: ماله شكلي؟
حكَّ مُقدمة أنفه بحيرة ولا يعلم بما يُجيبها، أيكون وقحًا ويُخبرها بأن مظهرها بشع ومُخيف! أم يكون صريحًا ويُخبرها بأن مظهرها بشع ومُخيف أيضًا! أم مُجاملًا ويُخبرها بأنها تُشبه الدجاجة؟ لا يعلم فجميع الإختيارات من الممكن أن تُصيبها بالشلل.
لذلك قرر تجاهل سؤالها والانتقال إلى شيءٍ آخر بقوله: سيبي بس طبق السلطة اللي في إيدك دا وتعالي دقيقتين نتكلم، أنا مش واقف مع فرخة.
طالعته بقرف قبل أن تدلف للداخل لوضع ما بيدها، مما جعله يرفع حاجبيه بذهولٍ حيال نظرتها تلك، مَن مِن المُفترض أن ينظر للآخر باشمئزاز بحق الله؟ وجدها تأتي بعد دقيقتين بعد أن بدلت ثيابها وارتدت إسدالًا كريمي اللون به نقوش سوداء صغيرة، طالعها برضا قبل أن يخرج ويجلسا على درج المنزل من الداخل وتحدث لِمَ أتى من أجله:.
دلوقتي الرصاص اللي اتضرب عليكِ أنتِ و تسنيم مكانوش يقصدوكِ بيه، هما قصدوا بيه تسنيم بس وأنتِ للأسف اتصابتي معاها بالغلط.
أومأت له بانتباه مُنتظرة ما سيقول، فيما أكمل هو الحديث قائلًا: يعني أنتِ دلوقتي مفيش عليكِ أي خطر وتقدري دلوقتي تراجعي تباشري حياتك من جديد عادي.
رفرفت بأهدابها عدة مراتٍ وعادت لتتسائل بجزع: طيب وتجار الأسلحة اللي أنا هربانة منهم؟
أجابها ضاحكًا وهو يهز رأسه بيأس: تُجار أسلحة إيه؟ أنا راجعت الكاميرات طول خط سيرك لحد هنا في اليوم اللي جيتي فيه، للي كانوا بيجروا وراكِ دول كانوا في سباق مش عايزينك أنتِ بعينك.
قول أقسم بالله!
قالتها باندهاش، فضحك هو عاليًا وهو ومن ثَم قال من بين ضحكاته: أقسم بالله.
شاركته الضحك وعادت الراحة والطمأنينة تسري داخلها من جديد، شعرت بأنها كانت سجينة في قفص ضئيل وها هي نالت حُريتها للتو، لكن عاد الوجوم يُسطِّر محياها وهي تتسائل بحزن: يعني همشي من هنا؟
ظهر الأسف على وجهه وهو يوميء لها بالإيجاب، لكنه عاد ليقول بمزاح: بس متقلقيش هترجعي تاني.
قطبت جبينها بتعجب وهي تسأله: دا إزاي دا؟
رد عليها بكلماتٍ ذات مغزى: هترجعي وأنتِ صاحبة مكان مش مجرد ضيفة.
ظهر الحماس جليًا على تقاسيمها، وشقت الابتسامة وجهها وهي تسأله بفرحة: هتشتريلي البيت دا؟
انمحت ابتسامة بالتدريج، وانطفئ بريق عيناه الذي اشتعل ما إن رأى سعادتها وأجابها بتشنح: يخربيت غبائك، يا شيخة دا بركة إنك هتتكلي من هنا.
تمتم بعبارته ثم هب من مكانه مُنتفضًا وغادرها ورحل، تاركًا إياها تنظر لأثره باستغراب وهي تسأل ذاتها بتعجب: هو ماله؟ دا مجنون دا ولا إيه!
تجمَّع جميع الأبناء على طاولة الطعام ويترأسهم أبيهم، وتلك المرة قرر يعقوب الإنضمام لهم ومعه ذكرى التي كان الإحراج يتخللها قليلًا، نظرت إليها حنان وتحدثت بفرحة وهي تُربت على ظهرها: منورانا يا حبيبتي والله، دا ياريت تنزلي تقعدي معايا طول اليوم بدل ما أنا قاعدة لوحدي كدا.
طالعتها ذكرى بحرج وهي تُجيبها: والله يا طنط بكون عايزة أنزل أقعد معاكِ بس بصراحة بكون مكسوفة، يعني عشان لسه متعودتش على الجو هنا يعني.
وتلك المرة جائها الرد من هارون الذي أردف بود: تتكسفي من إيه يا بنتي؟ إحنا هنا كلنا أهلك وإخوات جوزك هما إخواتك، وأنا و حنان زي والدك ووالدتك، يعني كل اللي تحتاجيه واللي أنتِ عايزاه اطلبيه مننا ومتتكسفيش.
طالعته بامتنان وهي توميء له بالإيجاب، فتدخل بدير قائلًا بابتسامة واسعة: وبعدين أنتِ مش هتفضلي لوحدك هنا كتير، كلها أيام ومراتي هتيجي تونسك هنا.
تشنج وجه الجميع باستنكار، بينما ذكرى تسائلت بتعجب: أنت خاطب؟
رد نافيًا: لأ مخطوب.
رده جعلها تصمت لثوانٍ وتُطالعه بجهل، بينما يعقوب تحدث وهو ينظر لأخيه باستنكار: سيبك منه ومتركزيش معاه، هو أوقات بيهيس كدا، وساعات هتلاقيه بيطير على الحيطان متدققيش معاه برضه.
ضحكت حنان عاليًا التي ضربت يعقوب على ذراعه وتمتمت قائلة: بس يا واد متضايقش أخوك وسيبه في حاله.
ثم استدارت نحو بدير الذي كان يُطالع جميع الضاحكين باستنكار، ووضعت أمامه الطعام وهي تقول: كُل يا حبيب أمك وغذي نفسك كويس، حاساك اليومين دول هفتان ومبتاكلش زي الأول.
وضع بدير يده موضع فؤاده وتحدث بدرامية مُقرفة: قلبي مجروح ياما ومش لاقي اللي يداويه.
وقبل أن تُجيبه حنان، أتته الإجابة من هارون الذي تحدث بنبرة صارمة: طيب كُل يا حبيب أمك بدل ما أقوم أداويلك قلبك بطريقتي أنا.
ابتلع بدير ما في جوفه بصمتٍ، وفضَّل السكوت ريبةً وخوفًا من نظرات أبيه المُحذرة إليه، ومرت الدقائق والجميع يتناول الطعام بصمتٍ حتى انتهوا أخيرًا منه، أخذت حنان زوجة ابنها وأدخلوا الطعام إلى المطبخ وظلوا به حتى ينتهوا من إعداد أقداح الشاي للجميع، بينما هارون وأولاده جلسوا بصالون المنزل مُتجمعين سويًا ويتبادلون الأحاديث مع بعضهم البعض، حتى قرر هارون نشر الصمت بتوجيه سؤاله إلى عمران:.
قولي بقى يا عمران العريس اللي كان جاي ل جنة بنت رؤوف راح فين؟
كان الوحيد الذي يعلم ما فعله تفصيليًا وساعده به هو حمزة الذي طالعه بريبة، استنجد به عمران بنظراته، فتصنع حمزة العبث بهاتفه، مما جعل الآخير يجز على أسنانه بغيظ من نذالته معه.
طال صمت عمران فعاد هارون ليتسائل: ها يا عمران مستني إجابتك.
وبخفوتٍ شديد وريبة رد عليه عمران
ثبتُه.
ث إيه؟
بَتُه.
أكمل جُملة أبيه بريبة، وفي الثانية التي تلتها كانت عصا أبيه تتوجه نحو وجهه، ولولا إنحنائه قليلًا لكانت اصتدمت به، نظر عمران لأبيه بصدمة فيما هب هارون من مكانه وصرخ به: وبتأكدهالي كمان؟ عاملي فيها بلطجي وماسك مطوة ورايح تثبتلي الواد؟ دي أخرتها يا عاقل يا كبير.
طالع بادر أخيه بقرف وهو يهمس بعتاب: خسئت.
بينما عمران برر لأبيه مُسرعًا ونفى بقوله: لأ والله يابا مش مطوة حقيقية، دي مطوة هالو كيتي بتاعة بدير أخويا.
حوَّل بادر أنظاره جهة بدير وهمس بنفس الطريقة: خَسئت.
فيما نظر هارون لابنه بدير الذي يكاد أن يختبيء خلف يعقوب وصاح به غاضبًا: أنت ماسكلي مطوة يا صايع يا بلطجي؟
نفى بدير وهو يقف خلف أخيه: واللهِ يا حج كان عليها عرض لُقطة استخسرت مجيبهاش، وبعدين أنا كنت مخبيها في دولابي تحت هدومي هو اللي مترباش وسرقها.
وإلى هُنا لم يتحمل هارون، وإنما صاح بهم بصراخ: هو من ناحية مترباش فهو فعلًا مترباش ولا حد فيكم اتربى يا شوية أوباش.
وللمرة الثالثة ينظر بادر لأخواته جميعًا باشمئزاز وهتف: خسئتم.
فلم يجد تلك المرة سوى كف أبيه يرتطم بظهره ويُصيح به غاضبًا: اخرس بقى أنت كمان جتكم القرف.
طالع بادر أبيه بضجر وعاد هارون ينظر ل عمران وبدير وصاح بحدة: قسمًا بالله العظيم لو عرفت إن القرف دا دخل البيت تاني ما انتوا بايتين فيها، أنا مش مربي بلطجية ولا عيال شوارعية عشان تمشولي بمطوة.
اعترض بدير قائلًا: دي هالو كيتي يا حج!
وبالداخل، كانت ذكرى تستمع إلى صوت الشجار والصراخ بقلق وعادت لتتسائل للمرة العاشرة: يا طنط متأكدة إنهم مش بيتخانقوا؟
هزت حنان رأسها بالنفي وأجابتها بنفس الإجابة: لأ متخافيش مش بيتخانقوا، وبعدين لازم تتعودي على كدا، يعني قبل ما يناموا هتلاقيهم بيتكلموا بهدوء وبعد ما يصحوا هتلاقيهم بيتكلموا بنفس الهدوء.
تسائلت ذكرى بتشنج: هما كدا بيتكلموا بهدوء؟
أومأت لها حنان ضاحكة وأضافت أثناء حملها لصينية الشاي: دا كدا في قمة الهدوء، ربنا ما يوريكِ خناقتهم عشان وقتها هتخافي تعتبي هنا تاني.
خرجا كلاهما إليهم فوجدوا السكون يعمهم وكأنهم لم يتشجاروا معًا منذ عدة ثوانٍ فقط مما أصابها بالذهول، مما جعل حنان تضحك على ردة فعلها واتجهت لوضع أكواب الشاي أمامهم على الطاولة، بينما ذكرى اتجهت للجلوس بجانب يعقوب وسألته هامسة: كنتوا بتتخانقوا ليه؟
حدجها بجبين مُقطب قائلًا باستغراب: اتخانقنا إمتى دا؟
طالعته ببلاهة فيما قال هو بتذكر: قصدك اللي حصل من شوية دا؟
أومأت له ليُجيبها ببساطة: لأ دا عادي، إحنا كدا بنقول صباح الخير بس بطريقتنا.
ضحكت بخفة وهي تهز رأسها بيأس، وبعدها انتبهت إلى حديث هارون الذي وجهه إليها بجدية: هتفتحي المحل بتاعك تاني إمتى يا ذكرى؟
ردت عليه بحيرة: والله يا عمو مش عارفة، المحل مقفول بقاله كتير من ساعة اللي حصل وأكيد كل الحاجة اللي فيه باظت.
سقى يعقوب إصبع البقسماط في الشاي وقضم قطعة منه ومن ثَم أجابه: أنا بِعت كل حاجة أول ما اتقفل على طول قبل ما تبوظ، وفلوسهم معايا نبقى نشتري بيهم بضاعة جديدة.
طالعته بذهول وشقت الابتسامة وجهها وهي تسأله بعدم تصديق: بجد عملت كدا؟
أومأ لها مُبتسمًا وأضاف: أيوا عملت كدا، أنا عرفت من إلياس إن المحل دا حلم من أحلامك وأكيد أنا مش هضيعهولك، ومن بكرة هبدأ أجيبلك فيه بضاعة جديدة زي اللي أنتِ كنتِ جايباها بالظبط عشان ترجعي تقفي فيه من تاني.
طالعته بامتنان وودت لو احتضنته الآن في تلك اللحظة لتشكره على كل ما يفعله لأجلها، لكنها اكتفت بتسديد ابتسامة واسعة إليه كفيلة ب رَي ظمأ فؤاده المُتعطش لها.
ربتت حنان على ظهر ابنها بودٍ وتمتمت قائلة: ربنا يهدي سركم يابني يارب.
انقضت نصف ساعة أخرى وبعدها انطلق الجميع إلى عمله، يعقوب وعمران وبدير اتجهوا إلى المحلات، و حمزة انطلق إلى الإدارة، و بدران اتجه إلى المشفى، و بادر انطلق ذاهبًا إلى سارة ليأخذها ويذهبا إلى القِسم لإنهاء الإجراءات بعد أن أخبر أبيه بكل شيء، بينما مصعب اتجه إلى غرفته ليرتاح بها قليلًا بعد أن اشتد ألم رأسه، و ذكرى بقيَت مع حنان لتُساعدها في أعمال المنزل.
استندت جنة ببطئٍ على ذراع إلياس بعد أن اشتد الألم بقدمها مُجددًا، ولم تغفل عن معالم الوجوم المُرتسمة على وجهه، كانوا حينها في مدخل المنزل وَسط المزروعات التي قامت بحصدها هي و رضوى مؤخرًا، فتوقفت مما أرغمه على الوقوف كذلك وتحدثت برجاء:
خلاص بقى يا إلياس متزعلش مني عشان خاطري.
ازدادت تقطيبة جبينه وطالعها بضيق وهو يُخرِج ما في جبعته: هو إيه اللي مزعلش يا جنة؟ عايزاني أعمل إيه وأنا شايفك عمالة تأخري وقت علاجك وحالتك كل يوم بتسوء عن اليوم اللي قبله!
يا إلياس أنت ليه مش عايز تفهمني، أنا خايفة والخوف كل يوم بيزيد جوايا ومحدش حاسس بيا، خوفي من إني هحاول وهحارب في حاجة مش مضمونة مخلياني مترددة مليون مرة، بس أنا خايفة.
كانت تتحدث بدموعٍ تجمعت رغمًا عنها داخل مقلتيها السوداويتين، طالعها إلياس بحزنٍ واقترب منها يُعانقها بحنان، ثم أخفض رأسه لها يلثم مُقدمة رأسها بحنوٍ شديد وهو يقول:
خلاص حقك عليا متزعليش، أنا والله العظيم خايف عليكِ وعايزك تخفي النهاردة قبل بكرة، وواثق من ربنا وعارف إنه مش هيرد دُعايا أبدًا وهيشفيكِ، بس عايزك تستحملي، كل اللي عايزه منك إنك تستحملي شوية بس.
وما كادت أن تُجيبه، حتى استمعا كلاهما إلى صوت شهقة تأتي من جانبهما، وصوت عمران يصعد غاضبًا وهو ينظر إليهما: إيه المهزلة وقلة الأدب دي! ابعد عنها يا أستاذ. ابعد عنها يا هندسة. ابعد عنها يا عين أمك.
انتفضا كُلًا من إلياس وجنة فور أن استمعا لصوته، وكأنهم فعلوا شيء مشين حقًا! لكن ثوانٍ ما استعابوا الوضع الذي به وتشنج وجه إلياس بسخط وتسائل بوقاحة غيرةٍ على شقيقته: إيه اللي جابك!
رفع عمران ياقة ثيابه وأجابه أثناء نظره ل جنة: جاي لخطيبتي حاليًا ومراتي مُستقبلًا.
خجلت جنة وأخفضت رأسها للأسفل، فيما همست لذاتها بشغف: عسل وعايز تتباس يا عم والله.
بينما إلياس رد عليه بضجر وهو يقف أمامه ليمنع نظره لشقيقته: وطليقتك في الفيوتشر كونتينوس إن شاء الله يا حبيبي.
قطب عمران جبينه بتعجب وسأله بجدية: إيه الفتشر كونتس دا؟
طالعه إلياس بصمت لعدة ثوانٍ وكأنه يستشف الذي أمامه، ثم أجابه بترفع: ملكش دعوة.
طالعه عمران بحنق، وعلى بغتة قام بدفعه على الجانب لتسنح له الفرصة لرؤية جنة التي اتسعت ابتسامتها فجأة وهي تستمع لقوله: السلام عليكم يا عسل.
ضحكت بخفة فوضع كفه موضع فؤاده وتحدث هائمًا: براحة على قلبي مش كدا!
ومن بعدها استمع إلى صوت صرخة إلياس الحانق وتهديده الصريح له: ولا يا عمران أقسم بالله لو ما بعدت دلوقتي لهقول لأبوك الحج هارون وهو يتصرف معاك.
تحولت معالم وجه الآخر إلى الضيق وأردف ساخطًا: جرا إيه يا إلياس ما تتظبط بدل ما أظبطك، وبعدين أنا كنت جاي أشوفها دقيقتين وهرجع على شغلي تاني.
ربَّع إلياس ذراعيه أمام صدره وهو يرفع حاجبيه له وكأنه يقول له حقًا؟ ، يبدو بأنه لم يقتنع بحجته الواهية التي أتى لأجلها، لذلك زفر بضيق قبل أن يُتمتم بحنق: هغور.
ومتجيش هنا تاني.
هكذا كان رد إلياس، فسدد له عمران ابتسامة صفراء قبل أن يقول بنبرة ساخرة: اسرح.
وبعدها ذهب بالفعل، ولم يستفيق إلياس إلا على ضربة جنة التي سددتها له في صدره وهي تُصيح به بحنق: خليته يمشي ليه يا إلياس؟ روح يا شيخ منك لله.
تفوهت بحديثها ثم اتجهت نحو الداخل بخطواتٍ وئيدة وهي تُتمتم بحنق وسخطٍ شديدين، جاعلة إلياس ينظر لأثرها بصدمة أثناء همسه المذهول: يا بنت الغدارة!
انتهى اليوم سريعًا وأتت لحظة عودة يعقوب إلى المنزل بعد يومٍ شاق قضاه في العمل، دلف إلى المنزل لتتسلل رائحة المخبوزات إلى أنفه دون استئذان، سار خلف الرائحة كالمُغيب حتى وصل إلى المطبخ، فوجد ذكرى تقف أمام الطاولة العريضة الرخامية الموضوعة في الوَسط تصنع بعض المخبوزات التي تتقنها وببراعة كما اعتادت سابقًا، وبجانبها جهاز التسجيل الخاص ب يعقوب يصدح بأغنية قديمة تتغنى معها بكل شجن وهو يقف مُستندًا بكتفه على باب المطبخ يُراقبها دون ملل:.
حنين، حنين، حنين، أنا دايبة فيك حنين، والغربة توهتني. لكن ما غربتني. عنك طول السنين.
شايلاك في نن عيني يا عيني. واللي بينك وبيني أشواق كل الأحِبّة. وحنين المحرومين يا عيني. وحنين المحرومين. آه يانا م الحنين.
استدارت بخضة عندما استمعت إليه يُكمل على بغتة:
لو حد بينسى روحه، أنا كنت نسيت هواك. يا زماني والأماني، آه ياللي مَلكش تاني، ويا حُبي الأولاني.
ابتسمت حينما لاحظت اقترابه منها وعيناه لا تُفارق عيناها، وأكملا معًا:
شايلاك في نن عيني يا عيني،
واللي بينك و بيني أشواق كل الأحِبّة،
وحنين المحرومين يا عيني،
وحنين المحرومين. آه يانا م الحنين.
انتهيا بينما هو غمزها بمشاكسة وهو ينظر لما فعلت: إيه يا زوزو الحلاوة والروقان دا كله؟ دا أنا أمي داعيالي النهاردة بقى!
ضحكت ذكرى بخفة والتقطت قطعة من المخبوزات التي انتهت من تحضيرها وقدمتها له وهي تقول: أنت على طول مفرحني يا يعقوب ودي أقل حاجة ممكن أعملهالك.
التقط منها ما صنعت وتذوقها بينما هي راقبت معالمه وانتظرت رأيه على أحر من الجمر، لكن ردة فعله عكست ما سيقوله، وذلك حينما أصدر صوتًا مُتلذذًا وهو يُغمض عيناه، وبعدها فتحهما وهو يقول بصدق يشوبه الذهول: إيه يا بنتي الحلاوة والجمال دا! لأ بجد بجد حقك إنك تفتحي المحل بتاعك من أول وجديد.
تسائلت بسعادة: بجد يعني حلو؟
أكد بقوة: حلو بس؟ يعني بصراحة أنا مش متخيل الجمال دا مع ريحة الورد وصوت العصافير والأغاني القديمة هيكون عامل إزاي! أنا بفكر جديًا أحوَّل المحل بتاعك لكافيه ونكبره عشان يكون أوسع، موهبتك كبيرة وتستاهلي إنك تتعرفي أكتر عشان أنتِ مُميزة.
ممكن أعمل حاجة؟
تسائلت بها بجدية وهي تُطالعه بتأثر، فأومأ له باستغراب، ليجدها في الثانية التي تلتها قد اقتربت منه وعانقته بكل قوتها، وكأنها تبثه شكرها وامتنانها في ذلك العناق الدافيء التي ودت الحصول عليه.
ظل مُتصنمًا على حالته لعدة ثواني، قبل أن يستوعب ما يحدث وبادلها العناق لكن بقوة أشد كما لو كان يُريد أن يُدخلها بين أضلعه، تنفست براحة في قُربه وكم تتمنى أن يظل معها للأبد، أن يدعمها ويظل جوارها دون أن يمل منها.
تنويه: المشهد القادم قد لا يُلائم البعض.
وعلى صعيدٍ آخر. كانت بدور نائمة ومعالم الأرق ترتسم بوضوحٍ جلي على محياها، تُحاول الإستيقاظ وفتح عيناها لكنها لا تستطيع، تشعر بأحدهم يُكبل حركتها ويجلس فوق أنفاسها، مُحاولتها لتُقاوم كلها بائت بالفشل، وحين يأست هبطت دموعها بضعفٍ وعجز شديدين.
ظلت على حالتها تلك لعدة دقائق حتى استطاعت التحرر أخيرًا والإعتدال في مكانها، حوَّلت أنظارها لكل إنشٍ في الغرفة لكنها لم تُبصر شيء، كل شيء حولها مُظلم ولا يوجد شعاع من النور سوى القادم من أسفل الباب المُغلق عليها، مدت يدها لمقبس النور لفتحه لكن المصباح لم يُفتح، تسلل الخوف إلى فؤادها وتكون العرق الغزير أعلى جبينها من شدة الهلع، وأكثر ما تسبب في رُعبها هو؛ تلك الأنفاس الساخنة التي تلفح بشرتها.
ارتعدت من مكانها وهبت صارخة وهي تنظر حولها بخوف، ثم أطلقت لقدميها العنان للركوض، لكنها شهقت بعنفٍ عندما قاطع طريقها جسد ضئيل، مُظلم، حالك السواد، لا يظهر من شيء سوى عيناه الحمراوتان اللامعة، عادت للخلف لاإراديًا وشعرت بأنفاسها تقل وعيناها جاحظتان بهلع، كانت كل ذرة بها ترتعش وهي تتسائل بصوتٍ صعد غير مسموع:
أنت. أنت مين!
وبالطبع لم تحصل على جواب، وإنما شعرت باقترابه منها أثناء عودتها للخلف برعب، وشهقت حينما شعرت بالحائط من خلفها يُعيق حركتها، وفي اللحظة التي تلتها كان صوت صرخاتها يتصاعد وكأنه خرج من الجحيم عندما وضع ذلك الهيكل المُتحرك كفه على معدتها المُستديرة، فشعرت وكأنه يقتلعها من محلها، وبعدها خمدت صوت صرخاتها عندما وقعت على الأرضية الصلبة فاقدة للوعي، ومن حولها تتجمع بركة من الدماء أتت من بين قدميها.